; logged out
الرئيسية / التراث معرفة جديرة بتوظيفها لصالح الحاضر والمستقبل والمساهمة في التنمية

العدد 173

التراث معرفة جديرة بتوظيفها لصالح الحاضر والمستقبل والمساهمة في التنمية

الإثنين، 25 نيسان/أبريل 2022

منذ ستينات القرن العشرين والجدل يدور في أوساط الثقافة العربية حول التراث، من حيث مكوناته، وأهميته في حياتنا المعاصرة، وانقسمت الآراء حول التراث ما بين متمسك به بحذافيره، وبين راغب في الانفصال عنه والانسلاخ عن كافة مكوناته، وطرف ثالث حاول أن يجمع ما بين هذا وذاك، وبعيدًا عن الانحياز لأي طرف، أو حتى الدخول في الجدل الذي لم يتوقف بعد، فإن هذه الورقة تتجه إلى محاولة البحث عن نفعية التراث، والتمحور حول وظيفته العملية في عصرنا الحاضر، فكون التراث من الماضي لا ينفي أهميته كخبرة تنبع من إطار فكري وحركي، فكل حضارة لم تنشأ من العدم وإنما سبقتها مقدمات شكلت الموروث الذي انطلقت منه هذه الحضارة.

وهنا لابد أن ندرك أن هناك فرق بين التراث والمعرفة به، أي بين ما يتضمنه التراث من قيم ومعارف وخبرات متنوعة، وبين طريقة فهمنا لهذا التراث.

 وذلك يقودنا إلى أفكار أساسية هي:

أولاها؛ إن التراث في إطاره العام ينتمي في الأصل إلى عدة مراحل تاريخية سابقة من الوجود الاجتماعي لإطار بشري ما، وحتى إذا امتد تأثير بعض عناصره للعصر الحاضر، فإن ذلك لا ينفي الصفة التراثية عنها.

وثانيها؛ إن التراث كمحتوى، شديد التعقيد في مكونات، خاصة في مناطق الحضارات الممتدة، والدول العميقة، وبالتالي فإن دراسته يقتضي أن تتجاوز الإطار الثقافي، والحوار المجتمعي، إلى الأوساط العلمية دون التقيد بالتخصصات، لأنه قد يتقاطع معها جميعها في بعض الحالات فالطب الشعبي على سبيل المثال يعد تراثاً، ومن الملاحظ أنه يتعرض للإهمال وعدم الاهتمام، متجاوزين نجاحاته، مع التركيز على إخفاقاته، وغموض طرقه في التشخيص والعلاج، فلم يتم إخضاعه للبحث العلمي، ونغفل أن هناك تجارب صينية وهندية حققت نجاحًا كبيرًا ضمن هذا السياق، فأصبح لدينا الطب الصيني والهندي كمدارس طبية مستقلة، كانت نواتها الأولى التراث الطبي.

ثالثًا؛ إن شدة تعقيد تركيبة التراث من حيث الموضوع، تجعل النظر فيه لا يحتاج إلى عقد اللقاءات لتحديد منهجية معينة لدراسته، وإنما العمل على بناء مجال بحثي واسع النطاق متعدد الاتجاهات، بحيث يتناول الوظيفة اللغوية، والبعد التاريخي، والرسالة الحضارية، بما يحقق بناء معارف تثري حياتنا المعاصرة.

رابعًا؛ من المسلم به أن تراث أي مجتمع بما فيه تراثنا العربي الإسلامي، ليس في مجمله نصوص منزهة، بل اختلجه الكثير من الشوائب، التي صُنعتْ نتيجة لوقائع تاريخية معنية عقدت الموقف السياسي والثقافي والديني، وهذه ظاهرة تحتاج أن يكون من ضمن طرق الدراسة منهج نقدي صارم لا تحكمه الأهواء أو المصالح.

