; logged out
الرئيسية / التصعيد لاحتواء الخصوم يقود للكوارث كما حدث في ڤيتنام والعراق وأفغانستان

العدد 177

التصعيد لاحتواء الخصوم يقود للكوارث كما حدث في ڤيتنام والعراق وأفغانستان

الأحد، 28 آب/أغسطس 2022

   دار الزمان دورته ليجد التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة نفسه مجدداً في مواجهة مزدوجة مع روسيا والصين معاً، ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية واتضاح معالم الصراع الجديد والحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي نجحت الثورة الشيوعية في الصين بدعم سوڤيتي كامل لتزيد من هواجس التحالف الغربي، ثم جرت مياه كثيرة في نهر العلاقات الغربية بالاتحاد السوڤيتي والصين فتقاربت الولايات المتحدة مع الصين إبان نزاعها مع الاتحاد السوڤيتي في أواخر خمسينات القرن الماضي فيما استمر عداؤها له، وفي السبعينات شملت التهدئة والتقارب الجانبين معاً لاعتبارات واقعية، ثم تغيرت العلاقات جذرياً مع الاتحاد السوڤيتي باتجاه الوفاق في ظل قيادة ميخائيل جورباتشوف ثم شبه التبعية بعد تفكك الاتحاد السوڤيتي، فيما لم تخل العلاقات مع الصين من أزمات بسبب الاتهامات الغربية لها بانتهاك حقوق الإنسان، أو بسبب استمرار تداعيات قضية تايوان على العلاقات، وثالثة بسبب التوجهات المتشددة لبعض الرؤساء تجاه الصين وآخرهم ترامب، ومن ناحية ثانية عادت الندية ثم التوتر إلى العلاقات الغربية وبالذات الأمريكية مع روسيا بعد وصول بوتين إلى سدة الرئاسة واستعادة قوة روسيا وحضورها الدولي، وهكذا تباين مسار العلاقات الغربية عامة والأمريكية خاصة مع كل من الصين والاتحاد السوڤيتي إلى أن عادت الأمور سيرتها الأولى في الآونة الأخيرة في ظل مواجهة أمريكية بالذات وغربية بصفة عامة مع كل من روسيا والصين، وتبحث هذه المقالة في جذور المواجهة الراهنة وأبعادها وتحاول استشراف آفاقها المستقبلية.

 

تأملات في الاحتواء الأمريكي الغربي لروسيا والصين

 

أولاً- الجذور: بدأت سياسة "الاحتواء" في أعقاب الحرب العالمية الثانية لمنع انتشار الشيوعية كرد فعل لتوسع النفوذ السوڤيتي في أوروبا الشرقية بعد الحرب استناداً إلى الدور الرئيسي الذي قام به الاتحاد السوڤيتي في حسم الحرب لمصلحة الحلفاء، واستُخدم مصطلح "الاحتواء" لأول مرة في تقرير قدمه الدبلوماسي الأمريكي جورج كينان إلى وزارة الدفاع إبان رئاسة هاري ترومان، وقد كان المظهر الأول والرئيسي لهذه السياسة هو تأسيس حلف الأطلنطي١٩٤٩م، من١٢دولة تضمنت٣أعضاء دائمين في مجلس الأمن هم الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وبعد تأسيس الحلف جرت محاولات لتوسيع نطاق سياسات الاحتواء عالمياً، فتم في آسيا توقيع معاهدة جنوب شرق آسيا للدفاع الجماعي في سبتمبر١٩٥٤م،وضمت بالإضافة إلى الدول الثلاث الغربية ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن كلاً من استراليا ونيوزيلندا وباكستان والفلبين، و عانت هذه المنظمة من عدم الفاعلية فلم يُنسب  لها أي تدخل جماعي في الأزمات التي واجهت التحالف الغربي بقيادة أمريكا وعلى رأسها الحرب في ڤيتنام بما ألجأ واشنطن أحياناً للتدخل المنفرد كما حدث في لاوس١٩٦٢م، وڤيتنام كما سبقت الإشارة، وفيما بعد تم حل الحلف أصلاً في١٩٧٧م، نتيجة الخلافات بين رؤى الأعضاء ، والأهم التطورات التي شهدتها العلاقات الدولية وبالذات تنامي القوة السوڤيتية وما أدى من بوادر انفراج بين القوتين العظميين في مطلع سبعينات القرن الماضي، ما أفضى لاحقاً إلى التوصل لاتفاقية هلسنكي١٩٧٥م، بما قوض منطق سياسات الاحتواء أصلاً.

