; logged out
الرئيسية / قمة جدة لا تؤدي لانتهاء إشكالية العلاقات الأمريكية الخليجية لكن مأسسة إدارتها

العدد 176

قمة جدة لا تؤدي لانتهاء إشكالية العلاقات الأمريكية الخليجية لكن مأسسة إدارتها

الخميس، 28 تموز/يوليو 2022

على الرغم من تزايد الجدل الأمريكي الداخلي، بشأن العلاقات مع دول مجلس التعاون الخليجي، خلال إدارات أوباما وترامب وبايدن، فلم يكن العامل الأمريكي هي الوحيد الباعث على التحول بالعلاقات، حيث شهدت دول المجلس تحولات في وضعيتها السياسية والجيوسياسية والجيواقتصادية، أوجدت تعارضًا مع الضمانة الأمنية الأمريكية، وذلك هو المنظور الجديد الذي ينبغي الدفع به، حيث ركزت أغلب التحليلات خلال السنوات الماضية على تحولات الاستراتيجية الأمريكية نحو دول الخليج، دون الانتباه إلى ما فعلته التحولات في مضمون العلاقة على الجانب الخليجي أيضًا.

لقد فرضت الوضعية الجديدة لدول المجلس، التي ازداد ثقلها السياسي وحضورها الدولي في السنوات الأخيرة، البحث عن فضاءات إقليمية للتعبير عن الدور والمصالح، وأدت ممارسة دول المجلس أدوارها في هذه الفضاءات إلى بعض جوانب التعارض مع مضمون الشراكة بين الطرفين الأمريكي والخليجي، والتي كان جوهرها بقاء الدور الإقليمي لدول المجلس متوائمًا مع السياسة الأمريكية، ومتوافقًا مع ضوابط الشراكة وحدودها. لكن مع تعاظم دور دول المجلس في الفضاءات الإقليمية وممارستها سياسات تعارضت أحيانًا مع التوجهات الأمريكية، فقد ترتب على ذلك ارتدادات لم تعد تتحملها قواعد الشراكة بين الطرفين.

وعلى الرغم من مساعي دول المجلس لاستمرار العلاقة مع الولايات المتحدة بالمستوى السابق نفسه، إلا أنه قد لا يكون ضمن حساباتها استمرار تلك العلاقة بذات المستوى للأبد، وإنما الأكثر أهمية بالنسبة لها هو أن تبقى هذه العلاقة لفترة انتقالية، في مستوى ما بين الضمانة الأمنية الكاملة التي تمنحها فسحة أخرى من الوقت، تنعم خلالها بالأمن والتنمية، وبين الغياب الكلي لتلك الضمانة، أو الضمانة منخفضة المستوى وغير الرادعة، التي تطرح عليها أعباء في حماية أمنها الوطني.

أولاً: التحولات.. والثابت والمتغير في الحسابات

كثرت التحليلات التي ركزت على أن التوجه الأمريكي لتخفيض مستوى الالتزام الأمني والدفاعي نحو دول الخليج هو قرار أمريكي خالص، ومع ذلك فإن الاتجاه للتحول في العلاقات برز على الجانب الخليجي أيضًا، وربما انطلق بفعل تغير الأوضاع والسياسات الخليجية أكثر، والتي تمثلت بالأساس في: تنامي الأدوار العربية والإقليمية لدول مجلس التعاون الخليجي وعلى الصعيد الدولي، وتراكم أصولها وأرصدتها من القوة الاقتصادية والقوة الناعمة والثقل الدبلوماسي والوفرة المالية، بالتواكب مع الفكر البراجماتي الذي تطور من جراء علاقة دول المجلس الطويلة بالولايات المتحدة، والنخب الخليجية الجديدة التي تعلمت في الولايات المتحدة وتشربت بالفكر الغربي، التي تمازجت مع الشخصية الخليجية، التي تمثل البراجماتية جزءًا من طابعها السياسي والحياتي. ولقد شكلت هذه الاعتبارات جميعها بعض مدخلات القرار الأمريكي بتخفيض الالتزام تجاه دول المنطقة.

