; logged out
الرئيسية / العلاقات السعودية-الأمريكية بحاجة لإعادة بناء وعلى واشنطن التعامل بجدية

العدد 176

العلاقات السعودية-الأمريكية بحاجة لإعادة بناء وعلى واشنطن التعامل بجدية

الخميس، 28 تموز/يوليو 2022

جاءت زيارة الرئيس بايدن إلى المملكة في مرحلة يمر فيها العالم بمنعطفات خطيرة تنذر بنشوب حرب باردة على درجة عالية من الحدة.  وتأتي استكمالاً للتحركات التي بدأت بالساحة الأوروبية وتلتها منطقة شرق آسيا كان الهدف منها إعادة الروح في التحالفات القديمة وإقامة ترتيبات جديدة لمواجهة التحالف الصيني-الروسي الذي أحدث خللاً في ميزان القوى العالمي. لذلك  جاءت الخطوة الأولى على شكل تفعيل حلف الأطلسي ومن ثم توسيعه ليشمل فنلندا والسويد, لتضييق الخناق على الدب الروسي الذي نشبت مخالبه جسد أوكرانيا, ولأن الدب الروسي ما كان ليخطو خطوته من دون دعم وتأييد التنين الصيني, فقد جاءت الخطوات التالية لاحتواء الصين من خلال تفعيل التحالف الرباعي الذي يضم الهند واليابان واستراليا بالإضافة إلى الولايات المتحدة, وكذلك الإعلان قبل ذلك عن قيام تحالف (AUKUS) بين استراليا وبريطانيا والولايات المتحدة.  والآن جاء دور المنطقة حيث دعت إدارة الرئيس بايدن إلى ما أسمته "إعادة تصويب" للعلاقات السعودية-الأمريكية ضمن عملية شاملة تهدف الى إحداث تغييرات جذرية في المنطقة لتحصينها ضد التحديات الجديدة. نحاول في هذه المقالة إلقاء نظرة على واقع العلاقات, والأسباب والدوافع وراء قرار الإدارة الأمريكية إجراء عملية التصحيح لمسار العلاقات مع دول الخليج, واحتمالات وضع العلاقات مع المملكة ودول الخليج على المسار الصحيح بعد سنوات من الإهمال, وطبيعة الآثار الاقتصادية والسياسية المتوقعة وأدوار الأطراف المتعددة في هذه العلاقات.

 

عقدين من التذبذب في العلاقات السعودية-الأمريكية

لن نأتي بجديد إذا ما قلنا بأن العلاقات السعودية-الأمريكية مرت بأزمات في السنوات التي تبعت غزو العراق, كان من أهمها التجربة القاسية التي مرت بها نتيجة تلك الحرب, وما تبعها من سوء الإدارة والأداء, التي أدت إلى فقدان الولايات المتحدة لمصداقيتها وإضعاف قدرتها على التأثير في الأحداث المستعرة في المنطقة. كما وأن حجم الخسائر المادية والبشرية, دفعت بالمواطن الأمريكي إلى التساؤل عن جدوى التواجد في المنطقة, خصوصاً وأن تلك المرحلة تزامنت مع الزيادة الانفجارية في إنتاج النفط والغاز الأمريكي, وهو الأمر الذي دفع بالبعض إلى الدعوة لإعادة النظر بالالتزام الأمريكي تجاه المنطقة على أساس أن تلك العلاقة كانت قائمة على الحاجة إلى استيراد النفط, وهي نظرة أقل ما يقال عنها أنها ساذجة, لكنها شكلت الأساس للعديد من المواقف الحكومية في تلك الفترة. 

 

شهدت مرحلة العقدين الماضيين أيضاً تطوراً كبيراً من نوع آخر وهو تنامي الدور الاقتصادي للصين التي بدأت بإزاحة الولايات المتحدة والدول الأوروبية عن مناطق نفوذها الاقتصادي حول العالم ومنها منطقة الخليج. هذه التطورات دفعت بإدارة الرئيس الأسبق أوباما إلى اتخاذ قرار بتغيير بوصلة الاهتمام الأمريكي نحو المحيطين الهادي والهندي, على أساس أن تلك المنطقة تمثل الفرص والتحديات الأكبر. فأصبحت محصلة تلك التوجهات إن المصالح الأمريكية في المنطقة تم اختزالها إلى اثنين لا ثالث لهما:

  • العلاقات الأمنية وتشمل المحافظة على أمن إسرائيل وضمان تفوقها العسكري على دول المنطقة منفردة ومجتمعة, بالإضافة إلى مبيعات السلاح لدول المنطقة التي وضعت عليها الشروط تلو الشروط لكي لاتحل بميزان القوى الذي يضمن تفوق إسرائيل العسكري, ولذلك تلكأت الحكومة الأمريكية في تزويد دول الخليج بمنظومة دفاع صاروخي, وصفقة طائرات أف-35 المتقدمة والطائرات بدون طيار إلى دولة الإمارات, مما دفع دول الخليج إلى السعي وراء تنويع مصادر التسليح لتلبية احتياجاتها الدفاعية.
  • التصدي للإرهاب والعمل على احتواء خطر التنظيمات الإرهابية: نؤكد هنا على كلمة "احتواء", لأن المقاربة الأمريكية لم تكن تسعى إلى استئصال ذلك الداء بل احتوائه, كما وأنها لم تكن تعبأ بأي تنظيمات إرهابية أخرى مثل الجماعات الإرهابية الشيعية ومنها جماعة الحوثي في اليمن التي توضع وترفع من لائحة الجماعات الإرهابية حسب تغير المزاج السياسي في واشنطن.  هذه النظرة الأحادية القصيرة المدى للحرب على الإرهاب أدخلت واشنطن في العديد من العلاقات والتحالفات مع أطراف وقوى صاحبة خلفيات مشبوهة لا تتوافق مع قيم الحكومة الأمريكية المعلنة وأفقدتها المزيد من المصداقية.

 

الأسباب والدوافع وراء إعادة النظر

عند وصول إدارة الرئيس بايدن قبل سنة ونصف, كانت الدلائل تشير إلى الاستمرار في نهج إدارة أوباما التي سعت إلى فك الارتباط بالمنطقة والتركيز على العودة إلى الاتفاق النووي, بوصفه الأولوية الوحيدة للمنطقة.  لكن الإدارة واجهت واقعاً عالمياً جديداً تتصدره سلسلة من الأزمات الحادة التي غيرت الكثير من الحسابات, وأعادت المنطقة عموماً, والمملكة خصوصاً, الى أعلى قائمة الأولويات بالنسبة للإدارة الأمريكية, وفي مقدمة تلك العوامل ما يلي:

