; logged out
الرئيسية / احتواء روسيا والصين يدفع إيران لتعزيز العلاقات مع دول الجوار

العدد 177

احتواء روسيا والصين يدفع إيران لتعزيز العلاقات مع دول الجوار

الأحد، 28 آب/أغسطس 2022

تبدي إيران اهتماماً خاصاً بما يجري على الساحة الدولية، لا سيما فيما يتعلق بالتصعيد الملحوظ في العلاقات بين الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية من جانب، وكل من روسيا والصين من جانب آخر. إذ كان لافتاً أنه في خضم تصاعد حدة الأزمة الروسية-الغربية على ضوء استمرار الحرب بين روسيا وأوكرانيا، بداية من 24 فبراير 2022م، وحتى الآن، انخرطت الولايات المتحدة الأمريكية في أزمة جديدة مع الصين، بعد أن قامت رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي بزيارة تايوان، في 2 أغسطس 2022م، على نحو أثار استياءً واضحاً من جانب الصين التي بدأت بدورها في إجراء مناورات عسكرية بحرية وجوية وبرية حول تايوان، مع إطلاق صواريخ حلَّقت فوق الأخيرة.

إيران، على غرار غيرها من القوى الإقليمية والدولية، اعتبرت أن ما يجري على الساحة الدولية يدخل في سياق سياسة جديدة تسعى من خلالها الولايات المتحدة الأمريكية إلى احتواء خصومها الدوليين، أولاً عبر مواصلة دعمها العسكري لأوكرانيا بغية استنزاف موسكو وعرقلة قدرتها على تحقيق أهدافها، حيث وصل الدعم العسكري الأمريكي إلى أوكرانيا منذ وصول الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى البيت الأبيض في 20 يناير 2021م، إلى 9.8 مليار دولار، وثانياً من خلال تأكيد موقفها إزاء علاقاتها الاستراتيجية مع تايوان، حيث تتجه واشنطن إلى الرد على الإجراءات التصعيدية التي اتخذتها بكين عبر تنفيذ عمليات عبور بحرية وجوية في مضيق تايوان خلال الفترة المقبلة.

اعتبارات عديدة:

اهتمام إيران بمتابعة وتقييم المسارات المحتملة لهذه التطورات في مجملها يعود إلى اعتبارات رئيسية ثلاثة: الأول، أن هذه التطورات تتزامن مع المأزق الحرج الذي تواجهه المفاوضات التي أجريت حول الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة "4+1" وشاركت فيها الولايات المتحدة الأمريكية بشكل غير مباشر. فبعد نحو عام ونصف، منذ بداية المفاوضات في 6 أبريل 2021م، لم تصل المفاوضات إلى نتيجة واضحة حتى الآن، رغم أن الجولتين الأخيرتين أجريتا على مستوى ثنائي بين واشنطن وطهران برعاية أوروبية في كل من الدوحة (28 و29 يونيو 2022م) وفيينا (4 و8 أغسطس 2022م).

ولم تتضح بعد معالم الموقفين الإيراني والأمريكي من مسودة الاتفاق التي طرحها مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل على الطرفين، حيث تعكف المؤسسات الرئيسية المعنية بصنع القرار في طهران في الوقت الحالي، ولا سيما المجلس الأعلى للأمن القومي، على دراسة المسودة، التي ترى اتجاهات عديدة في العاصمة الإيرانية أنها لا تستوعب شروط ومطالب طهران، خاصة فيما يتعلق بالضمانات المطلوبة، والعقوبات التي سترفع، والتحقيقات التي تجريها الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

وهنا، فإن المسارات المحتملة للمفاوضات الحالية سوف يكون لها دور مباشر في تحديد مستوى العلاقات القائمة بين إيران وكل من الصين وروسيا، والخيارات المتاحة أمام الأولى للتعامل مع الجهود التي تبذلها الدول الغربية لاحتواء القوتين الدوليتين.

والثاني، أن حكومة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي- التي افتتحت عامها الثاني في 5 أغسطس 2022م- حرصت على تبني سياسة "التوجه شرقاً" منذ بداية توليه مقاليد منصبه. إذ اعتبرت أن قدرة إيران على تقليص تداعيات العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية، بداية من 7 أغسطس 2018م، بعد انسحابها من الاتفاق النووي في 8 مايو من العام نفسه، سوف تكون مرتبطة بالمستوى الذي سوف تصل إليه العلاقات الاستراتيجية مع الصين وروسيا.

