; logged out
الرئيسية / الدراسة الدقيقة لملفات قمة جدة مهدت لتحقيق نتائج إيجابية

العدد 176

الدراسة الدقيقة لملفات قمة جدة مهدت لتحقيق نتائج إيجابية

الخميس، 28 تموز/يوليو 2022

كتب الكثير في السنوات الأخيرة حول العلاقة (المأزومة) بين دول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى، بعض تلك الكتابات (موتورة) يكتنفها الكثير من الأيدولوجيا، وأخرى دون معرفة حقيقة بالخلفية السياسية التي يتم الحديث حولها. إلا أن كمية ما كتب ترك هامشًا للتخمين والاستنتاج بقطيعة قائمة.

الحقيقة المعروفة لأي متابع أن هناك ( تغير) في مستوى العلاقة بين المنطقتين الجغرافيتين مستمر و تراكمي وفيه على مر عقود ( تراجع وتقدم) حسب المصالح وتغير التحالفات، و له أسبابه الموضوعية، تلك الأسباب متعددة، فمن الجانب الأمريكي بدا أن السياسة الخارجية الأمريكية،  بعد أن مرت بفترة طويلة كونها خاصة بالبيت الأبيض والرئيس وطاقمه الأقرب، بدأت تدريجيًا تصبح ذات تأثير بعوامل داخلية ،وسقطت المقولة القديمة التي كانت تشير ( إلى أن الخلافات الأمريكية الداخلية تنتهي عند شاطئ البلاد) تعبيرًا عن ( التوافق ) بين القوى السياسية  الأمريكية في الشؤون الخارجية لأنها مصالح عامة وليست حزبية، تلك المقولة انتهت تدريجيًا أو حتى قُلبت إلى عكسها لسببين الأول: وصول عددا من المشرعين الأمريكان ذوي الأصول (من خارج أمريكا) وبالتالي كان يهمهم مواقف بلدهم الجديد الغني والقوي تجاه بلدانهم السابقة، والثاني: ظهور فئات اجتماعية تهتم بما يحدث في الخارج من منظور ( تعاطف أو مشاركة) شبه أيدولوجية تسمى تارة حقوق الإنسان وأخرى انتشار الديمقراطية  بعد انشار وسائل التواصل الاجتماعي التي تخترق كل الحجب، أضف إلى ذلك أن السياسة الخارجية الأمريكية أصبحت ضحية ( للمناكدات) بين الحزبين، فكثير ما يتخذ حزبًا سياسية مغايرة لمن سبقه في الحكم حتى يكون ( مختلفًا)! وهي عقبة أمام سياسة متوسطة أو طويلة المدى.

منذ مطلع القرن الواحد والعشرين اختلط العامل الأول بالثاني، خاصة في عهد السيد باراك أوباما الطويل (1997 –2016م) بسبب خلفية كونه الرئيس الملون الأول في تاريخ أمريكا وأيضًا ضعف خلفيته السياسية وخبرته الدولية، ثم جاء بعده السيد دونالد ترامب (2017 – 2021م) والذي يشارك الأول في ضعف خلفيته وخبرته السياسية، فتصرف بالكثير من (الرعونة) في عدد من الملفات الداخلية والخارجية بالنسبة للشرق الأوسط كان الملف الفلسطيني ذو الحساسية السياسية الكبيرة للمنطقة.

تزامن ذلك بمتحول مهم آخر هو (استغناء نسبي) أمريكي عن الطاقة المنتجة في الشرق الأوسط والاهتمام الأمريكي الاستراتيجي بالتنافس مع الصين في الدرجة الأولى اقتصاديًا ومع روسيا الاتحادية سياسيًا.

وعلى الرغم من الولايات المتحدة هي بلاد تعتمد في الغالب في اتخاذ قراراتها على (المؤسسات والدراسات) مجبولة بالمصالح، إلا أن تراجع المصالح بشكل عام أضعف الحكمة والتروي في اتخاذ القرار، فاندفعت مؤسسات الولايات المتحدة في العصر الأوبامي بنصرة مباشرة أو غير مباشرة لقوى الإسلام الحركي حركة (ربيع العرب)، واتخاذ موقف مهادن مع مهدد للأمن القومي الخليجي (إيران) كما اندفعت في العصر الترامبي إلى تجاوز المشكلات العالقة تاريخيًا (على رأسها الملف الفلسطيني).

