array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 174

الأزمة الأوكرانية تسهم في توثيق التنسيق بين أوروبا ودول مجلس التعاون

الأربعاء، 01 حزيران/يونيو 2022

وضع الغزو الروسي لأوكرانيا أوروبا في أخطر أزماتها منذ حروب البلقان في التسعينيات، وربما تكون هذه الأزمة هي الأكبر في القارة العجوز منذ الحرب العالمية الثانية في ظل تزايد احتمالات المواجهة المباشرة بين حلف شمال الأطلسي "الناتو" وروسيا، ما قد يتسبب في اتساع نطاق الصراع بشكل خطير.

وفي نهاية شهر فبراير الماضي، صرح المستشار الألماني أولاف شولتز في خطابه أمام البرلمان الألماني بقوله "يمثل الرابع والعشرون من فبراير نقطة تحول في تاريخ قارتنا، وأقصد بذلك أن العالم بعد ذلك التاريخ لن يكون مثلما كان من قبله، واستهدف رد الفعل الفوري للدول الأوروبية -من خلال شن عقوبات واسعة النطاق وغير مسبوقة على روسيا وأيضًا حشد الدعم الدولي -الحفاظ على استقلال أراضي الدولة الأوكرانية بأكبر قدر ممكن.

ولقد فاجأ الإجماع على العقوبات الكثيرين ممن اعتادوا رؤية أوروبا أكثر انقسامًا منها موحّدة، وحتى بين أعضاء الاتحاد الأوروبي الذين غالبًا ما يُعتقد أنهم يتبعون سياسة أكثر موالية لروسيا، مثل المجر، لم يبدوا أي اعتراض، وفي الوقت نفسه، كان هناك إجماع على حقيقة أن الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه لا ينبغي أن يصبحوا جزءًا نشطًا من هذا الصراع لأن انضمامهم إلى مثل هذا الصراع من شأنه أن يزيد من خطر اندلاع حرب أوسع نطاقًا، وعلى الأرجح في أراضي الاتحاد الأوروبي نفسه، ومع استمرار الصراع، احتدم الجدل حول الدعم العسكري لأوكرانيا وأرسلت الدول الأوروبية بشكل متزايد معدات عسكرية وأسلحة لمساعدة الحكومة الأوكرانية.

وفي ألمانيا، ورُغم تولي حكومة ائتلافية جديدة السلطة في ديسمبر الماضي وتعهدها بعدم تسليم أسلحة إلى دول تقع في مناطق صراع، إلا أنها قد أبدت استعدادًا لتزويد أوكرانيا بأسلحة، ما فتح المجال لنقاش أوسع نطاقًا حول الآليات المناسبة لصد الغزو الروسي ووقفه من ناحية، ومن ناحية أخرى عدم جر أوروبا إلى حرب أوسع نطاقًا.يُعد هذ النقاش هو أكبر ما يشغل بال الدول الأوروبية في الفترة المقبلة، والذي ستُحدد نتائجه الدور الذي ستلعبه أوروبا في الشؤون الدولية لعقود قادمة.

الانعكاسات على الاقتصاد وقطاع الطاقة

الحرب في أوكرانيا تضع روسيا أمام تحديين رئيسيين، أولهما قصير الأجل ويتعلق بالانعكاسات الفورية للتداعيات الاقتصادية وأمن الطاقة وكذلك تجنب انتشار الصراع نفسه إلى كافة أرجاء القارة العجوز بأسرها، وثانيهما تحدي طويل الأجل ذلك الذي يرتبط بالنتائج الاستراتيجية للقرار الروسي بغزو أوكرانيا على النظام الدولي الأوسع نطاقًا.

ووجدت القارة الأوروبية -التي افتخرت دائمًا بكونها جهة فاعلة تستهدف التغلب على أي صراع من خلال الحوار بدلًا من المواجهة العسكرية -هويتها القائمة على رفض الحرب ممزقة، ما يُثير تساؤلًا أمنيًا رئيسيًا يجب على أوروبا باعتبارها جهة فاعلة في السياسة الدولية معالجته.