وقد اتخذت الحكومة بالفعل خطوات عديدة في هذا السياق، مثل تفعيل الانضمام إلى منظمة شنغهاى للتعاون، في 17 سبتمبر 2021م، بدعم روسي وصيني، وتطبيق اتفاقية الشراكة الاستراتيجية مع الصين (التي تصل مدتها إلى 25 عاماً وتقضي بضخ استثمارات صينية تقدر بنحو 400 مليار دولار)، في 15 يناير 2022م، إلى جانب طرح وثيقة مقترحة لتوقيع معاهدة استراتيجية مدتها 20 عاماً مع روسيا، بالتوازي مع مواصلة عقد لقاءات على مستويات رفيعة بين مسؤولي الدول الثلاث، وكان آخرها خلال الزيارة التي قام بها الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين إلى طهران، في 19 يوليو 2022م، للمشاركة في القمة الثلاثية مع نظيريه الإيراني إبراهيم رئيسي والتركي رجب طيب أردوغان، حيث عقد لقاءً مع المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي.

ومع أن اتجاهات عديدة في إيران وجهت انتقادات إلى تلك السياسة معتبرة أنها تخل بأحد المبادئ التي تعتمد عليها السياسة الخارجية الإيرانية، وهو تأسيس علاقات متوازنة على الساحة الدولية في إطار ما يسمى بـ"لا شرقية ولا غربية"، فضلاً عن أن حكومة رئيسي بدأت بالفعل في اتخاذ خطوات لتطوير علاقاتها مع دول الجوار، سواء دول مجلس التعاون الخليجي أو دول وسط آسيا والقوقاز، فإن ذلك لا ينفي في مجمله أن تعزيز العلاقات الاستراتيجية مع روسيا والصين يحظى بأولوية خاصة على أجندة الحكومة بدعم واضح من جانب القيادة العليا ممثلة في المرشد الأعلى علي خامنئي، الذي دعا الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين إلى رفع مستوى التعاون الثنائي طويل الأمد بين الدولتين.

الثالث، أن هناك عملية مراجعة تجري داخل إيران، وإن كانت على نطاق ضيق، لاتجاهات السياسة الخارجية الإيرانية والخيارات المتاحة أمام طهران على الساحة الدولية. فرغم أن التوتر أصبح سمة رئيسية في العلاقات بين إيران والدول الغربية، سواء بسبب العقوبات الأمريكية أو بسبب الاتهامات الإيرانية المستمرة للدول الأوروبية بالتقاعس عن تنفيذ التزاماتها في الاتفاق النووي بشكل أدى إلى اقترابه من مرحلة الانهيار، فإن ذلك لا ينفي أن هناك اتجاهات داخل طهران ترى أن "استعداء" الدول الغربية لا يتوافق مع مصالح إيران، ويقلص من هامش الحركة وحرية المناورة المتاح أمامها للتعامل مع التطورات الطارئة على الساحة الدولية.

وفي رؤية هذه الاتجاهات، فإن العلاقات مع الصين وروسيا تكتسب أهمية خاصة من دون شك، لكنها لا تمثل بديلاً للعلاقات مع الدول الغربية، ولا تخصم من وجاهة تطوير التعاون مع الأخيرة على الأقل لمنع تكوين كتلة غربية مناوئة لإيران، على المستويين النووي والإقليمي، في ظل وجود الإدارة الأمريكية الحالية بقيادة الرئيس جو بايدن التي استطاعت تعزيز التوافق مع الحلفاء الأوروبيين حول إيران، بعد أن تسببت السياسة التي اتبعتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في توسيع هوة الخلافات بين الطرفين حول إيران، خاصة بعد أن اتخذت قرار الانسحاب من الاتفاق النووي وبدأت في فرض عقوبات جديدة على إيران.