من جهة أخرى لم يسارع الجانب الخليجي في قراءة المتغيرات الداخلية الأمريكية، ولم تبذل الجهود في إنشاء مؤسسات بحثية و (إقناعية) خليجية في واشنطن إلا ما ندر، وبناء على مبادرات شخصية وليست مؤسسية، إلى درجة أن كاتب هذا السطور سمع من سياسي خليجي كبير أنه في أحد الاجتماعات مع الجانب الأمريكي ذكر له الخليجي رقما عن الاستثمارات لبلده في أمريكا، فصحح المسؤول الأمريكي الرقم بأعلى منه! ذلك دليل صغير ولكن واضح على أن الخليجيين يحتاجوا أن يدرسوا ملفاتهم بشكل أفضل ومؤسسي، كما أنهم بدوا قاصرين على تسويق أفضل للإصلاحات التي يقومون بها في مجتمعاتهم، هذا لا يعني رفع عامل (التجهيل) أو (النكاية) من أوساط أمريكية تجاه مجتمعات الخليج جراء (جماعات ضغط) مختلفة.

الجديد في التطورات  على الساحة العالمية هي الحرب الروسية الأوكرانية والتي بدأت تقسم العالم إلى معسكرين شرقي وغربي وعلى الرغم من الولايات المتحدة والغرب عمومًا ( ليس امرأة قيصر) فهناك مثالب كثيرة تعثر سياساتها في السابق وفي اللاحق، إلا أن المعسكر الشرقي نسبيا ( أكثر غموضًا و قمعًا) فإن اردنا النسبية فإن المعسكر الغربي اقرب للمزاج الخليجي ( إن صحت التسمية) لا لسبب عاطفي ولكن لسبب موضوعي، فهو الأكثر تقدمًا تقنيًا ( في جائحة كورونا اللقاح الغربي هو الأكثر فعالية) على سبيل المثال، و الكثير من المنتجات التقنية مصدرها الغرب، كما أن الجسر الاقتصادي مربوط بالغرب ( بمجرد أن يرفع البنك الفيدرالي  الأمريكي معدلات الفائدة، حتى تسارع البنوك الخليجية المركزية بفعل ذلك) دليل على الارتباط الاقتصادي الوثيق، لذلك فإن العلاقات الخليجية ـ الأمريكية قد تمرض، ولكن لا يجوز أن تترك للموت .

العقدة الإيرانية. ويل لأصدقاء أمريكا ولأعدائها 

 أهم عقدة في العلاقات الخليجية ـ الأمريكية في العقود الأخيرة هي العقدة الإيرانية أو ما يسميه كاتب المقالة (الاستعصاء الإيراني) فالمشروع الإيراني هو التوسع في الجوار في العقود الخمسة الأخيرة، وقد امتد النفوذ الإيراني إلى العراق وسوريا ولبنان واليمن ولها مطامع في دول الخليج معلنة. في نهاية تعليق نُسب للأمير بندر بن سلطان، وقد كان لفترة طويلة سفيرًا للمملكة العربية السعودية في واشنطن، ويعرف عن قرب ميكانيكية العمل السياسي ودهاليزه هناك، معلقًا على الاتفاق الإيراني مع الدول الخمس الكبرى في الملف النووي، الذي وقع في الرابع عشر من يوليو 2015م، قال (لابد أن يحذر أعداء أمريكا منها، أما أصدقاؤها فعليهم الحذر أكثر). الأشهر والسنوات التي لحقت الاتفاق النووي الإيراني المُوقع في فينا شهدت الكثير من التداعيات، البعض من المعلقين، في الجانبين الإيراني والغربي (والعربي) أيضًا، مع الاتفاق، آخرون ضد الاتفاق، مفسرين آلياته وبنوده، كلاً فسره حسب قراءته للنص وتوقعاته للمستقبل، كمثل صياح الديكة عند الفجر، دون معرفة لماذا انشق النور.

