; logged out
الرئيسية / تمتلك دول المنطقة لحظة تاريخية لفرض إرادتها وتصوراتها للقضايا المحيطة

العدد 176

تمتلك دول المنطقة لحظة تاريخية لفرض إرادتها وتصوراتها للقضايا المحيطة

الخميس، 28 تموز/يوليو 2022

" شكل الشرق الأوسط على مدار الزمن مفترق الطرق الذي تلتقي فيه آسيا، إفريقيا وأوروبا. وفي الوقت الحاضر فإن نفطه يشكل دم الصناعة المعاصرة، وتعد منطقة الخليج القلب الذي ينبض به، كما تعد الطرق البحرية المحيطة بالخليج بمثابة الوريد الذي يمر به هذا الدم الحيوي".

الثابت في الاستراتيجية الأمريكية تجاه منطقة الخليج أنها منطقة حيوية لا يمكن بناء سياسات كونية دون مراعاة أهميتها الجيوستراتيجية، وكما وصفها الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون فهي بمثابة القلب والدم الحيوي الذي يضمن استمرارية الحياة لكل من يطمح في الريادة العالمية، وهو ما أدركه الرئيس جو بايدن متأخرًا وهو يزور منطقة الخليج ليعيد ترتيب مذكراته السياسية والاستراتيجية. وهو ما يجعلنا نتساءل عن الدوافع التي  أدت بإدارة بايدن ليغير من موقفه السياسي تجاه الخليج مقارنة بما طرحه في حملته الانتخابية؟ والخيارات الاستراتيجية المطروحة أمام الدول الخليجية والعربية لإعادة ترتيب المنطقة بما يخدم مصالحها الحيوية؟

أولاً: الدوافع التي أدت بإدارة بايدن لتغيير الموقف تجاه دول الخليج منذ الحملة الانتخابية.

يمكن إرجاع الموقف المتصلب للرئيس جو بايدن تجاه دول مجلس التعاون الخليجي في فترة الحملة الانتخابية وما بعدها إلى مجموعة من العوامل المتداخلة، يغلب عليها تأثيرات العوامل النفسية والشخصية والحسابات السياسية الداخلية المرتبطة بالتنافس الانتخابي، لكن في الوقت ذاته فإن جو بايدن كان حبيس الاستراتيجية التي حاول باراك أوباما تطبيقها في المجالات الحيوية الأمريكية و لاسيما منطقة الخليج والقائمة على ما يعرف بـ "التوازن الخارجي" من أجل توجيه الثقل الاستراتيجي الأمريكي نحو منطقة الهندي- الباسيفيك والتفرغ لاحتواء القوى الآسيوية الصاعدة المتحدية للمكانة الأمريكية على السيادة العالمية.

فيما يخص العوامل النفسية والشخصية، فإن حسابات المقربين من جو بايدن استندت إلى رؤية وقناعة مفادها أن الدول الخليجية تدعم استمرارية منافسه دونالد ترامب لفترة رئاسية ثانية، نتيجة التحالف القوي الذي أرسته إدارة ترامب مع دول الخليج في مواجهة التمدد الإيراني من خلال إعادة النظر في الاتفاق النووي الإيراني لسنة 2015 م، الذي راعته إدارة باراك أوباما ونائب رئيسه بايدن، حيث مثلت الزيارة التاريخية للرئيس د.ترامب إلى الرياض في مايو 2017م، بداية علاقات استثنائية مع الرئيس الأمريكي فتحت الكثير من الأبواب من بينها إعلان صفقة للتسلح بقيمة 110 مليار دولار شملت معدات دفاعية وخدمات صيانة بهدف مواجهة التهديدات الإيرانية في منطقة الخليج ودعم جهود المملكة في مكافحة الإرهاب.

وفي الواقع، فإن دول الخليج تتقاسم القناعة الاستراتيجية بأن إدارة باراك أوباما ونائبه جو بايدن من خلال استراتيجية التوازن الخارجي تكون قد أدارت ظهرها لحلفائها التقليديين في الخليج بعقد اتفاق نووي مع إيران دون ربطه بتقويض التهديدات والنفوذ الذي تمارسه طهران على حساب دول مجلس التعاون الخليجي وتنامي قدراتها العسكرية الباليستية التي تهدد التوازن الاستراتيجي في منطقة الخليج، وهذه الهواجس الأمنية الخليجية من بين الدوافع التي جعلت دونالد ترامب يفك الارتباط ويطالب بإعادة النظر جملة وتفصيلاً في الاتفاقية النووية مع إيران.