وهكذا، لم يكن السعي لإعادة تحديد العلاقات بين الجانبين مطلبًا أمريكيًا فقط، وإنما توجهًا خليجيًا أيضًا؛ فلقد توافق نمط العلاقات الذي ساد لـ 70 سنة، مع حقبة تاريخية معينة، كانت لدول المجلس فيها ظروفها الخاصة، بعد نشأة الدولة الحديثة، بينما الآن تغيرت الأوضاع ولم يعد من المناسب أن تبقى دول المجلس في علاقة غير متكافئة مع القطب الأمريكي، ودون توازن في العلاقات مع الأقطاب الأخرى الصاعدة دوليًا، والتي يزداد ارتباط بعضها بمنطقة الخليج.

وتشير تطورات العلاقات الخليجية الأمريكية بعد قمة جدة للأمن والتنمية (يوليو 2022م)، إلى أن هناك معادلة جديدة، سوف تبقى فيها علاقات الجانبين محتفظة ببعض خصوصيتها، بحكم كثافة شراكات الجانبين الاقتصادية والسياسية والأمنية والدفاعية التي تم بناؤها في العقود الماضية، والتي تحتاج إلى عقود لتقليصها أو إنهائها، إن سعى الطرفان لذلك من الآن. وسيضاف إليها الشراكات الجديدة الأمنية والدفاعية الموجهة والمستهدفة لمجالات محددة بعينها(والتي تضمنتها الاتفاقيات الـ 18 التي جرى توقيعها خلال القمة بين السعودية والولايات المتحدة)، والتي تركز على ترسيخ العلاقات في مجالات نوعية خاصة، قد تؤسس لشراكة أخرى تدوم لثمانية عقود مقبلة.

والأساس أن العلاقات الخليجية الأمريكية تمر بمرحلة انتقالية تتغير فيها المفاهيم على الجانبين، وبينما كانت الولايات المتحدة قد قررت في فترة ما تخفيض الالتزام الأمني نحو دول المنطقة، فإنها بعد قمة جدة، سوف تشهد عملية من إعادة اكتشاف جديدة للمنطقة، تكرس أهمية الاحتفاظ بعلاقاتها معها، بالأخص لنوعية المهام والخدمات التي يمكن أن تجنيها من علاقاتها معها خلال مرحلة التحولات القطبية. وعلى جانب دول مجلس التعاون فبعد أن اقتربت من التسليم بتغيير العلاقات وتفاعلت معه بواقعية، فإنها بعد قمة جدة عاودت تفكيرها بإمكان إحياء العلاقة، دون أن تؤثر في رؤيتها الجديدة بضرورة التوازن في علاقاتها مع الأقطاب الأخرى.

لن تتحول دول مجلس التعاون الخليجي إلى الطرف الآخر من المعادلة تمامًا، كما لن تتحول الولايات المتحدة إلى علاقة عداء مع دول المجلس، وإنما سوف تبقى العلاقات مضبوطة بتحولات واقعية في علاقة تحكمها المصالح، وليس الإيمان العقيدي أو المبدئي بأهمية التحالف. هناك رغبة من الجانبين بتغيير قواعد العلاقة، مع استمرار التمتع بمزاياها. ومن ناحية دول مجلس التعاون، فقد أصبحت تؤهل نفسها منذ فترة للبدائل والخيارات، التي تفرض البحث عن تحالفات أخرى تعوضها عن تراجع الوجود الأمريكي وتحقيق نفس المستوى من الأمن.

وهناك العديد من الأسباب التي دفعت الجانبين لإعادة اكتشاف العلاقة، يتمثل أهمها فيما يلي:

  • الممر الخليجي للصعود الصيني: كجزء من عملية التحول في الفكر الأمريكي بشأن التنافس على القطبية في القرن الحادي والعشرين، كانت الخلاصة الأمريكية الأساسية هي أن المنافس الرئيسي للولايات المتحدة هو الصين، التي تهدد القطبية الأمريكية اقتصاديًا وسياسيًا وعلميًا ومن حيث النموذج الشامل. ولم يأخذ التفكير الأمريكي في البحث عن عدو بعد الاتحاد السوفييتي فترة طويلة في الاستنتاج بذلك. وأخذت أجراس الإنذار تدق عبر الكتابات وفي الاستراتيجيات المؤسسية الأمريكية منذ مطلع الألفية الجديدة. ولقد جرت وقائع كادت أن تؤدي لاشتباك الدولتين لولا أحداث 11 سبتمبر التي أجلت الصراع ومنحت الصين فترة استراحة لنحو 20 سنة مكنتها من التنمية وتصاعد القوة. وبالنظر إلى كون دول المجلس تشكل مصدرًا للطاقة اللازمة للصناعة الصينية، وكسوق مفتوحة للتجارة معها، فإن من مصلحة الولايات المتحدة الأكيدة التحكم بما يمكن تسميته "الممر الخليجي للصعود الصيني"، لذلك كان خطاب بايدن في قمة جدة دقيقًا في قوله "لن نتخلى ونبتعد لترك فراغا يمكن أن تملؤه إيران وروسيا والصين". وفضلاً عن أن منطقة الخليج انتبهت منذ فترة لأهمية علاقاتها بكل من الصين وروسيا، في مجالي الاقتصاد والسلاح، فإنها رسخت علاقتها ووضعيتها في معادلة النهوض الصيني بشكل أشبه بما حققته من وضعية في معادلة النهوض الغربي منذ الخمسينيات، ومن ثم ضمنت لنفسها وضعية توازن في علاقاتها بين الأقطاب الجدد والقدامى، تفرض على كل منهم عدم إمكان إخراجها من حساباته.
  • عودة الوحدة والقيادة في المنظومة الخليجية: على الرغم من أن أزمة الرباعي العربي مع قطر لم تؤد إلى تراجع الثقل الخليجي اقتصاديًا وسياسيًا، إلا أنها كشفت عن خليج مستقطب وبلا قيادة أو موقف جماعي، ولقد أضعف ذلك من مكانة دول المجلس في المنظور الأمريكي، وجعل المنظومة الخليجية عرضة للاختراقات. لقد خرجت دول المجلس فرادى وجماعة من الأزمة أقوى من السابق، وأكثر إدراكًا لأهمية وحدتها، وأصبحت تتعامل مع خلافاتها بواقعية وبراجماتية، وتنظر إلى الاختلافات وحتى التنافسات بينها على أنها عنصر إثراء وليس ضعفًا، وهذا هو الوضع الجديد، الذي برز فيه الخليج وجزء كبير من العالم العربي موحدًا خلف مركز الثقل العربي في قمة جدة، على نحو عظّم من مجمل الأوراق الخليجية وخلفها الأوراق العربية لكل من مصر والأردن والعراق. ولقد مثلت هذه المجموعة الخليجية العربية الجديدة الطريق الأقصر الذي فرض إعادة تأكيد الشراكة الأمريكية مع دول مجلس التعاون الخليجي.
  • الانقسام بشأن الحليف الخليجي بين الديمقراطيين: على الرغم من أن العلاقة الأمريكية الخليجية في عهد ترامب لم تعد إلى مستوى الترتيب الأمني والدفاعي السابق، بعد أن أخذ الرئيس الأمريكي السابق يتحلل من المفهوم العقيدي للعلاقة ويربطها أكثر بالجوانب المالية، إلا أنها ظلت في حدودها الدنيا مقنعة لدول المجلس. بينما تعرضت أهمية الخليج داخل الحزب الديمقراطي للتراجع قبل قدوم بايدن، وتفاقمت النظرة السلبية للخليج في أوساط الديمقراطيين، بفعل اعتبارات لم يكن لدول المجلس علاقة كبيرة بها، حيث يعود بعضها إلى خلافات الديمقراطيين مع الحزب الجمهوري ومع الرئيس ترامب نفسه، ويعود البعض الآخر إلى علاقة ترامب الخاصة بدول مجلس التعاون، وهو ما كان أحد أسباب تراكم سخط الديمقراطيين، بعد أن بدت دول المجلس كأحد الداعمين لسياسات ترامب، بالأخص بعد أن رفعت أسهمه بورقة التطبيع. ومن ثم جاء بايدن بمفهوم عقابي إزاء دول المجلس(بالأخص السعودية والإمارات)، واكتست نظرته العدائية لدول الخليج بمفاهيم حقوق الإنسان وحادث خاشقجي وحرب اليمن. ولكن بعد عام ونصف من حكم بايدن حدثت انقسامات بالحزب الديمقراطي بشأن الحليف الخليجي، وبدأ التعبير عن وجهات نظر، تؤكد أهمية الإبقاء على التحالف والاستفادة منه.
