; logged out
الرئيسية / انبثقت قوة عربية صاعدة بقيادة دول التعاون ومصر يستحيل تجاهلها

العدد 177

انبثقت قوة عربية صاعدة بقيادة دول التعاون ومصر يستحيل تجاهلها

الأحد، 28 آب/أغسطس 2022

"لا يسعنا الاستمرار في معاملة خصوم الأمس كأنهم سيظلون خصوماً إلى الأبد" العبارة للدبلوماسي الأمريكي جورج كينان التي تنسب إليه نظرية الاحتواء وقد أطلقها في الأربعينيات من القرن الماضي مع نهاية الحرب العالمية الثانية محذراً من صراعٍ ومواجهة ضارية بين المعسكرين الغربي والشرقي وقد خرج كل منهما من الحرب العالمية الثانية منتصراً على دول المحور. وقد أصبحت وصفة كينان التي أطلقها في عام 1946م، للاحتواء سياسة استراتيجية للحرب الباردة. وكان هدفها تطويق اتحاد الجمهوريات السوفياتية بشبكة من التحالفات لحماية الدول الغربية. وحسب اعتقاد كينان أنه إذا أحبطت الولايات المتحدة الميول التوسعية السوفيتية لفترة كافية، فإنه يمكن التوصل إلى تسوية تفاوضية مع واشنطن. وفي مارس 1947م، وضع الرئيس الأمريكي هاري ترومان رسميا سياسة الاحتواء الأمريكية وحدد فيها ما يعرف باسم عقيدة ترومان.

وفي عام 1949م، أنشئت منظمة حلف شمال الأطلسي بوصفها الأداة الرئيسية لردع الاتحاد السوفياتي واحتوائه. وبهدف وقف انتشار الشيوعية في آسيا امتد نطاق الاحتواء ليشمل آسيا والشرق الأوسط مع تنفيذ معاهدة جنوب شرق آسيا في عام 1955م، والتي تم حلها في عام 1977م، أما معاهدة الشرق الأوسط، أو ميثاق بغداد التي شملت كلاً من المملكة المتحدة وإيران والعراق وباكستان وتركيا أقرت في عام 1955م،  وتم حلها في عام 1979م، والتي أيضا فشلت في احتواء التوسع السوفيتي الذي تمركز في مصر.

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991م، اعتبرت السياسة الخارجية الأمريكية روسيا والصين شريكين محتملين تتوافق سياستهما الداخلية والخارجية مع السياسة الأمريكية والغربية. فكانت السياسة الأمريكية داعمة في منع روسيا من الانهيار الاقتصادي ووضع سياسات تجارية موالية للصين. إلا أن الوضع لم يستمر كما أرادت له أمريكا فكان استيلاء روسيا على أوسيتيا وأبخازيا في عام 2008م، نقطة انعطاف في العلاقة وفي نفس الوقت لم يعد بالإمكان تجاهل واشنطن للقوة الاقتصادية والعسكرية المتنامية للصين. وفي ظل النظام العالمي ثنائي القطب، وصل الوفاق الصيني الروسي إلى تعاون وشراكة استراتيجية في غرب المحيط الهادئ تهدف إلى مواجهة الولايات المتحدة وتقليص سيطرتها.

ومع اندلاع الحرب الأوكرانية الروسية التزمت الصين سياسة الحياد بالرغم من الضغط الأمريكي بفرض عقوبات اقتصادية إذا استمرت في دعمها الضمني لروسيا أو ساعدت مجهودها الحربي. ولكن العوامل الجيوسياسية الأعمق والبنيوية تلعب دورًا يؤكد على استمرار تحالف الصين وروسيا وتقوية شراكتهم الاستراتيجية.

ولكن كينان هو نفسه من حذر أيضاً مع تفاقم المواجهة بين المعسكرين من أن إذلال الروس سيؤدي إلى تعزيز صعود التيارات القومية والمؤيدة للعسكرة وتأخير مسيرة الخصم نحو الديمقراطية ،غير أن الإدارات الأمريكية على تنوع الرؤساء التزمت  نظرية الاحتواء، وعندما سأل الرئيس بيل كلينتون عام 1997م، أحد مستشاريه إذا كان يجب الإصغاء إلى تحذير كينان فجاءه الجواب من أن الدبلوماسي العجوز يخطئ الظن وأن الروس سيقبلون في نهاية المطاف كل ما يفرض عليهم لأن ليس لديهم الخيار، كما ذكر أمين معلوف في كتابه "غرق الحضارات" وهكذا تحولت أوروبا الشرقية من تسع دول تدور في فلك موسكو إلى 29 دولة تتنافس على الانضمام إلى حلف الناتو، وهو ما  يفسر ولا يبرر، حرب أوكرانيا وأطلق العنان لصعود التيارات القومية والمؤيدة للعسكرة كما تنبأ كينان وهو ما برز بوضوح في ألمانيا واليابان اللتين رصدت كل منهما ميزانية فلكية وللمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية للصناعات العسكرية.