 الدول والمجتمعات الخليجية وقتها أصابها شيء من القلق، ليس بسبب الاتفاق، ولكن بسبب الموقف الأمريكي، أو قل موقف الإدارة الأمريكية الأوبامية، التي ترسل رسائل مختلفة، وأغلبها متناقض للمنطقة، فلا يستطيع مخطط سياسي أن يقيم عليها تصور مستقبلي يمكن الركون عليه.

فالسيد باراك أوباما وإدارته يبدو كانت متحمسة وقتها لتمرير الاتفاق، حيث يعرضه كالتالي: إنه نصر لتقليل اندفاع إيران إلى التسلح النووي، وأنك تعقد الاتفاقات عادة مع أعدائك لا الأصدقاء، مع الاعتراف الكامل بأن إيران (ترعى الإرهاب) وتتدخل سلبيًا في عدد من بلدان الجوار!  فالاتفاق في نظر الإدارة الأمريكية الأوبامية لا يعدو أن يكون (إجازة من الخوف) وهي إجازة في عمر الشعوب قصيرة جدًا مدتها عشر سنوات كما نص الاتفاق وقتها لتحقيق (نصر مؤقت) والذي لم يحاول فتح ملفات أكثر خطورة من الملف النووي على الأقل بالنسبة لدول الخليج منها السلاح البالستي ومنها التدخل في الجوار. أمر الذي وضع الحليف الأزلي في منطقة الشرق الأوسط (إسرائيل) في مكان مناقض وعلني للسياسة الأمريكية تجاه ملف إيران، كما وضع دول الخليج المجاورة في مكان الحذر والترقب.

 في لقاء كامب ديفيد التاريخي الذي عقد في شهر مايو 2015م، بين القيادة الأمريكية وبين قادة مجلس التعاون أو ممثليهم، جرى الاتفاق على (شراكة استراتيجية) بين الطرفين ملخصها ردع ومواجهة أي تهديد خارجي للدول الملتقية في ذلك الاجتماع (دول مجلس التعاون) إلى درجة استخدام القوة العسكرية إن لزم الأمر!، كما جرى الاتفاق على تحويل الوثيقة التي تم التوصل إليها في اجتماع القمة ذاك (البيان المشترك) إلى برنامج عمل. طالب الوفد الخليجي وقتها بأن تقوم الولايات المتحدة أثناء المحادثات مع إيران (وكانت جارية) بفتح ملفات ساخنة معها من وجهة نظر دول الخليج، وهي تتلخص في شهية إيران للتدخل في الخاصرة العربية (العراق / سوريا/ لبنان/ اليمن/ البحرين/ فلسطين) وجاءت التطمينات أن تلك الملفات سوف تفتح بمجرد تقدم المفاوضات مع إيران في الملف الأهم (النووي) وترجيح كفة المعتدلين في طهران على المتشددين!  لقد أصبح معروفًا الآن أن أي من الملفات، خارج الموضوع النووي، لم يفتح مع إيران، عدى ملف واحد جانبي وهو (ضمان السلم الدائم) في جنوب لبنان\ شمال إسرائيل، حيث تعهد الجانب الإيراني (شفويًا) ان لا يُحرك هذا الملف من خلال ربيبه (حزب الله)، ويلجم أي مغامرة من الحزب التابع له في تلك الجبهة، عدى الحديث اللفظي في الملفات الأخرى من أجل إشغال الجمهور لا غير!

على الرغم من ذلك الاتفاق الشؤم (14 يوليو 2015م) إن الإدارة الأمريكية وطهران سرعان ما أشعلوا الحرب الكلامية بينهما، فواشنطن تعلن بأن إيران تناصر (الإرهاب في المنطقة) وكأنها اكتشفت ذلك مؤخرًا !، كما يعلن آية الله علي خامنئي الرجل صاحب القرار الأوحد والنهائي في إيران من جهة اخرى أن بلاده سوف (تحارب الغطرسة الأمريكية، ولن تتخلى عن أصدقائها في سوريا والعراق ولبنان والبحرين واليمن وفلسطين!) وكلها بلاد عربية. لما سؤل السيد جون كيرى وزير الخارجية الأمريكي وقتها، من صحيفة عربية كُبرى، حول ذلك التصريح قال ما معناه (التصريحات العلنية غير الالتزامات الفعلية!)