  • الصبر الاستراتيجي وتهيئة الواقع النفسي: على الرغم من النظرة العدائية للرئيس بايدن، فقد مارست دول المجلس الصبر الاستراتيجي في التعويل على إحداث تغيير داخل الإدارة وانتهجت النفس الطويل. لقد بدأت المواقف المعادية للرئيس الأمريكي خلال حملته الانتخابية وقبل توليه الإدارة، أي قبل عام أو عامين على أزمة أوكرانيا، ومع ذلك لم تتخذ دول المجلس رد فعل مناهض له ولتوجهاته، ومارست عملها كما ينبغي، في السعي إلى تهيئة الواقع داخل الإدارة نحو حالة قرار مغايرة، ولم تيأس من القدرة على دفع الرئيس وإدارته للانقلاب على مواقفه وتوجهاته السابقة، والتأثير على دوائر القرار داخل الحزب الديمقراطي. وقد استندت دول المجلس في ذلك إلى إرث هائل من خبرة العلاقات والعمل داخل الساحة الأمريكية، مكنها في النهاية من تحقيق أهدافها، وإحداث دورة التغيير في التوجهات الأولى للإدارة. وفي الحقيقة، فإنه يصعب الإحاطة بأبعاد ما حدث، وأنماط التأثير الخليجية، دون دراسة وافية لفترة الشهرين السابقين على قرار الرئيس الأمريكي بزيارة السعودية، وهي الفترة التي مارست فيها الدبلوماسية السعودية كل قدراتها ومهاراتها في الإقناع السياسي.     
  • الأزمة الأوكرانية وتصحيح المفهوم الاستراتيجي: إذا كان الصبر الاستراتيجي والعمل المخطط من جانب دول المجلس قد أحدث تأثيره التخطيطي والمكتبي في التوجه السياسي للإدارة، فقد جاءت الأزمة الأوكرانية وفرضت تصحيح النظرة إلى منطقة الخليج وإعادة اكتشاف أرصدتها وأصولها، ليس فقط لأهمية الطاقة والحاجة الغربية للتخلي عن النفط والغاز الروسيين، وإنما أيضًا بعد انعكاس الأزمة الشديد على الداخل الأمريكي وارتفاع أسعار الوقود وزيادة تكاليف الحياة، وهي أوضاع يمكن في حال استمرارها التأثير بشدة على انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في 8 نوفمبر 2022م، فأكدت الأزمة أن دول المجلس فضلاً عن كونها تشكل مكسبًا وثقلاً إضافيًا لمن تحالفه، فإنها تشكل عبئًا ثقيلاً على من يعاديها أو تعاديه، كما أكدت أنه لا يزال للمنطقة أهميتها الاستراتيجية في زمن يرفض أن يفارق عصر النفط، وقد انعكس ذلك كله بشكل لافت في الموقف الخليجي من الأزمة الأوكرانية.
  • خريطة المبادرات الخليجية الجديدة: من خلال الدبلوماسية الخليجية النشطة في الإقليم أصبح بناء العلاقات مع دول المجلس مكسبًا لا يمكن لأي قوة أن تتجاهله، وترسخ الانطباع بأن العمل مع دول مجلس التعاون يتضمن أرباحًا دائمة. وضمن هذا السياق، يمكن الإشارة إلى الانطلاق السريع للدبلوماسية السعودية في عملية التسوية في اليمن، ومجهودات المملكة لاستتباب الهدنة، وتشكيل مجلس القيادة الجماعي. فضلاً عن انطلاق الدبلوماسية الخليجية في تبني نهج دبلوماسي جديد تجاه دول الإقليم (إسرائيل وتركيا وإيران). وفي كل هذه المبادرات نجحت دول المجلس في فرض النهج الذي تريده بالإيقاع الذي يحقق مصالحها. فتحركت نحو الدول الثلاث بمستويات تقدم متفاوتة، بحسب نضوج كل حالة، وفي الحالات الثلاث تفرض حسابات القوى الثلاث مع بعض دول المجلس التي تقدمت علاقاتها معها عدم الاندفاع إلى خيارات سلبية تجاه دول المجلس الأخرى التي لم تتقدم علاقاتها معها، في إطار عملية ضبط وتوازن محكومة، لذلك لم يكن غريبًا أن يأتي التأكيد من الإمارات(وهي الدولة المطبعة مع إسرائيل)، بأنها "لن تكون جزءاً من محور ضد إيران" وأن "فكرة نهج المواجهة مع إيران ليست بالشيء الذي تتبناه الإمارات"، وأنّ "أبو ظبي منفتحة على كل ما يحمي الإمارات دون استهداف دولة ثالثة".