أما الدوافع الاستراتيجية التي تفسر سلوك جو بايدن تجاه منطقة الخليج العربي، فتكمن في تبنيه لاستراتيجية توازن القوى عن بعد أو من الخارج التي اختبرها عندما تولى منصب نائب الرئيس في الفترة الممتدة ما بين 2009-2017م، والتي ترمي إلى تحقيق هدفين متكاملين، يكمن الهدف الأول في تخفيض التدخل الأمريكي في الحروب المستقبلية ذات الصدامات النووية مع القوى الكبرى، وفي الوقت ذاته تقوية السلطة الأمريكية النسبية في إطار النظام الدولي، وهو ما يمنحها الاستقرار الأكبر والحفاظ على مكانة القوة المهيمنة. وحسابات المصالح والمكاسب التي يمكن أن يجنيها جو بايدن من هذه الاستراتيجية، تتمثل أساسًا في تقليص الفاتورة الباهظة ماديًا وبشريًا من انخراط الولايات المتحدة الأمريكية في النزاعات والقضايا الإقليمية، وهو ما جعل جو بايدن يراهن مثل نظيره باراك أوباما على الجمع بين المكاسب الناتجة عن سياسة العزلة وسياسة التدخل معًا، لكن بمنح الأولوية للسياسة الداخلية بمفهوم المصلحة الوطنية الضيقة التي تستند إلى مقولة أحد المتخصصين في السياسة الخارجية الأمريكية:" لا تتكفل الحكومة الأمريكية برفاه وأمن اليابانيين ولكن المصالح الحيوية للسياسة الخارجية الأمريكية تتعلق بأمنها ورفاهيتها"، ويمكن إسقاط هذا المفهوم على مجموع المناطق الحيوية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية.

وعليه، فإنه يمكن تفسير الدوافع والتبريرات التي جعلت إدارة باراك أوباما- جو بايدن تتمسك باستراتيجية التوازن عن بعد  في مجالاتها الحيوية ولا سيما في منطقة الخليج، على أساس أنها تبحث عن مخرج من الإرث الثقيل الذي ورثته لفترة ما بعد العمليات الإرهابية للحادي عشر من سبتمبر 2001م، من خلال الحربين على أفغانستان والعراق وإشكالية إعادة بناء النظام الأمني الإقليمي في الشرق الأوسط، وهو ما جعل الرئيس جو بايدن ينسحب بسرعة مذهلة من أفغانستان بمجرد توليه إدارة البيت الأبيض فاجأت الحلفاء والأعداء معًا، تاركًا فوضى كبيرة بعد عشرين سنة من الوجود الأمريكي هناك، وهو يعلل دوافع انسحابه الفوضوي:" لا يجب ولا ينبغي أن تقاتل القوات الأمريكية وأن تضحي بحياة أفرادها في حرب ليس لدى القوات الأفغانية استعداد للقتال بأنفسهم فيها". وكان الهم الأكبر الذي يؤرقه من أجل التفرغ للداخل الأمريكي، يكمن في اتخاذ القرار وفي أقرب الآجال بتقليص الفاتورة الضخمة للتدخلات العسكرية الأمريكية التي أثقلت الموازنة الأمريكية منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتقديراتها التي وصلت إلى 8 آلاف مليار دولار أمريكي في الحربين الأفغانية والعراقية وما خلفت من خسائر بشرية وصلت ما بين 89700 و 92900 قتيل حسب مشروع تكاليف الحرب لمعهد الشؤون العامة والدولية التابع لجامعة براون ببوستن.

القرار المفاجئ الثاني الذي اتخذه جو بايدن تمثل في الاتفاق الأمني الدفاعي في المحيطين الهندي-الهادي المعروف بـ" أوكوس"، اختصارا للأحرف الأولى للدول الثلاثة الموقعة عليه وتتمثل في كل من، استراليا، المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، والذي يهدف إلى الدفاع عن المصالح المشتركة في المحيطين الهندي-الهادي للقوى الثلاثة وتطويق الصين في المنطقة، ويعد هذا القرار في الأصل ترجمة لاستراتيجية تقوم على التفرغ لمنطقة شرق آسيا على حساب منطقة الخليج والشرق الأوسط وأوروبا، وهذا ما تم تكريسه في الدليل الاستراتيجي للدفاع الأمريكي في فترة باراك أوباما، الذي تحجج بالأوضاع الاقتصادية الحرجة التي كانت تمر بها الولايات المتحدة الأمريكية من أجل فرض  تقليص القوات الأمريكية في المناطق الثلاث المذكورة، وهي نفس الحجج التي استند إليها جو بايدن في تطبيق الاستراتيجية ذاتها.     