 الحيرة كاملة من مواقف الإدارة الأمريكية، فهي تعرف مدى تورط إيران في إثارة كل هذه الفوضى في المنطقة من العراق إلى سوريا إلى اليمن إلى غيرها من الأماكن في العام، وكل تقارير الخارجية الأمريكية حول الإرهاب الدولي تضع ايران على رأس قائمة الدول الداعمة للإرهاب  وربما الفضيحة التي ظهرت بعد إعلان قتل المنتمي للقاعدة والقائد فيها وحارس السيد أسامة بن لادن لفترة في إيران، والذي عاش في الكويت وهو حسين الفضلي، الذي لجأ إلى إيران ردحًا من الزمن، إلا غيض من فيض في تورط الدولة الإيرانية ومؤسساتها في الإرهاب، بل أن إيران استخدمت عملاء لها ضد المصالح الأمريكية، كما في تفجيرات الكويت ( 25 مايو 1985م) وكانت في رمضان واستهدفت اغتيال أمير الكويت وقتها المرحوم جابر الأحمد، وتفجيرات مدينة ( الخبر 25 يونيو 1996م) في المملكة العربية السعودية، أو محاولة اغتيال السفير السعودي ( عادل الجبير ، اكتوبر 2011م) في واشنطن عطفًا على اغيال رئيس وزراء لبنان عام 2005م، وغيرها من الأفعال الموثقة أمريكيًا. كما أن دوافع جزء من الإرهاب في المنطقة هي أفعال إيران، فعندما يقاتل حزب الله الشيعي جهارًا في سوريا وتمول إيران أعمال قتل أكثر من مائتي ألف من السوريين وعندما تحارب إيران مع مليشيات طائفية في العراق ضد قيام دولة مستقلة، ويعاني مئات الآلاف من العرب معاناة إنسانية فظيعة ويهربون على وجوههم في أصقاع الأرض وتدمر إنسانيتهم، فمن الطبيعي أن يُثار الجسم السني بأكمله ضد تلك الممارسات. الحقيقة الواقعية أن الحروب التي نشهدها أمامنا والتي تغذي الصراع المحتدم هي بسبب التدخل الإيراني هي حروب (سياسية) بامتياز، اُلبست اللباس الطائفي، من أجل حشد السذج من خلال إثارة الغيرة الطائفية وتوظيفها لأهداف سياسية.

لم يستطع وزير الدفاع الأمريكي الذي زار المنطقة أو وزير خارجية الولايات المتحدة بعد توقيع الاتفاق مباشرة أن يقنع حلفاء بنجاعة سياسة السيد باراك أوباما. لقد تعودنا على أن تفعل أمريكا ما لا تقول وتقول ما لا تفعل، ولدي هنا حادثتين، واحده وثقتها السيدة هيلاري كلنتون في كتابها (خيارات صعبة) بالقول أنهم تفاوضوا مع حركة طالبان من خلف ظهر حليفهم حميد كرازي (وكان رئيس جمهورية أفغانستان). وتمت مفاوضات بين ظهرانينا في الخليج (في مسقط) بين الولايات المتحدة وإيران، دون أن يعلم الخليجيون (الحلفاء) وقتها بما كان يدور فيها! ولا أحد يعلم الآن ما هي الاتفاقات التي تمت في الهمس بين طريف وكيري في مدن أوروبا المختلفة في ذلك الوقت العصيب!

انتهت الفترة الأوبامية بخسارة الرهان الساذج الذي قالت به وهو (إن إرضاء إيران) يمكن أن يشجع قوى الاعتدال في المستقبل لتليين سياستها في وقت ما، تبين أنه رهان قريب إلى السذاجة، وعدم معرفة يقينية بالفكر الحاكم في طهران !!