اللافت في هذا السياق، هو أن هذه الاعتبارات في مجملها تبدو متداخلة ولا تسير في اتجاه واحد، بل إنها تفرض تداعيات متباينة على السياسة الخارجية الإيرانية، التي تتنازعها في المرحلة الحالية رؤى مختلفة تتراوح ما بين تعزيز العلاقات مع خصوم الولايات المتحدة الأمريكية وتكوين محور دولي مناهض لها، وبين عدم السماح بتكوين حشد غربي مناوئ لإيران. ومن دون شك، فإن هذا التداخل سوف يكون له تأثير مباشر على السياسة التي سوف تتبناها إيران خلال المرحلة القادمة، للتعامل مع استراتيجية الاحتواء التي تتبعها الولايات المتحدة الأمريكية، والدول الغربية بشكل عام، تجاه كل من الصين وروسيا.

تداعيات متباينة:

رغم أن تأسيس علاقات قوية مع كل من الصين وروسيا يحظى بأولوية وأهمية خاصة من جانب إيران، فإن ذلك لا ينفي أن الانعكاسات التي يمكن أن تنتجها سياسة الاحتواء التي تتبناها الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الدولتين لا تبدو واحدة أو متشابهة، وهو ما يعود في المقام الأول إلى تقاطع مصالح وحسابات إيران مع الدولتين في ملفات عديدة. ويمكن تناول ذلك على النحو التالي:

  • سياسة الاحتواء الأمريكي-الغربي ضد روسيا: يمكن أن تفرض هذه السياسة تداعيات متباينة على مصالح إيران. إذ أن نجاح تلك السياسة معناه إضعاف الموقع الاستراتيجي الذي تحظى به روسيا كقوة دولية رئيسية على مستوى العالم، وبالتالي تراجع تأثير ظهير دولي مهم استطاعت إيران الرهان عليه في إدارة خلافاتها مع الدول الغربية خلال الفترة الماضية، لا سيما في العقد الأخير.

وقد بدا ذلك جلياً في ملفين: الأول، هو الملف السوري، حيث كان للوجود الروسي في سوريا دور رئيسي في منع سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، وقامت روسيا عبر الغطاء الجوي الذي فرضته على سوريا بمساعدة قوات الحرس الثوري والمليشيات الموالية لإيران على الأرض في توسيع هامش المساحة التي تسيطر عليها مع النظام، وفي النهاية تغيير توازنات القوى الاستراتيجية لصالح الأخير. ويضاف إلى ذلك إصرار روسيا على الوقوف في مواجهة أى محاولة غربية لإدانة النظام السوري داخل مجلس الأمن، حيث استخدمت الفيتو 17 مرة لرفض مشروعات قرارات تقدمت بها بعض الدول الغربية في فترات مختلفة منذ بداية الصراع المسلح في مارس 2011م.

والثاني، هو الملف النووي، فقد عارضت روسيا سياسة "الضغوط القصوى" التي تبنتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، ودعمت موقف إيران بشكل واضح، كما ساعدت إيران على تقليص انعكاسات تلك العقوبات على المستوى الداخلي، عبر إبرام صفقات مقايضة وعرقلة مشروعات قرارات أمريكية في مجلس الأمن ضد إيران، كان أبرزها مشروع القرار الذي تقدمت به إدارة ترامب في 15 أغسطس 2020م، لتمديد الحظر المفروض على إيران في مجال الأسلحة الثقيلة، والذي لم يحظ بموافقة سوى دولتين فقط هما الولايات المتحدة الأمريكية والدومينيكان.

كما كانت روسيا، بمقتضى الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه في 14 يوليو 2015م، هي الدولة التي استضافت كميات اليورانيوم المخصب التي زادت عما يقتضيه الاتفاق، الذي نص على احتفاظ إيران بنحو 300 كيلو جرام من اليورانيوم المخصب بنسبة 3.67% على أن يتم نقل الكمية المتبقية إلى روسيا لبيعها في الأسواق الدولية.

هنا، فإن نجاح السياسة الأمريكية-الغربية في احتواء روسيا قد يضعف موقعها ودورها كقوة داعمة لإيران. إذ أن ذلك قد يدفعها إلى تغيير حساباتها داخل سوريا. ورغم أن تصاعد حدة الحرب الأوكرانية دفع اتجاهات عديدة إلى ترجيح تراجع تأثير الحضور الروسي في سوريا بسبب انشغال موسكو بإدارة الحرب ومواجهة الضغوط والعقوبات الغربية، إلا أن ذلك أثبت أنه لا يتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض، التي تشير إلى أن روسيا ما زالت متمسكة بتعزيز نفوذها داخل سوريا وعدم تقليصه لصالح تزايد الاهتمام بالمواجهة مع الدول الغربية في الوقت الحالي.