سياسة الاحتواء حادت عن مقصدها

هل توحي هذه المقدمة بأن سياسة احتواء روسيا والصين حادت عن مقاصد مؤلفها وأن احتمالات فشلها تتجاوز احتمالات نجاحاتها؟ كثيرون من المحللين يميلون إلى الاحتمال الأول للأسباب التالية:

  • احتمال أن يفقد الرئيس الأمريكي جو بايدن سيطرته على الكونجرس في الانتخابات التشريعية النصفية في نوفمبر المقبل بعد أن تدنت شعبيته، وفق الاستطلاعات، إلى ما دون أربعين بالمئة 40%, ولعل أبرز الأسباب لهذا الانحدار هو أسعار الطاقة والتضخم ما دفع مجلة إيكونيميست البريطانية إلى المقارنة بين انتصارات الرئيس الأسبق جورج بوش العسكرية وهزيمته أمام المرشح الديمقراطي المنافس بيل كلينتون. ورغم أن أغلبية الجمهوريين في الكونغرس يؤيدون حالياً سياسات الرئيس تجاه أوكرانيا فإن هذا التأييد لم يمنع أحد أعضاء الحزب الجمهوري في الكونجرس من الشكوى من أن الآباء في بلادنا يلهثون من أجل تأمين مستقبل أولادهم ويدفعون الضرائب بينما تذهب المليارات إلى الخارج" في إشارة إلى المساعدات إلى أوكرانيا التي تجاوزت 600 مليار دولار.
  • افتقاد الإدارة الأمريكية إلى سياسةٍ استراتيجية متماسكة، وهو ما بدا أخيراً في" الزيارة الطائشة وغير المبررة" للناطقة باسم الحزب الديمقراطي في مجلس النواب نانسي بيلوسي إلى تايوان رغم محاولات تبرؤ البيت الأبيض من الموافقة عليها واعتراض البنتاجون.
  • اتساع فجوة عدم الثقة المتبادلة بين الرئيس الأمريكي بايدن والرئيس الأوكراني زيلنسكي كما ذكرت نيويورك تايمز.
  • إن أشباح التضخم والركود باتت تضغط على الدول الأوروبية في حلف الناتو، خاصةً في ضوء التهديدات الروسية بقطع إمدادات الغاز عن "الدول غير الصديقة" وقد شمل هذا القطع 6 دول حتى الآن بينما الخط الرئيسي الذي يزود أوروبا بالغاز "نورد ستريم 1"ينتج 20% من طاقته. فلن تكون المعانة فقط من الركود الاقتصادي الكبير بل أيضًا الشتاء القاسي مما يهدد شعوبها أن تختار بين "التدفئة أو الغذاء" نتيجة البدء في تقنين إمدادات الطاقة، التي يترتب عليها حرمان الصناعات من الطاقة اللازمة وإغلاق المدارس خلال الأحوال الجوية السيئة بسبب نقص تدفئة الفصول الدراسية. بل قد يؤدي إلى خروج بعض هذه الدول عن الإجماع، كما حدث خلال أزمات كورونا حيث منعت دولٌ عديدة تصدير المواد الطبية خارج حدودها، وكانت ألمانيا في طليعة المهتمين برفاهية شعبها دون شعوب القارة الأوروبية. ومن المفيد هنا التذكير في تصريح أدلى به مؤخراً المستشار الألماني السابق جرهارد شرودر إثر عودته من موسكو عن "حلٍ تفاوضي" لأزمة أوكرانيا ما أثار غضب الرئيس الأوكراني. 
  • إن غالبية دول العالم مع أنها أدانت الغزو الروسي غير أنها رفضت المشاركة في فرض العقوبات التي أقرها الاتحاد الأوروبي وفي طليعة هذه الدول الصين وروسيا والهند وجنوب إفريقيا ودول مجلس التعاون، وهو ما دفع عددًا من المحللين إلى اعتبار محاولة الاحتواء الأمريكية بوصفها "أنها حرب أمريكية" وبأن بايدن "يعاقب روسيا وأوروبا معاً" كما استنتجت إحدى الصحف الغربية.
  • أن تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي مع تقليص العولمة وتجزئتها يشكل تبعات سلبية لمعظم دول العالم قد ترفع معدلات الفقر وتؤجج لصراعات أهلية، مثل هذه الدول قد تتجه للاصطفاف مع الصين نظرًا لاستثماراتها الضخمة في مناطق مثل إفريقيا وأمريكا اللاتينية. كما قد تؤدي إلى تكرار نسخة جديدة من الربيع العربي يترتب عليها المزيد من عدم الاستقرار والإرهاب وزيادة اللاجئين في الدول الأوربية.
  • صعوبة الردع العسكري خصوصًا في حالة التهديد باستخدام الأسلحة النووية حيث لم تعد الصراعات في هذه المناطق تتوقف عند مستوى الحرب التقليدية لأنه ليس هناك خطوط واضحة وفاصلة بين الشرق والغرب "ففي بحر الصين الجنوبي وغرب المحيط الهادئ كثيرًا ما تختلط السفن الأمريكية والصينية" كما ذكر Burrows.

