array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 176

العلاقات الخليجية - الأمريكية: الحفاظ على الثوابت وضبط المتغيرات

الخميس، 28 تموز/يوليو 2022

جاء الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى المملكة العربية السعودية وهو يحمل أوجاع "صداع نصفي"؛ يسمى بلغة أهل السياسة "انتخابات التجديد النصفي – Mid Term Elections"، التي يدلي الناخبون الأمريكيون فيها بأصواتهم، في الثامن من نوفمبر 2022م، لتجديد بنية الكونغرس بالتنافس على جميع مقاعد مجلس النواب؛ 435 مقعدًا، وثلث مقاعد مجلس الشيوخ المئة، بالإضافة إلى غالب حُكام الولايات. وتنحصر أهميتها في أنها تُعَدُّ اختباراً لسياسة الرئيس بايدن، وما تطابق وافترق منها مع وعوده الانتخابية، وسترسم معالم مستقبله بالبيت الأبيض، ومستقبل حزبه في المنافسة الانتخابية القادمة. ويا لوعوده الانتخابية من زلات شكلت "مطبات" حقيقة لفترة حُكْمِه في الثمانية عشر شهراً الماضية. فقد نال الشرق الأوسط؛ ومنطقة الخليج خاصة، النصيب الأوفى من "شطحات" الوعود الانتخابية، التي عَدَّها المتابعون "مفارقة" للغة التوازن الدبلوماسي القديم في حق الأصدقاء. من هنا جاءت "ركاكة" تصريحات وبيانات الإعداد للزيارة، التي راقب فيها الناس صغائرها، أكثر من التركيز على فحواها وجدواها. ولم تسعفهم واشنطن كثيراً، لأن الخطاب في تل أبيب ورام الله وجدة ظل مُوجَهاً لناخب أمريكي يقارب الأقوال بالأفعال، ويفحص بعمق صدقية الموقف الأخلاقي لرئيسه المنتخب. فقد كان رصد التعقيدات سيد الفضاء الإعلامي، وفارقت "الكياسة"، التي اعتادت الدبلوماسية الأمريكية إتقانها، إذ لم يكن من الحصافة تكرار بايدن أن سبب ذهابه إلى السعودية "أكثر شمولًا"، وإنه يقوم بهذه الزيارة لتحقيق المصالح الأمريكية، وكأن الجانب الآخر انتظر هذه الزيارة لتحقيق هذه المصالح لا غير. لكنه كشف في مؤتمره الصحفي عن اتفاق وتعهدات في مباحثاته مع المسؤولين السعوديين، تضمنتها "إنجازات وتفاهمات"، الثابت فيها خطر إيران وأمن إسرائيل، والمتغير الجديد، دخول "تيران وصنافير" معادلة السلام في الشرق الأوسط، وفتح الأجواء السعودية لطيران إسرائيل، وتجديد الهدنة في اليمن.