لكن هذه السياسة لا يمكن الرهان على إمكانية استمرارها خلال المرحلة القادمة. فروسيا ما زالت منهمكة في الحرب الأوكرانية، وإلى الآن لم تنجح في تحقيق الأهداف الرئيسية التي شنت الحرب من أجلها، في الوقت الذي تبدو الدول الغربية مصرة على مواصلة تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا، على نحو يعني أن احتمال انتهاء الحرب قريبًا ما زال ضعيفاً.

هنا، فإن روسيا قد تقدم على إجراءات من شأنها إعادة صياغة سياستها في سوريا، ربما بشكل يمكن أن يتسبب في إرباك الموقف الإيراني، خاصة في ظل ترقب الأطراف الأخرى لهذه التغييرات المحتملة، على غرار إسرائيل وتركيا، اللتين تتحركان على الأرض بما لا يتوافق مع المصالح والحسابات الإيرانية.

إلى جانب ذلك، فإن نجاح سياسة الاحتواء يمكن أن ينتج تأثيرات سلبية على حسابات إيران في الاتفاق النووي. إذ أنه أياً كان المسار الذي سوف تنتهي إليه المفاوضات، فإن إيران تتوقع أن يتزايد اعتمادها على روسيا في مواجهة الضغوط الغربية التي سوف تستمر في كل الأحوال.

لكن اللافت في هذا السياق، هو أنه رغم هذه التداعيات السلبية، فإن إيران ربما تحاول الاستفادة من المواجهة الروسية-الغربية في الوقت الحالي، ومن سياسة الاحتواء التي تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية تجاه روسيا. وقد بدت مؤشرات ذلك في حرص إيران على الترويج إلى قدرتها على سد جزء من إمدادات الطاقة التي يحتاج إليها العالم في الفترة القادمة، خاصة مع اقتراب فصل الشتاء، حيث يتوقع أن تتصاعد حدة الضغوط التي تتعرض لها الدول الأوروبية تحديداً بسبب تراجع إمدادات الطاقة الروسية، فضلاً عن أن ذلك سوف يتسبب في ارتفاع أسعار الوقود في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.

وبمعنى آخر، فإن إيران رغم أهمية علاقاتها مع روسيا، تسعى إلى استغلال الأزمة التي تواجهها الأخيرة بسبب العقوبات التي تفرضها الدول الغربية عليها، سواء لتعزيز فرص الوصول إلى اتفاق نووي، أو لرفع مستوى الصادرات النفطية الإيرانية في حالة إبرام هذا الاتفاق، بما يفرض تداعيات إيجابية على الاقتصاد الإيراني الذي يواجه أزمة متفاقمة بسبب العقوبات الأمريكية.

وفي هذا السياق، قال المدير التنفيذي لشركة الغاز الوطنية الإيرانية، مجيد تشكني، في 15 مايو 2022م، أن الشركة تدرس تصدير الغاز إلى أوروبا، وأضاف على هامش فعاليات المعرض الدولي للنفط والغاز والبتروكيماويات في طهران، أن "الشركة لم تتوصل إلى نتائج لموضوع تصدير الغاز إلى أوروبا، غير أن إيران لطالما تتابع تطوير دبلوماسية الطاقة والتوسع بالأسواق".

كما أن الدعم الروسي لإيران لم يمنع اتجاهات عديدة داخل الأخيرة من التحذير من التعويل على هذا الدعم باستمرار، حيث اعتبرت أن روسيا في النهاية إنما تدعم إيران طالما أن ذلك يتسامح مع مصالحها، وأنها في لحظة معينة يمكن أن تغير سياستها في اتجاه ربما لا يتوافق بالضرورة مع حسابات إيران. وقد استندت هذه الاتجاهات إلى محاولة روسيا ممارسة ضغوط في المفاوضات النووية، عبر التهديد بإمكانية عدم القيام بدورها كـ"مستضيف" لكميات اليورانيوم التي أنتجتها إيران وستنقل إلى الخارج بمقتضى أى اتفاق نووي محتمل، وهى كميات كبيرة تزيد بنحو 18 ضعفاً عن ما يقتضيه الاتفاق النووي. ففي 7 مارس 2022م، طالبت روسيا بالحصول على ضمانات أمريكية مكتوبة بعدم تأثير العقوبات التي تتعرض لها بسبب الحرب في أوكرانيا على العلاقات التجارية مع إيران، وهو ما اعتبرته قوى عديدة، بما فيها إيران، محاولة من جانب روسيا لتعزيز موقعها التفاوضي أمام الدول الغربية باستغلال دورها في الاتفاق النووي. وقد أعلن وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، في 15 من الشهر نفسه، أن موسكو حصلت بالفعل على الضمانات التي طلبتها التي تم شملها في الاتفاقات الخاصة بإعادة إطلاق خطة العمل المشتركة "الاتفاق النووي".