 

   وإذا كان امتداد سياسات الاحتواء الأمريكية إلى آسيا اتسم بعدم الفاعلية ثم الفشل فإن محاولات الامتداد إلى الشرق الأوسط بكل أهميته الاستراتيجية في الصراع الدائر بين القطبين الأمريكي والسوڤيتي قد مُنيت بالفشل، ففي١٩٥١م، وافقت الولايات المتحدة وبريطانيا على إنشاء ما سُمي بقيادة الشرق الأوسط، غير أن المشروع أُجهض في مهده بسبب اعتراض الحكومة المصرية الوفدية آنذاك على أساس أنها لم تكن شريكاً في أي مشاورات سبقت إعلان تأسيس هذه القيادة، وكانت هذه إشارة مبكرة لموقف مصري وعربي مناهض لسياسات الأحلاف الغربية ذات الأهداف المتسقة مع مصالحها دونما اعتبار لمصالح شعوب المنطقة، وتكررت المحاولة في مشروع حلف بغداد١٩٥٥م، وكانت الدوائر الأمريكية قد فاتحت القيادة المصرية بعد ثورة يوليو١٩٥٢م، في الانضمام لهذا الحلف فلم تجد سوى الإجابة التي سبق أن قدمتها الحكومة الوفدية في١٩٥١م، فالخطر الأساسي على الأمن المصري والعربي ليس الاتحاد السوڤيتي ولكنه خطر قابع على الحدود، ولجأت الدوائر الأمريكية آنذاك إلى حلقة عربية أضعف ذات علاقات عضوية مع الغرب وهي النظام العراقي آنذاك فتم إعلان "ميثاق بغداد" بين العراق وتركيا العضو في الناتو، وكان مخططاً له أن يضم إيران بالإضافة إلى أمريكا وبريطانيا ودول عربية أخرى، غير أن مصر أطلقت بالتحالف مع السعودية حملة دبلوماسية وإعلامية ضخمة ترتب عليها أن دولة عربية واحدة غير العراق لم تنضم للحلف، بل إن العراق نفسه انسحب من الحلف في١٩٥٩م، بعد ثورة يوليو١٩٥٨م، وفي أعقاب العدوان الثلاثي على مصر١٩٥٦م، وانسحاب القوات المعتدية أعلن الرئيس الأمريكي دوايت إيزنهاور في١٩٥٧م، مبدأه الذي عُرِف في المنطقة باسم "مشروع أيزنهاور"، وأساسه أن انسحاب القوات البريطانية والفرنسية من المنطقة سوف يخلق فراغاً يمكن أن تملأه الشيوعية الدولية، ولذلك فإن أمريكا حاضرة بالمساعدات الاقتصادية والعسكرية لمواجهة هذا الاحتمال، وجرى سيناريو مشابه للتطورات التي أعقبت إعلان "ميثاق بغداد" انتهى بمشروع أيزنهاور إلى المصير نفسه.

 

   وهكذا فإنه إذا كانت الدول الغربية الكبرى بقيادة أمريكا نجحت في تأسيس حلف الناتو كإطار تنظيمي للقوى المعادية للشيوعية والمعسكر الاشتراكي فإن محاولاتها خارج النطاق الأمريكي والأوروبي باءت بالفشل في منطقة الشرق الأوسط ثم انتهت إلى المصير نفسه في آسيا ، بل إن حلف الأطلنطي نفسه عانى من انقسامات بلغت ذروتها بسياسات الرئيس الفرنسي شارل ديجول الذي انسحب من اللجنة العسكرية للحلف١٩٦٦م، غير أن الأهم أن الواقعية قد فرضت نفسها على مسار الأحداث، فقد نجح الاتحاد السوڤيتي في تطوير قوته العسكرية إلى حد التوازن العسكري الاستراتيجي الكامل مع أمريكا، وكان خرج من الحرب العالمية الثانية بقوة عسكرية تقليدية متفوقة على القوات الغربية في أوروبا، غير أن أمريكا تفوقت عليه بامتلاك القنبلة الذرية التي حسمت المعركة مع اليابان في١٩٤٥م، فتوصل إلى أسرارها في١٩٤٩م، ثم سد النقص في قدرته على توصيلها إلى أهدافها بإطلاقه قمراً صناعياً في مدار حول الأرض في إشارة لامتلاكه صواريخ عابرة للقارات يمكنها توصيل أسلحته الذرية لأي مكان على سطح الأرض، وهكذا تبلور بالتدريج توازن عسكري استراتيجي مع الولايات المتحدة جعل الحرب المباشرة بينهماً مستحيلة بالإضافة إلى نجاحه في كسر طوق الاحتواء من خلال علاقات وثيقة مع قوى إقليمية مهمة.