الصين والحرب الباردة

إن التقدم التكنولوجي السريع والموقع المتقدم في النظام الاقتصادي العالمي وسيطرتها على سلاسل التوريد، والتجارة الدولية، وسعيها لتشكيل نظام دولي من خلال مبادرة الحزام والطريق، جعلت الإدارة الأمريكية تعتبر الصين خصمًا استراتيجيًا مهددًا لأمنها القومي، وارتأت ضرورة افتعال حرب باردة أخرى في علاقاتها معها. فوفقًا للبنك الدولي، كان الناتج القومي الإجمالي للولايات المتحدة 6.158 تريليون دولار أكثر من 16 ضعف نظيره في الصين البالغ 383,373 مليار دولار في 1991م. وبحلول 2013م، بلغ الناتج المحلي الإجمالي للصين أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة (9.57 تريليون دولار مقابل 16.785 تريليون دولار). وفي عام 2019م، أصبح ما يقارب من 70٪ (14.343 تريليون دولار مقابل 21.374 تريليون دولار).

ولم تكتف أمريكا بتبني حرب تجارية وجمركية وفرض حظر على السلع الصينية، وتكنولوجيا الهاتف المحمول 5G، بل سعت إلى الضغط على حلفائها من أجل الحد من تعاونهم مع الصين. وشكلت تحالف مع أستراليا في 2021م، يركز على تطوير شبكة واسعة لتبادل المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز التعاون العسكري والتقني، ونقل التكنولوجيا بين الدول الأعضاء بهدف إعادة التوازن إلى آسيا من خلال "مبادرة المحيطين الهندي والهادئ"، والتي يعتبرها الصينيون محاولة لتكرار الأزمة الأوكرانية في منطقة آسيا وتهدف إلى "تشكيل البيئة الاستراتيجية التي تعمل فيها الصين واختبار الخط الأحمر للصين"، بإثارة مسألة تايوان والتي قد يترتب عليها عواقب "وخيمة تدفع آسيا والمحيط الهادئ إلى حافة الهاوية". (Le Yucheng). ضمن هذا السياق ينظر العديد من الاستراتيجيين الصينيين إلى الولايات المتحدة باعتبارها منافسًا عسكريًا مباشرًا وخصمًا لا يريد أن يرى الصين قوية مما يدفع الصين إلى بناء قدرات توازن استراتيجية في مجال الردع النووي والفضائي والجوي، "حتى لو أدى ذلك إلى سباق تسلح مكثف".