  • سياسة الاحتواء الأمريكي-الغربي ضد الصين: ربما يكون الأمر مختلفاً في حالة الصين، وذلك لاعتبار أساسي يتمثل في أن الصين، على عكس روسيا، شريك تجاري رئيسي بالنسبة لإيران، إذ أنها أحد المشترين الرئيسيين للنفط الإيراني، حتى خلال فترة العقوبات الأمريكية. كما أنها وقعت مع إيران اتفاقية شراكة استراتيجية لمدة 25 عاماً، ودخلت حيز التنفيذ في 15 يناير 2022م، والتي تشمل ضخ استثمارات في قطاعات متعددة مثل البتروكيماويات والاتصالات والأمن والبنى التحتية والطاقة وغيرها. وقد نشرت صحيفة "كيهان" الإيرانية، في أول أغسطس 2022م، بيانات أصدرتها دائرة الجمارك الإيرانية، كشفت فيها أن تفعيل الاتفاقية مع الصين ساهم في زيادة صادرات النفط الإيرانية إلى الصين بنحو 8 أضعاف.

وتُعوِّل الصين على الموقع الاستراتيجي الذي تحتله إيران لخدمة مشروعها الاستراتيجي العابر للحدود "الحزام والطريق"، حيث تقع إيران على مفترق طرق مواصلات عالمية ويمكن أن تساعدها في تعزيز الترابط بين الأقاليم المختلفة مثل وسط آسيا والقوقاز، والخليج العربي، ومنطقة الشام، وأوروبا.

ومن هنا، فإن سياسة الاحتواء الأمريكي-الغربي ضد الصين يمكن أن تمثل سلاحاً ذا حدين. فإما أنها سوف تدفع الصين إلى الانشغال بمواجهة الضغوط والعقوبات الأمريكية، وبالتالي تقليص اهتمامها بتعزيز العلاقات الثنائية مع إيران، خاصة مع ظهور تقارير تشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية ربما تقدم على تنفيذ مشروع استراتيجي منافس للمشروع الصيني، أو ممارسة ضغوط على دول معنية لتقليص تعاونها مع الأخيرة في تنفيذ هذا المشروع.

ومن دون شك، فإن ذلك سوف ينتج فراغاً اقتصادياً كبيراً داخل إيران، لا سيما في القطاعات التي تُعوِّل الأخيرة على أن الصين سوف تساعدها في تحقيق طفرة بها، والتي تأثرت بشدة بالعقوبات الأمريكية. وبالطبع، فإن هذا التأثير سوف يتزايد مع الوضع في الاعتبار أن إيران تراهن بشدة على العلاقات مع الصين في إطار ما يسمى بسياسة "التوجه شرقاً"، في ظل شكوكها المستمرة في سياسات الدول الغربية، والتي ستدفعها، في الغالب، إلى العزوف عن الانخراط في شراكات تجارية ضخمة مع الدول الغربية، خشية التعرض لأزمة مماثلة لتلك التي فرضها قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي، في 8 مايو 2018م، وإعادة فرض العقوبات الأمريكية على إيران بداية من 7 أغسطس من العام نفسه، وذلك رغم أن هناك أطرافاً تدعو إلى عدم استبعاد تطوير العلاقات مع الدول الغربية بشكل تام.

لكن ذلك لا ينفي أن ثمة اتجاهات ترى أن العكس ربما يكون هو الأرجح، أى اتجاه الصين إلى تعزيز علاقاتها الاستراتيجية والاقتصادية مع إيران في إطار تحديها للعقوبات الغربية وسياسة الاحتواء التي تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية ضدها، على نحو سوف ينتج تأثيرات إيجابية على إيران من نواحٍ مختلفة.