إنطلاقًا من كل ما سبق، جاء الرئيس بايدن واتخذ قراره بتصحيح العلاقات بفعل أمور متعددة ساعدت على إعادة رسم مكانة دول المجلس ككتلة وازنة في تحولات العالم، بعد أن تمكنت دول الخليج من إعادة موضعة ذاتها بعد اتفاق العلا، وأعادت رسم علاقاتها مع إسرائيل وتركيا وإيران، وتعاظمت أهميتها العالمية بعد أوكرانيا، وكانت من قبل قد خططت لمسار علاقاتها مع روسيا والصين.

ثانياً: قمة جدة .. بين الشراكة التقليدية والشراكة المتقدمة

لا تشير نتائج قمة جدة إلى أنها أنهت قلاقل الدول الخليجية نحو الولايات المتحدة، بل قد تكون أكدت بعض تلك القلاقل، وبينما كانت ثمة هواجس بشأن تحولات الشراكة والعلاقة، فقد اتجهت القمة إلى مأسسة هذه التحولات، وتعاملت معها كواقع ينبغي تفهمه. ومن الآن لم تعد دول المجلس تدير علاقاتها بالولايات المتحدة وفقًا لمبدأ عقيدي والتزام واضح، وإنما وفقًا لـ "دورة اعتراف وإثبات" كل أربع سنوات، فلم يعد لديها ثقة فيما يحمله القادم الجديد للبيت الأبيض من مخاطر أو تهديدات، وفي كل أربع سنوات عليها أن تعيد التأكيد على الاعتراف بأهمية العلاقة من القادم الجديد الذي قد يفتقد إلى القراءة اللازمة والمعلومات الصحيحة. ولقد أصبحت العلاقات الخليجية الأمريكية تدار بمنطق الخطوة – خطوة، وتخضع للتقدير المجتزئ، وفي كل الأحوال فإن التدخل العسكري الأمريكي لدفع هجوم على إحدى دول المجلس وبالكثافة السابقة، لم يعد قائمًا (وذلك وفق حديث الرئيس الأمريكي نفسه)، كما لم تعد دول المجلس تتمتع بوضعية استثنائية في المنظور الأمريكي. ضر   

ومن خلال تحليل كلمة الرئيس بايدن خلال قمة جدة يتضح أنه حرص على تقديم تعهدات يمكن تفسيرها بأكثر من طريقة، فعلى الرغم من تأكيده على أن "عهد الحروب في المنطقة وباستعمال القوات الأمريكية الكبيرة قد انتهى"، فقد أكد أن «الولايات المتحدة ستبقى شريكًا نشطًا للشرق الأوسط، .. وسنضمن قدرة حلفائنا في الشرق على الدفاع عن أنفسهم". وقال "سنقدم مواردنا لتعزيز تحالفاتنا ولبناء تحالفات لحل المشكلات التي تواجه هذه المنطقة من العالم".