دول الخليج: التعامل مع الاحتواء والخيارات

لم تكن العلاقة الخليجية الصينية في الفترة السابقة تتعدى العلاقات التجارية والتعاون الاقتصادي والتقني وسوقًا رئيسية للصادرات النفطية.  ففي عام 2021م، ساهمت السعودية بـ 17% من واردات النفط الصينية وحصلت قطر على صفقات طويلة الأجل للغاز الطبيعي بلغت قيمتها 762 مليون دولار في 2021م، كما أن تفوق الصين في المجالات التكنولوجية المتقدمة، مثل الذكاء الاصطناعي وشبكات الجيل الخامس 5G، وتحليل البيانات الضخمة عمق علاقتها مع الدول الخليجية رغم محاولات الولايات المتحدة فرض القيود على شركات التكنولوجيا الأمريكية المتخصصة في تصنيع أشباه الموصلات والبرامج وأنظمة التشغيل لمنعها من التعامل مع الصين. وفرضت المزيد من القيود على تصدير التقنيات الخاصة بالذكاء الاصطناعي والروبوتات.

وتذكر Abu Shanif المخاوف الأمريكية تتركز في النجاحات التي حققتها الصين في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الرامية إلى تطور أشكال جديدة من التعاون الصيني الشرق أوسطي تجمع بين التقنيات الإسرائيلية، والتمويل الإماراتي والسعودي، والبنية التحتية الصينية، مما يعرض المصالح الأمريكية للخطر، خصوصًا في حالة استخدام الدول الخليجية هذه المخاوف للمساومة من أجل تحقيق بعض المكاسب العسكرية والتقنية.

ورغم قوة الصين الاقتصادية إلا أن قوتها العسكرية لا تزال ضعيفة نسبيا، لذلك فإنها تسعى إلى تعزيز قدراتها العسكرية والتعاون مع القوى الأخرى للتعامل مع الاحتواء الأمريكي بشكل أكثر فعالية. ويبدو ذلك في تطوير علاقتها مع دول المجلس في مجال التعاون الاقتصادي والتكنولوجي وتوسيع فرص التعاون العسكري خصوصًا في أعقاب قرار واشنطن خفض التزاماتها العسكرية في الشرق الأوسط وانسحابها من أفغانستان. وتنظر دول المجلس إلى أن مثل هذا التعاون سيساعد في توسيع خياراتها وتجاوزها التعاون الحصري مع أمريكا ضمانًا لأمنها القومي والإقليمي.

إن حصة الصين من الأسلحة الموردة إلى دول الخليج لا تزال ضئيلة مقارنة بمصادر الأسلحة التقليدية الأخرى، إلا أن رغبة الصين في تعزيز علاقاتها العسكرية مع دول الخليج زادت من قلق واشنطن، خصوصًا مع تواتر التقارير التي تؤكد على اتجاه الصين إلى المجال العسكري والأمني الخليجي مما ترتب عليه زيادة مبيعات الأسلحة، وتصنيعها، وتوفير التدريبات العسكرية، وبناء المنشآت العسكرية وأجهزة جمع المعلومات الاستخبارية. وقد زعمت التقارير أن الرياض اشترت صواريخ صينية في 2019م، والعديد من الطائرات بدون طيار وزادت من تعاونها في مجال الطاقة النووية وتكنولوجيا المراقبة وشبكات 5G والذكاء الاصطناعي، بل إنها تسعى إلى تطوير صواريخ باليستية بمساعدة الصين. مما رفع الصادرات الصينية من الأسلحة إلى السعودية من 35 مليون دولار خلال 2011 و2015م، إلى 170 مليون دولار خلال 2016-2020م، وارتفعت الصادرات إلى الإمارات من 45 مليون دولار إلى 121 مليون دولار خلال نفس الفترة. وزودت الصين قطر بنظام الصواريخ الباليستية قصيرة المدى والتي تعد من المبيعات العسكرية الهامة. وفي حين أنه لا يمكن مقارنة هذه القيم بالمبالغ الضخمة المخصصة لاستيراد الأسلحة الأمريكية، لكنها يمكن أن تلمح إلى تعاون عسكري متزايد بين الصين والدول الخليجية. ويرى البعض أن المخاوف الأمريكية بشأن نمو التعاون الاستراتيجي بين الصين ودول الخليج هو وسيلة ضغط على الولايات المتحدة للنظر في مصالح المنطقة ضمن ترتيبات دورها الجديد.