وعلى الصعيد الاقتصادي وخاصة الطاقة، وجدت أوروبا نفسها في مأزق نظرًا لفرطها في الاعتماد على المنتجات النفطية القادمة من روسيا؛ ففي عام 2021م، استورد الاتحاد الأوروبي أكثر من 40% من إجمالي استهلاكه من الغاز، و27% من واردات النفط، و46% من واردات الفحم من روسيا، ومثلت واردات الطاقة 62% من إجمالي واردات الاتحاد الأوروبي من روسيا.

وفي العام ذاته، أصبحت روسيا خامس شريك استراتيجي لصادرات الاتحاد الأوروبي من السلع (بنسبة 4.1%) وثالث أكبر شريك استراتيجي لواردات الاتحاد الأوروبي من السلع (بنسبة 7.5%) بإجمالي حجم تجارة يتجاوز 170 مليار يورو.

وأصبحت هذه النسب بمثابة عائق كبير أمام الدول الأوروبية في الوقت الذي تحاول فيه موازنة الخسائر الناجمة عن قطع العلاقات التجارية مع روسيا بسبب سياسة العقوبات التي يفرضها الاتحاد الأوروبي دون تعريض استقرارها الاقتصادي للخطر على المدى القصير على الأقل.

وبالرغم من ذلك، فقد أظهرت أوروبا إجماعًا كبيرًا وعزمًا في استجابتها الفورية للحرب الأوكرانية، وذلك من خلال فرض حزم عقوبات واسعة النطاق لم يكن من الممكن تصورها قبل الأزمة، ووقف استكمال بناء خط أنابيب "نورد ستريم 2"، وكذلك عزل البنوك الروسية عن نظام "سويفت" المصرفي العالمي، وعلى صعيد الطاقة، فقد وجدت الدول الأوروبية صعوبة في وقف وارداتها من روسيا بالرغم من اتخاذ الاتحاد الأوروبي خطوات للحد من واردات الفحم والنفط، إلا أنه وجد نفسه عاجزًا أمام تحدي الغاز.

وفي الوقت الذي أعلن فيه الاتحاد الأوروبي عن خطط لخفض اعتماده على الغاز الروسي بمقدار الثلثين بحلول نهاية عام 2022م، دفعت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أكثر من 46 مليار يورو لروسيا لاستمرار واردات النفط والغاز منذ بدء الغزو في فبراير.

وتظل الفرضية القائلة بإمكانية قطع روسيا لكامل إمداداتها من المنتجات النفطية إلى أوروبا واردة، خاصة بعد أن أعلنت موسكو بالفعل عن وقف صادراتها إلى بولندا وبلغاريا لكونهما "دولتين غير صديقتين"، وقد تضع مثل هذه الخطوة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أمام أزمة كبيرة ونقصٍ خطير في الطاقة، ما تسبب بالفعل في ارتفاع أسعار الطاقة بشكل كبير وكذلك ارتفاع معدلات التضخم إلى أعلى مستوى لها منذ عقود.

وكشفت حزمة العقوبات السادسة الخاصة بإلغاء واردات الاتحاد الأوروبي من النفط الروسي التي تم الإعلان عنها في أوائل مايو 2022م، عن التحدي السياسي الذي يواجه الدول الأوروبية؛ حيث أعلنت كل من المجر وسلوفاكيا معارضتهما وطالبتا بمد فترة التخلص من وارداتهما النفطية الروسية تدريجيًا.

وتُشير الاعتراضات الألمانية الأولية على إدراج الطاقة في العقوبات الدولية المفروضة على روسيا إلى أن أوروبا ليست في وضع يسمح لها بتحمل قطع كامل للواردات النفطية من روسيا، كما تُثار نقاشات أوروبية حول التأثير النهائي للعقوبات المفروضة على روسيا في الوقت الذي تستفيد فيه موسكو من بيئة الأسعار المرتفعة الحالية في قطاع الطاقة.