اتجاه جديد

ربما تتمثل أهم نتائج سياسة الاحتواء الأمريكي-الغربي ضد كل من روسيا والصين في اتجاه إيران إلى تعزيز المسار الحالي الخاص بتطوير العلاقات مع دول الجوار، سواء دول آسيا الوسطى والقوقاز، أو بعض دول مجلس التعاون الخليجي، أو تركيا، إلى جانب دول في أمريكا اللاتينية وفي مقدمتها فنزويلا.

وهنا، فإن الهدف الأساسي الذي تسعى إيران إلى تحقيقه يتعلق بتوسيع هامش الخيارات المتاحة أمامها، للتعامل مع تحولات قد تطرأ على الساحة الدولية، لا سيما في ظل التصعيد الحالي بين الولايات المتحدة الأمريكية وكل من روسيا والصين، والذي يتوقع أن يتجه إلى مستويات غير مسبوقة، بسبب تفاقم الخلاف حول العديد من الملفات، وخاصة الملفين الأوكراني والتايواني.

وفي هذا السياق، يمكن تفسير اتجاه إيران إلى اتخاذ خطوات إجرائية لتحسين العلاقات مع دول الجوار. فقد رحبت بإجراء حوار مع المملكة العربية السعودية، حيث عقدت جولات خمسة بين الطرفين في العراق، وأعلن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير اللهيان، في 21 يوليو 2022م، أن "إيران مستعدة لمواصلة الحوار على المستوى السياسي لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين".

كما استمرت الاتصالات جارية بين إيران وكل من الإمارات والكويت، حيث أعلنت الإمارات، في 15 يوليو 2022م، أنها بصدد إرسال سفير لها إلى طهران. فيما قامت الكويت بالفعل، في 14 أغسطس 2022م، بتعيين سفير جديد لدى طهران. وتواصل إيران بالطبع تطوير علاقاتها مع كل من قطر وسلطنة عمان، وهما الدولتين الخليجيتين اللتين قام الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بزيارتهما، في 21 فبراير و23 مايو 2022م، وقد رد أمير قطر الشيخ تميم بن حمد على زيارة رئيسي، بزيارة طهران في 12 مايو من العام نفسه.

خاتمة:

إن ما سبق في مجمله يشير إلى أن إيران بدأت في الانتباه إلى خطورة التعويل على الدعم الروسي والصيني. صحيح أن العلاقات مع الدولتين تتوافق مع مصالح إيران في الوقت الحالي، التي ترى أن هذه العلاقات تعزز موقعها التفاوضي وتساعدها في تقليص تداعيات العقوبات الأمريكية. لكن الصحيح أيضاً أن إيران لا تستبعد أن تتغير مسارات تلك العلاقات في حالة حدوث تحولات رئيسية على صعيد العلاقات بين هذه القوى الدولية.  

وربما يمكن القول إن ثمة متغيرات رئيسية ثلاثة يمكن أن تدفع إيران إلى وضع حدود لـ"الرهان" على الدعم الروسي والصيني.

الأول، أن إيران نفسها قد تغير سياستها إزاء العلاقات مع الدول الغربية، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، لا سيما في حالة الوصول إلى صفقة نووية جديدة يرفع بمقتضاها القسم الأكبر من العقوبات الأمريكية.

والثاني، أن روسيا لن تسمح لإيران بالوصول إلى مرحلة إنتاج القنبلة النووية رغم الدعم القوى الذي تقدمه لها في الفترة الحالية في إطار مواجهة العقوبات الأمريكية.

والثالث، أن الصين تحرص على تطوير علاقاتها الاستراتيجية مع قوى عديدة في منطقة الشرق الأوسط، بعضها مناوئ لطموحات إيران النووية والإقليمية، على غرار إسرائيل ومصر ودول مجلس التعاون الخليجي.

متغيرات عديدة سوف تفرض، في الغالب، تأثيرات مباشرة على المسارات المحتملة التي سوف تتجه إليها العلاقات بين إيران وكل من روسيا والصين، وستحكم السياسة التي سوف تتبناها إيران إزاء الاحتواء الأمريكي-الغربي للدولتين خلال المرحلة القادمة.

مقالات لنفس الكاتب