وبالرغم من تزايد حدة التوترات بين الولايات المتحدة والصين، يبرز منظور جديد للعلاقات بين الشرق الأوسط وآسيا ويقدم فكرة تعاون تركز على الاقتصاد الأزرق الذي يعني بإدارة المحيطات والبحار بطرق مستدامة بيئيًا. ويهدف إلى معالجة العديد من القضايا الهامة مثل التحول إلى اقتصاد قائم على المعرفة، وتغير المناخ، والأمن الغذائي، والتعاون الاقتصادي لتوسيع نطاق الاتصال الإقليمي والعالمي. وقد وقعت دولة الإمارات من خلال شراكاتها في I2U2 مع كل من الهند وإسرائيل والولايات المتحدة على اتفاقيات شراكة اقتصادية شاملة خلال النصف الأول من عام 2022م، وتتفاوض على اتفاقيات مماثلة مع ست دول أخرى.

ترتيبات جديدة للأمن والتعاون على مستوى العالم

لقد فرضت الأزمة الأوكرانية تحديات جديدة على إدارة الأمن العالمي. وبدأت معالم حرب باردة جديدة أبرزت ترتيبات أمنية تستهدف الدعوة إلى تعزيز الأمن والتعاون العالمي، فمثلاً الصين قدمت في مبادرة الأمن العالمي تصورًا حول مفهوم الأمن الذي يحتاجه العالم يرمي إلى إنشاء هيكل أمني متوازن وفعال ومستدام يحقق الأمن المشترك ويوفر نهجًا جديدًا للقضاء على الأسباب الجذرية للصراعات الدولية ويعزز الاستقرار والأمن الدائمين في العالم ضمن تصور مشترك، يؤمن بأن كافة دول العالم ذات مستقبل مشترك وأن أمنها غير قابل للتجزئة وأن التعايش السلمي هو المسار الذي يجب اتباعه. 

على الجانب الآخر فإن الولايات المتحدة أشارت إلى أن السياسة الضامنة لمواجهة التحديات الجديدة والمهددة للأمن الأمريكي والدولي هي تلك التي تعني بمراقبة الأسلحة ونزع انتشارها مع حوكمة قطاع الأمن والتعاون الأمني والأمن التقني والمصالح التكنولوجية والعسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة وحلفائها، والهادفة إلى تعزيز وحماية الصناعة النووية الأمريكية وتعزيز التحالفات والشراكات القائمة والجديدة. وأكدت على تعزير الثقة في دور "أسرة تي" التي جمعت ثلاث إدارات مركزية شملت كل من مراقبة الأسلحة والتحقق من مواصفاتها، والأمن الدولي وعدم الانتشار، والشؤون السياسية والعسكرية.

واعتبر حلف الناتو من خلال وثيقته الجديدة التي تتماشى مع المصالح الأمريكية أن روسيا تحولت إلى "أكبر تهديد مباشر" للناتو. وأن الصين لم تعد "شريكاً ودياً وقاعدة تصنيعية"، بل أصبحت تمثل "تحدياً لأمن الحلف ومصالحه وقيمه". الوثيقة حتما لها تداعيات على العلاقات بين أوروبا وروسيا والصين، تقوض فرص التعاون المستقبلي المحتمل بين الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة ونظيرتها الشرقية بقيادة روسيا والصين (مركز الإمارات للسياسات). 

عالم متعدد الأقطاب 

تبرز التطورات الجديدة الناتجة من الحرب الروسية الأوكرانية أننا سنواجه عالمًا متعدد الأقطاب يفتت النظام السائد ويخلق كتلة جديدة تؤمن بالحياد وعدم الانحياز، فعلى سبيل المثال فإن كلا من الهند والسعودية والإمارات وفيتنام ومصر وتركيا والبرازيل وغيرها، رغم تأثرها بالتداعيات الاقتصادية للحرب إلا أنها رفضت زيادة إنتاج النفط وفرض عقوبات على روسيا، بل أن بعضها قبل تداول النفط مع الصين باليوان، والدفع لروسيا بالروبل.

إن نظرية الاحتواء في جوهرها تعتمد على الاقتصاد بشكلٍ رئيسي وبالتالي فإن عالم ما بعد سقوط العولمة بقيادة الولايات المتحدة يتجه نحو أن يكون عالم متعدد الأقطاب حيث تسعى كل كتلةٍ اقتصادية لتستقطب أكبر عدد من الدول بما يكاد يشكل نموذجاً للحرب الباردة التي سبقت انهيار الاتحاد السوفياتي أي قيام كتلة شرقية بقيادة الصين وروسيا وكتلة غربية بقيادة أمريكا وكتلة ثالثة تتبنى مصالحها وهذه الكتلة أقرب إلى دول الانحياز الايجابي وهي ليست محكومة بالأيديولوجيات بل بالمصالح الوطنية لشعوبها وهي أقرب إلى أن تشكل "قومية اقتصادية" وأبرز نموذج لها هو دول مجلس التعاون.

