; logged out
الرئيسية / الصين تتفادى أخطاء أمريكا بعدم التدخل في الشؤون الداخلية بالمنطقة

العدد 177

الصين تتفادى أخطاء أمريكا بعدم التدخل في الشؤون الداخلية بالمنطقة

الأحد، 28 آب/أغسطس 2022

بتفكك الاتحاد السوفيتي وتخليه عن موقع القطبية في ميزان القوى العالمي عام 1991م، وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم كقطب أوحد بلا منازع، أطلقت مراكز الدراسات الاستراتيجية الأمريكية، صيحتها القائلة :" اليوم تم تحقيق الهدف الاستراتيجي الأمريكي الذي أعلنه الرئيس الأمريكي "ترومان" عام 1950".

و "ترومان" هو من قاد الولايات المتحدة الأمريكية للنصر في الحرب العالمية الثانية، وهو من أمر بإلقاء قنبلتي هيروشيما وناجازاكي على اليابان في أغسطس عام 1945م، وأشرف على استسلام ألمانيا واليابان، وعمل على إنشاء حلف شمال الأطلسي عام 1949م.

وبدأت في عهده الحرب الباردة التي حدد فيها ذلك الهدف الاستراتيجي  في مرسوم رئاسي إلى كل أجهزة الدولة الأمريكية بالعمل على إسقاط الاتحاد السوفيتي والانفراد بقمة العالم، ولم يبق أمام مراكز الدراسات الاستراتيجية وصانعي القرار الأمريكي إلا أن يحددوا لها هدفًا استراتيجيًا تعمل على تحقيقه بعد الانفراد بقمة العالم، وإلا سقطت من فوق قمتها وضاعت كل ما سعت إليه وحققته، فكان الهدف الاستراتيجي الجديد هو أن تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على أن يكون القرن الحادي والعشرين قرنًا أمريكيًا بلا منازع أو منافس.

ولأن تحقيق الهدف والوصول إليه؛ يلزمه تحديد الطرق المؤدية إليه وهو ما يعرف بالسياسات، ثم تحديد أساليب وفنون استخدام هذه الطرق والتحرك عليها للوصول إلى الهدف وهذه الأساليب والفنون هي المصطلح عليها "بالاستراتيجية".

وإن كان معظم المخططين وصانعي القرار يطلقون كلمة استراتيجية على الخطط التي يتم وضعها بواسطة أعلى سلطة في الدولة ولصالح الدولة كلها.

ولما كان الهدف هو الانفراد بالبقاء فوق القمة فإن صانع القرار الأمريكي وضع إحدى قدميه على الطريق - قضبان القطار- الأول، وهو التشبث بالقمة.

ووضع قدمه الأخرى على طريق - قضبان القطار- الثاني، وهو منع وتعطيل أي منافس من الوصول للقمة.

وهاتان هما أهم سياستان يسير عليهما القطار الأمريكي ليحافظ على الانفراد بالقمة.

ولما كان الوصول إلى القمة والمحافظة عليها يبدأ من القاعدة، فقد حرص صانع القرار الأمريكي على ألا يترك فراغًا في القاعدة ليملأه منافس آخر ويساعده على الوصول إلى القمة، وإذا ما وجد ذلك المنافس فراغًا في القاعدة . فلا بد من منعه أو تعطيله، وإذا ما نجح المنافس في التغلب على كل الصعوبات والموانع ونجح في الاقتراب من القمة أو الوصول إليها وجد فوقها النسر الأمريكي بكل عنفوانه وقوته يطيح به من فوقها ويعيده من حيث أتى.

وقاعدة العالم هي قاراته الست، المليئة بالخيرات ومناطق الاهتمام ومناطق المشاكل والنزاعات، وعليها تتوزع مصالح الدول، وفوقها دول وأمم تسعى للسيطرة عليها وإخضاعها والتحكم فيها والاستفادة منها في بناء وتنمية قدراتها تمهيدًا لتحقيق غاياتها التي تتطلع دائمًا إلى القمة والانفراد بها أو على أقل تقدير تبوء مكان فوقها.

وعلى خريطة القارات الخمس التي تراقبها أمريكا من فوق قمتها على قارتها السادسة وتهتم بها، تأتي منطقة الشرق الأوسط ملتقى القارات الثلاث الأكبر -آسيا وإفريقيا وأوروبا- وهي الأوفر حظًا من ثروات العالم الأحفورية والتي يبلغ احتياطاتها منه 70% من احتياطي العالم، الأمر الذي جعلها تحتل مكانة هامة في الاستراتيجية الأمريكية وخاصة عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي الأمريكي، صاحب النصيب الأكبر في اهتمامات الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وهو ما تظهره الوثائق الأمريكية باستمرار للحفاظ على استقرار المنطقة وأمنها لضمان استمرار إمدادات الطاقة من نفط وغاز طبيعي.

