; logged out
الرئيسية / دول مجلس التعاون ستكون قادرة على اغتنام الفرص الاقتصادية الناجمة عن التحولات الآنية

العدد 177

دول مجلس التعاون ستكون قادرة على اغتنام الفرص الاقتصادية الناجمة عن التحولات الآنية

الأحد، 28 آب/أغسطس 2022

من السابق لأوانه معرفة كيف ستنتهي الحرب الروسية- الأوكرانية، لكنها بلا شك ستأتي بتغييرات عدة لتكون" منعطفًا تاريخياً جديداً" على حد وصف المستشار الألماني أولاف شولتس، الذي أعلن بعد أيام من الغزو الروسي لأوكرانيا، رفع الميزانية الدفاعية بوتيرة غير مسبوقة بلغت 100 مليار يورو. وفي ضوء المتغيرات والتحديات الدولية الراهنة، لم يعد في الإمكان اعتبار التسوية السلمية للنزاعات بين الدول واحترام سيادة أراضيها وسلامتها أمر مفروغ منه أو التسليم بحدوثه تلقائيًا، بل يجب العمل بشكل جدي في سبيل تحقيق ذلك.  فلطالما كان ذلك جزءًا لا يتجزأ من آليات عمل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، واتفاقات "هلسنكي، وأطر النظام العالمي في فترة ما بعد الحرب الباردة، كما لعبت الأمم المتحدة دورًا في سبيل ضمان إدراك هذه الأهداف.  

وتحت زعامة الولايات المتحدة حاليًا، تحرك المعسكر الغربي سريعًا، من أجل بلورة رد فعل مشترك وحاسم للعدوان الروسي على أوكرانيا، إلى حد ربما حتى لم يتوقعه الجانب الروسي. فسرعان ما تم تزويد الجانب الأوكراني بأسلحة غربية متطورة شملت، صواريخ مضادة للدبابات وقاذفات الصواريخ المتعددة وطائرات بدون طيار التركية إلى جانب أنظمة دفاعية جوية معقدة وتعاون استخباراتي غربي أوكراني. وكان للمعونات العسكرية الغربية لأوكرانيا وآثارها المدمرة دور في إجبار موسكو على تعديل خططها الاستراتيجية الأولية بتغيير النظام في كييف، والتركيز عوضًا عن ذلك، على تحقيق أهداف أضيق نطاقًا مثل الاستيلاء على الأراضي الواقعة في مدينة دونباس الأوكرانية، وربما مناطق أخرى مثل: خيرسون في الجنوب أو محافظة كاركييف الواقعة شرقي البلاد.

 وتضمنت العقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا مصادرة مبالغ غير مسبوقة تقدر بنحو 300 مليار دولار أمريكي من أصول البنك المركزي الروسي في دول غربية، إلى جانب استنفار حلف شمال الأطلسي “ناتو" عبر زيادته "قوات رد الفعل السريع" من 40 ألف إلى 300 ألف جندي من أجل تعزيز جناحه الشرقي، وتفعيل قوة الردع التابعة للحلف العسكري كإجراء دفاعي ردًا على العدوان الروسي المستمر لأوكرانيا. كذلك تعد كل من السويد وفنلندا حاليًا بصدد الانضمام إلى حلف الناتو بعد عقود من عدم الانحياز، ليتضاعف بذلك حجم الحدود المشتركة بين الحلف الدفاعي وروسيا بسبب مساحة حدود فنلندا مع روسيا والبالغة 1340 كيلومترًا. وفي خطوة بالغة الرمزية أيضًا، ترك الاتحاد الأوروبي الباب مفتوحًا أمام فكرة انضمام أوكرانيا إلى صفوفه، لتعزز تقاربها من المعسكر الغربي.

في المقابل، لا تقف روسيا وحدها في مهب الريح كما يأمل الغرب، بعد أن رفضت دول مثل البرازيل وجنوب إفريقيا والهند، بالإضافة إلى دول مجلس التعاون الخليجي الانضمام للعقوبات الغربية المفروضة على روسيا. وتأتي الخطوة الأهم بعد إعلان روسيا والصين توسيع شراكتهما الاستراتيجية عشية الغزو الروسي لأوكرانيا، في أعقاب زيارة الرئيس بوتين إلى دورة الألعاب الأولمبية في بكين واصفًا العلاقات الثنائية بين البلدين بأنها "صداقة لا تعرف الحدود".