  1. اكتشاف أهمية المنطقة في استراتيجية احتواء محور الصين وروسيا: الحدث الأكبر في الفترة الحالية هو التقارب الصيني-الروسي الذي أحدث خللاً كبيراً في ميزان القوى العالمي, وكانت أول ثماره الغزو الروسي لأوكرانيا, والتي جاءت تحت ذرائع عديدة لكن الأسباب الحقيقة هي التي أفصح عنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عندما قال بأن عالم القطبية الأحادية قد انتهى وأن العالم أصبح متعدد الأقطاب, وأن هذه الحرب إنما جاءت لإحداث تغيير في ميزان القوى العالمي. لذلك فقد أصبحت عملية احتواء الصين, التي كانت إلى وقت قريب شريكاً اقتصادياً, الأولوية في السياسة الخارجية للدول الغربية حيث قررت خلال قمة مجموعة السبع التي عقدت أواخر شهر يونيو مواجهة التمدد الصيني في الدول النامية تحت مسمى إعادة بناء طريق الحرير, وذلك برصد 600 مليار دولار للاستثمار في مشاريع البنى التحتية في تلك الدول.  كما أن الزمن لم يطل بالولايات المتحدة لكي تكتشف أن المنطقة تشكل منعطفاً استراتيجيًا, وأن طريق الحرير بشقيه البري والبحري, الذي كان يمر منها قبل مئات السنين لابد أن يمر منها في القرن الحادي والعشرين, ولذلك أعلن الرئيس بايدن بأن الولايات المتحدة لن تترك فراغاً في المنطقة لتشغله الصين وروسيا.
  2. إعادة رسم الخارطة السياسية للمنطقة ودمج الأمن الإسرائيلي مع دول المنطقة: عملية إعادة تشكيل الخارطة السياسية العالمية التي تقوم بها الولايات المتحدة اليوم, تشبه وإلى حد كبير, مسلسل الأحداث التي قامت بها بعد الحرب العالمية الثانية والتي شهدت نشأة النظام العالمي الجديد وكان من أولها قيام حلف الأطلسي لكي تضمن الولايات المتحدة من خلاله احتواء الاتحاد السوفيتي, كما وأنها سعت إلى قيام حلف على شاكلة الأطلسي في المنطقة, سمي فيما بعد "حلف بغداد", والذي سرعان ما تخلت عنه لأن معظم الدول الأعضاء آنذاك, رفضت دخول إسرائيل فيه. لا يقف التشابه بين المرحلتين هنا, بل أن أول الاجتماعات التي قام بها الرئيس الأمريكي روزفيلت بعد مؤتمر يالطا الذي وضع أسس النظام العالمي, كان اللقاء التاريخي مع الملك عبد العزيز على ظهر البارجة الحربية "كوينسي". يدور الزمن دورته وتبدأ الولايات المتحدة مرة ثانية بإعادة ترتيب الأوضاع الأمنية في العالم والمنطقة, من خلال قيام تحالف يشبه حلف الأطلسي, وهي تعتقد أن خطوات التطبيع التي قامت بها بعض دول المنطقة قد هيأت الظروف أكثر من أي وقت مضى لقيامه, أو على الأقل بداية الخطوات العملية نحو ذلك الهدف.  لذلك بادرت وزارة الدفاع الأمريكية بنقل الشؤون الأمنية الإسرائيلية من قيادة القوات الأوروبية إلى القيادة المركزية (Central Command) التي تشمل الدول العربية. هذه العملية سوف توفر الفرصة لزيادة التعاون الأمني العربي-الإسرائيلي برعاية أمريكية, وبالفعل فقد عقد الجنرال مكنزي قائد القوات المركزية السابق لقاءً أمنياً في شرم الشيخ في شهر مارس (آذار) الماضي ضم العديد من القيادات الأمنية من إسرائيل ومصر وبعض دول الخليج الغاية منه توحيد الجهود في مواجهة الخطر الإيراني, لذلك فقد نص البيان الختامي للقمة الخليجية-الأمريكية الموسعة في جدة على الترحيب بتشكيل قيادات المهام المشتركة 153 و59 "اللتين تعززان الشراكة والتنسيق الدفاعي بين دول مجلس التعاون والقيادة المركزية الأمريكية".
  3. اكتشاف دور نفط الخليج في احتواء روسيا: كان من نتائج الغزو الروسي لأوكرانيا قيام الولايات المتحدة والحلفاء الأوربيون بفرض عقوبات اقتصادية واسعة على روسيا ومنها إيقاف استيراد النفط والغاز. لذلك صار لازماً إيجاد مصادر بديلة لتزويد الدول الأوروبية بحاجتها من النفط والغاز قبل موسم الشتاء القادم.  وليس هناك مصادر يمكن أن تغطي العجز في أسواق الطاقة سوى المملكة والعراق وقطر, وهي الأمور التي كانت حاضرة في لقاءات الرئيس بايدن في جدة.
  4. اكتشاف أن دور النفط في الاقتصاد الأمريكي يتجاوز الاستيراد: اكتشفت الإدارة الأمريكية أن دور النفط في اقتصادها يتجاوز حدود الصورة الساذجة, التي رسمها بعض من يسمى بالخبراء, من أن وصول الولايات إلى الاكتفاء الذاتي من إنتاج النفط والغاز يجعلها في غنى عن منطقة الخليج, ولقد حذرنا مراراً من خطورة هذه الأفكار. إن أهمية النفط بالنسبة للاقتصاد الأمريكي تنبع من عوامل عديدة في مقدمتها الدور الكبير الذي تلعبه أسعار الطاقة في الاقتصاد العالمي والأمريكي, ولقد اكتشفت الإدارة الأمريكية التي أدارت ظهرها للصناعة النفطية, أهميتها بالطريق الصعب الذي تمثل بالمستويات القياسية للتضخم في الاقتصاد الأمريكي والعالمي, بالإضافة إلى أن عمليات بيع وشراء النفط في الأسواق العالمية تجري حصرياً بالدولار وهو الذي يزيد من الطلب على العملة الأمريكية ويقوي من مكانتها.  لذلك تسعى روسيا والصين إلى استبدال الدولار في تعاملات النفط والغاز, وهو الأمر الذي ترفضه الولايات المتحدة وسوف تسعى إلى إفشاله بكل الوسائل.  ولعل من أولى أولويات زيارة بايدن إقناع المملكة ومن ورائها الدول المنتجة للنفط برفع مستويات الإنتاج والعمل على خفض الأسعار لكبح جماح التضخم الذي يهدد الوضع السياسي في واشنطن وينذر بحصول ركود اقتصادي في الولايات المتحدة والعالم.
  5. احتواء إيران : هدف كبير من أهداف الزيارة هو حشد دول المنطقة وراء المبادرة الأمريكية لاحتواء إيران والحيلولة بينها وبين الحصول على السلاح النووي.