 

   وهكذا بات واضحاً أن سياسات الاحتواء فشلت وأصبح مسرح الحرب الباردة مهيأً لتغيرات جذرية فبدأت أولى بوادر الانفراج فيها في مطلع سبعينات القرن الماضي، بالتوصل في١٩٧٥م، إلى اتفاقية هلسنكي التي ساهم في التوصل لها بالإضافة لما سبقت الإشارة إليه اتساع العلاقات السياسية بين دول الكتلتين، ومن الممكن القول بأن اتفاقية هلسنكي كانت دليلاً على خطأ سياسات المواجهة أو على الأقل تقويض مقوماتها، ومن ثم مؤشراً على بدايات النهاية للحرب الباردة بما تضمنته من مبادئ جديدة للعلاقات في أوروبا وأهمها المساواة واحترام السيادة الوطنية لكل دولة وحصانة حدودها وسلامتها الإقليمية، وحل الخلافات بالطرق السلمية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول واحترام حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وترسيخ التعاون الدولي واحترام ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي.

   وبعد عقد واحد من توقيع اتفاقية هلسنكي وصل ميخائيل جورباتشوف إلى قمة السلطة في الاتحاد السوڤيتي بسياسات جديدة يعنينا منها شقها الخارجي الذي غير تكييف العلاقة بين المعسكرين من علاقة صراعية إلى تعاونية من خلال شعاره "عالم واحد أو لا عالم"، وفي عهده تحول "الانفراج" إلى "وفاق"، وتم تحقيق تقدم حقيقي في محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية، وتسوية نزاعات إقليمية، ثم انتهى حكمه بزلزال استراتيجي تفكك الاتحاد السوڤيتي بموجبه، ومن الصعوبة أن يُنسب هذا النجاح للمعسكر الغربي وبالذات أمريكا لسياسات الاحتواء لأن اتفاقية هلسنكي كانت إعلاناً لفشلها، كما أن ثمة أسباباً يمكن أن يُرد إليها ذلك التفكك كبنية النظام السوڤيتي ذاته وسياسات جورباتشوف نفسها، والسلوك السوڤيتي الخارجي كما في التورط في حرب أفغانستان، وحتى لو كان التفكك راجعاً لسباق التسلح الذي يُقال أن الرئيس الأمريكي ريجان قد دشنه لإنهاك الاتحاد السوڤيتي، أو لعمليات تخريب سياسي قامت بها المخابرات الأمريكية كتأجيج الشعور القومي في بعض الجمهوريات السوڤيتية فإن هذا لا علاقة له بسياسة الاحتواء، ومرت روسيا بعد هذا التفكك بعقد كامل من شبه التبعية للغرب في ظل رئاسة يلتسين خاصة وقد تكفل سوء الإدارة والفساد بتقويض الكثير من مقومات القوة الروسية حتى وصل بوتين إلى الرئاسة في٢٠٠٠م، فأجرى عمليات تصحيحية أفضت إلى تصحيح الخلل الذي وقع في بناء القوة الروسية الشاملة واستعادة الحضور الروسي الدولي بالتدريج سواء في الفضاء السابق للاتحاد السوڤيتي أو خارجه، وحقق في هذا الصدد نجاحات لافتة، وحاول في الوقت نفسه التوصل إلى ترتيبات لتنظيم العلاقة بين روسيا وحلف الأطلنطي تتسق وروح هلسنكي، غير أن الشهوة الأمريكية لتوسيع حلف الأطلنطي طغت على ما عداها من اعتبارات حتى ضم الحلف كافة الأعضاء السابقين في "حلف وارسو" ، بل ضم الحلف جمهوريات البلطيق الثلاث التي كانت ضمن الاتحاد السوڤيتي، وتم رفض كل محاولات بوتين لتنظيم علاقة روسيا بحلف الأطلنطي، وعندما وصل الأمر إلى الحديث عن ضم أوكرانيا ذات الوضع الخاص تاريخياً بالنسبة لروسيا وفي وقت شعر فيه بوتين بقدرته على تغيير الوضع القائم الذي كان بمثابة تطويق كامل لروسيا كان المسرح قد تهيأ تماماً للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.