لقد أكد بايدن بهذا أن لديه الفرصة لإصلاح "خطأ" ما، وصفه بأنه "تهرب من تأثير أمريكا في الشرق الأوسط"، في إشارة أخرى تحمل الكثير من الدلالات. إذ كان الرأي الغالب، قبل ما يقرب من عامين، أو بعيد انتخاب الرئيس جو بايدن، يقول إن الوقت قد حان للولايات المتحدة لـ"تعيد" التفكير في مجمل سياساتها في الشرق الأوسط، والانسحاب "المُشَرِّف" من أزماته وحروبه، التي ما أن تهدأ إلا لتبدأ من جديد. وتعززت هذه القناعات أكثر بعد الهزائم المتلاحقة لتجارب غزو أمريكا لأفغانستان والعراق، وعجزها في سوريا، وعجزها الواضح عن اتخاذ موقف فيما يجري في اليمن وليبيا. فقررت التراجع عن التزاماتها، بل الانسحاب من تعهداتها مع الأصدقاء والحلفاء، بما في ذلك الدول العربية في الخليج. في وقت كانت فيه الرواية السائدة حول دور الولايات المتحدة في المنطقة، والتي أطلقتها العواصم العربية؛ بقوة لم تعهدها واشنطن من قبل، هي أن الولايات المتحدة تنسحب من الشرق الأوسط وتتخلى عن حلفائها، وأن لهذه الدول بدائلها، في عالم بدأت تتمايز فيه الصفوف من جديد. لذلك سعت زيارة الرئيس جو بايدن إلى الشرق الأوسط إلى طمأنة الحلفاء الإقليميين، أو على أقل تقدير إنهاء فترة طويلة من عدم التوازن في هذه السياسات، وذلك من خلال اتخاذ قرارات تراعي احتياجات المنطقة الأمنية الحقيقية، على الرغم من المخاطر والتكاليف المصاحبة لذلك على المصالح الحقيقية لكل الأطراف، خاصة واشنطن. إذ إنه بينما تحتفظ الولايات المتحدة بحشد واسع من هذه المصالح في المنطقة، إلا أن دفع المقابل السياسي لهذه المصالح لا يحتل الأولوية في استراتيجيتها العالمية. الأمر، الذي ظل يترك أثراً سلبياً على مُعَادِل الثقة هنا، وأصبحت الدول العربية والإسلامية، وخاصة دول الخليج، أقل ميلاً للانضمام إلى التفضيلات الأمريكية في صراعات النفوذ الكونية.

لقد ظهر ذلك جلياً في عدم مبالاة دول الخليج بما عُرِفَ بتحالف دول "الأوكوس" في جنوب شرق آسيا؛ بين أمريكا وبريطانيا وأستراليا، وتبدى أكثر في الحرب الروسية - الأوكرانية، التي تعاملت معها دول المنطقة وفق تقديراتها الذاتية، كما أظهرت هذه الدول قدراً كبيراً من الاستقلالية في تعاملاتها الثنائية مع موسكو، وأكدت أنها لا تلتفت إلى سعي واشنطن الدؤوب لاحتواء طموحات الصين في المنطقة. نتيجة لذلك، يرى محللون أنه حتى لو زادت أمريكا من تركيزها على اهتمامات دول المنطقة، ودفعت بمستوى أعلى بكثير من الاستثمار السياسي والاقتصادي في الفترة القادمة، فمن غير المرجح أن يؤدي ذلك إلى استقرار علاقاتها، أو حتى تخرج جميع الأطراف بنتائج مرضية. وبدلاً من ذلك، يفترض دعاة العزلة أنه ينبغي على الولايات المتحدة أن تقلل من طموحاتها الإقليمية لتلائم مصالحها الأساسية، وأن تحتفظ بالمستوى الملائم، الذي يمكن أن تستمر فيه المشاركة مع دول المنطقة بشكل مريح، ومُرْبِح لكل الأطراف. وهذه حجة قد تجد ترحيباً من البعض، وربما يمتنع عن القبول بها كثيرون ما يزالون يرون العالم من ثقب خاص لا تشمل الرؤية فيه تقدير "أحجام" الآخرين. رغم أن التطورات الدراماتيكية لعام 2020م، أكد للأمريكيين قبل غيرهم أن تكاليف الفرصة البديلة للبقاء منخرطين بفاعلية في الشرق الأوسط، هو العلاج الوحيد لخطر إرث سياسة "الكيل" بمعيارين فيما يتعلق بأزماته المزمنة، بغض النظر عن العواقب على المصالح العربية والأمريكية.

ما يجب وما لا يجب:

إننا نعلم ونتابع أن مراكز البحوث وصناعة الرأي تتسابق على محاولات توجيه السياسات الداخلية والخارجية، عند حلول أجل إدارة جديدة تتسنم دست القيادة في البيت الأبيض الأمريكي. فهل كان بايدن أسير قراءة خاطئة ملأت فمه بكل التصريحات المفارقة لثوابت السياسة الأمريكية مع دول الخليج؟ ولأخذ مثال واحد يلمح إلى بعض الإجابة على هذا السؤال، ويتفق مع سياق مقالنا هذا، أُشير إلى أنه في صباح يوم الاثنين 25 يناير 2021م، بعد خمسة أيام فقط من تنصيب الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية جو بايدن، حررت "تمارا كوفمان ويتس" ملخصاً لما أُعْتُبِرَ جزءاً من مشروع "رؤية" معهد بروكينغز المسومة بعنوان: "بروكينغز للتجديد والازدهار الأمريكي Brookings Blueprints for American Renew & Prosperity"، حمل عنوان: "ما يجب القيام به - وما لا يجب فعله - في الشرق الأوسط". وبما أن تمارا كوفمان كانت زميلة أولى في مركز سياسة الشرق الأوسط في معهد بروكينغز، وعملت كنائب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى من نوفمبر 2009 إلى يناير 2012م، كما أشرفت على مبادرة الشراكة الشرق أوسطية، وشغلت منصب نائب المنسق الخاص للتحولات في الشرق الأوسط، فرأيها قد وجد، على الأغلب، من يأخذ به في إدارة بايدن. وهذا يتضح بجلاء إذا فحصنا ما قدمته وقتئذ من "وصفة" سياسية لسياسة بلادها في الشرق الأوسط، وما أثر سلباً على علاقاتها بدول الخليج العربية خاصة. إذ إنها أقرت أنه لأكثر من عقد من الزمان، سعت الولايات المتحدة إلى إنهاء الحروب في أفغانستان والعراق، وتقليل وجودها العسكري في الشرق الأوسط، وإعادة توجيه الموارد الشحيحة إلى آسيا. وادعت تمارا أن الاتجاهات العالمية والإقليمية عززت هذه الرغبة الأمريكية في تقليص أولوية الشرق الأوسط في استراتيجيتها العالمية، كما أن "المحور" العسكري يجري على قدم وساق. وأقرت أن التحدي، الذي يواجه السياسة الأمريكية، يتمثل في كيفية حماية مصالحها المتبقية، التي لا تزال مهمة في تلك المنطقة في عصر التقشف والمنافسة الشرسة على السلطة، سواء في المنطقة، أو على الصعيد العالمي. لذلك أوصت بأنه يجب ألا تضيع إدارة بايدن فرصة النظر من النافذة لإعادة تعيين أولوياتها في المنطقة.

إن الحجة، التي بنت عليها "رؤية" معهد بروكينغز توصياتها هي أن شركاء واشنطن في دول الخليج العربية، "الذين يواجهون قيوداً مالية من انخفاض أسعار الطاقة والركود العالمي الناجم عن فيروس كورونا، أكثر انفتاحاً على حل النزاعات في الحروب بالوكالة، التي يخوضونها في جميع أنحاء المنطقة. لكن فقرهم النسبي سيعيق أيضاً قدرتهم على الاستثمار في استقرار الدول المجاورة الأضعف، بما في ذلك الدول الرئيسة مثل الأردن ومصر." ووفقاً لتمارا، فإنه في غضون هذا الواقع الموصوف، "تخضع جمهورية إيران الإسلامية لأقصى العقوبات"، مع إشارة إلى هذه العقوبات جعلتها تُستخدم كأداة "نفوذ إقليمي بثمن بخس. وبالتالي، قد يكون ميزان القوى في المنطقة في صالح الإيرانيين مع بدء الوباء في الانحسار". لذلك، يجب على فريق بايدن أن يضع جانباً "الضغط الأقصى" غير المثمر لإدارة ترامب لصالح "مزيج من التعاون الاستخباراتي، والسياسة، والدبلوماسية. الأدوات المالية والعسكرية، التي يمكنها بشكل فعال ردع، أو تعطيل النشاط الإيراني التخريبي مع تحفيز عودة طهران إلى طاولة المفاوضات النووية". وإضافة إلى ذلك، "يتعين على البنتاغون إجراء مراجعة صفرية لوجود قوته في منطقة الخليج العربي لضمان كفاءته وفعاليته في تنفيذ مهامه الأساسية هناك"، أي في منطقة الخليج حيث ينبغي له أن يكون.