 وتفرض المعطيات الآنف ذكرها العديد من التساؤلات مثل: إلى أي مدى سيتم التقارب في العلاقات بين موسكو وبكين، وما هي المصالح المشتركة التي ينطوي عليها، وكيف سيؤثر ذلك على النظام العالمي بشكل عام. وتساؤلات أيضًا حول ملامح رد الفعل الغربي حيال التقارب الروسي الصيني وتأثير جل هذه التغيرات على دول مجلس التعاون الخليجي.

 ورغم صعوبة تحديد معالم الصورة خلال المرحلة الراهنة، أصبح في الإمكان وضع بعض السيناريوهات المحتملة وتأثيراتها على الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية.

الأثر السياسي

 تتوقف التبعات السياسية للحرب الروسية الأوكرانية على النظام العالمي على هوية الطرف المنتصر، وتعريف مفهوم الانتصار في حد ذاته، فقد تكون أجبرت موسكو على تعديل هدفها الأساسي من وراء غزو أوكرانيا لتغيير النظام، لكنها تظل قادرة على الاستحواذ على أراضي أوكرانية ذات أهمية، وضمها إلى أراضيها بقرار أحادي الجانب عبر استفتاءات زائفة.

 في الوقت ذاته، سيتكبد الجانب الروسي ثمنًا لعدوانه على الأراضي الأوكرانية بسبب العقوبات الغربية، حيث تعاني صناعة الأسلحة الروسية حاليًا تحت ضغط هذه العقوبات، التي حالت دون حصول موسكو على الماكينات الغربية والتزود بأحدث التكنولوجيا العسكرية، إلى جانب النشاط اللافت للمقاومة الأوكرانية الناشئة جنوبي البلاد.

 في السياق ذاته، تتنامى احتمالات نشوب احتقان شعبي بالداخل الروسي في ظل تصاعد أعداد الإصابات بين الجنود الروس المشاركين في الغزو الأوكراني، والذي يعد معظمهم من الأقليات الروسية غير العرقية، ويتكبدون العبء الأكبر من الحرب المستمرة.

أما عن الجانب الأوكراني، الذي نجح في إظهار ثبات معنوي حتى الآن والحفاظ على استقلالية دولته وخصوصية ثقافته، فإن حجم الضرر الاقتصادي الواقع عليه يفوق نظيره الروسي، فضلاً عن اعتماده الكبير على الدعم المادي والعسكري الغربي.  كذلك ستصبح وحدة الغرب الذي تعتمد عليه أوكرانيا مهددة بسبب استمرار استخدام نظام فلاديمير بوتين مسألة إمدادات الغاز كسلاح للضغط على دول أوروبا، لاسيما مع قرب قدوم فصل الشتاء واحتياجها لإمدادات الغاز والطاقة.  حينها ستقف دول القارة العجوز في مواجهة ضغوطًا داخلية جمة تثقل كاهلها مثلما حدث مع حكومة إيطاليا التي سقطت مؤخرًا، فيما ستواجه ألمانيا، الاقتصاد الأكبر أوروبيًا، أضرارًا بالغة إذا ما قررت موسكو قطع إمدادات الغاز بشكل مفاجئ. ومن جانبها، ستسعى موسكو إلى إشعال فتيل اضطرابات داخلية بأوروبا عبر أساليبها المعهودة باستخدام حملات معلوماتية مضللة.

وتستمر المخاوف المهددة لوحدة الغرب وتعاونه الوثيق مع الولايات المتحدة مع سيناريو قدوم إدارة أمريكية من الحزب الجمهوري أو عودة دونالد ترامب مرة أخرى إلى الحكم خلال انتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة في 2024م، وهو ما قد يؤدي إلى ضعف في الإرادة الأمريكية بشأن معاقبة الروس، وفي أسوأ الأحوال قد تلجأ الولايات المتحدة إلى إبرام صفقة مع روسيا على حساب الأوروبيين مقابل إبعاد موسكو عن فلك المارد الصيني، في ظل منافسة القوى العالمية العظمى المتصاعدة بين واشنطن وبكين.