وبعيدًا عن الاستطراد الجدلي، فإن أفضل توضيح لأهمية التراث يتمثل في تقديم تجارب عملية وممارسات حققت نجاحات في مجال توظيفه في منظومة حضارة المجتمع -(معرفة وممارسة) - وغير ذلك.

   وبحكم التخصص فسوف أقدم النماذج من علم التاريخ والآثار.

فعلم التاريخ وعاء واسع للخبرات، التي يمكن لمعارفنا وثقافتنا المعاصرة أن تستوعبها، ضمن أطر منطقية تعمق الفكر وتنير الممارسة على كافة الأصعدة، ومن الأمثلة الجديرة بالعرض هنا علاقة التراث الفقهي بالكتابة التاريخية، إذ استفاد باحثون عرب وأجانب، من الدراسات الإسلامية والفتاوى الفقهية، من خلال تحويلها إلى مادة تاريخية تدعم البحث التاريخي المعاصر في جوانب معينة.

ومما يمكن ملاحظته من دراسات في هذا الصدد، ما قام به المستشرق السير هاملتون جيب، في بحوثه الرائعة حول تفسير التاريخ الإسلامي، بالربط بين منظومة الثقافة الإسلامية وحركية التاريخ الإسلامي، والعلاقة التبادلية بينهما، ودور الفقهاء التفاعلي مع المتغيرات المتنوعة التي واجهتها الأمة الإسلامية، معتمدًا في ذلك على التراث الفقهي بشكل خاص والثقافة الإسلامية بشكل عام.

وقد سجل لنا نقاطاً مهمة يمكن تلخيصها في التالي:

- لقد عمل الفقهاء على بناء مناهج علمية دقيقة، انعكست على النظام المعرفي للثقافة الإسلامية، مكنت من حفظ البناء العام للمجتمعات الإسلامية، واستيعاب المتغيرات المختلفة.

- أدرك الفقهاء أهمية الحفاظ على الاستقرار السياسي من خلال التآزر مع السلطة القائمة وبناء ثقافة الولاء داخل المجتمعات، وهو ما لاحظه جِبْ في تحليله لكتاب الأحكام السلطانية للإمام الماوردي.

-  يرى جب أن عمل الفقهاء على جمع الأحاديث والآثار الواردة عن الصحابة والتابعين وغيرهم من العلماء المتقدمين، قد مكن من منع حدوث فوضى عارمة في الفتوى، رغم أن المستشرق يوهان كريستوف بيرغل  في كتابه (القهر والسلطة) خالف جِبْ الرأي في هذا الجانب، معتبرًا أن ذلك أدى إلى ظهور التشدد في الفتوى على عكس بدايتها الأولى، علما بأنه يقر من الناحية التاريخية أن العلوم الإسلامية، ولَدَتْ احدى أعظم الثقافات في العالم، نجم عنها نتاج هائل للكتب المتجذرة من مصادر الإسلام الأساسية، والمتمثلة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ومن خلال هذه الثقافة الجمة وجد يوهان في تأريخية للفلاسفة العرب والمتصوفة مادة جديرة بالتحليل التاريخي كما يظهر ذلك عنده في معالجة ابن رشد (الحفيد) لعوامل قوة الدولة وسقوطها وتطبيق ذلك على دولة المرابطين في الأندلس، علاوة على محاولته – ابن رشد- الدفع بالفلسفة تحت ظلال الشريعة في مواجهة متناقضة مع الاتجاه العام للفقهاء المسلمين، وذلك يوضح حجم الحراك الثقافي داخل المجتمعات الإسلامية، كما أنه يفسر جوانب من الأحداث التاريخية التي تمخضت عن هذا الحراك الثقافي مثل تلك التي تعرض لها ابن رشد الحفيد.