ثانيًا: لماذا تحاول إدارة بايدن تصويب هذه السياسة

إن التحولات الجيوسياسية المتسارعة لاسيما فيما يخص الحرب الروسية- الأوكرانية- الأطلسية وانعكاساتها المباشرة على المصالح الأمريكية الكونية، أبرزت محدودية المقاربة التي تبنتها إدارة جو بايدن والمتعلقة بإدارة التوازن الاستراتيجي عن بعد في منطقة الخليج، وجعلته يعيد حساباته الشخصية والسياسية، وكان صريحًا جدًا وهو يعيد الكتابة مرة أخرى في صحيفة الواشنطن بوست قبل مشاركته في القمة الخليجية بالرياض:" أريد تقوية الشراكة الاستراتيجية مع دول الخليج التي ترتكز على المصالح والمسؤوليات المتبادلة مع احترام القيم الأمريكية الأساسية" - واشنطن بوست 10 يوليو 2022م-.وراح جو بايدن في مقاله المذكور يبرر للرأي العام الأمريكي وخصومه من الجمهوريين الذين يلومونه على التحول الجذري في مواقفه التي أعلنها في حملته الانتخابية بقوله:" وظيفتي كرئيس أن أضمن التضامن والأمن لبلادي، فمن الضروري مواجهة روسيا وأن نكون في وضعية جيدة في مواجهة الصين وأن نضمن استقرارًا أكبر في الشرق الأوسط". وهو خطاب سياسي يبرز مرة أخرى محدودية السياسة المثالية التي تجمع بين الانعزالية في الخليج والتدخل في المحيطين الهندي- الباسيفيك، التي كان يعتقدها جو بايدن والإدارة الديمقراطية لباراك أوباما بأن أهمية ومكانة منطقة الخليج قد تراجعت إلى رتبة المجالات الحيوية الثانوية مقارنة بمنطقة المحور الجغرافي للتاريخ التي ستجري حولها اللعبة الاستراتيجية الكبرى بين اللاعبين الجيوستراتيجيين على حد تعبير زبيغنيو برجنسكي، لأن الوصول إلى المجال الحيوي ذو البعد العالمي يستلزم الاقتراب أكثر من المنطقة الحيوية في الخليج :" ولتحقيق الاستراتيجية الأمريكية في مواجهة روسيا والصين يستوجب أن تكون لدينا علاقات مباشرة مع البلدان التي تساهم في التضامن معنا، والمملكة العربية السعودية تمثل واحدة من هذه البلدان" كما أكد بايدن وهو يعلل" منذ البداية هدفي كان قائمًا على إعادة توجيه وليس قطع العلاقات مع السعودية التي كانت شريكنا الاستراتيجي منذ ثمانين سنة". والملاحظ هنا، أن جو بايدن أعاد إحياء العقيدة الاستراتيجية التقليدية الأمريكية تجاه منطقة الخليج، وكأنه يريد التذكير بمبدأ كارتر، الرئيس الديمقراطي الذي خاطب أعضاء الكونغرس الأمريكي في 23 يناير 1980م، باستخدام القوة العسكرية من أجل الدفاع عن المصالح الوطنية الأمريكية في الخليج ردًا على التدخل العسكري السوفياتي في أفغانستان، وهو استمرارية لمبدأ ترومان القائم على تحييد وإبعاد السوفيات من منطقة الخليج. كما أن الرئيس الجمهوري رونالد ريغان وسع من مبدأ  كارتر بتعزيز القوة العسكرية للانتشار السريع وبناء تحالف استراتجيي مع السعودية الحليف التاريخي في الشرق الأوسط في حالة تهديد أمنها بسبب الحرب العراقية-الإيرانية. وكأن الرئيس جو بايدن ينظر للتاريخ الأمريكي-الخليجي وكأنه لا يزال متوقفًا ومتجمدًا على ظهر الطراد يو. أس.أس كوينسي والاتفاق المبرم بين الملك عبد العزيز آل سعود والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في 14 فبراير 1945م. بينما الواقع يؤشر على الديناميكية الخليجية في التكيف مع القوى الدولية المتنافسة والمتنازعة على إعادة ترتيب النظام العالمي الجديد، حيث استطاعت الصين أن تبني شراكات استراتيجية مع دول مجلس التعاون الخليجي وأن تملأ الفراغ الاستراتيجي الذي تركته إدارة أوباما بقوة ناعمة دعامتها المشروع الجيو- اقتصادي العملاق "مبادرة الحزام والطريق" الذي يتوافق مع المشاريع الاقتصادية المستقبلية الضخمة التي توليها أهمية دول الخليج وعلى وجه الخصوص رؤية المملكة السعودية 2030، رؤية الكويت 2035، رؤية البحرين الاقتصادية 2030 والرؤية الوطنية القطرية 2030، وكلها مشاريع يمكن إدماجها مع المشروع الصيني الذي يهدف إلى مساندة المصالح الخليجية في تنويع الاستثمارات والمداخيل خارج قطاع الطاقة. وتبرز المكانة الصينية في السياسة الخارجية الخليجية في التطور الملفت للانتباه للتبادل التجاري بين الطرفين، حيث تجاوزت 190 مليار دولار سنة 2019م، ما نسبته 11 بالمائة من إجمالي التجارة الخارجية لدول مجلس التعاون الخليجي، وتربعت الصين على المكانة الأولى كشريك تجاري في سنة 2020 م، بحجم وصل 162 مليار دولار. فضلًا عن التوافق الجيو- اقتصادي الصيني الخليجي فإن البيانات والتقارير الرسمية الصينية- الخليجية توضح في كل مرة تقارب الرؤى السياسية في رفض تسييس قضايا حقوق الإنسان وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهي رسالة موجهة للحزب الديمقراطي الأمريكي الذي يعتقد بأنه حامل رسالة المصير المحتوم للإنسانية من أجل تصدير قيم الديمقراطية الغربية دون مراعاة للخصوصية الاجتماعية للحضارات الأخرى.