 

المفاوضات الأمريكية-الإيرانية

إذا كان هناك من مثال يوضح الطبيعة المعقدة والمتشابكة لقضايا المنطقة, فهو ملف التفاوض بين إيران والولايات المتحدة حول عودة الأخيرة إلى الاتفاق النووي الذي قررت إدارة ترامب الانسحاب منه. ذلك أن رغبة إدارة بادين بالعودة إلى الاتفاق النووي ما لبثت أن واجهت واقعاً جديداً مليئاً بالعقبات, ومن أولها التغيير في الموقف الروسي, بسبب الحرب في أوكرانيا التي حولت روسيا من شريك إلى غريم, وكذلك رغبة الأخيرة في استخدام المفاوضات للمساومة على العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.

 

الحرب الروسية في أوكرانيا التي تسببت في تعثر المفاوضات أولاً, أثرت عليها من زاوية معاكسة, وهي أن فرض الحصار على النفط والغاز الروسي زاد من الحاجة إلى النفط والغاز الإيراني لتعويض بعض النقص.  وهذه لن تحصل بوجود العقوبات الأمريكية التي لن ترفع إلا بالتوقيع على الاتفاق.  لذلك قام مسؤول العلاقات الخارجية الأوروبي جوزيب بوريل بزيارة عاجلة إلى طهران الشهر الماضي في سبيل إعادة الحياة في ملف المفاوضات وحصل على موافقة الجانب الإيراني على العودة إلى المفاوضات على أساس اقتصارها على الولايات المتحدة وإيران لأن الخلاف محصور بينهما, للمساهمة في المفاوضات غير المباشرة التي جرت في الدوحة بدلاً من فيينا.  ليس من المتوقع أن تسفر المفاوضات على انفراج إلا إذا حصل المفاوض الأمريكي على تنازلات كبيرة من الجانب الإيراني.

 

العقبة الثانية التي تحول دون الوصول إلى اتفاق مع إيران هي أن الولايات المتحدة وجدت صعوبة كبيرة في تسويق الاتفاق في الداخل الأمريكي ودول المنطقة, ذلك أنها تسعى من جهة إلى إقناع دول المنطقة بتشكيل تحالف أمني يضم بعض دول المنطقة وإسرائيل, الغاية منه مواجهة الخطر الإيراني, وفي نفس الوقت تسعى للتوقيع مع إيران على اتفاق يضمن رفع العقوبات وإعادة إيران إلى المنظومة الدولية.  فكيف تستطيع إقناع دول المنطقة بالدخول في حلف, الغاية منه مواجهة إيران, وفي نفس الوقت تقوم بتوقيع اتفاق معها؟ بالطبع لا أحد يستطيع ذلك على الإطلاق, ولكن إذا كان هناك من يعتقد أن بإمكانه إقناع الناس بالشيء وضده فهي الإدارة الأمريكية.