 

   أما بالنسبة للصين فلم تكن المسألة محاولة للاحتواء وإنما حالة إنكار، فقد انتصرت الثورة الشيوعية فيها في١٩٤٩م، وهو أسوأ توقيت ممكن للولايات المتحدة التي كانت معاناتها من توسع النفوذ السوڤيتي قد بدأت وتصاعدت بالفعل، وزاد الطين بلة الدعم السوڤيتي الكامل للنظام الشيوعي الجديد في بكين، وهكذا اختارت السياسة الأمريكية أن تعترف بحكومة تشانج كاي شيك الذي كان قد هرب إلى جزيرة فورموزا التابعة للصين وتتعهد بحمايتها في تناقض مطلق مع الصين الشيوعية التي تعتبر ما سُمي بالصين الوطنية (تايوان فيما بعد) جزءاً لا يتجزأ من أراضيها، ووقفت الولايات المتحدة بالمرصاد لدخول النظام الشيوعي الصيني الأمم المتحدة بحيث ظلت تايوان تمثل الصين فيها حتى١٩٧١م، حين تمت الموافقة على أن يكون النظام الشيوعي في بكين الذي يمثل٩٨٪من سكان الصين هو ممثلها في الأمم المتحدة، وكان هذا يعني أن تبقى تايوان خارجها للأبد طالما أن الصين باعتبارها عضواً دائماً في مجلس الأمن تملك حق الاعتراض على قبول أي عضو جديد في الأمم المتحدة.

 

   والواقع أن تطور العلاقات الأمريكية-الصينية مر بتطور مشابه من حيث الجوهر للعلاقات الأمريكية-السوڤيتية، فبينما تطورت هذه الأخيرة من المواجهة في مرحلة الحرب الباردة إلى الانفراج فالوفاق بناءً على اعتبارات واقعية تطورت العلاقات الأمريكية-الصينية من إنكار وجود النظام الشيوعي أصلاً إلى التقارب معه بعد تفاقم النزاع الصيني-السوڤيتي في أواخر خمسينات القرن الماضي أملاً في استغلال هذا النزاع لتقويض الوضع السوڤيتي، وكما فرض الاتحاد السوڤيتي وكتلته الشيوعية على الكتلة الغربية التعامل معه منذ مطلع سبعينات القرن الماضي وبالذات من خلال اتفاقية هلسنكي١٩٧٥م، فإن النظام الشيوعي الصيني بدوره فرض وجوده دولياً بحيث دخل الأمم المتحدة ممثلاً وحيداً للصين في١٩٧١م، بموافقة أمريكية، وتطورت العلاقات الصينية-الأمريكية بعد ذلك في مسار تعاوني بصفة عامة، فزار الرئيس الأمريكي نيكسون الصين١٩٧٢م، وصدر "إعلان شنغهاي" عن الزيارة الذي تضمن الموافقة الأمريكية على مبدأ الصين الواحدة، وفي عهد الرئيس كارتر تم الاتفاق على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين اعتباراً من يناير١٩٧٩م، وإنهاء الولايات المتحدة علاقتها مع تايوان، وكذلك اتفاقية الدفاع المشترك، وعلى الرغم من أن الرئيس ريجان انتقد موقف كارتر من الصين وسعى لزيادة مبيعات الأسلحة الأمريكية لتايوان مما أغضب الصين إلا أنه زارها في١٩٨٤م، وكان لافتاً أن نتائج الزيارة شملت توقيع اتفاقية للاستخدام السلمي للطاقة النووية، وهو ما يماثل شكلاً من أشكال التعاون الاستراتيجي.

