; logged out
الرئيسية / أبرزت كورونا أهمية القيادة المستبصرة للمواجهة الناجحة ومنح الأولوية للعلم

العدد 176

أبرزت كورونا أهمية القيادة المستبصرة للمواجهة الناجحة ومنح الأولوية للعلم

الخميس، 28 تموز/يوليو 2022

بات من الواضح، في ضوء رفع أغلب دول العالم للإجراءات الاستثنائية الخاصة بمنع انتشار مرض كوفيد 19، أننا نقف اليوم على تخوم انتهاء جائحة كورونا بعد أكثر من سنتين من إعلان منظمة الصحة العالمية في 11 مارس 2020م، اعتبار مرض کوفید-19 الناتج عن الإصابة بفيروس كورونا جائحة عالمية يتطلب التصدي لها إجراءات عاجلة وواسعة وصارمة من جميع دول العالم. وإذا كنا، في الأغلب الأعم، قد تركنا خلفنا تأثيرات جائحة كورونا على الحياة اليومية، فلاشك أن تدبر معنى الجائحة والدروس التي يمكن استخلاصها منها لايزال أمامنا. فإحدى مسلمات الفكر النقدي المعاصر أن الاستيعاب الحقيقي للأحداث التاريخية الكبرى لا يتم إلا بعد اكتمال حلقاتها. وإذا كان هذا ينطبق على الثورات والحروب، فإنه ينسحب أيضًا على الكوارث الطبيعية والجوائح. ويتصل بذلك أن من سمات الأحداث التاريخية الكبرى حملها أبعاد متعددة تتطلب مقاربتها زوايا نظر مختلفة. يتناول هذا المقال جائحة كوفيد-19 باعتبارها حدثًا تاريخيًا أفرز تأثيرات فارقة على مستوى النظر إلى دور الدولة. فلقد تجاوزت أزمة كوفيد-19 في طبيعتها وتأثيراتها نطاق الأزمة الصحية، إذ لامست بصورة مباشرة أغلب القطاعات داخل الدول وتطلبت من الحكومات انتهاج استراتيجيات تقوم على التعبئة الواسعة بغرض نشر الإجراءات الكفيلة بمنع انتشار المرض. وفي المحصلة، وضعت أزمة كورونا، منذ بدايتها، الدولة المعاصرة أمام محك اختبار حقيقي لقدرتها على النهوض بواجباتها الأساسية المتمثلة في ممارسة ما أسماه المفكر الفرنسي ميشيل فوكو "السياسة – البيولوجية" المعنية بقيام الدولة بحفظ حياة السكان وتعزيزها وهو أمر يتناسب طرديًا مع قدرة هذه الدولة على صياغة الاستراتيجيات الكفيلة بحسن إدارة مواردها و توظيف قدراتها. وبالتالي، باتت عملية التصدي لجائحة كورونا على المستوى الوطني تحمل في ثناياها معايير لفرز الدول وتصنيفها. ويجادل المقال "أن أزمة كورونا" أنتجت تحولاً يستحق الوقوف عنده في التصورات التي شهدها مفهوم الدولة الحديثة من حيث مسؤولياتها وعلاقاتها بالمجتمع. ولكن حتى نتبين طبيعة هذا التحول، وعناصر الجدية فيه، سنحتاج إلى المرور - ولو سریعًا- على السياق التاريخي للتصورات الرئيسة حول دور الدولة الحديثة، ابتداءً من القرن التاسع عشر، وما شهدته من تحولات في القرن العشرين وما تلاها من تغيرات في قرننا الحالي، وصولاً إلى التحديات التي فرضتها جائحة كورونا وتبعاتها على الدولة القائمة، وما أفرزته من تصنيفات للدول المعاصرة باتت تزاحم التصنيفات التي هيمنت تقليديًا على العلوم السياسية والعلاقات الدولية.

جائحة كورونا: نعم أزمة، ولكن بأي معنى؟

من المعروف أن المفاهيم التحليلية تفقد الكثير من معانيها الدقيقة ومضامينها المتميزة عند دخولها في استعمالات اللغة العادية. ولعل مفهوم "الأزمة" هو واحد من هذه المفاهيم التي تعرضت للتشويش بفعل الاستخدام المكثف لها في التداول العام عند تناول الاستعصاءات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. وبالتالي، من المفيد، ونحن نتلمس تأثيرات الجائحة على الدولة، الوقوف أولاً على المعنى المقصود بالأزمة عند الحديث عن " أزمة كورونا".