أما أمن إسرائيل وبقاؤها فإن نظرة الولايات المتحدة الأمريكية لها فهي نظرة "برجماتية" بامتياز وليست "أيدولوجية" كما يظن البعض، فما بينهما هو عقد شراكة غير مكتوب بل هو عقد وكالة بين الشريك الأمريكي الذي وجد في الوكيل الإسرائيلي ضالته.. فإسرائيل هي الوكيل المؤتمن لكونها من خارج المنطقة دينًا وعرقًا وثقافة ومشروعًا أي أنها غريبة على نسيج المنطقة يصعب تجانسها معه أو الاندماج فيه. وهي محل ثقة الإدارة الأمريكية نظرًا لاحتياج كل منهما للآخر بنفس القدر الذي يحتاجه هو منه، وهذا الاحتياج المتبادل هو الضمان المستمر للولاء والدافع الأقوى له.

كما أن ذلك الوكيل الإسرائيلي المؤتمن أثبت وجوده في المنطقة منذ عام 1948م، وقد أثبتت الأحداث منذ ذلك التاريخ أنها طرف قوي وناجح يمتلك كل المؤهلات للقيام بدور الوكيل القادر على التصدي بالمنع والردع تاركة لموكلها الدور الهام في المنح والكبح، أو من إدارة أمريكية لإدارة أخرى يزداد الدور الذي يعطى للوكيل وتزداد نسبته من المكاسب التي يحصل عليها الموكل، وتدرك إسرائيل قبل غيرها أنه لولا دورها في المنطقة ما استجار العرب بالولايات المتحدة الأمريكية وما قدموا لها القرابين التي لا غنى لها عنها.

والمعلوم أن الاستراتيجية كائن "ديناميكي" متطور يتغير بتغير المعطيات والظروف للمحافظة على الهدف وعدم التفريط فيه أو البعد عنه فكما تلقف المعسكر المواجه للولايات المتحدة الأمريكية، خطتها المدبرة لدفع القوتين المنافستين لها إلى مستنفعي "الݘيوبوليتيك" الحيويين لهما أي دفع روسيا إلى أوكرانيا، والصين إلى تايوان، لاستنزاف قدرات كلًا منهما وإضعافها لصرفها أو تعطيلها عن الوصول إلى غايتها وهي قمة النظام العالمي.

فالقارئ المتأني لما يحدث في منطقة الخليج العربي وخاصة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية من تحد صارخ للولايات المتحدة والإصرار على التمسك بكل ما حققته من إنجازات في المجال النووي والعسكري والدعم الكبير لأذرعها في الدول العربية ومهاجمة أهداف في الخليج العربي وفي البحر الأحمر وبينها أهداف أمريكية، والإصرار على إلغاء كل العقوبات الموقعة عليها.. بل إن الرسالة التي وجهتها إيران إلى دولة إسرائيل عندما أفرطت إسرائيل في تهديدها لإيران بأنها أي إيران تستطيع أن تتحمل من الخسائر البشرية حتى ثلاثة ملايين وزيادة، فكم من الخسائر البشرية تستطيع أن تتحمل إسرائيل؟؟

هذه الرسالة لم تكن رسالة ردع إلى إسرائيل فقط، بل كانت في نفس الوقت رسالة تحدٍ واستخفاف بصاحب القرار الأمريكي الذي يفزعه بل ويطيح به من فوق كرسيه خسارة أمريكا لعدة آلاف من البشر؛ كثيرون منهم على مرمى حجر من الأسلحة الإيرانية، في الخليج العربي وحوله.

لعل إيران تكون المصيدة التي تُدبر لأمريكا من منافسيها، كما تُدبر هي لهم، ولعل أمريكا تدرك ذلك وتتحسب منه، وتحاول الزج بوكيلها الإسرائيلي فيه كبالون اختبار، والواقع أن الوكيل هو من يحاول توريط الأصيل.