وفي إطار جهودها لإيجاد حل قصير الأمد لقضايا إمدادات الطاقة المُلحة، يتجه تركيز الاتحاد الأوروبي إلى منطقة الخليج في إطار سعيها للبحث عن بديل لإمدادات الطاقة، وينطبق ذلك بشكل رئيسي على إمدادات الغاز من قطر التي أصبحت عنصرًا أساسيًا في سوق الغاز الطبيعي المسال.

وفي الوقت الذي دخلت فيه دول أوروبية، مثل ألمانيا، بالفعل في مفاوضات مع دول الخليج بشأن الإمدادات المستقبلية، فيبدو أن هذا الحل سيكون بمثابة حل متوسط الأجل في أفضل الأحوال، حيث يعتمد القبول القطري لتوريد كميات أكبر من الغاز الطبيعي إلى أوروبا إلى حد كبير على استعداد المشترين الآسيويين الحاليين للسماح بتحويل الإمدادات إلى أوروبا.

وفي المستقبل، تزداد احتمالية زيادة الاعتماد على الغاز الطبيعي المُسال من قطر باعتباره جزءًا من مستقبل الطاقة في أوروبا نظرًا لاستراتيجية التوسع التي تتبعها قطر في الوقت الحالي رُغم أن البدء في ذلك المخطط لن يُصبح قابلًا للتنفيذ سوى قبل ثلاث سنوات على الأقل، أي في خلال عام 2025م.

ويُضاف إلى ذلك أيضًا ضرورة إتاحة الوقت الكافي أمام الدول الأوروبية للاستثمار في البنية التحتية اللازمة للغاز الطبيعي المُسال، والتي لا تتوافر في الوقت الحالي بكميات كافية.

ومع تصنيف الدوحة الجديد كحليف رئيسي من خارج حلف شمال الأطلسي "الناتو" بواسطة الولايات المتحدة وحقيقة أن قطر قد أعربت عن رغبتها في المساهمة في تنويع مصادر الطاقة في أوروبا، قد يُسهم ذلك في إبراز الإمارة الخليجية باعتبارها نقطة ربط رئيسية مع القارة الأوروبية.

وقد تُسهم الأزمة الأوكرانية في زيادة التنسيق الوثيق بين الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي في مجال الطاقة المتجددة والبديلة، وخاصة عندما يتعلق الأمر بمكونات مثل الهيدروجين الأخضر والأزرق.

ومن جانبه، قال فرانس تيمرمانز النائب الأول لرئيس المفوضية الأوروبية للصفقة الخضراء في مارس الماضي "لقد حان الوقت لمعالجة نقاط الضعف لدينا وعندئذ سنُصبح أكثر استقلالية في خيارات الطاقة لدينا، علينا أن ننتقل إلى الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة بأقصى سرعة ممكنة".

وتسمح زيادة إمدادات الغاز الطبيعي المسال لأوروبا في تحقيق أهدافها المناخية المعلنة، إلا أن مثل هذا التصريح لن يحل المأزق الحالي التي تُعاني منه الدول الأوروبية.

وفي ظل بحثها اليائس عن بديل مستقبلي لروسيا، يتعين على الدول الأوروبية تجنب تحويل التبعية الحالية للاعتماد المفرط على المنتجات النفطية من روسيا إلى مناطق أخرى من العالم، وبالتأكيد تجنب الاحتفاظ بدرجة معينة من الاعتماد على الطاقة النووية من خلال تأخير خطط التخلص التدريجي من الطاقة النووية الحالية.