لقد كانت التوصية الأكثر وضوحاً و"جاذبية"، هي ما تلكأت إدارة بايدن في تنفيذها، وانتظرت لقرابة العامين لتشرع فيها بجدية، وتدشنها على المستوى الرئاسي بزيارة المنطقة، التي جرت منتصف يوليو 2022م، فقد جاء في عرض تمارا كوفمان لـ"رؤية" أنه "حتى يجب على الولايات المتحدة إعادة بناء ما كان تاريخياً أكثر أدواتها فعالية في الشرق الأوسط: الدبلوماسية، وخاصة في دفع حل النزاعات. في اليمن وليبيا، قد تكون هناك الآن فرص لسحب القوى الإقليمية المتنافسة من القتال والتفاوض مع حكومات تقاسم السلطة، التي تعزز الاستقرار وتحد من حرية العمل للحركات الإرهابية الإسلامية". وقدمت الـ"رؤية" مقترحاً أكثر عقلانية وموضوعية مما درجت عليه الإدارة الأمريكية السابقة لدونالد ترامب، ورد فيه أن "لا يمكن لواشنطن أن تسمح للإسرائيليين والفلسطينيين بالخوض في نزاعهم المتوقف - ولكن بدلاً من محاولة إعادة عقد المحادثات، يجب أن تتخذ نهجاً طويل الأمد لإعادة بناء أسس التسوية بين المجتمعين مع الإصرار على أن كلاهما ينبذ الإجراءات الأحادية المزعزعة للاستقرار، والعمل من أجل تحسين الحرية والأمن والازدهار لأولئك الذين يعيشون مع الصراع كل يوم"، وهذا ما لم يتبين أن واشنطن تحت إدارة بايدن قد أعارته الاهتمام المطلوب.

وتجدر الإشارة إلى أن واحدة من أهم التوصيات؛ فيما يجب وما لا يجب، قد أغفلتها إدارة الحزب الديمقراطي حتى فيما وضعه البيت الأبيض كأجندة لزيارة تل أبيب وجدة، وفيما كتبه الرئيس بايدن في مقالته، المُشار إليها، قبل هذه الزيارة، وهي "إعادة وضع حدود واضحة في العلاقات، التي كانت غير متوازنة إلى حد كبير بسبب نهج الرئيس دونالد ترامب غير المبالي". فقد أكدت التوصية أن لدى كل من إسرائيل والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة أسئلة حول مدى ومتانة الالتزامات الأمنية الأمريكية تجاه دول الجوار، إذ "يفضل الثلاثة إبقاء الولايات المتحدة منخرطة عن كثب". والمقترح العملي هو أنه يمكن لواشنطن أن تسعى إلى خفض التصعيد غير الضروري، وأن تستخدم "الدبلوماسية النووية مع إيران أثناء إشراك هؤلاء الشركاء الرئيسيين حول أين تبدأ المصالح الأمريكية وأين تنتهي". رغم أن "تفضيلات الشركاء وسلوكياتهم تشكل عقبات حقيقية أمام تعاون أوثق". وتلفت الانتباه إلى أن هذا هو الحال في جميع العلاقات الصحية، لأن "التواصل الصادق والحدود الواضحة ضروريان للحفاظ على الاحترام المتبادل والشعور الجيد"، وهذا ما سعت الزيارة لإعطاء انطباع بإيجابيته.

 

مقال الحال:

يتعمد عدد من رؤساء الدول إرسال رسائل تسبق تحركاتهم الخارجية؛ تكون أحياناً استجابة لمطالب، أو انتقادات داخلية، لبعض تفاصيل هذه التحركات الخارجية، وحيناً لوضع أجندة ما هو قادم من مباحثات مع طرف لا بد أنه قارئ لهذه الرسائل ومُدرِكٌ لفحواها. وفي رأيي أن ما قام الرئيس الأمريكي جو بايدن بنشره، يوم السبت 9 يوليو 2022م، قبيل زيارته إلى المنطقة، يستوعب الحالتين. ففي مقال رأي تَصًدَّرَ صحيفة الـ "واشنطن بوست"، بعنوان: "لماذا أنا ذاهب إلى المملكة العربية السعودية ، رد بايدن على منتقديه وخاطب مطالبهم، ووضع بوضوح أجندة زيارته إلى المملكة العربية السعودية. إذ أعلن أنّه سيسعى إلى "تعزيز شراكة استراتيجيّة" مع السعوديّة "مبنيّة على مصالح ومسؤوليّات متبادلة"، مشدّداً في الوقت نفسه على أنّه سيتمسّك بـ "القِيَم الأمريكيّة الأساسيّة"، من دون أن يبدي مجرد إشارة إلى حق الطرف الآخر الطبيعي؛ سواء كانت السعودية، أو دول الخليج، في التمسك بقيمهم، التي يعتزون بها، وبأنها وفق المعايرة الأخلاقية هي الأصلح لأوضاعهم وإنسانيتهم السوية. وربما يكون له العذر في الإفصاح عن هذا "الاستعلاء" غير الديمقراطي إذا علمنا أنه كان يَرُدُّ في هذا المقال المفصّل على منتقديه، كما أسلفنا، الذين يتّهمونه بأنّه تراجع عن مواقفه المعلنة سابقاً بغية انتزاع وعدٍ من السعودية بزيادة إنتاجها النفطي، خاصة بعد أن كان قد اتخذ موقفاً مناهضاً من السعودية خلال حملته الانتخابية.

لقد كتب بايدن في مقاله: "أعرف أنّ هناك كثيرون ممّن لا يتّفقون مع قراري السّفر إلى السعوديّة"، مضيفاً: "آرائي حول حقوق الإنسان واضحة وثابتة. والحرّيات الأساسيّة موجودة دائماً على جدول الأعمال عندما أسافر إلى الخارج وهي ستكون كذلك خلال هذه الزيارة". وقال بايدن "بصفتي رئيساً، من واجبي الحفاظ على بلدنا قوياً وآمناً"، متحدثاً في هذا الإطار عن الحاجة إلى ضمان "مزيد من الاستقرار" في الشرق الأوسط. وبرّر الرئيس الأمريكي موقفه هذا قائلاً إنّه "من أجل تحقيق هذه الأمور، يجب أن تكون لدينا علاقة مباشرة مع الدول، التي يُمكن أن تُساهم فيها... المملكة العربيّة السعوديّة واحدة من هذه الدول". وكذلك، أشار الرئيس الأمريكي إلى قضيّة النفط المهمّة، والتي ستكون حاضرة خلال زيارته، في وقتٍ تثير الأسعار المرتفعة للطاقة سخطاً بين الأمريكيّين وتضرّ بالآفاق الانتخابيّة لحزبه. وقد أكّد أنّ الرياض "تعمل مع خبرائي للمساعدة في استقرار سوق النفط". واعتبر بايدن أنّ الشرق الأوسط بات "أكثر استقراراً وأماناً" ممّا كان عليه عندما تولّى الرئاسة الأمريكيّة في يناير 2021م. وذكر بايدن أنّه يريد "تحقيق تقدّم" في منطقة ما زالت "مليئة بالتحديات"، بينها البرنامج النووي الإيراني والوضع غير المستقرّ في سوريا وليبيا والعراق ولبنان". وقال إنّه لاحظ "اتّجاهات واعدة" في المنطقة، معتبراً أنّ "الولايات المتحدة يُمكن أن تقوّيها مثلما لا تستطيع أيّ دولة أخرى أن تفعله".