يوظف العاملون في حقل التحليل السياسي مفهوم الأزمة للإشارة إلى وضع يتسم ببروز تهديد مفاجئ لقيمة عالية (مثل الأمن أو السلم الاجتماعي أو الصحة العامة) ويقتضي اتخاذ قرارات حاسمة، ضمن نطاق زمني قصير وضاغط. ولاشك أن تهديد تفشي فيروس كورونا حمل معه بوضوح هذه العناصر الثلاثة المتداخلة لمفهوم الأزمة فقد كانت الجائحة تهديدًا مباغتًا للصحة العامة، وفرضت - بسبب انتشارها الخاطف - الحاجة لإجراءات سريعة وقادرة على التعبئة الفعالة للموارد الحكومية. ويمكن أن نضيف أن ما جعل " أزمة كورونا" مختلفة عما سبقها من أزمات (سياسية أو أمنية) شهدتها البيئة الدولية هي في شمولها السريع للعالم بأسره، وفي طبيعتها المركبة حيث لم تقف عند حدود الجانب الصحي بل تجاوزته إلى جوانب اقتصادية واجتماعية وإدارية ولم تسلم منها العلاقات البينية في مناطق عدة من العالم. وبالتالي، لم يكن مستغربًا أن تدفع أزمة جائحة كورونا إلى الواجهة تساؤلات، لا تزال تشغل النظر البحثي، حول الدروس التي يمكن الاستفادة منها والخلاصات التحليلية التي يمكن الخروج بها عن طبيعة الدولة المعاصرة.

من الملاحظ أن من متلازمات التفكير في خضم الأزمات انفتاح المجال واسعًا لإطلاق العنان للتكهنات حول الأسباب والتداعيات، حيث لا يكاد يخلو زمن الأزمة من الشطط في بناء التصورات والمبالغة في التأكيد على الانقطاعات، لذلك كان واجبًا عند النظر في تداعيات أزمة كورونا والدروس المستخلصة منها الموازنة بين تسجيل التحولات دون إهمال رصد الاستمراريات؛ فتغير الأحوال كما يقول ابن خلدون ليس هو "المباينة بالجملة". فعالم ما بعد أزمة كورونا، وإن كان مختلفًا في بعض الوجوه عن عالم ما قبلها، إلا أنه في وجوه كثيرة أخرى استمرار لما قبلها. وبالتالي سنقف في الصفحات التالية حصرًا على ما نراه من تأثيرات لأزمة كورونا على مفهوم الدولة المعاصرة، وما يمكن استشرافه من نتائجها على طابعها العام.

التحول في التصورات حول الدولة

لا يمكن الوصول إلى تقدير متوازن حول أهمية أزمة كورونا في التأثير على التصورات الراهنة لمفهوم الدولة وأدوارها المجتمعية دون استعراض ما تعرض له هذا المفهوم من تحولات على مدى القرنين الماضيين. وباختصار شديد نشير إلى أن مفهوم الدولة الحديثة، باعتبارها الوحدة الأساسية في العلاقات الدولية والذي بزغ مع استواء مفهوم السيادة الذي انتجته معاهدة وستيفيليا (1648م) كعلامة فارقة لتمييز الدولة الحديثة عما سبقها من أنماط للدولة، شهد نقاشًا أوروبيًا مهمًا في القرن التاسع عشر حول ما ينبغي أن تكون عليه علاقة الدولة بالمجتمع. ويمكن فرز هذا النقاش إلى ثلاثة اتجاهات رئيسة حملت كلا منها تصورًا خاصًا عن دور الدولة المجتمعي. تمثل الاتجاه الأول في التصور الليبرالي للدولة، وهو التصور الأهم والأكثر حضورًا ونفوذًا باعتبار أن القرن التاسع عشر كان العصر الذهبي لليبرالية الكلاسيكية. وحسب التصور الليبرالي للدولة، فإنه ينبغي حصر علاقة الدولة بالمجتمع في أضيق نطاق ممكن. فوظيفتها الأساسية ينبغي أن تنحصر في التمثيل الخارجي والدفاع وحفظ الأمن الداخلي، أي ما كان يسمى في الأدبيات الليبرالية حينها القيام بدور "الحارس الليلي". إنها دولة الحكومة الصغيرة حيث الغلبة في الإدارة المجتمعية لمطلب التنظيم الذاتي كما رسمتها فكرة المجتمع المدني من جهة، وآليات السوق المتحررة من تدخلات الدولة، من جهة أخرى. وفي مواجهة التصور الليبرالي عن الدولة تبلور في القرن التاسع عشر تصوران مضادان، التصور الماركسي والتصور الفوضوي Anarchist. ويشترك التصوران المناهضان لليبرالية في النظر للدولة باعتبارها "مؤسسة قمع" ينبغي للمجتمع تجاوزها. قدمت الماركسية رؤية للتاريخ اختزنت امكانية اضمحلال الدولة في المستقبل مع قدوم العصر الاشتراكي وصعود المجتمع اللاطبقي الموعود. فيما دفعت الفوضوية بضرورة العمل على نفي مؤسسة الدولة كشرط لبلوغ الحرية الفردية.