توفير الأمن الأوروبي

التحدي الثاني الذي يواجه الاتحاد الأوروبي هو تحدٍ متوسط وطويل الأمد ويتصل بمشروع الاتحاد الأوروبي نفسه وكذلك تحديد الأُطر العريضة للنظام السياسي الدولي المستقبلي، فمن ناحية تواجه أوروبا أزمة حقيقة حول كيفية حفاظها على استمرارية حالة الوحدة والشعور بالهدف المشترك في مواجهة ما يمكن أن يصبح حربًا طويلة الأمد؛ فكلما طال أمد الحرب، أصبح من الصعب الحفاظ على الإجماع الحالي بداخل الدول الأوروبية في ظل تعامل تلك الدول مع تدفق اللاجئين، وتزايد التكاليف الاقتصادية بسبب العقوبات، وحقيقة أن إطالة أمد الحرب تزيد من حالة عدم الاستقرار على حدود تلك الدول.

وعلى الجانب الآخر من الحرب، تترقب موسكو عن كثب أي انهيار في التزام الدول الأوروبية بمسار العمل الحالي، وكذلك مدى واستمرارية تماسك الناتو والتحالف العابر للأطلسي، ساعية في هذا الإطار عن عمد إلى الإبقاء على الصراع مُشتعلًا لأمد طويل من أجل تقويض الوحدة الأوروبية.

وتأمل روسيا في حدوث تغييرات في الأنظمة السياسية للمعسكر الغربي بما يجلب المزيد من الأصوات الموالية لروسيا إلى الحكم، وبالتأكيد تُعد أحد الأنظمة الرئيسية التي ترغب موسكو في حدوث تحول سياسي بها هي الإدارة الأمريكية مع احتمالية عودة دونالد ترامب إلى الحكم في انتخابات 2024م، في ظل التشكيك الدائم لترامب لقوة الحلف وانتقاده لدوره وتوقعه بتراجعه في المستقبل وعلى الجانب الآخر إشادته الدائمة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الماضي.

ويتمثل التحدي الحالي الذي تواجهه أوروبا في كيفية إيجاد التوازن المناسب في استراتيجيتها التي تؤكد للرئيس بوتين أن الغزو الروسي لن يستمر وفي الوقت ذاته لن يجر الدول الأوروبية إلى صراع أوسع نطاقًا، ويُثار جدل في أوروبا حول ما إذا كان إمداد الدول الأوروبية لأوكرانيا بالمعدات العسكرية لا يجعل التكتل طرفًا نشطًا في هذا الصراع، والذي قد يتسبب بالتالي في إطالة أمد الحرب بدلاً من إنهائها.

وما يزال الهدف النهائي للسياسة الأوروبية الحالية فيما يتعلق بالأزمة الروسية ـ الأوكرانية غير واضح، فعلى سبيل المثال هل تستهدف أوروبا استمرار سريان العقوبات حتى تدمير الاقتصاد الروسي بالكامل، وماذا سيكون رد فعل الدول الأوروبية في حالة إعلان الرئيس بوتين بشكل مفاجئ الانسحاب من أوكرانيا أو الاستعداد لتسوية من خلال التفاوض.

وتُعد النتيجة الأكثر ترجيحًا هي تحول روسيا إلى دور "الوجود الفوضوي" الدائم على الحدود الأوروبية، مما يؤدي إلى استمرار حالة عدم الاستقرار الأوروبي ويضع الدول الأوروبية في حالة حرب اقتصادية مفتوحة، وتتمثل أحد التحديات ذات الصلة في تحقيق توازن في تطبيق نظام عقوبات واسع النطاق دون التأثير على الشعب الروسي، وهو توازن يكاد يكون من المستحيل تنفيذه.

ومن المرجح أن تثبت سياسة العقوبات المستمرة والحملة الأوروبية واسعة النطاق في الدفاع عن النظام الدولي القائم على القواعد بأنها غير كافية لعكس وضع الحرب القائم، كما أن المسار الأكثر تصادمًا بين المعسكرين يخاطر بحدوث مواجهة نووية محتملة في الوقت الذي تُثير فيه احتمالية هزيمة روسيا في الحرب الأوكرانية سؤالًا حول كيفية إنشاء نظام أوروبي ودولي مستقر في ظل وجود قوة على حدوده الشرقية ترغب بشده في الانتقام منه.