وتطرّق بايدن إلى ما يتوقعه المضيفون منه، وهو "الاتّفاق النووي"، الذي توصّلت إليه القوى العالميّة مع إيران عام 2015م، وانسحب منه سلفه الجمهوريّ ترامب أحادياً بعد ثلاث سنوات. فكتب في مقالته يقول: "ستُواصل إدارتي زيادة الضغط الدبلوماسي والاقتصادي حتّى تصبح إيران مستعدّة للعودة إلى الامتثال للاتّفاق النووي لعام 2015". ولم ينس بايدن "الملف العراقي"، لارتباطه الوثيق بسياسات واشنطن تجاه إيران، وكهاجس يؤرق عدم الاستقرار فيه المؤسسات الأمريكية منذ العام 2003م، مُضِيفاً: "أنهينا المهمة القتالية الأمريكية وحولنا وجودنا العسكري إلى التركيز على تدريب العراقيين، مع الحفاظ على التحالف العالمي ضد تنظيم داعش، الذي شكلناه عندما كنت نائب الرئيس، وهو الآن مكرس لمنع داعش من الظهور مرة أخرى". لكن ذلك لم يمنع أن تزداد "الهجمات ضد قواتنا ودبلوماسيينا أربعة أضعاف خلال العام السابق. لقد أمر سلفي مراراً وتكراراً قاذفات (B-52) بالتحليق من الولايات المتحدة إلى المنطقة والعودة مرة أخرى لردع هذه الهجمات. لكنها لم تنجح، واستمرت الهجمات". وقد تطرق بايدن في مقاله إلى اسم العراق رفقة ليبيا ولبنان وسوريا، حين وصف بلداناً تعاني من "الجمود السياسي"، في سياق الحديث عن "منطقة مليئة بالتحديات"، إلا أنه انتبه إلى أن عراق اليوم له توجه مختلف، وذلك بقوله إن "العراق، الذي كان لفترة طويلة مصدراً للصراعات بالوكالة والتنافس الإقليمي، يعمل الآن كمنصة للدبلوماسية، بما في ذلك بين المملكة العربية السعودية وإيران".

لذلك، توسع بايدن في الإشارة إلى أن زيارة الشرق الأوسط قُصِدَ منها بدء "فصل جديد في وقت حيوي بالنسبة للمنطقة"، وإن "وجود شرق أوسط أكثر أمناً وتكاملاً يعود بالفائدة على الأمريكيين من نواحٍ عديدة". وقال إن "صديقي الملك عبد الله ملك الأردن [أشار] مؤخراً إلى الأجواء الجديدة في المنطقة"، في تأكيد على رغبة التواصل بين دول المنطقة. وعلى الرغم من سرد الرئيس الأمريكي للعديد من مشكلات المنطقة، إلا أنه قارن الأوضاع "بما كانت عليه قبل 18 شهراً"، وأكد أن "المنطقة أقل ضغطاً وأكثر تكاملاً"، فقد "أعاد الخصوم السابقون العلاقات، وتعمل مشاريع البنية التحتية المشتركة على إقامة شراكات جديدة". ولأنه الموضوع رقم واحد في أجندة الزيارة، جدد بايدن حديثه عن "برنامج إيران النووي ودعم الجماعات، التي تعمل بالوكالة، والحرب الأهلية السورية". مضيفاً له حديثاً عاماً عن "أزمات الأمن الغذائي، التي تفاقمت بسبب الحرب الروسية ضد أوكرانيا، والجماعات الإرهابية لا تزال تعمل في عدد من البلدان". وكانت خاتمة مقال بايدن مثيرة للانتباه عندما قال: "سأكون أول رئيس يزور الشرق الأوسط منذ 11 سبتمبر بدون مشاركة القوات الأمريكية في مهمة قتالية هناك. هدفي هو الحفاظ على هذا النحو"، ويأمل مضيفوه، وغيرهم في الشرق الأوسط، أن يلتزم بما قال، وألا يزور هو، أو غيره من رؤساء أمريكا وقواتهم في حالة غزو، أو حرب.

رد الصواب:

لقد استبق صاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل، مقال الرئيس الأمريكي جو بايدن؛ وإن لم يكن رسمياً، بموقف سعودي لا لبس فيه، لأنه يُدْرِك حجم المصالح المتبادلة، التي يرى أنها لا بد أن تكون متعادلة، بين بلاده والولايات المتحدة الأمريكية. ويَعلم أكثر أن ما "تتراقص" به، حسب تعبيره، الصحافة وتصريحات المسؤولين الأمريكيين، بشأن ما تشتبه فيه بأنه عيوب في أنظمة المملكة العربية السعودية حول حقوق الإنسان، وغيرها، تنقصه المصداقية، وتُكَذِّبه المعايير اللاأخلاقية المُتَّبعَة من قِبَل واشنطن تجاه الآخر المختلف. وعَدَّد من الأمثلة ما تَنُوء بحمله العصبة أولي القوة، وذلك في مقال مطول باللغة الإنجليزية، تحت عنوان: "الذين يسكنون بيوت من زجاج عليهم ألا يرمون الحجارة "، الذي نشرته صحيفة "عرب نيوز- في 11 يونيو 2022م، ذكر فيه أن ما يدور من مناورات بين المسؤولين الأمريكيين ووسائل الإعلام، هو "رقص" يميل بالحقائق إلى غير وجهتها الصحيحة. مُشيراً بذلك إلى زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى المملكة السعودية قد تكون بداية لإدراك أن "الرقص"، الذي بدأ منذ حملته الانتخابية ينبغي أن يخضع للمراجعة، وأن توضع له خاتمة أكثر صدقية من "سيناريو" الانفعالات الخاطئة. وأضاف: "يبدو أنه بعد الكثير من البحث الذاتي من قبل الرئيس، قد تتم الزيارة بالفعل." وقد تمت بالفعل. وأثبت الأمير تركي، في كل الحيثيات، التي عزز بها حججه، أنه ينطق عن تجربة شخصية عميقة مع تفاصيل ما جرى ويجري بين الرياض وواشنطن، ويقف على بيانات علاقات عمرها ثمانون عاماً بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية.

لقد أيقنت واشنطن، قبل هذه الزيارة، أن خسارة الثقل الخليجي ستعرقل أي جهود تقودها الولايات المتحدة لتحقيق الاستقرار، الذي تقول إنها تسعى إلى تحقيقه في الشرق الأوسط، وهي تعلم أن الاقتصاد الأمريكي المتعثر بسبب فيروس كورونا، والتضخم، وارتفاع أسعار الطاقة، سيكون في وضع صعب لاستثمار ما يتبقى لها من أموال المساعدات "الشحيحة"، التي يمكن أن تقدمها دعماً لأصدقائها من دول الشرق الأوسط الضعيفة. في الواقع، قد يكون التوازن الجيوسياسي الإقليمي الشامل أكثر وجوباً على واشنطن، ويدخل في صميم أولوياتها العسكرية؛ مدفوعة بما حددته من أهداف استراتيجية، التي تدفع للوجود العسكري، مثلما أوضح مسؤول البنتاغون البارز "جيمس أندرسون" للكونغرس في مايو 2020م، قائلاً إن عليهم "التأكد من أن المنطقة ليست ملاذاً آمناً للإرهابيين، ولا تهيمن عليها أي قوة معادية للولايات المتحدة، وتساهم في استقرار سوق الطاقة العالمي." وفي ضوء ذلك، تصبح أهمية العلاقة مع دول الخليج العربية أكثر وضوحاً، ولا يرى المتابعون لبساً في هذا التقدير المُنْصِف. لكن، كما بدأ من سلبية تصريحات الفترة، التي سبقت الزيارة، فإن المعضلة تكمن في قدرة إدارة بايدن على تصحيح فهمها وأخطائها، ومن ثم العمل على إيجاد أفضل السبل لتحقيق الأهداف المشتركة بطريقة مستدامة وفعالة، إذا كان من الممكن تحقيقها بتوازن يراعي مصالح كل الأطراف بعدالة وإنصاف. وفي تقديري أن الزيارة، رغم تأخرها، إلا أنها جاءت كتذكير جيد بأن التأثير الإيجابي الأكبر لأمريكا في معظم تاريخ علاقاتها بدول المنطقة كان من خلال "الأدوات" الدبلوماسية، وليس "العضلات" العسكرية. وقادة الرأي في واشنطن يرون أن نجاحها المستقبلي سيعتمد على إرادة الجهات الإقليمية الفاعلة في دول الخليج العربية في تهدئة المواجهة؛ مع شرقها في إيران وغربها مع إسرائيل، وبناء آليات لحوار أوسع لحل النزاعات في البؤر الساخنة في اليمن وسوريا وليبيا.