حمل القرن العشرين صدمة كبرى لجميع هذه التصورات. فالأزمة المالية الكبرى وما تبعها من كساد اقتصادي ( 1929-1933) كشفت عجز آليات السوق عن إدارة العملية الاقتصادية وعدم صلاحية الفكرة الليبرالية الكلاسيكية عن أفضلية الحكومة الصغيرة. فلقد فرضت تلك الأزمة الحادة حاجة ماسة لتدخل الدولة على نطاق واسع في الميادين الاقتصادية والاجتماعية. وتشكلت تبعا لذلك ما بات يسمى "دولة الرعاية الاجتماعية" حاملة معها تضخيمًا لبنية الدولة الإدارية ونطاق صلاحياتها القانونية في الإدارة الاقتصادية -الاجتماعية، ومتبعة إياه بتوسيع كبير لملكية الدولة للمرافق الاقتصادية كما في سياسات التأميم التي تم تطبيقها على نطاق واسع في دول أوروبا الغربية في الفترة التالية مباشرة للحرب العالمية الثانية. وبدوره تلقى التصور الماركسي التقليدي عن الدولة ضربة في مقتل نتيجة تشكل "الدولة الشمولية" كما في الإتحاد السوفياتي. فبدلاً من اضمحلال الدولة بقيام النظام الاشتراكي بعد الثورة البولشيفية عام 1917م، أنتج هذا النظام نمطًا جديدًا يفوق في حجم ونوعية استبداده وقوة قبضته على المجتمع أي نمط آخر للدولة عرفه التاريخ. وأما التصور الفوضوي فقد توارى إلى الهامش نتيجة رسوخ اليقين بالحاجة المستمرة لمؤسسات الدولة باعتبارها الضامن لأمن وحرية المجتمع وليست نفيًا لها كما تدفع النظرية الفوضوية. وفي المحصلة يمكن القول أن معظم القرن العشرين كان ميدانًا لتوسع نطاق الدولة، وحضورها الواسع في العملية الاقتصادية - الاجتماعية.

ولكن مع العقدين الأخيرين من القرن العشرين بدأت التساؤلات تنمو حول الحاجة لهذا الدور الواسع للدولة وكفاءتها الإدارية والاقتصادية والاجتماعية. وفي الغرب برزت هذه التساؤلات بصيغة تشكيك بدولة الرعاية الاجتماعية وكفاءة مؤسساتها في إدارة الجوانب الاقتصادية والخدمية. وفي المحصلة تبلور توجه جديد حمل أسم "الليبرالية الجديدة" يرى أن الطريق نحو الانتعاش الاقتصادي وتوسيع نطاق الحرية المجتمعية لا يتم إلا من خلال العمل على تقليص دور الدولة. وتجسدت الليبرالية الجديدة في السياسات التي قادتها حكومة مارغريت تاتشر في بريطانيا وإدارة الرئيس رونالد ريغان في الولايات المتحدة، والقائمة على الخصخصة و توسيع نطاق آليات السوق المتحررة من تقييدات التشريعات الحكومية وتقليص حجم دولة الرعاية الاجتماعية. ويمكن تلمس الفلسفة السياسية الثانوية في هذه المقاربة، والداعية إلى تقليص حجم الدولة وأدوارها، بتأكيد الرئيس ريغان في خطاب تنصيبه عام 1981م أن " الحكومة ليست هي الحل لمشكلتنا؛ بل هي ذاتها المشكلة"!