من جانب آخر كان لدراسة النوازل الفقهية، واحدًا من المجالات التي مكنت من بناء مادة علمية تاريخية مهمة، والنوازل هو ضرب من الفقه يبنى على فتاوى في مسائل استجدت فعلاً ليس لها نص قطعي الدلالة في مصادر التشريع، وقد برع فقهاء الغرب الإسلامي في تدوين هذه النوازل، مشكلين بذلك مادة خصبة تتناول مسائل حياتية مختلفة تعتبر مفتاحاً لدراسات تاريخية متنوعة، ومن أوائل من التفت لهذا الجانب في الشمال الإفريقي الأستاذ سعد غراب الذي نشر مقالاً في حوليات الجامعة التونسية سنة 1978م، أشار فيه إلى أهمية التراث الفقهي المتمثل بالنوازل في الدراسات التاريخية والحضارية في الشمال الإفريقي.

وعلى نفس المنوال سار الباحث الموريتاني محمد المختار ولد السعد، في دراسته عن (مظاهر الحياة الاقتصادية والاجتماعية في موريتانيا من خلال فقه النوازل).

 الاهتمام بفقه النوازل ظهر أيضاً في الأندلس من قبل عدد من المستشرقين، منهم ليفي بروفنسال وكلود كاهين.

 وتستخلص د. زهية جويرو في كتابها القيم (الإفتاء بين سياج المذهب وإكراهات التاريخ) من بعض هذه الدراسات، إلى أن فتاوى النوازل متصلة اتصالاً وثيقًا بالتاريخ بحكم اتصالها الزمني بوقائع تاريخية، وأحداث اجتماعية واقتصادية وتنظيمية، بما يجعلها وثائق تاريخية لا يمكن الاستغناء عنها في حقل الدراسات التاريخية والحضارية.

وعلى العموم فإن المدرسة التاريخية المغاربية، نجحت في بحوثها التاريخية والحضارية من خلال فقه النوازل، إلى تدشين اتجاه بحثي جديد، يقوم على توظيف البنية المعرفية للتراث بكافة مصادرها ووثائقها من دون استثناء في الدراسات التاريخية والحضارية، وبمقاربات منفتحة على كافة تخصصات العلوم الإنسانية، وحتى على بعض العلوم التطبيقية مثل علم الإحصاء، بما مكن الباحثين من إعادة صياغة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والثقافي المغاربي، ليكشف عن البنى الذهنية والمادية التي شكلت ذلك التاريخ.

ويلاحظ إنه رغم العوائق العدة التي واجهها الباحثون في هذا المجال، فإن ما وصلوا إليه من نتائج يبعثُ على الحماسة ومواصلة السعي، بل التوسع في كل أوعية المعارف التراثية.

الآثار بأنواعها المختلفة جزء من التراث وتعد مصادر أولية للمعرفة التاريخية والحضارية.

غير أن معالجة دورها في البنية المعرفية للتراث، سنتجه به هنا إلى المجال التطبيقي، وكيف نجد في الآثار أفكاراً وممارسات قابلة للتطبيق في واقعنا المعاصر.

 وعلى الرغم من أن المدرسة الاستشراقية قد أسهبت في دراسة الفن الإسلامي، بما يشمله من صناعات وفنون تطبيقية حرفية ونقوش وكتابات وعمارة، فإن التوظيف العملي لهذا التراث ومحاولة دمجه في النظام الثقافي العربي المعاصر، كان على يد أبناء هذه الثقافة.

طرز العمارة والفنون الإسلامية بخصائصها الرائعة، كانت استجابة تلقائية لمتطلبات واحتياجات وظيفية، وتمثل من خلالها الثقافة والموروث، والوسط الحضاري والبيئي.

وذلك أعطى هذه المنتجات بعدًا جمالياً وعملياً، جعلها جديرة بأن تكون من ضمن المجالات التي من المناسب توظيفها في حياتنا المعاصرة، والتفكير الجاد في تحويلها إلى منتجات قابلة للتسويق والمنافسة، وبالتالي الانتشار عالميًا، علاوة على كونها ذات مضمون يساهم في بناء الشخصية الحضارية. 