أضحى جو بايدن مقتنعًا ومدركًا بأن تنافسه الحاد مع روسيا والصين على المكانة العالمية وإعادة توزيع القوة والقدرة يمر حتمًا عبر الخليج قبل إرساء القواعد الاستراتيجية في المحيطين الهندي والهادي، وأظهرت الحرب الروسية-الأوكرانية-الأطلسية مصلحته الوطنية الضيقة التي تتمحور حول أمن ورفاه المستهلك الأمريكي الذي هو بحاجة للطاقة الخليجية من أجل تقليص الأضرار الناتجة عن الارتفاع التاريخي لأسعار البنزين حيث بلغ الغالون الواحد ( 3.78 لتر) خمسة دولارات بسبب العقوبات المفروضة على روسيا التي تعد من أكبر المنتجين للنفط والغاز في العالم، ومنذ وصول الرئيس بايدن إلى إدارة البيت الأبيض فإن أسعار النفط والغاز قد ارتفعت داخليًا بنسبة تفوق 100 بالمائة، وهو ما يحتم عليه التنسيق مع الدول الخليجية من أجل ضخ المزيد من الطاقة في الأسواق العالمية، لتجنب السخط الشعبي الأمريكي داخليًا الذي يملك ورقة التصويت العقابي ضد الحزب الديمقراطي في الانتخابات التشريعية القادمة في نوفمبر القادم.