وسرعان ما وجدت السياسات المقترحة من" الليبرالية الجديدة" حضورًا متزايدًا في مناطق كثيرة من العالم، حيث اكتسبت حالة "الوصفة" التي لا مفر منها لمن أراد تحقيق الفعالية الاقتصادية والنهوض التنموي. وإذا كانت سياسات "الليبرالية الجديدة" بمثابة إزاحة للدولة عن المركز، فإن هذه الإزاحة سرعان ما تضاعفت في العقد الأخير من القرن العشرين بفعل تعاظم الاهتمام بموضوع " العولمة" وسبل دفعها، خصوصًا في الجانب الاقتصادي. وبات الحديث ينحو بصورة مطردة باتجاه التأكيد، الذي وصل أحيانًا حد الاحتفاء، بفقدان الدولة لموقعها المركزي في إدارة المجتمعات لصالح قوى العولمة والحضور المتزايد للمنظمات الإقليمية والدولية كالاتحاد الأوروبي ومنظمة التجارة العالمية.

ولكن القرن الحادي والعشرين سرعان ما جلب معه تطورات أوقفت هذا المد، وأعاد موضعة الدولة في المركز من الاهتمام. وتمثلت هذه التطورات في أحداث ثلاثة الأول، صعود "الحرب على الإرهاب"، في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2011م، كأولوية قصوى في السياسة الدولية والسياسات الوطنية للدول المؤثرة. فالمتطلبات الأمنية للحرب على الإرهاب فرضت الحاجة لاستعادة مركزية الدولة في التعبئة ومواجهة ما تم تأطريه على أنه خطر وجودي داهم. وتمثل التطور الثاني في الأزمة المالية العالمية في 2008م ، وتبعاتها الاقتصادية والاجتماعية حيث كشفت عجز آليات السوق عن الإدارة الذاتية والحاجة لتدخل واسع من الدولة لإنقاذ العملية الاقتصادية من السقوط في الهاوية، معززة بذلك أهمية استعادة الدولة لمركزيتها في الإدارة المجتمعية. وتمثل التطور الثالث في تفشي فيروس كورونا وتحول مرض کوفید-19 إلى جائحة عالمية تتطلب من الدولة دورًا مركزيًا في التصدي له، وهذا ما سنفصل فيه القول.