 

العقبة الثالثة التي تقف أمام توقيع الاتفاق هو الموقف الإيراني والذي يعتقد أن أمد الإدارة الحالية قصير, ولذلك فهو يراهن على فوز الجمهوريين بالأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ في الانتخابات النصفية قبل نهاية العام الحالي, والذي يعني أن الإدارة الحالية قصيرة الأمد وأن بايدن لن يعاد انتخابه بعد سنتين, حسب تصورها, ومما يزيد في تعقيد الأمور التوجه الجديد الذي أمر به الولي الفقيه لحكومة إبراهيم رئيسي, ألا وهو توجيه بوصلة السياسية الإيرانية باتجاه الصين من خلال الجدية في تنفيذ بنود اتفاق الشراكة الاستراتيجية مع الصين. هذا بالإضافة إلى تطوير التعاون العسكري مع روسيا والذي كشف البيت الأبيض عن وجوده من خلال الإعلان عن وجود صفقة مائتين طيارة بدون طيار من إيران إلى روسيا,  فهل تقبل الإدارة الأمريكية بالتوقيع على اتفاق مع إيران مع أنها تعلم بتوجهاتها, أم أن إيران سوف تقدم تنازلات في علاقتها مع الصين وروسيا في سبيل إقناع الولايات المتحدة بالعودة إلى الاتفاق ورفع العقوبات؟ ولماذا تقدم إيران تنازلات لإدارة تعتقد أنها قصيرة الأمد؟ وأن الإدارة القادمة سوف تنسحب من الاتفاق.

 

"إعلان القدس"

إذا كانت المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة قد وصلت إلى طريق مسدود, أو على الأقل حالة من "اللاقرار" قد تطول أو تقصر بانتظار بعض الاستحقاقات السياسية ومنها الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية والأمريكية. ولأن إدارة بايدن لا تريد منح رئيس الوزراء الأسبق نتنياهو ورقة تساعده بالفوز في الانتخابات القادمة, لكون موقفها كان وما يزال القبول بأي رئيس وزراء في إسرائيل ليس اسمه بنيامين نتنياهو, ولأنها لا ترغب في منح منافسيها الجمهوريين ورقة إضافية في الانتخابات الأمريكية التي قد تشهد خسارة حزب الرئيس بايدن الأغلبية في مجلسي الشيوخ والنواب, ولذلك فإن ملف التفاوض مؤجل إلى حين الانتهاء من الانتخابات.  من هنا نفهم خلفية التوقيع على "إعلان القدس" بين بايدن ولبيد, والذي أعطت فيه الولايات المتحدة التعهد بعدم تمكين إيران من تطوير السلاح النووي.

 

لقد لجأت الإدارة الأمريكية إلى فكرة إصدار ما يسمى "بإعلان القدس" لأسباب عديدة تتعلق بعدة عوامل, أقلها المشروع النووي الإيراني, وأغلبها تتعلق بالاستحقاقات السياسية الداخلية وفي مقدمتها الانتخابات التشريعية في إسرائيل والولايات المتحدة, كما وأنه محاولة لتجاوز نقطة الخلاف الأساسية بين واشنطن وتل أبيب, حيث ترى الأخيرة أن الاتفاق النووي ومن ورائه منظومة التفتيش الدولية قد فشلا في وضع الحدود على الأنشطة النووية الإيرانية بسبب غياب الشفافية, وأن استخدام القوة هو الحل الأكثر نجاعة, في حين أن واشنطن ترى أن الطريق التفاوضي المدعوم بالعقوبات لازال هو الطريق الأمثل للحيلولة دون إنتاج القنبلة النووية. كما وأن "الإعلان" قد يوفر للإدارة الأمريكية الغطاء السياسي للتوقيع على "اتفاق مرحلي", أو الاستمرار في المفاوضات إلى ما بعد الانتخابات التشريعية في نوفمبر القادم.

 

بغض النظر عن الأسباب والدوافع وراء توقيع "الإعلان", إلا أنه عبارة عن وضع خط أحمر من قبل إدارة بايدن, أمام إيران.  إن عملية وضع "الخطوط الحمراء" يجب أن تؤخذ بجدية ويحسب لها حساباتها, ذلك أن مجرد الإعلان عنها, إنما هو بمثابة دعوة وتحد للطرف الآخر إلى تجاوزها, ونحن نعلم من تجارب سابقة عن وضع مثل تلك الخطوط وماذا حصل؟ السؤال هو, ما الذي سوف تفعله إدارة بايدن في حالة قيام الحكومة الإيرانية بالتصعيد في برنامجها النووي؟ وهي بلا شك سوف تقوم بذلك كوسيلة للضغط على رفع العقوبات, وبالفعل فلم تمض أيام حتى صرح المسؤول الإيراني كمال خرازي, بأن بلاده لديها التقنية المطلوبة لصناعة القنبلة الذرية وأنها تجري تجارب عسكرية على ضرب العمق الإسرائيلي, من جانبه فقد رد رئيس الأركان الإسرائيلي بأن الجيش يعد الخطط لاستهداف المواقع النووية الإيرانية.  إن "الإعلان", وإن كان إصداره لأسباب لا تتعلق بإيران, إنما يمثل زيادة في التصعيد في المنطقة التي هي في أمس الحاجة إلى التقاط الأنفاس والبحث عن حلول.