حتى الآن، تقف بكين مترددة عن دعم موسكو بشكل صريح ومباشر، خشية مواجهة عقوبات غربية ثانوية والمجازفة بخسارة اثنين من كبريات أسواقها التصديرية سواء كانت الولايات المتحدة أو أوروبا، مقابل صداقتها مع روسيا، وعلى غرار الهند، تخدم الصين حاليًا كسوق تصديري بديل للنفط الروسي الذي تبتاعه بتخفيضات كبيرة.

 كما تدعم بكين منظمات دولية بديلة مثل منظمة شنغهاي للتعاون ومنتدى دول البريكس إلى جانب دورها البارز في مجموعة العشرين، المتوقع أن يكون اجتماعها المقرر في نوفمبر المقبل أشبه بمنصة "تتويج" للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في محاولة لإظهار "محدودية" تأثير مجموعة السبع الكبار. حيث تأثرت روسيا طويلاً من خلال سياسات مجموعة الدول الصناعية السبع سواء بتبني العقوبات الغربية أو استمرار هيمنة الدولار الأمريكي والمؤسسات الغربية على النظام المالي العالمي. لذلك ستسعى موسكو من خلال تعاونها مع بكين لإيجاد بدائل للدولار كعملة احتياطية وأداة دفع مفضلة في التجارة العالمية، وبناء عليه، ستقف العملية السياسية داخل أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن "مكتوفة الأيدي" مع احتمالات استخدام كل من روسيا والصين حقهما في الاعتراض" الفيتو.

وفي حال استمرار الغزو الروسي لأوكرانيا وضم أراضي أوكرانية للسيادة الروسية، سيتم تقويض المبادئ الأساسية للأمم المتحدة ووثيقة "هلسنكي" النهائية؛ مثل احترام السيادة وحرمة الحدود، مما قد يعيد إشعال فتيل سباق التسلح مرة أخرى خارج نطاق القوى الغربية وروسيا.

 

التغيرات العسكرية

مع بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، توقع المحللون الغربيون والروس فوزًا مضمونًا لموسكو، غير أن المقاومة الأوكرانية بدت صلبة مع استخدامها قاذفات مضادة للصواريخ مثل "جافلين" وطائرات بدون طيار التركية وصواريخ "ستينجر " المضادة للطائرات ما أثار التساؤلات حول مستقبل الدبابات والمروحيات كنظام للعتاد.

 على الصعيد الروسي، لم تكن هناك عملية فعالة للأسلحة المشتركة، ولم تتمكن القوات الجوية الروسية من تحقيق تفوق جوي.  وتحولت حملة دونباس إلى حرب استنزاف. كما اعتمد الجيش الروسي بشكل كبير على التفوق التقليدي للمدفعية وإنتاج ومخزونات كبيرة من الذخيرة. ومع ذلك، لوحظ وجود أوجه القصور في المعدات الأكثر حداثة مثل الصواريخ الموجهة بدقة.

 وتئن صناعة الأسلحة الروسية حاليًا تحت وطأة العقوبات الغربية حيث تعتمد إلى حد كبير على وارداتها من المعدات والآلات الغربية والتي يعد أغلبها ألمانية الصنع، وبالتالي فإن صور حطام الدبابات الروسية والمعدات العسكرية الأخرى التي تعرض على شاشات التلفاز ليست بأفضل حملة ترويجية لصناعة الأسلحة الروسية. بالأحرى ستسبب في تراجع الطلب على المنتجات الروسية العسكرية في الخارج، وضعف قدرات موسكو التصديرية بسبب الحاجة إلى تعويض الخسائر المحلية.