جاءت إدارة دونالد ترامب ( 2016 – 2021م) لتعلن الخروج من اتفاق يوليو 2015م، و تصعد مجموعة من العقوبات على طهران ( كثير منها استطاعت طهران التملص منها) في نفس الوقت الذي زادت طهران قدرتها في التخصيب النووي والتدخل في الجوار العربي في نفس الوقت، فهي تقف بقوة من خلال وكلائها في سكة تعافي العراق سياسيًا واقتصاديًا، كما تكتم أنفاس لبنان الذي أصبح أكثر من 80% من سكانه تحت خط الفقر وتشعل حربًا أهلية يموت فيها اليمنيون في اليمن وترسل جماعات مسلحة إلى سوريا وتعاون معارضين لدول الخليج وتمول أصواتهم الإعلامية.

تجربة العرب في العقود الأخيرة مع الولايات المتحدة، أن إداراتها لا ترغب ولا تريد وربما لا تقدر على التفكير (في اليوم التالي) فهي تخضع لمجموعة من الضغوط السياسية الداخلية ورغبات السياسيين آنية لرسم سياستها، وفي الغالب هي ذات نفس قصير. إن المؤشرات القائمة تدل على أن القوة العظمى في مرحلة بداية الشيخوخة، وعلى العرب فهم تلك البداية والإسراع إلى رص صفوفهم، فقط الحرب الروسية ـ الأوكرانية بدأت بتغير تلك المؤشرات السلبية في السياسة الخارجية الأمريكية، وكان كثير منها غير مبرر وخاصة تصريحات السيد جو بايدن أثناء وبعد الحملة الانتخابية للديمقراطيين

  أمريكا إعادة تموضع

بجانب الحديث عن زلزال أفغانستان والذي طغى على وسائل الإعلام والسياسة الدولية والذي بين من جديد (ضعف البصر السياسي الأمريكي)، كان الحديث بنفس القوة عن (الولايات المتحدة) وموقفها من الحلفاء، وأفردت الإذاعة البريطانية الناطقة بالعربية لأيام لمناقشة هذا الملف، وأخذت كشعار لبرنامجها الذي كرر لأكثر من يوم، مقولة منسوبة للرئيس المصري الراحل محمد حسني مبارك (المتغطي بأمريكا عريان)! كناية عن تخلي أمريكا عن حلفائها. لا يعرف أحد على وجه الدقة أن كان الرجل قد قال ذلك، أو كانت فكرة عفو الخاطر وتحت ضغط الظروف، ولم يتذكر أحد أن الرجل كان حليفًا لأكثر من ثلاثة عقود وبنجاح، إلا أن الاحتفاء بتلك المقولة كان على أوسع نطاق من معسكر معارضي أمريكا والذين لم يوفروا من بين كل الملفات دول الخليج وكأنها فقط هي ذات العلاقة الجيدة بالولايات المتحدة! من طرف آخر فإن الشكل الذي أخذه الخروج من أفغانستان والمتسم بالارتباك جعل من فكرة (ضعف أمريكا في العالم) معطى حقيقي للبعض، وتصورت العديد من القوى أن نموذج أفغانستان يمكن أن يتكرر. تكرار النموذج هو من ضرب الخيال، فكل تجربة لها خصوصيتها الذاتية، أفغانستان غير فيتنام والأخيرة غير العراق وأيضًا تختلف عن سابق تجربة في كل من ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية. بالعودة إلى تشريح التجارب يمكن أن نلمس بعض الثغرات التي أوصلت الحال كما انتهى إليه. النجاح في كل ألمانيا واليابان تم بحثه في دراسات عديدة، واتفق على أن ألمانيا شبيهة بالتجربة الغربية في التطور والثقافة، بالتالي لم يكن  هناك كثير جهد يبذل في وضعها على سكة  النهوض رغم البدايات الصعبة، وكان لخطة  الجنرال جورج مارشال، رئيس أركان الجيش إبان الحرب الثانية و من ثم وزير الخارجية الأمريكية النصيب الأوفى  في إقالتها من العثرة ، في اليابان الجنرال ماك آرثر  استعان بعدد من خبراء الاجتماع لفهم المجتمع الياباني و كان على رأسهم عالمة الأنثروبولوجي  روث بندكت التي طورت نظرية (السواء النفسي) عن السمة الوطنية والتي سمتها  (الالتحام و الامتثال) ثم كتابها ( الأقحوان والسيف) عن المجتمع الياباني . على عكس ما حدث في العراق عند تعيين الحاكم العام بول بليمر، فقد كان فقيرًا في معلوماته عن المجتمعات الأخرى، وكان يرأس شركة لدراسة الأزمات، رئيس مجلس إدارتها هنري كسنجر، وهو دبلوماسي، فكان تعيينه أقرب إلى الحزبية منه إلى المهنية، لذلك اضطربت قراراته وأدت إلى ما وصلت إليه التجربة العراقية من ضمن عوامل أخرى إلى التعثر، في اليابان وألمانيا (أوروبا) تولى المهمة عسكريون بخبرة ورؤية، في العراق مدني نظري.