وتعكس هذه التصريحات شراكة دفاعية وأمنية أقل قوة، وأقل مصداقية من حيث قوتها الردعية للآخرين، وتعتمد بالأساس على قدرة الحلفاء للدفاع عن أنفسهم بأنفسهم وليس بمشاركة القوات الأمريكية، التي لن تعود تستخدم بحجم كبير في حروب المنطقة. ولكن يظل الأخطر في الرؤية الأمريكية أن الرئيس ربط أهمية المنطقة بالنسبة للولايات المتحدة في العهد الجديد بعدم الرغبة في التخلي عنها وتركها منطقة فراغ تملؤها إيران وروسيا والصين، وهو ما يتجاهل الأهمية الذاتية للمنطقة للمصالح الأمريكية. أما فيما يتعلق بالالتزامات الأمنية والدفاعية المحددة، التي كان فيها الرئيس بايدن قاطعًا، فإنها لم تنصب على الدول أو الأنظمة الحليفة، وإنما تلك النقاط المفصلية التي ترتبط بالمصالح الأمريكية. ووفقًا لذلك لن تكثف الولايات المتحدة من وجودها داخل المنطقة، وإنما ستحرص على الوجود عند مداخلها ومخارجها الاستراتيجية، لذلك كان الرئيس الأمريكي واضحًا في تأكيده على أن "الولايات المتحدة لن تسمح للقوى الأجنبية في المنطقة بأن تهدد الملاحة الدولية في مياه المنطقة وخاصة مضيق هرمز وباب المندب.. الولايات المتحدة ستحافظ على أمن تلك الممرات المائية المهمة جدًا وبالعمل هنا ببحريتنا لنضمن أمن البحار".

ولكن في الوقت الذي تتراجع فيه الشراكة التقليدية العسكرية والدفاعية الشاملة بين الولايات المتحدة ودول الخليج، تتقدم أنماط جديدة من الشراكات الأصغر الموجهة والمستهدفة لمجالات معينة بذاتها. وهي طائفة جديدة من الشراكات تتواكب مع الرؤية الوطنية السعودية 2030 ونظيراتها الخليجية، والتي برزت من توقيع المملكة والولايات المتحدة 18 اتفاقية ومذكرات للتعاون، منها 13 اتفاقية وقعتها وزارة الطاقة، ووزارة الاستثمار، والهيئة الملكية للجبيل وينبع، وعدد من شركات القطاع الخاص، مع مجموعة من الشركات الأمريكية الرائدة، واتفاقية الهيئة السعودية للفضاء لاستكشاف القمر والمريخ مع وكالة ناسا الأمريكية، والانضمام للتحالف الدولي في مجال الاستكشاف المدني واستخدام القمر والمريخ والمذنبات والكويكبات للأغراض السلمية، ومذكرة تعاون وقعتها وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات السعودية مع شركة (IBM) في مجال التقنية الرقمية، ومذكرة تعاون أخرى مع الإدارة الوطنية للاتصالات والمعلومات الأمريكية(NTIA)، بشأن تعاون البلدين في مجالات تقنيات الجيل الخامس والجيل السادس. واتفاقية شراكة في مجالات الطاقة النظيفة والعمل المناخي، ومذكرة تعاون مشترك في مجالات الصحة العامة والعلوم الطبية والبحوث.

 

الخلاصة

قد لا تؤدي قمة جدة إلى انتهاء إشكالية العلاقات الأمريكية الخليجية، ولكن يجري الإحلال والمأسسة لإدارتها بأنماط جديدة. والأرجح أن هذه العلاقات لن تعود إلى سابق عهدها، وهي وإن كانت تبحث عن بعض الشراكات النوعية، فإنها تهدف أيضًا إلى تقليص الشراكة التقليدية بشكل متدرج وآمن، وبما لا يطرح إشكاليات للعلاقات مستقبلا. وهناك محطات سوف تختبر فيها العلاقات الخليجية الأمريكية خلال الفترة المقبلة لإدارة بايدن، قبل أن تأتي إدارة جديدة على الأرجح أن يكون لها حساباتها المختلفة.

سوف تظل الجدالات داخل أجنحة الحزب الديمقراطي الأمريكي، وبعض وجهات النظر التي تعكس القلاقل بشأن العلاقات، مع بعض الآراء غير الإيجابية نحو دول الخليج، وربما قد يستمر بعض المفردات في لغة خطاب الإدارة غير المنسجمة مع ضرورة التحول بعد قمة جدة، لكن نقاط التفاهم الخليجي الأمريكي حول الحد الأدنى الخاصة باستقرار سوق النفط والتسويات في الأزمات الإقليمية، يرجح أن تحول دون مزيد من التدهور، على الأقل خلال فترة وجود بايدن في السلطة، إلا إذا خرج أحد الجانبين خروجًا شديدًا على التفاهمات الأساسية للقمة.

مقالات لنفس الكاتب