ويبقى السؤال إذا ما ستنجح صناعة الأسلحة الأوروبية في استغلال الرغبة المتجددة لدى الغرب من أجل إعادة سباق التسلح للواجهة، ومن ثم تعزير سعتها الإنتاجية المحلية من الأسلحة.  ومن أجل تحقيق ذلك سيتطلب الأمر من الدول الأوروبية خلق نافذة مركزية للمشتريات والمشروعات المشتركة العابرة للحدود، من أجل تجنب تكرار الجهود المبذولة في مختلف أنحاء القارة بما يعقد الأمور اللوجستية وتلك المتعلقة بالصيانة. وما لم يحدث ذلك، ستجد دول أوروبا نفسها غنيمة لترسانة الأسلحة الأمريكية المعروضة للبيع على الرفوف، مثلما انعكس في القرار الألماني بشراء طائرات من طراز إف ٣٥ الأمريكية والتي تأتي كخطوة ضمن خطة الدولة الأوروبية لزيادة ميزانيتها العسكرية بنحو ١٠٠ مليار يورو.

بناء تكتل اقتصادي وتفكك العولمة

لم تفلح العقوبات قط في إجبار الدول المستهدفة منها على تغيير مسار سياساتها الخارجية، بل على العكس قد تولد حالة من الاستنفار وتنامي النزعة الوطنية لدى النخب الحاكمة لهذه الدول، لذلك قد لا تستهدف العقوبات تغيير السياسات بقدر ما هو تقويض قدرات الخصم. ويظل من المستبعد إجبار الجانب الروسي على تغيير مساره تحت وقع العقوبات وحدها، غير أن حزمة العقوبات العسكرية والتقنية التي فرضها الغرب على موسكو ألحقت أضرارًا بصناعة الأسلحة الروسية التي تعتمد على استيراد الآلات الغربية وأجزاء أوروبية الصنع.

أحد الأسباب الأخرى المستهدفة من العقوبات تكمن في إبداء العزم والإرادة أمام الرأي العام المحلي والدولي لتقديم تضحيات من أجل الأهداف السياسة المرتبطة بالعقوبات المفروضة على دولة بعينها.

وبالأخذ في الاعتبار حجم الضرر الاقتصادي الناجم عن العقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي، تشير التوقعات إلى انكماش الناتج الإجمالي المحلي بنحو 8 % إلى 9 %خلال العام الجاري 2022م، ومن المتوقع أن تترك هذه العقوبات بعض الآثار الردعية دوليًا، مثل وقف خطط الصين بشأن غزو تايوان.

وتعد روسيا أكبر دول العالم من حيث المساحة، فضلاً عن إنتاجها مجموعة عريضة ومتنوعة من المواد الخام التي تخدم في مجالات الطاقة الغذاء والتصنيع العالمية. لذلك من المستبعد أن يتم عزل موسكو دوليًا بشكل كامل لاسيما فيما يتعلق بالتعاملات في قطاعات مثل النفط والذهب، وبالتالي بدلاً من منع الصادرات الروسية، لن تؤدي العقوبات إلا إلى تحويل التدفقات التجارية وزيادة تكاليف المعاملات. هذا فضلاً عن أن حجم الصادرات الروسية من النفط الخام إلى دول مثل الهند والصين وغيرها من دول آسيا فاق نظيراتها الخليجية وبأسعار تنافسية يستفيد من خلالها المشتري الآسيوي بتخفيضات كبيرة، وهو ما يمكن موسكو من انتزاع مكانة المصدر الخليجي في تلك الأسواق و إجباره على زيادة صادراته إلى الأسواق الغربية كبديل.

وعلى صعيد الغاز الطبيعي، ستكون الصورة مختلفة، فلن تجد روسيا أسواق تصديرية بديلة لتحل محل أوروبا نظرًا لاعتمادها الكبير على خطوط الأنابيب، وبرغم زيادة روسيا صادراتها من الغاز إلى الصين، لا تزال إشكالية عدم اتصال الجانبين بخط أنابيب، وهو ما جعل موسكو تفكر في بناء خط أنابيب جديد يصل بين البلدين عبر دولة منغوليا ولكن استكمال مشروع بهذه الضخامة سيستغرق أعوام طويلة. في المقابل، يسهل على دول أوروبا تطبيق حظر على الغاز الروسي عبر إغلاق خطوط الأنابيب، لكنها تخشى العواقب المترتبة على هذا القرار، نظرًا لاعتمادها الكبير على الشحنات الروسية من الغاز، فضلاً عن التبعات الاقتصادية السلبية التي قد تثير معارضة سياسية في الداخل الأوروبي.