وهنا من المفيد أن أتوقف عند هذه المحطة التاريخية التي تعيشها دول الخليج، فقبل حوالي عقد من الزمن، ومع انهيار أحلام "الربيع العربي" باتت القناعة التي تتردد في الدوائر الدبلوماسية والسياسية، وعلى أعلى المستويات، هي أن خارطة جديدة للشرق الأوسط قيد الإعداد، تساهم في رسمها القوى العظمى وتعتمد على ثلاث قوى إقليمية هي تركيا وإيران وإسرائيل، مع التغييب الكامل للدول العربية. 

ولكن ما حدث خلال العقد الأخير من هذا القرن يكاد يكون أقرب إلى المعجزة، فقد انبثقت قوة عربية صاعدة من ركام الهزائم التي مني بها العالم العربي منذ هزيمة 1967م، وفرضت نفسها بقيادة دول مجلس التعاون ومعها مصر ودول أخرى كقوة إقليمية يستحيل تجاهلها في رسم خرائط وسياسات المنطقة، وكانت البوصلة التي اعتمدتها هي مصالح شعوبها أولاً وأخيراً، أي سياسة التوازن في العلاقات مع المحاور الاقتصادية والسياسية التي هي في طور التشكيل على مستوى العالم كله، وليس منطقة الشرق الأوسط وحدها. وعندما أشير إلى العلاقات المتوازنة التي نسجتها هذه القوة أطرح نموذجاً لتطوير العلاقات الاقتصادية مع الصين وروسيا وأوروبا وباقي دول آسيا وإفريقيا وآخر هذه النماذج هي العلاقة مع تركيا واليونان في وقتٍ واحد، وكما هو معروف، فإن ما بين أنقرة وأثينا يكاد يكون عداءً تاريخياً ماضياً وحاضراً ومع ذلك فقد نجحت الإمارات  في بناء علاقات وثيقة مع تركيا والاتفاقات التي عقدتها معها بما يتجاوز عشر مليارات دولار، ثم زيارة ولي عهد المملكة السعودية الأمير محمد بن سلمان إلى أثينا وما انبثق عنها من اتفاقات تاريخية، تكشف أن هذه القوة العربية الصاعدة هي القاعدة في تقرير مصير المنطقة وليست الاستثناء.

ويمكن الختام بالقول إن العالم بحاجة إلى اتفاقية جديدة للأمن والتعاون على غرار اتفاقية هلسنكي التي قدمت مجموعة من الالتزامات والمبادئ السياسية، والتي من أهمها الامتناع عن استخدام القوة وحرمة الحدود والسيادة الوطنية وضمان أمن وسلامة المعابر الإقليمية والحرص على التسوية السلمية للمنازعات مع عدم التدخل في الشؤون الداخلية وتعزيز التعاون الدولي. وحيث أن دول الخليج تتعرض لتهديدات أمنية ونووية وأنها بحاجة إلى ضمان أمن ممراتها ومعابرها الإقليمية فإنها حتما ستستفيد من اتفاقية أمنية جديدة تضمن حقوقها وسلامة سيادتها خصوصًا إذا كانت مبادئ مثل هذه الاتفاقية ملزمة لكافة الأطراف. ومن أجل دعم تعددية الأطراف والتضامن الدولي، فإن العالم بحاجة إلى اتفاقية تلبي التطلعات المشتركة لجميع الدول للتغلب على الأزمات المتلاحقة التي يمر بها العالم على الجبهات المالية والتجارية والطاقة والأغذية والصناعة وسلاسل التوريد. والعالم بحاجة إلى بناء سلام أكثر دوامًا واستقرارًا يستوعب ويراعي مصالح جميع الدول ويسعى إلى إيجاد حلول توافقية طويلة المدى لجميع الاختلافات. فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي حذر المحللون من أن التعامل مع تداعيات الحرب الباردة” مهمة شاقة" تحتاج إلى "رؤية جيوسياسية بعيدة المدى" وعلى واشنطن أن "تتعلم أن تكون قوة وليست قوة عظمى".

مقالات لنفس الكاتب