أزمة جائحة كورونا: تأكيد مضاعف على مركزية الدولة

لعل أكثر ما يستوقف النظر عند تناول موضوع الدولة في مواجهة أزمة كورونا هو تلك المفارقة بين عالمية الأزمة والطابع الوطني في الاستجابة لها. فالأزمة وإن كانت عالمية الطابع إلا أنها فرضت نفسها في كل بلد كأزمة وطنية في المقام الأول. وإذا كان تفشي الفايروسات المؤذية وانتشار الأمراض المعدية وانتقالها من مكان إلى آخر في المعمورة ليس شيئًا جديدًا بحد ذاته. إلا أن غير المعهود الذي صاحب انتشار مرض کوفید-19 هو السرعة الهائلة في انتقاله إلى أرجاء المعمورة، وكأنه يؤكد مركزية مصطلح "القرية العالمية" (Global village)، الذي صاغه المفكر الكندي مارشال ماكلوهان في ستينيات القرن الماضي واكتسب بعده معان إضافية، للتدليل على أن درجة الاعتماد المتبادل والتفاعل والتداخل البنيوي بين أجزاء العالم بلغت حالة غير مسبوقة من الترابط، بحيث بات ما يصيب جزءًا منه لابد وأن يؤثر سريعًا في بقية الأجزاء . فلا ريب أن أزمة جائحة كورونا وقفت شاهدًا على التصاعد السريع في وتائر العولمة، بما تحمله من تسريع في نسج حالة من المصير المشترك للعالم لم تشهده البشرية من قبل. ولكن المفارقة التي تستحق التسجيل أن هذا المعطى العولمي لم يتبعه استجابة جماعية مشتركة. بل وجدت كل دولة نفسها مضطرة أمام هذا التحدي المباغت إلى الاعتماد أولاً وبصورة أساسية على ذاتها في التعامل مع تهديد لا يمكن تجاهله أو الإبطاء في التصدي له. فالخطر يتوجه إلى الأساس من واجبات الدولة الحديثة في حماية حياة مواطنيها والمقيمين على أرضها. وبالتالي سرعان ما تحول التصدي الناجع لأزمة كورونا إلى اختبار حقيقي لمدى قدرة الدولة الوطنية وكفاءتها في النهوض بالأساس من مهامها. ولم يكن هذا الاختبار غير المسبوق بنطاقه العالمي بالأمر اليسير. فالتصدي الفعال يتطلب قدرة على الحشد الفعال والسريع للموارد وتعبئة للطاقات البشرية والمادية الكفيلة بالتعامل مع متطلبات التصدي للأزمة، وما يتصل بذلك، بل يسبقه، من قدرة الإدارة العليا على نشر استراتيجيات للسيطرة والإدارة تتجاوز القطاع الطبي لتتشعب إلى قطاعات الدولة الاقتصادية والخدمية والتعليمية والأمنية وغيرها. وهكذا فرضت أزمة كورونا على الدولة مهمة استراتيجية مركبة تتمثل في العمل على استمرار عجلة الحياة الاقتصادية والتعليمية والخدمية والإدارية في الدوران ولكن ضمن شروط تطبيق الإجراءات الكفيلة بالوقاية وحصر انتشار المرض إلى أضيق نطاق ممكن. ولم تكن هذه بالمهمات اليسيرة، حيث تفاوتت الدول في التصدي الناجح لها. ولعل ما شاهده كاتب هذه السطور عن قرب في المملكة العربية السعودية يشكل مثالاً يستحق أن يشار إليه بالبنان على التصدي الفعال للتحديات التي أفرزتها الجائحة.

دفعت متطلبات التصدي لجائحة كورونا إلى بلورة معايير تتجاوز التصنيفات التقليدية عند الحديث عن أنماط الدول. فخصوصية التحديات التي أفرزتها أزمة كورونا أدت إلى اشتقاق سياق جديد في تصنيف الأنظمة السياسية يحمل معه معايير مختلفة عن تلك التي هيمنت على علم السياسة والمنطلقة من أصناف نظم الحكم ومصادر الشرعية. فسياق الأزمة أنتج فرزًا جديدًا يقوم على اعتماد معیار الكفاءة في التعامل مع هذه الأزمة المركبة. ومن المهم الأخذ في الحسبان أن الكفاءة في هذا السياق تشير إلى مفهوم متعدد الأبعاد تتداخل فيه عناصر عدة أهمها:

1- القدرة: وتتمثل بامتلاك المقومات الفنية والإدارية المتفوقة والتنسيق الإستراتيجي الفعال بين قطاعات الدولة المختلفة، مثل القطاعات الصحية والإدارية والاقتصادية والخدمية والأمنية وتوظيف علاقاتها الخارجية. ويكفي الإشارة لتبين حجم المسؤوليات التي قذفت بها الجائحة أمام الدولة أن القطاع الصحي وحده وجد نفسه أمام تحديات متشعبة تتمثل في التنفيذ الناجح لآليات الوقاية المجتمعية ومنع انتشار المرض مثل العزل، والمراقبة الفعالة للالتزام بمعايير الوقاية، وصولاً إلى التنفيذ المنظم والسريع لبرامج التطعيم.

 

2- الثقة: ويقصد بها اكتساب السلطات الحكومية لثقة المواطنين والمقيمين على أراضيها بسلامة الإجراءات المتخذة لمواجهة الجائحة بتجلياتها المختلفة، وشيوع الاقتناع أن هذه الإجراءات تنم عن امتلاك السلطات الحكومية للرؤية التي تتناسب مع حجم التحدي، والقدرة الفعالة والمعرفة الفنية في كيفية مواجهة الأزمة.