وقد تُفكر موسكو في نقل الصراع إلى أوروبا نفسها عن طريق إثارة البيئة الأمنية الهشة الموجودة حاليًا في البلقان، أو أن تدفع إلى السطح الخلافات الأوروبية الداخلية، وبغض النظر عن نتيجة ما سيحدث في الحرب، يظل التعامل مع روسيا بمثابة تحدي سيشغل بال أوروبا لفترة طويلة قادمة.

وتُثار قضية أخرى تتعلق بتغيير الجغرافيا السياسية للمنطقة، وكيف تستطيع أوروبا التعامل في ظل بيئة تُعاني من تدهور المؤسسات الدولية، وتراجع دور الولايات المتحدة كدولة ملتزمة بالدفاع عن النظام الحالي وصعود دول أخرى مثل روسيا والصين والتي تستهدف تغيير النظام العالمي الحالي.

وبالتالي، فإن تأثير حرب أوكرانيا يتجاوز بكثير ما يحدث في أوروبا الشرقية في الوقت الحالي، وسيعيد تحديد العلاقات التي تربط أوروبا بالمجتمع الدولي، بما في ذلك مع دول مثل الصين وحتى الشرق الأوسط.

ولقد أعربت أوروبا بالفعل عن عزمها مراجعة علاقاتها مع الصين، وأعرب قادة الاتحاد الأوروبي خلال القمة الأوروبية/الصينية التي عقدت في مستهل شهر أبريل الماضي عن توقعاتهم بضرورة مساهمة الصين في حل الأزمة الأوكرانية.

وفي المستقبل، تريد أوروبا تجنب حالة التبعية الحالية مع روسيا في مجال الطاقة؛ فعلى سبيل المثال، يُعد الترابط الأوروبي الحالي مع الصين هو أكثر بكثير مما هو عليه مع روسيا، حيث تبلغ التجارة بين الاتحاد الأوروبي والصين أكثر من 700 مليار يورو مقابل 170 مليار يورو مع روسيا.

وتستهدف أوروبا حاليًا تعزيز علاقاتها مع حلفاء آخرين في آسيا وتركيز جهودها على دول مثل الهند واليابان وأستراليا؛ حيث استهل المستشار الألماني أولاف شولتز أولى رحلاته بعد توليه منصبه إلى خارج أوروبا برحلة إلى اليابان في أواخر شهر أبريل الماضي، وعقد الاتحاد الأوروبي قمته مع اليابان في مايو في بروكسل.

وبالتأكيد لن يكون من قبيل المصادفة أن تحضر رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي أورسولا فون دير لاين مؤتمر حوار رايسينا الذي عُقد في أبريل الماضي في الهند؛ حيث صرحت خلال المؤتمر بأن العلاقة بين الهند والاتحاد الأوروبي ستكون ذات أهمية متزايدة في العقود القادمة.

وفيما يتعلق بالأوضاع الجيوسياسية الأوسع نطاقًا، يتعين على أوروبا التعامل مع التعددية القطبية التنافسية التي أصبحت تبرز بشكل متزايد كمبدأ نظام للعلاقات الدولية المستقبلية، ما سيكون له بالتأكيد تداعيات على المناطق البعيدة عن أوكرانيا، حيث أصبحت الدول الإقليمية تستفيد من النظام العالمي المتدهور لتحدي الأنظمة القائمة به حاليًا، ومن بين الأمثلة على ذلك هو التدخل الروسي في سوريا وكذلك التدخلات الإقليمية لإيران في منطقة الشرق الأوسط والجزيرة العربية.

وبنفس المنوال، قد يتسبب الأداء الضعيف لروسيا في أوكرانيا والضعف الاقتصادي المحتمل بعد العقوبات الاقتصادية واسعة النطاق في خسارتها لنفوذها عالميًا، ما قد يفتح بدوره المجال لدول أخرى تحاول استغلال هذا الفراغ وهو ما يُمثل خطرًا جديدًا في السياسة العالمية ويزيد بالتأكيد من حالة عدم اليقين في العلاقات الدولية.