وعلى صعيد الغذاء، شرعت روسيا منذ بداية غزوها لأوكرانيا إلى منع الصادرات الأوكرانية من الحبوب الغذائية عبر إغلاق موانئ بالبحر الأسود مثل ميناء "أوديسا"، مُهَدِدة باستخدام الحبوب وغيرها من السلع الغذائية الرئيسية لمكافأة حلفائها، حيث سبق وأن صرح وزير الزراعة الروسي ديمتري باتروشيف بأن بلاده "ستحد من صادرات القمح لتقتصر على الدول الصديقة فقط".  الأمر الذي يهدد بتقويض سمعة روسيا والثقة الممنوحة لها كمورد للحبوب الغذائية دوليًا، ويشجع الدول المستوردة على خفض اعتمادها على موسكو في هذا الصدد لاسيما دول منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، التي تعد أكبر مستورد للحبوب عالميًا.

 من جانبها، عمدت روسيا إلى تعميق علاقاتها الثنائية مع إيران، وهي دولة ذات باع طويل في التعامل مع العقوبات الغربية والتحايل عليها، كما قد تحاول الصين تعويض موسكو بعضًا من الأضرار الاقتصادية الناجمة عن العقوبات الغربية، لكنها لن تجازف بخسارة الأسواق الأوروبية والأمريكية التي تعد أكبر أسواقها التصديرية، إذا ما تم فرض عقوبات ثانوية عليها.

 من ناحية أخرى، تعد الصين حاليًا أكبر مستورد عالمي من مخزون الأعلاف الحيوانية مثل فول الصويا والذرة، ومعظمها من الولايات المتحدة وأستراليا وكندا والاتحاد الأوروبي والبرازيل. وعلى عكس روسيا، لا تتمتع الصين باكتفاء ذاتي من حيث مصادر الطاقة والغذاء وتحتاج إلى التعامل بحذر أكبر عندما يتعلق الأمر بالحرب الاقتصادية.

 أما عن دول أوروبا، فلا تقف بمنأى عن المخاطر أيضًا، فكما قالت الباحثة بمعهد بروكينجز كونستانز ستيلازين مولر "أوكلت ألمانيا مهمة دعمها أمنيًا إلى الولايات المتحدة، ولجأت إلى روسيا لسد احتياجاتها من الطاقة، ونموها الاقتصادي الراهن تقوده صادراتها إلى الصين، التي أصبحت أحد أكبر الأسواق للسيارات الألمانية والمعدات بشكل عام.

 كذلك لم تعد شحنات الغاز الطبيعي التحدي الوحيد خلال العصر المقبل في ظل انهيار العولمة وبناء تكتلات اقتصادية. ستكتسب أيضًا عمليات التحول صوب الطاقة المتجددة أهمية وإلحاحاً تحت ضغط أزمة التغير المناخي الآنية. إذ تأتي الألواح الشمسية والبطاريات وتوربينات الرياح مع احتياجات المواد الخام الخاصة بها مثل الليثيوم والكوبالت والمعادن الأرضية النادرة والنيكل. وسيحتاج الغرب إلى إدارة وتقييد اعتماده على الصين وروسيا للحصول على مثل هذه المواد الخام.

تغييرات كبيرة على قدم وساق ستلاحق ألمانيا ودول أوروبية أخرى. وستكتسب مسألة تأمين سلاسل التوريد أهمية قصوى وسيتم تطويرها ضمن إطار ذهني يضع في الاعتبار التحديات الجيوسياسية ويستهدف تقليص حجم نقاط الضعف والتهديدات التي قد تواجهها.