بل إن التحسب الأمريكي يظهر في المحافظة على الاتزان العسكري لأساطيلها حول قاعدة العالم أي قاراته الست التي تتوزع أساطيلها كالآتي:

  • الأسطول الثاني: ويعمل في منطقة شمال غرب المحيط الأطلسي لتأمين الساحل الشرقي للولايات المتحدة والساحل الغربي لقارتي أوروبا وإفريقيا.
  • الأسطول الثالث: ويؤمن الساحل الغربي للولايات المتحدة وشرق المحيط الهادي.
  • الأسطول الرابع: ويعمل في منطقة جنوب المحيط الأطلسي.
  • الأسطول الخامس: غرب المحيط الهندي والخليج العربي والبحر الأحمر وتتمركز قيادته في دولة البحرين.
  • الأسطول السادس: البحر المتوسط وشمال شرق المحيط الأطلسي وتتمركز قيادته في دولة إيطاليا.
  • الأسطول السابع: وهو أكبر الأساطيل الأمريكية (نحو 70 قطعة بحرية + 40 ألف عنصر)، ويتواجد غرب المحيط الهادي والمحيط الهندي، وتتمركز قيادته في اليابان وهو الأقرب للصين التي تتعاظم قدراتها.
  • الأسطول العاشر: وهو المسؤول عن تنفيذ العمليات السيبرانية بالإضافة إلى أعمال الأمن السيبراني لشبكة المعلومات التابعة للبحرية الأمريكية والاتصالات الفضائية على المستوى العالمي ولكل الأساطيل العاملة.

 

ولعل ما قامت به وزارة الدفاع الأمريكية في عهد الرئيس ترامب من تغيير في خطة القيادة الموحدة بنقل دولة إسرائيل من تبعيتها للقيادة الأوروبية (يوكوم) إلى منطقة عمليات القيادة المركزية (سنتكوم) جاء لتسهيل التعاون العسكري الثنائي بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة والإقليمي بينها وبين باقي دول المنطقة (الخليج العربي) من جهة أخرى، خاصة أن البنتاجون في إعلانه لهذه التسوية أشار إلى "اتفاقات إبراهم" الأخيرة باعتبارها فرصة استراتيجية لتوحد الشركاء الرئيسيين للولايات المتحدة الأمريكية في مواجهة التهديدات المشتركة في الشرق الأوسط.

كما أنه لا يخفى ما تقوم به الولايات المتحدة لتشكيل تحالفات موالية لها بهدف بناء جبهات مستقلة قادرة على مواجهة أعدائها (الصين وروسيا وإيران) دون التورط في مواجهة مباشرة مع أي منهم.

وفي الوقت نفسه تحرص الولايات المتحدة على تفويت أي فرصة على الصين أو روسيا لانتزاع أحد من حلفائها مثل مصر والسعودية والإمارات العربية والأردن ولن تفوت فرصة لتعزيز أطر التعاون بين كل من الهند والإمارات وإسرائيل خاصة في مجال الأمن البحري والمجالات التكنولوجية وبلورة ذلك التعاون ليتخذ شكل تحالف استراتيجي في مواجهة التهديدات الإيرانية في المحيط الهندي وبحر العرب.

الاتحاد الروسي:

في يوم الأحد الحادي والثلاثين من يوليو عام 2022م، وقع الرئيس الروسي "بوتين" مرسومًا بالموافقة على العقيدة البحرية الجديدة للاتحاد الروسي يقضي بتنفيذ السياسة البحرية الوطنية للاتحاد الروسي، وتأتي هذه العقيدة البحرية من رحم عقيدة بوتين التي ترتكز على ثلاثة ثوابت استراتيجية:

  • بقاء روسيا قوة نووية عظمى.
  • تحول روسيا إلى قوة عظمى في جميع مناحي النشاط الدولي.
  • هيمنة روسيا السياسية والعسكرية والاقتصادية على محيطها الإقليمي.

وتعتبر العقيدة البحرية الجديدة تطويرًا للعقيدة القديمة التي سبق الموافقة عليها في 17 يونيو عام 2015 م، من حيث الآتي:

  • ازدياد أهمية محيطات العالم وخاصة مع نضوب الموارد الطبيعية على اليابس.
  • امتداد المصالح القومية الروسية إلى محيطات العالم جميعها.
  • تشكيل المصالح القومية الروسية مع مراعاة المصالح الوطنية للدول الأخرى.
  • الحفاظ على روسيا كقوة بحرية عظمى.
  • تعزيز القدرات الدفاعية الروسية في المحيطات العالمية.
  • تأمين خطوط المواصلات العالمية.
  • ضمان استقرار الأنشطة البحرية واستخدام الموارد البحرية مع ضمان الأداء المستقر للاتصالات.
  • تطوير طريق بحر الشمال ومنطقة القطب الشمالي لاستغلال مواردها.
  • اعتبار المسطحات المائية للبحار والمحيطات التي يتواجد للاتحاد الروسي فيها مصالح وطنية، مجالات حيوية تمارس فيها القوات المسلحة الروسية أنشطتها للحفاظ على تلك المصالح في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الذين يحاولون الهيمنة على العالم واحتواء الاتحاد الروسي.