 

3- القيادة: أبرزت أزمة كورونا أهمية عامل القيادة الفعالة المستبصرة للحاجة لتكريس الجهود التي تتطلبها المواجهة الناجحة لأزمة كورونا وفي مقدمتها منح الأولوية للرأي العلمي وتوفير الشروط اللازمة التي تكفل قدرة الأجهزة الفنية على العمل بكفاءة. وتشير أكثر من تجربة أن غياب مثل هذه القيادة كان عاملاً حاسمًا في تفاقم الأزمة كما حدث في حالتي الولايات المتحدة والبرازيل على سبيل المثال. ولعل أحد الدروس الكبرى التي ولدتها تجربة جائحة كورونا أن امتلاك القدرات المادية لا يشكل لوحده طوق النجاة من الأزمة إذا لم تتمتع الدولة بقيادة قادرة على الإدارة الاستراتيجية الفعالة للتحديات عن طريق التوظيف الكفء للموارد البشرية والمادية وتنسيق الجهود الحكومية الواسعة والمتشعبة التي تتطلبها المواجهة الناجعة للجائحة، فضلاً عن قدرة القيادة على اكتساب ثقة المواطنين بسلامة الإستراتيجيات الحكومية المتبعة وفعالية المؤسسات التي تقودها. وإذا كانت الحداثة في أحد أكثر معانيها شيوعًا تشير إلى هيمنة "العقلانية الأداتية" Instrumental Rationality وتجليها في القدرة على ترشيد الموارد بالحدود القصوى دونما هدر، وتوظيفها من خلال نشر استراتيجيات فعالة للوصول إلى أهداف مرسومة سلفًا، فلاشك أن تحدي أزمة كورونا شكل اختبارًا حقيقيًا لحداثة الدول ومؤسساتها الإدارية والخدمية. وبالتالي شكلت الأزمة بطابعها المركب قاعدة لفرز وتصنيف الدول يقوم على أساس الفعالية بصرف النظر عن الأطر الأيديولوجية الفارقة للنظام السياسي.

وفي المحصلة النهائية تمثلت أهم التداعيات التي أفرزتها أزمة كورونا في تشدید مضاعف على مركزية الدولة في مقابل تعاظم الشكوك حول قدرة المنظمات الدولية على إزاحة الدولة عن هذا الموقع المركزي بالصورة التي كانت تتوقعها في العقود الأخيرة من القرن العشرين الخطابات الدافعة اتجاه الأقلمة (Regionalization) والعولمة. فما شهده العالم في ظل أزمة كورونا، خصوصًا في الأسابيع الأولى، من إغلاق الحدود الدولية وتوقف مفاجئ لكثير من خطوط التجارة والنقل الدوليين، كشف بصورة لا يمكن إغفالها مخاطر الاعتماد على سلاسل الإمداد الخارجية، خصوصًا الطويلة منها، والتي شكل تشجيعها، بتسويغات تخفيض كلفة السلع والخدمات، ركنًا أساسيًا من أركان خطاب العولمة التجارية و الاقتصادية. وفي المقابل أكدت أزمة كورونا أهمية توسيع دائرة الاعتماد الذاتي للدولة فيما يخص تأمين حاجات الدواء والغذاء والمعدات الطبية وجميع ما يدخل ضمن نطاق الحاجات الحيوية للسكان، واعتباره من متطلبات الأمن الوطني متفوقًا بذلك في درجة أهميته على الاعتبارات والحسابات التجارية والاقتصادية البحتة.

وفي الختام، فإنه إن كان تعريف الحدث التاريخي – بحسب العاملين في مجال التنظير للتطورات التاريخية - يشير إلى ذلك التطور القادر على أن يتبلور بصورة تفصل المسار التاريخي، ولو جزئيًا، عما قبله، ويؤسس لما يأتي بعده، فيمكن القول أن الطبيعة المركبة لأزمة كورونا شكلت حدثًا تاريخيًا اختط أفقًا لم يعد بالإمكان القفز فوقه سمته الأساس مركزية الدولة الوطنية والحاجة المستمرة لها.

مقالات لنفس الكاتب