حسن فتحي معماري مصري فذ، ولد في الإسكندرية مطلع القرن العشرين وتوفي عن 89 عامًا بمدينة القاهرة، تعلم الهندسة في جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليًا) وكان محبًا للفنون إجمالا، وتميزت أعماله الهندسية في البداية بتطبيق الاتجاهات الحديثة في التصميم المعماري، يعكس بذلك ما تعلمه في المرحلة الجامعية، غير أن روحه الوطنية، جعلته يلتفت إلى جمال المكونات المحلية، وعمل بإيمان كبير على تطوير أسلوب معماري مشتق من البيئة المحلية مستخدما الخامات المحلية. فأخذ ينفذ مشروعات صغيرة، عبارة عن وحدات سكنية (فلل) صممت وفق النظام البنائي التراثي، ومن أمثلة ذلك منزل الفنان حامد سعيد، وهو صديق شخصي لحسن فتحي، حيث أنشأ مبنى من الطوب الني يتسم بالبساطة، ومكون من قاعة كانت عبارة عن مرسم لصديقه الفنان يقابله إيوان كان مخصصًا للنوم، وعلى يساره قاعة مغطاة بقبو مفتوحة من جانب واحد لتطل على المناطق المزروعة، وقد أضيف على هذا البناء البسيط وحدات إضافية بعد ذلك عبارة عن حجرات أحاطت بالشجيرات المقابلة للقاعة فتكون بذلك الفناء الداخلي للمنزل.

 مشروع قرية القرنة الجديدة، يعد من أبرز أعمال حسن فتحي، حيث تمكن من خلاله تطبيق أساليب معمارية، لتكون نماذج لحل مشكلات مساكن الفلاحين الذين كانوا يعدون من ذوي الدخل المحدود، وهو ما عرف لاحقًا (بعمارة الفقراء) وقد أنشئت هذه القرية لتكون بديلاً عن قرية قديمة كانت تقع على تلة يكمن تحتها الكثير من الآثار، مما جعل هذه الآثار عرضة للنبش والسرقة، وقد تم تكليف حسن فتحي بإنشاء القرية البديلة فعمل على تقسيمها وفق التقسيم الأسري لسكان القرية، كما أنه استخدم الخامات المحلية والنظام البنائي التقليدي مراعيًا احتياجات السكان.. مع تأمين المرافق مثل المسجد والسوق ومصادر المياه وغيرها.

وقد وجدت بعض الجامعات الغربية في ذلك الحين، أن هذه القرية تعد مكانًا مناسبًا لتدريب بعض طلبتها على أساليب العمارة التقليدية منخفضة التكاليف.

 البيروقراطية الحكومية لم تمكن فتحي من تحقيق أحلامه، فاختار مغادرة وطنه، حيث عمل في أكثر من مكان، ومن ذلك قيامة بوضع تصميم لبناء نموذجي للبيوت مشتق من البيئة التقليدية في مدينة الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى.

استطاع حسن فتحي أن يكون مدرسة معمارية، لها مريدوها من المهندسين، أمثال؛ د. عبد الواحد الوكيل، ود. سامي عنقاوي، ود. عدنان عدس وغيرهم.

ورغم أنه من الصعب الزعم أن هذه المدرسة استطاعت أن تحقق الانتشار وتفرض وجودها القوي، غير أن وجودها في الساحة يبعث على الأمل، في أن يكون للتراث المعماري وجودًا قويًا في المستقبل القريب، خاصة مع رؤية 2030، التي يتبناها ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان.

وخلاصة القول؛ إن التراث، معرفة وخبرات جديرة بأن توظف لصالح الحاضر والمستقبل، وهو قادر على دعم الأفكار وتشكيل الثقافة وتقديم حلولٍ لبضع مشاكل الحياة، والمساهمة في التنمية الاقتصادية.

مقالات لنفس الكاتب