* يأتي إعلان الاتحاد الروسي عن عقيدته هذه في توقيت يشهد فيه العالم أكبر حشد عالمي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ضد المصالح الروسية في كل أرجاء العالم وقيادة العمل العسكري ضدها في أوكرانيا من المقعد الخلفي لإغراقها فيه بعيدًا عن أهم منطقتين حيويتين وهما الشرق الأوسط، وشرق آسيا الذي تخطط لإغراق الصين فيه بتوريطها في الجزيرة التايوانية بذات الاستراتيجية التي نصبت فيها فخ أوكرانيا لروسيا!! وكلاهما حربين الوكالة لصالح الولايات المتحدة بعيدًا عن الشرق الأوسط ومنطقة الخليج العربي بكل مميزاتها وثرواتها التي تحرص على الاحتفاظ فيها بالقدر اللازم من القوات التي تتفوق على أي تواجد روسي أو صيني ، متفردة مع العمل على بناء التحالفات الداعمة لها من دول المنطقة أو خارجها.

لهذا كله وغيره جاءت العقيدة العسكرية البحرية الروسية الجديدة لتحقيق التوازن الاستراتيجي مع القوات البحرية الأمريكية في المسرح العالمي والحفاظ عليه، الأمر الذي يتوقع معه زيادة النشاط الروسي في كافة المحيطات والبحار ومنها منطقة الشرق الأوسط، والعمل على تعزيز ودعم القدرات الإيرانية لاستفزاز الولايات المتحدة الأمريكية وكسر هيبتها في المنطقة ومحاولة حث كل من إيران ودول مجلس التعاون الخليجي التي على خلاف معها لتحسين المناخ السياسي بينهم وتفويت الفرصة على من يحاول استغلاله لصالحه.

الصين الشعبية:

في تقديري أن ما أحدثته زيارة "نانسي بيلوسي" رئيسة البرلمان الأمريكي لتايوان في بداية شهر أغسطس الماضي لم يكن خافيًا على الولايات المتحدة الأمريكية وليكن غريبًا عليها ما قامت به الصين من تصعيد، فقد قامت الصين بنفس العمل في العامين 2020، 2021م، فقد قامت بتنفيذ (380) اختراقًا عام 2020م، وفي عام 2021م، نفذت (969) اختراقًا للمجال الجوي التايواني.

كما أنه من غير المقبول القول بأن الولايات المتحدة لم تكن تقصد استفزاز الصين، عملًا بنظرية الفصل بين السلطات المعمول بها، حيث تمثل "بيلوسي" الشعب الأمريكي كسلطة تشريعية ورقابية، ولا تمثل الحكومة المسؤولة عن جميع القرارات أمام الشعب وأمام العالم فالهدف الأمريكي في شغل الصين بنفسها وداخل محيطها وتعطيل مسيرتها حول العالم المتمثلة في "الحزام والطريق" واضح، وتعززه الاستفزازات الأمريكية المتكررة للصين في منطقة بحر الصين الجنوبي، وفي التحالفات التي تحاول إحاطتها بها مثل تحالف كواد (الهند – استراليا – اليابان – أمريكا)، وتحالف أوكوس (أمريكا – بريطانيا – استراليا)، كما أنه ليس بخاف استراتيجية الولايات المتحدة في إبعاد الصين عن منطقة الشرق الأوسط وفيها الخليج العربي الذي يحتوي على 70% من مخزون الطاقة العالمي، وهو مالا يمكن للصين الاستغناء عنه لمواصلة مسيرتها نحو قمة العالم.

وتدرك الصين ذلك وتتبنى استراتيجية تتفادى فيها الأخطاء الأمريكية في المنطقة العربية، مثل فرض التبعية والتدخل في الشؤون الداخلية، فالصين تعمل على المحافظة على علاقات استراتيجية أساسها الاستثمار والتنمية الاقتصادية وعدم التدخل في الشأن الداخلي للدول، وتعمل الصين من خلال منتدى التعاون الصيني العربي على تنمية التعاون الشامل والتنمية المشتركة ليس مع الدول العربية منفردة فقط، بل أيضًا من خلال جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي، وهذه الاستراتيجية التي تتبناها الصين في المنطقة تعرف بــ(التنين الحذر).

مقالات لنفس الكاتب