لعلنا نلحظ عناصر التغير في الاقتراب من القضايا التي تفرضها الصراعات العالمية، إن النظام الديمقراطي الأمريكي في ربع القرن الماضي أصابه خلل بنيوي، على الرغم من القول أن الديمقراطية تصحح أخطاءها، إلا أن الأخطاء تزايدت أصبح النظام أكثر إثارة للخلاف الداخلي والاستقطاب، مثل رئيس مغادر خسر الانتخابات (دونالد ترامب) يرفض الاعتراف بهزيمته، بل ويغادر العاصمة دون تسليم وتسلم لخلفه، وهو مشهد نادر يكشف عن عمق الأزمة، بجانب شواهد أخرى تظهر ذلك الخلل. افتقد الخبرة المتراكمة التي من المفروض ان تكون المؤسسات الأمريكية قد راكمتها على كثر ما في واشنطن من مراكز التفكير!  قبيل الحرب لإسقاط النظام العراقي عقد أحد تلك المراكز البحثية الأمريكية ندوة استطلاعية في العاصمة البريطانية، وكان الحديث عن الحرب القادمة في العراق، في المناقشة تحدث كاتب السطور عن أهمية نقاش (اليوم التالي) أي ما بعد سقوط النظام، إلا أن المنظمين كان لهم رأي آخر وهو أن لا أهمية لذلك! أصبحت الديمقراطيات الغربية حبيسة (نتائج استطلاعات الرأي) وهي قد تكون واحدة من المؤشرات، ولكن ليس الوحيدة كما يرغب معظم السياسيين في تلك الديمقراطيات أن يصدقوه. من هنا فإن العجز عن فهم المجتمع الأفغاني كان واضحًا والحل السهل الذي اختاره دونالد ترامب أن يتفاوض مع القوة المناوئة (طالبان) حتى خلف ظهر الحكومة المنتخبة والممثلة الشرعية المعترف بها في العالم، وجاء الرئيس جو بايدن لينفذ الاتفاق وأيضًا بجانب الضغط الشعبي العام في حزبه بالتخلص من الأعباء الخارجية والالتفات إلى الأوضاع الاقتصادية المحلية. ولكن حتى الآن لم نجب على السؤال المركزي، وهو هل انتهت قوة الولايات المتحدة من حيث القدرة على التأثير في العالم أم لا؟  على الرغم من أن البعض يحب إجابات قاطعة بنعم أو لا، إلا أن الميل المنهجي السليم ألا نذهب إلى ذلك الخيار لأنه قطعي، وخاصة علاقتها بمنطقتنا العربية التي تمور بالتناقضات والصراعات، الأكثر احتمالًا أن يكون هناك شراكات تنظم العلاقة وتفصل الاستراتيجي عن الآني والعاجل، فالولايات المتحدة دولة كبرى وربما أقوى دولة في العالم اليوم، وهي الأكثر عدة وعتادًا في القوة التدميرية، ومؤثرة في عدد من الملفات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والاستراتيجية. وربما بمراجعة التجربة الأفغانية يجري فصل المثاليات والتفكير في نجاعة تصدير النموذج الغربي في السياسة والحكم فليس بالضرورة أنه ينطبق انطباق كربوني على تجارب شعوب أخرى لها ثقافات مختلفة قد تطور نموذجها الخاص مع الاحتفاظ بالخطوط العريضة للتعامل الإنساني المتحضر. الملف الأفغاني لم ينته بعد، فقد فتح على  مصراعيه ومع إعلان الحكومة  الجديدة، فإن الاحتمال أن تصبح  تلك البلاد ملاذًا آمنًا للإرهاب الدولي ، كما  لا يستبعد أن يجري تحالف كوني ضد نظامها القائم مع المقاومة الداخلية التي بدأت تنمو، لأن قدرتها على التحور والتحول محدودة بسبب تلك الإيديولوجية التي تؤمن بها والقاصرة على فهم محدود للشريعة الإسلامية، كما أن السيناريو الآخر  الذي تم الحديث عنه هو نشوب حرب أهلية طويلة المدى بين المكونات المختلفة العرقية والطائفية والثقافية والتي سوف تشكل صداع للجيران، الأمر كله حتى الآن في المنطقة الرخوة والأشهر القليلة القادمة سوف يرى العالم تجربة مختلفة والكل قلق على صيرورتها، لأنها مختلفة، مخيفة للجميع في نفس الوقت .