 

   ورغم هذا المنحى العملي الإيجابي لتطور العلاقات الصينية-الأمريكية فقد ظلت عرضة للتذبذب وحدوث أزمات من حين لآخر بسبب عوامل منها قضية حقوق الإنسان كما في أحداث ميدان السلام السماوي١٩٨٩م، التي أعلن الرئيس جورج بوش بعدها إجراءات عقابية للصين كوقف الزيارات الرسمية وجميع الصفقات التجارية، ومنها مشكلة تايوان التي تفجرت في سياقها أزمة حادة من يوليو١٩٩٥م، إلى مارس١٩٩٦م، عُرِفَت بأزمة مضيق تايوان وتمثلت في مناورات عسكرية وسلسلة من التجارب الصاروخية أجرتها الصين في  مياه تايوان كتحذير لحكومتها الجديدة التي اعتبرت الصين سياساتها مخالفة لمبدأ الصين الواحدة، وردت الولايات المتحدة بدوريات مراقبة واستطلاع من قِبَل قواتها البحرية مما هدد بوقوع احتكاكات عسكرية، كما وافق الرئيس كلينتون على زيارة الرئيس التايواني لأمريكا وإلقائه محاضرة في جامعة كورنيل استخدم فيها مصطلحات انفصالية، ومنها التوجهات المتشددة لبعض الرؤساء مثل جورج بوش الابن الذي اعتبر الصين منذ حملته الانتخابية منافساً استراتيجياً، وعلى الرغم من الطابع التعاوني الذي ميز العلاقات الأمريكية-الصينية بصفة عامة في ولايتي أوباما (٢٠٠٩-٢٠١٦) فإن ولاية ترامب (٢٠١٧-٢٠٢٠) بدا وكأنها تمهد للتطورات الراهنة، فلم يدل بتصريح إيجابي واحد عن الصين في حملته الانتخابية، واعتبرها تهديداً معادلاً للإرهاب، واعتبر تخفيض عملتها مؤامرة، واختار فريقاً تجارياً معادياً للصين، وضغط على الشركات الأمريكية العاملة فيها للعودة للولايات المتحدة، واعتبرها مسؤولة عن جائحة كورونا، بل إن رئاسته بدأت بأزمة تهنئة رئيسة تايوان له بفوزه بالرئاسة.

 

ثانياً- أبعاد الموقف الراهن

   سبقت الإشارة إلى تجاهل التحالف الغربي بقيادة أمريكا كافة مقترحات الرئيس الروسي لترتيب العلاقة بين روسيا وحلف الأطلنطي بما يضمن أمن الطرفين، بل إن هذا التحالف واصل توسعه شرقاً باتجاه روسيا حتى ضم جميع أعضاء "حلف وارسو" إبان الحرب الباردة و٣جمهوريات سوڤيتية سابقة، ثم وصل الأمر إلى الحديث عن انضمام أوكرانيا الملاصقة لروسيا وصاحبة التاريخ المشترك معها في إطار من السياسات الأوكرانية المعادية لها منذ تغيير النظام في أوكرانيا٢٠١٤م، وصولاً إلى حديث الرئيس الأوكراني صراحة عن استعادة الخيار النووي بالتعارض مع مذكرة بودابست١٩٩٤م، التي تخلصت أوكرانيا بموجبها من أسلحتها النووية مقابل ضمانات أمنية، وكانت تلك التطورات بمثابة القشة التي حسمت القرار السوڤيتي بالاعتراف بالجمهوريتين الانفصاليتين في شرق أوكرانيا وتوقيع معاهدتي دفاع مشترك معهما وبدء العملية العسكرية التي أعلنت روسيا أنها تهدف لتحييد أوكرانيا ونزع سلاحها واستكمال تحرير أراضي الجمهوريتين الانفصاليتين.

 

   وقد مثلت هذه العملية العسكرية أول تحدٍ من نوعه للتحالف الغربي الذي كان مطالباً بردٍ كافٍ وفعال على هذا التحدي مع تجنب التورط في حرب مباشرة مستحيلة مع روسيا سوف تتطور بالتأكيد إلى حرب عالمية مدمرة للجميع، وعليه اعتمد التحالف الغربي استراتيجية مزدوجة غير مباشرة يتمثل شقها الأول في فرض أوسع نطاق ممكن من العقوبات الاقتصادية الصارمة على روسيا بهدف استنزاف اقتصادها لتقويض قدرته على الاستمرار في الحرب، أما الشق الثاني فانصرف إلى تقديم مساعدات عسكرية ضخمة لأوكرانيا لتمكينها من الصمود بوجه العملية الروسية بل وإمكان هزيمتها كما يحلم البعض، وفي هذا السياق اكتسب الموقف الصيني من العملية العسكرية الروسية أهمية خاصة، ذلك أن انضمام الصين إلى منظومة العقوبات أو على الأقل عدم دعمها لروسيا سوف يمثل عاملاً مهماً في نجاح الاستراتيجية الغربية ضد روسيا، ويبدو من بعض التصريحات الغربية وبالذات الأمريكية أن البعض كان يحدوه الأمل في التأثير على السياسة الصينية في اتجاه مواتٍ للمصالح الغربية بدرجة أو بأخرى.