 

الحاجة إلى بداية جادة وجديدة

إن أكبر العوائق التي تقف في وجه المبادرة الأمريكية تتمثل بتجاوز المرحلة الماضية التي شهدت حدوث هوة كبيرة بين التوقعات والأداء في الدور الأمريكي في المنطقة.  ولذلك نعتقد أن معظم القادة الذين التقى بهم بايدن في جدة, وفي مقدمتهم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز, إنما جاءوا للاستماع لما عنده, وتأجيل الحكم بانتظار النتائج الفعلية.  إن العلاقات السعودية-الأمريكية ليست بحاجة إلى إعادة تصويب, بل هي أكثر حاجة إلى إعادة بناء.  إن أهمية تلك العلاقات بالنسبة لأطرافها والإقليم والعالم, ودقة الموقف العالمي تجعل من الضرورة الماسة على الإدارة الأمريكية إيلاء هذه العلاقات العناية التي تستحقها, والتعامل معها بالجدية وعدم اللجوء إلى العبارات المكررة التي كان يرددها المسؤولون في السابق مثل "جميع الخيارات على الطاولة" أو الاكتفاء "بنقاط الحديث".  إن المطلوب هو تحديد الخيارات المطروحة وفهم ترتيبها وما ينبني على ذلك من تبعات على جميع الأطراف.  إن جدية الإدارة الأمريكية اليوم على المحك وبإمكانها الانتقال بملف العلاقات مع المملكة والإقليم إلى مستوى الشراكة الحقيقة من خلال تحقيق نقلة نوعية وسريعة في الملفات المهمة وفي مقدمتها:

 

  • بناء شراكة حقيقية لتحقيق منظومة أمن خليجي تشمل دول مجلس التعاون والعراق وترتبط بعلاقة خاصة مع مصر والأردن, ومن ذلك رفع القيود المفروضة على تطوير تسليح جيوش دول المنطقة بما يخدم أمنها الوطني والإقليمي.
  • إن حاجة الإقليم بعد الأمن هي التنمية, وهذه تتطلب حالة من الاستقرار, التي لن تتحقق بإبدال الصراع العربي-الإسرائيلي بصراع عربي-إيراني. هذه العملية تتطلب تغييراً جذرياً في المقاربة الإيرانية تجاه دول المنطقة, وليس هناك في الأفق ما يدعو إلى التفاؤل في هذا المجال.   
  • توسيع الشراكة الأمريكية-الخليجية لتشمل الجوانب الاقتصادية من خلال الانخراط في تنمية اقتصاديات دول المنطقة والتعاون في مختلف النشاطات ومن ضمنها صناعة النفط والغاز وتهيئة اقتصاديات دول المنطقة لما بعد النفط.
  • التعاون في القضايا السياسية وتطوير رؤية مشتركة تكون الأساس في إيجاد حلول للصراعات المسلحة في المنطقة ومن ذلك التعاون في إيجاد حل سلمي للصراع في اليمن يضمن أمن واستقرار اليمن والإقليم, مع ضمان عدم استخدام الأراضي اليمنية للعدوان على دول الجوار, كذلك إعادة بناء العملية السياسية في العراق بما يحقق الحد الأدنى من طموحات الشعب العراقي ويحقق الأمن والاستقرار له ولجواره الإقليمي.
  • العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران من خلال إشراك دول المنطقة وعدم تكرار أخطاء إدارة أوباما التي أهملت دول المنطقة ولم تشركها أو حتى تطلعها على سير المفاوضات إلا بعد التوقيع عليه, وكذلك إهمال جوانب عديدة لم يشملها الاتفاق , بالإضافة إلى ضعف المتابعة في مرحلة ما بعد التوقيع, وهي الأمور التي دفعت بدول المنطقة إلى معارضته منذ اللحظة الأولى.
مقالات لنفس الكاتب