أثر التحولات الجيوسياسية على دول مجلس التعاون الخليجي

 قد لا تترك التحولات الجيوسياسية الراهنة أثرًا كبيرًا على دول مجلس التعاون الخليجي، التي سعت في الأعوام الأخيرة إلى تنويع علاقاتها الاستراتيجية تحسبًا لتخلي الولايات المتحدة عن المنطقة مقابل التحول صوب آسيا.

التحدي الأبرز أمام دول مجلس التعاون الخليجي سيكون الحفاظ على موقفها الحيادي وهي مهمة تزداد مع الوقت تعقيدًا وخطورة. على سبيل المثال، امتنعت دولة الإمارات العربية بصفتها عضو غير دائم، عن التصويت بمجلس الأمن لصالح قرار يدين الغزو الروسي لأوكرانيا، فضلاً عن استضافتها الرئيس السوري بشار الأسد،، حليف روسيا، بمدينة أبو ظبي في مارس الماضي.

ولعل الدوافع الكامنة وراء الموقف الإماراتي تكمن في رغبة أبو ظبي الحفاظ على الاتفاق بين دول تحالف "أوبك" النفطي وروسيا إلى جانب خلق فرص عمل لرأس المال الروسي بمدينة دبي والسعي وراء تحقيق المصالح الوطنية بشكل أكثر استقلالية بمنأى عن أية ضغوط.

 من جانبه، سيسعى الغرب إلى بلورة المصالح المشتركة في مواجهة التقارب الروسي الإيراني المتزايد، وسينظر بجدية واهتمام بالغين للتقارب القائم بين الدول الخليجية وروسيا والصين، بما في ذلك محاولة دول الخليج تنويع وارداتها والتي تعد أحدث صور التعاون السعودي ــ الصيني الأخير بشأن الصواريخ البالستية.

 كذلك يمكن لدول مجلس التعاون الخليجي الاستفادة من النمو المتوقع في أسواق الهيدروجين الأخضر والأمونيا الخضراء. حيث من المقرر حاليًا إنشاء مصنع تجريبي ذي صلة في مدينة "نيوم" المستقبلية بالمملكة العربية السعودية. ومع حاجة أوروبا الماسة لإمدادات الغاز البديل، تأتي الفرصة لدولة قطر لكي تبيع صادراتها من الغاز الطبيعي المسال إلى عملاء كثر، وربما تطمح بتوقيع عقود تسليم طويلة الأجل.

وثمة فرصة جيدة أيضًا أمام دول الخليج المصدرة للنفط في حال تم تقويض قدرات موسكو التصديرية على المدى المتوسط، تحت ضغط العقوبات الغربية المفروضة وبالتالي الاستحواذ على حصة الروس في الأسواق. وينطبق الأمر كذلك على إيران، في حال نجحت في تطوير قطاع الطاقة لديها بعد انتهاء العقوبات الغربية المفروضة.

أما عن قضايا حقوق الإنسان، فسيتم تناولها بصورة أضيق نطاقًا من قبل الغرب خلال مفاوضاته مع دول الخليج، وستصبح اليد العليا للمصالح ودبلوماسية البراجماتية الجديدة، الأمر الذي تجسد في زيارة الرئيس الأمريكي جون بايدن الأخيرة إلى المملكة العربية السعودية.

ختامًا، النظام العالمي على موعد مع تحولات جذرية نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا من شأنها تقويض القانون الدولي والأعراف التي تستند إليها منظومة الأمم المتحدة. وتعظيم التوجهات الرامية لتفكيك العولمة وإنشاء تكتلات اقتصادية، وتطوير نظرة شمولية تأخذ بعين الاعتبار الجغرافيا الاقتصادية المتعلقة بسلاسل التوريد العالمية.  وربما تحتاج دول مجلس التعاون الخليجي إلى أن تكون على دراية أكثر بالحساسيات الجيوسياسية ونقاط الضعف الخاصة بها، ولكنها ستكون قادرة في الوقت ذاته على اغتنام الفرص الاقتصادية الناجمة عن التحولات الآنية.

مقالات لنفس الكاتب