 الانعطاف الأمريكي:

لا جدال أن الحرب الروسية ــ الأوكرانية قد أحدثت انعطافًا أمريكيًا تجاه الكثير من الملفات و لكن يتوجب القول إن الانعطاف نحو الشرق الأوسط قد بدأ الحديث عنه قبل الحرب ففي دراسة للمجلة المؤثرة الفورن افيرز (مارسي أبريل 2022م) ملف واسع حول (الشرق الأوسط .. الحراك إلى الأمام) في ذلك الملف اتجه عدد من كتاب الدراسات فيه إلى القول على أمريكا أن تنظر لمصالحها في الشرق الأوسط وتتوقف عن تصدير (أيديولوجيتها) وتغادر (الثبات العقائدي المضر) فتلك المنطقة أي الشرق الأوسط لها ثقافتها وتاريخها المختلف في الكثير من عناصره عن الثقافة الغربية والمجتمع الصناعي الملف الذي تناولته المجلة طويل وكثيف بالأفكار ولكنه يشير (قبل الحرب الأوكرانية\ الروسية) على بداية التفكير في الانعطاف الذي بدأ يتحرك باتجاه الشرق الأوسط ليس أمريكيًا ولكن أيضًا أوروبيًا.

على رأس الملف اليوم موضوع الطاقة (النفط والغاز) وقد كان الحديث في بداية الحرب الروسية / الأوكرانية، أن دول الشرق الأوسط النفطية مرتبطة مع روسيا باتفاق أوبك زائد، إلا أن الخصومات التي تقدمها روسيا لبعض البلدان الآسيوية في بيع النفط (الهند والصين) تشير إلى عدم الالتزام بالأسعار كما هو متفق، وبعض تلك الشحنات تجد طريقها إلى أوروبا فيما يعرف اليوم بالسوق الرمادية، فالنفط سلعة مثل باقي السلع يتسرب إلى السعر الأعلى!  وتحتاج أوروبا والولايات المتحدة إلى النفط والغاز اليوم كما لم تحتاج من قبل، كما أن تلك الدول اكتشفت أن مواجهة الصين أو روسيا يمر جبرًا بمنطقة الشرق الأوسط، في نفس الوقت فإن المعركة مع روسيا أصبحت ضخمة وربما طويلة وتستنزف الاقتصاد الأوروبي والروسي معًا. 

على مقلب آخر فإن أوكرانيا التي يدافع عنها الغرب بشراسة اليوم ليست واحة لحقوق الإنسان كما إنها بلاد ليست بعيدة في إدارتها العامة عن شبهات الفساد، فإذا الحديث عن حقوق الإنسان والفساد والإدارة الشفافة في الشأن العام يصرف النظر عنها ولا حتى تذكر إلا بين السطور في وسط المعركة الحربية الدائرة. المعركة سياسية ومصلحية وتبادل للمنافع ولا وجود للعواطف أو المثاليات فيها.

على تلك الخلفية يخطط للقاء قمة لجو بايدن مع زعماء المملكة العربية السعودية ودول الخليج وكل من مصر والعراق والأردن. هو لقاء تاريخي ومهم تجري دراسة ملفاته بدقة وتمهد له البلد المضيف بتؤدة وعلى نتائجه سوف ترسم خارطة المنطقة المستقبلية.

مقالات لنفس الكاتب