الخاتمة:

يتمثل التحدي، الذي يواجه السياسة الأمريكية الآن في كيفية حماية مصالحها المتبقية، والتي لا تزال مهمة في منطقة الخليج العربي، في عصر التقشف والاستقطاب والمنافسة الشرسة على النفوذ، سواء في المنطقة، أو على الصعيد العالمي. لقد فات وقت الوعد بـ"نهج" جديد للشرق الأوسط، أو إعادة تقييم؛ سلبي أو إيجابي، للعلاقة مع الدول الخليجية على وجه الخصوص، ولا ينبغي لإدارة بايدن، بعد هذه الزيارة، أن تضيع مقياساً على نافذة العلاقات الثنائية والجماعية مع هذه الدول له درجات صعود وهبوط مختلفة. إن إعادة التعيين لم تعد من طرفٍ واحد، كما كانت الحال في السابق، وما مقال الأمير تركي الفيصل إلا تعبير مهم عن هذا الواقع الجديد، سبقته إشارات كثيرة، ليس أولها مفارقة السياق الأمريكي في الموقف من حرب أوكرانيا. مع انحسار مديات الصراعات الساخنة والمزمنة في الشرق الأوسط، ستبدو المنطقة مختلفة إلى حد كبير، وفي هذا المشهد المتغير، ستكون هناك فرص للولايات المتحدة، بالإضافة إلى ضرورة وعيها بما يمثل مصالح فردية وجماعية لدول الخليج كشريك موثوق به. لذلك وجب إدراك أن الخيارات، التي تواجه الرئيس جو بايدن، ومن سيأتون بعده، ليست بسيطة ولا خالية من التكلفة، ولكن راهن المنطقة والعالم يقترح مساراً مغايراً لما كانت عليه سياسات الإملاء، وتوقع الرضا بقسمة لا تنصف إلا طرفاً واحداً، للمضي قدماً بما يمكن أن يحدد أولويات واضحة لعلاقات الطرفين، ويعالج ما اضطرب مؤخراً في مساومات المواقف الرئيسة.

إن زيارة جو بايدن إلى جدة نُظِرَ إليها في كل العالم كخطوة مهمة، أكد فيها الجانبان السعودي والأمريكي على عزيمة الإصرار على الثوابت وفضيلة التراجع عن "زلات" اللسان. الأمر الذي يستوجب على الجانبين الخليجي والأمريكي النظر بعمق فيما قد ترتبت عليه عرى العلاقات داخل حدود السياسات التاريخية والحالية من التزامات، وما قد يعترضها من تحديات. ومع ذلك، سيكون عليهما اتخاذ قرارات صعبة: حول إلى أي مدى يمكنهم تحمل استمرار الاستثمار في علاقاتهما المشتركة لإبقائها في خانة "الصداقة" المثمرة، وكيف يمكنهما معاً حماية مصالحهما الأساسية أثناء التناقضات في المواقف، التي تتصل بشؤون خارج دوائر التماس المباشر. ولا أظن أن الرئيس جو بايدن، أو من يقوم مقامه مستقبلاً، بحاجة إلى رسالة أخرى من الأمير تركي الفيصل ليرى من خلالها أن المملكة العربية السعودية لا يمكن أن تكون "منبوذة"، لما لها من قوة حقيقية ورمزية، ولا يمكن تخطيها في رسم أية سياسة أمريكية، يُرَادُ لها النجاح في الشرق الأوسط. كما أن رسالة الأمير تركي كانت ضرورية للتذكير بأن الأحلام، التي راودت بعضهم ذات يوم عن أن "شيك" العلاقة مع دول الخليج على بياض قد انتهى. كما أن قدرة واشنطن على الاحتفاظ بولاء "الأصدقاء" التقليديين، أو القضاء على "الأعداء" الأيديولوجيين، والرغبة "الرومانسية" في إعادة تشكيل المنطقة على صورة الديمقراطيين والجمهوريين؛ ثوريين وليبراليين ومحافظين قدامى وجدد، الخاصة يجب أن تُترك على الرف في الوقت الراهن، أو ربما لوقت أكثر ملاءمة تتشكل فيه القناعات من داخل دول المنطقة، لا من خارجها.

مقالات لنفس الكاتب