وفي الأفق، هناك خطر آخر قد تُفسره دول أخرى من العالم تجاه رد فعل المعسكر الغربي على روسيا، وهو استغلال الغرب هيمنته على العولمة تجاه روسيا كسلاح، أي استغلاله للاعتماد المتبادل الحالي والمستقبلي بينه وبين جميع الدول كأداة ضغط للالتزام بما يفضله الغرب من سياسات، وهو ما قد يتسبب في نهاية المطاف في تقليل هذه الدول من اعتمادها على الغرب، وهو النهج الذي يجب أن تتبعه أوروبا مع الصين.

وقد يقع المعسكر الأوروبي في سلوكيات سياسية خاطئة اتبعها في الماضي دون التفكير في الدروس المستفادة وتجنب حدوث ما يُشابهها في المستقبل، فعند تصور النظام العام الآن من الناحية العسكرية، وعودة الولايات المتحدة من جديد إلى المعسكر الأوروبي بسبب ما يحدث في أوروبا، قد تعود إلى الأفق سياسات الحرب الباردة القديمة وتأسيس العلاقات وفقًا للكتل المتعارضة، وهو ما قد يُفضي إلى الشقاق في التكتل الأوروبي المشترك.

ويُضاف إلى ذلك أن العلاقات بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي يجب أن توضع تحت المجهر، فبعد أن مضت أوروبا معظم العقد الماضي في محاولة لانتزاع موقف أكثر استقلالية تجاه الولايات المتحدة (تحت ما يسمى بالحكم الذاتي الاستراتيجي)، إلا أن الأزمة الأوكرانية قد أعادت خلط الأوراق وأعادت الاعتبارات الأمنية وأولوية تفضيل الحلف إلى المقدمة، والذي يتضمن بالتأكيد قرار العديد من الدول الأوروبية زيادة إنفاقها الدفاعي بما يتماشى مع متطلبات الناتو البالغة 2%.

وفي الوقت الذي تحظى خلاله فكرة تقوية الحلف بدعم أوروبي واسع النطاق، إلا أن التوقعات باحتمالية استخدام الولايات المتحدة قضية أوكرانيا لمحاولة إضعاف روسيا بشكل دائم أو أن يتسبب انضمام فنلندا إلى عضوية الناتو في إنشاء حدود مباشرة بين الناتو وروسيا تجعل قضية دعم الحلف أكثر إثارة للقلق، لأن أوروبا لا تُريد العودة إلى فترة السبعينيات والثمانينيات، لكنها في الوقت الحالي قد لا تجد أمامها خيارًا آخرًا سوى ذلك.

لن نُبالغ إذا قُلنا إن النظام الأوروبي الأمني قد سقط منذ نهاية الحرب الباردة، بل يُمكننا القول إن أوروبا دخلت الآن في مرحلة تُعاني منها منطقة الشرق الأوسط منذ فترة طويلة من حيث مواجهة بيئة أمنية متقلبة وحالة متزايد من عدم اليقين.

وترى الدول الأوروبية أن القضايا الاقتصادية والجيوسياسية لا يُمكن فصلهم عن بعضهم البعض، فعلى مدى العقود الماضية، رأت أوروبا أن التغيير السياسي قد يحدث من خلال زيادة العلاقات التجارية وبناء الترابطات بين الدول، إلا أنه وبعد الحرب الأوكرانية قد انقلبت تلك المعايير الرئيسية للسياسة الخارجية والأمنية الأوروبية، فقد استُبعد بالفعل عن الحوار أي تفكير أو إيمان من جانب المعسكر الأوروبي بإمكانية إبرام سلام دائم وشامل مع روسيا، وبدلًا من ذلك، فقد عاد النقاش من جديد حول مستقبل الأمن الأوروبي وما يصاحبه من تقلبات وحالة من عدم اليقين.

مقالات لنفس الكاتب