 

   ويبدو هذا الرهان على كسب الموقف الصيني في صف الغرب أو على الأقل تحييده غريباً، ذلك أن الأيام التي وظفت فيها أمريكا النزاع الصيني-السوڤيتي لمصلحتها ولت ، وأصبحت الصين وروسيا في الموقع نفسه من النظام العالمي باعتبارهما قوتين "مراجعتين" أي غير راضيتين عن النموذج الراهن لقيادة النظام الدولي الذي تميز بعد تفكك الاتحاد السوڤيتي بانفراد أمريكا بقيادته، وهو انفراد تحاول واشنطن الحفاظ عليه رغم فقدانها كثير من مقوماته، ومن يراجع البيان المشترك الذي صدر عن قمة الرئيسين الصيني والروسي في٤فبراير الماضي -أي قبل العملية العسكرية الروسية بأيام- لا يخالجه أدنى شك في أن هذا البيان قُصِد به أن يكون "مانيفستو" للنظام الدولي الجديد الذي يريده البلدان، ويتميز بالتعددية القطبية، ويُبنى على السلام والتنمية والتعاون ورفض عسكرة العلاقات الدولية وادعاء الغرب احتكار تمثيل قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والتدخل باسمها في الشؤون الداخلية للدول، وقد اتبعت الصين سياسة متوازنة تجاه العملية العسكرية الروسية فهي لم تؤيدها ولم تدنها، وذلك بامتناعها عن التصويت  في٢٦فبراير على مشروع القرار في مجلس الأمن الذي كان يدين العملية، وكذلك على المشروع الذي وافقت عليه الجمعية العامة في٢مارس بذات المضمون، ومع ذلك فقد كان واضحاً أن الصين تتفهم دوافع العملية، وتنتقد الاستخفاف الغربي بالهواجس الأمنية الروسية، وتأخذ الاتهامات الروسية لأمريكا بالتورط في أبحاث خاصة بأسلحة بيولوجية على محمل الجد وتطالب بالتحقيق فيها، ناهيك بالزيارات والتصريحات الدبلوماسية المتبادلة بين مسؤولي البلدين بخصوص قوة العلاقات الروسية-الصينية ومتانتها.

   وعندما عُقدت قمة الأطلنطي الأخيرة في مدريد كان واضحاً أن لحظة الحقيقة بالنسبة لقادة الحلف قد حلت، فاعتبر البيان الختامي للقمة روسيا أكبر تهديد مباشر للحلف بعد أن كانت شريكاً استراتيجياً وفقاً للمفهوم الاستراتيجي السابق، فيما اعتُبرت الصين تحدياً لمصالح الحلف وأمنه وقيمه بينما لم تُذكر الصين مطلقاً قبل ذلك في وثائقه، واتهم البيان البلدين بمحاولة زعزعة النظام العالمي، ويعني إدراج الصين كتحدٍ للحلف أنه سيعمل على تطوير استراتيجية لمواجهة هذا التحدي تماماً كما طور استراتيجية خاصة بالتهديد الروسي، وهكذا دار الزمان دورته لتعود روسيا والصين إلى نفس الخندق في مواجهة الغرب، تماماً كما كان الوضع عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية ونجاح الثورة الشيوعية في الصين بدعم سوڤيتي كامل، فتُرى كيف تتطور الأمور؟

 

خاتمة

  (آفاق المستقبل)