أظهرت الحرب الروسية-الأوكرانية القدرة الخليجية على توظيف ورقة الطاقة كخيار استراتيجي لتغيير الموقف الأمريكي تجاه قضاياها الحيوية، سواء تعلق الأمر بالمفاوضات الأمريكية-الإيرانية دون مراعاة هواجسها الأمنية المرتبطة بالنفوذ الإيراني في الخليج، أو القيود المفروضة على مبيعات السلاح الأمريكية لدول الخليج، ونشير هنا لما ورد في صحيفة الواشنطن بوست ( 30 مارس 2022م) من أن :" ولي عهد الإمارات، محمد بن زايد، شعر بالغضب عندما لم ترد واشنطن بالإيجاب على الطلب الإماراتي في الحصول على مزيد من أنظمة الدفاع الجوي الأمريكية المتطورة، وتقديم معلومات استخباراتية تجمعها الأقمار الصناعية الأمريكية عن تحركات الحوثيين، في أعقاب الهجوم الحوثي على مطار أبوظبي". وربما هذا ما يفسر موقف الإمارات في مجلس الأمن عندما امتنعت مرتين عن التصويت على قرار يدين روسيا في الحرب على أوكرانيا، وزيارة وزير الخارجية، عبد الله بن زايد، موسكو ثلاثة أسابيع من الحرب واستقبالها للرئيس السوري بشار الأسد رغم امتعاض البيت الأبيض .

أعطت الورقة الاستراتيجية الطاقوية لدول الخليج القدرة على نهج إستراتيجية موازية ومتحدية لإدارة جو بايدن القائمة على"التوازن الاستراتيجي من بعيد" وتتمثل في خيار "استراتيجية توازن المصالح" مع القوى الكبرى، وهو ما جعلها تلتزم بالاتفاق الطاقوي لأوبيك بلوس الذي يضم روسيا كفاعل طاقوي استراتيجي في التوافق بين كبار المنتجين والمصدرين للغاز، وقد عبر عن هذه العلاقة بطريقة دبلوماسية معبرة وزير الطاقة السعودي، الأمير عبد العزيز بن سلمان، بقوله:" إن العلاقات بين السعودية وروسيا دافئة مثل طقس الرياض" ( صحيفة الشرق الأوسط 17 يوينو2022م).

ثالثًا: الثابت والمتغير في العلاقات الأمريكية الخليجية العربية.

إن العلاقات الأمريكية-الخليجية والعربية ستتأثر بما ستفرزه الحرب الروسية- الأوكرانية- الأطلسية من ملامح لنظام دولي مرتقب يؤشر على نهاية عصر الاستبداد الإمبراطوري ومحدودية القوة التكنولوجية العسكرية والمالية في فرض الإرادات على تغيير سلوك الدول بالأداة القسرية، وفي الوقت ذاته تم اختبار الاصطفاف الاستراتيجي حفاظًا على توازن القوى الدولية تجنبًا للفوضى الدولية التي ستكون انعكاساتها مؤلمة على الجميع وعلى كل المستويات، فإذا استطاعت واشنطن أن تفرض تحالفًا غربيًا بين الاتحاد الأوروبي والمشروع القيمي الذي يجمع القوى الليبرالية الديمقراطية لمساندة أوكرانيا، فإن روسيا اكتسبت تعاطفًا آسيويًا من الصين والهند، كان سابقًا عن الحرب ذاتها عندما نددت بالتأثير السلبي لاستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادي بعد إنشاء تحالف "أوكوس"العسكري. وتعزز التحالف الروسي-الصيني أكثر بسبب سياسة الاحتواء التي تنتهجها الإدارات الأمريكية المتعاقبة باستخدام منطقة الحافة -أوكرانيا- لتطويق روسيا في اليابسة وزعزعة استقرار الصين بورقة تايوان في بحر الصين لكبح طموحها الجيو- اقتصادي. وتمثل الورقة الطاقوية الروسية عامل استمرار هذا التحالف الروسي-الصيني عبر الأنابيب القائمة أو المستقبلية مثل خط أنابيب "قوة سيبيريا" لمواجهة العقوبات الغربية-الأوروبية المفروضة على روسيا. وعليه، فإن الواقع الاستراتيجي يفرض على الدول الخليجية والعربية الإبقاء على سياسة الحياد الإيجابي مع القوى الكبرى حفاظًا على تنويع الشركاء الاستراتيجيين قصد تعزيز التعددية الدولية مع تجنب سياسة الاستقطاب التي قد تضعفها في مشاريعها المستقبلية المسطرة ما بين 2030 و2035 م، التي تتطلب دعم الاستقرار السياسي والأمني على مستوى البيئة الدولية والإقليمية، لأن الحروب بين القوى الكبرى مهما طالت فمصيرها طاولة المفاوضات، التي تعيد ترتيب عناصر القوة الجيوسياسية وهو ما يطرحه رواد الواقعية الكلاسيكية أمثال هنري كيسنجر، والواقعية الجديدة مثل جون ميرشايمر، حيث ذكر كيسنجر الغرب بمكانة روسيا التاريخية في أوروبا لأربعة قرون باعتبارها الضامن لتوازن القوة في أوروبا في الأوقات الحرجة، وحذرهم في الوقت ذاته من دفع روسيا لبناء تحالف دائم مع الصين، وأن الخيار المطروح للتسوية يكمن في الانخراط في مفاوضات من أجل أوكرانيا محايدة وإن تطلب الأمر التنازل عن الأقاليم الشرقية لأوكرانيا. وعبر عن هذا الطرح في مقابلة مع صحيفة "صنداي تايمز" البريطانية في رده عن سؤال حول كيفية إنهاء هذه الحرب:" يجب إيجاد مكان لأوكرانيا وكذلك لروسيا، إذا كنا لا نريد أن تصبح روسيا موقعًا أماميًا للصين في أوروبا". من جهته، حمل جون ميرشايمر اللوم على الولايات المتحدة الأمريكية فيما يخص الحرب الروسية الأوكرانية بقوله:" القرار الصادر في أبريل 2008م، بشأن مسار ضم أوكرانيا وجورجيا إلى الناتو، كان محكومًا عليه أن يثير الصراع مع روسيا، كان بوش هو مهندسه، وروج له أوباما وترامب وبايدن، والحلفاء انصاعوا". وبمفاهيم الواقعية التقليدية والجديدة فإن مأزق الأمن، الذي يدفع كل القوى الدولية إلى الخوف المتبادل من بعضها البعض هو الذي سيعمق من الصراعات الجيوسياسية طمعًا في اكتساب مجالات حيوية تعظم من مصالحها القومية الضيقة في بيئة دولية أثبتت تجربة كوفيد19 وامتلاك المتناطحون على قمة النظام الدولي أدوات القوة التدميرية والردع النووي المتبادل، على سبيل المثال تمتلك روسيا لوحدها حسب تقديرات اتحاد العلماء الأمريكيين، وهي منظمة غير حكومية، 5977 رأسًا حربيًا نوويًا. فالتجربة أثبتت أن العالم ما بعد كوفيد 19 والحرب الروسية- الأوكرانية- الأطلسية لا يمكن للعالم أن يعيش في عزلة وأنانياته الضيقة بسبب الاعتماد المتبادل الذي تضاعفت درجات ارتباطات وحداته وأفراده ومصالحه.

وإدراكًا بأهمية هذه التحولات تمتلك الدول الخليجية والعربية لحظة تاريخية حاسمة لفرض إراداتها وتصوراتها لطبيعة القضايا الدولية والإقليمية المحيطة بها، وأول هذه القضايا، إعادة ترتيب الأمن الإقليمي العربي في إطار الصراع بين ثلاثة قوى إقليمية من خارج المنطقة، تركيا، إسرائيل وإيران، بإعادة صياغة الاستراتيجية بما يضمن الدور والمكانة الخليجية العربية في مناطق النفوذ التي غيرت من طبيعة الخريطة العربية في كل من العراق، سوريا، اليمن ولبنان وليبيا. كما يمكنها فرض رؤيتها لأية تسوية نووية إيرانية وربطها بدرجة التنازلات التي ستقدمها طهران في المناطق الحيوية الخليجية والعربية مع ضمانات مستقبلية تفرضها الإرادة الدولية على المشروع النووي الإيراني. أما الملف الثاني الذي سيعزز من استقرار المنطقة الخليجية العربية فيكمن في البحث المستعجل لتسوية القضية الفلسطينية وفق المبادرة العربية القائمة على الأرض مقابل السلام وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، مع إعادة طرح القضايا الخلافية مع إدارة جو بايدن فيما يخص القرارات التعسفية التي اتخذها سلفه دونالد ترامب فيما يخص الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السورية، القطيعة مع السلطة الفلسطينية ووقف المساعدات الإنسانية، مع ضرورة مواجهة التمدد الاستيطاني الإسرائيلي لاسيما في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، لأن صراعات الهوية المقدسة لا يمكن إخمادها أو تجاوزها إلا بإعادة إحياء المشاريع الأممية المجمدة التي تطالب إسرائيل بالانسحاب الفوري من الأراضي العربية التي احتلتها في عدوان 1967م، وما قبله وما بعده.   

مقالات لنفس الكاتب