    ثمة بديلان أمام التحالف الغربي وبالذات أمريكا لإدارة المواجهة الحالية مع روسيا والصين: إما محاولة الاحتواء الذي ينطوي على تصعيد أكيد وإما التهدئة ومحاولة التوصل إلى تسوية، ومن الواضح حتى الآن أن الولايات المتحدة تصر على اختيار البديل الأول كما تُظْهِر ردود أفعالها والسياسات التي اتبعتها في مواجهة الهواجس الأمنية الروسية عامة وفي المسألة الأوكرانية خاصة، فقد رفضت الاستجابة لكافة مقترحات روسيا لترتيب العلاقة بينها وبين حلف الأطلنطي على نحو يكفل الأمن المتبادل للطرفين، فدفعتها بذلك دفعاً لتوظيف القوة العسكرية حتى أن بعض المحللين يؤكدون أنها سياسة متعمدة لاستنزاف القوة الروسية، ثم فرضت عقوبات غير مسبوقة على روسيا للتأثير على قدرتها على الاستمرار في الحرب، فضلاً عن إمداد أوكرانيا بمساعدات عسكرية ضخمة للتأثير على سير المعارك وتعظيم الخسائر الروسية وصولاً إلى الحديث عن إحداث تحول في مسار القتال، بل وتحرير الأراضي الأوكرانية التي استولت عليها روسيا منذ٢٠١٤م،وكذلك التي استولت عليها في سياق العمليات العسكرية الجارية منذ فبراير الماضي، ولم تكتف السياسة الأمريكية بذلك بل أنها صعدت التوتر مع الصين دون مبرر بالزيارة التي قامت بها رئيسة مجلس النواب الأمريكي لتايوان في مطلع أغسطس الماضي مع أن خبرة العلاقات الأمريكية-الصينية تشير إلى الحساسية الفائقة للصين إزاء أي مساس بمبدأ الصين الواحدة.

 

   من الواضح إذاً أن الولايات المتحدة على رأس التحالف الغربي قد اختارت بديل التصعيد مع أن إمعان النظر في جدواه يُظْهر أنه البديل الأسوأ لأكثر من اعتبار، ولعل أول هذه الاعتبارات وأهمها هو دروس الخبرة الماضية لمشروعات الاحتواء والتصعيد الأمريكية السابقة، فقد رأينا أنه باستثناء حلف الأطلنطي فشلت المحاولات الأمريكية لتوسيع نطاق الأحلاف المعادية للاتحاد السوڤيتي في الشرق الأوسط بسبب الممانعة العربية، ولم تتمتع هذه المحاولات في آسيا بأي فاعلية حتى آلت إلى التفكك، بل إن حلف الأطلنطي ذاته عاني من انقسام حقيقي بسبب سياسات شارل ديجول في ستينات القرن الماضي، وهو سيناريو قابل للتكرار في المرحلة الراهنة بسبب التململ الأوروبي من تداعيات العقوبات المفروضة على روسيا، كذلك فإن السياسة الخارجية الأمريكية منيت بالفشل الذريع في معظم المواجهات التي انخرطت فيها مباشرة كما في حصارها الفاشل للثورة الكوبية لأكثر من ستة عقود وهزيمتها في ڤيتنام ومشروعها الذي مُني بالفشل الذريع في العراق وهزيمتها الأخيرة في أفغانستان وغيرها.

 

   ومن ناحية أخرى فإن خصوم السياسة الأمريكية مضوا في بناء قواعد قوتهم الشاملة بحيث أجبروا الولايات المتحدة في النهاية على التعامل معهم بجدية من سبعينات القرن الماضي، وهو ما أثمر في النهاية اتفاقية هلسنكي التي كانت دليلاً على فشل سياسات التصعيد وعلى أن الحل يكمن في التعايش السلمي على أساس الاحترام المتبادل للمصالح الوطنية لكافة الأطراف، وإذا كان التوازن الاستراتيجي العسكري بين المعسكرين قد أفضى إلى تلك النتيجة في مرحلة الحرب الباردة فإن ميزان القوى الراهن بين التحالف الغربي من ناحية وروسيا والصين من ناحية أخرى أفضل بكثير من المنظور الروسي-الصيني، فمازالت روسيا وحدها تحقق التوازن الاستراتيجي العسكري مع الولايات المتحدة، وتُضاف إليها الآن القوة العسكرية المتنامية للصين حتى أصبحت صاحبة ثالث أقوى جيش في العالم، ناهيك بتقدمها الاقتصادي الذي جعل اقتصادها الأسرع نمواً في الثلاثين سنة الماضية، ونقله من المرتبة السادسة على العالم في٢٠٠٣م، إلى المرتبة الثانية حالياً مع توقعات بإحراز المرتبة الأولى في منتصف هذا القرن، مع ملاحظة أن المواجهة الغربية لكل من روسيا والصين كانت تتم في حقبة الحرب الباردة على أساس أحادي، بمعنى أنهما لم يكونا بالضرورة على وفاق دائم، بل إن الولايات المتحدة كانت توظف النزاع الصيني-السوڤيتي لصالحها في نزاعها مع الاتحاد السوڤيتي، أما الآن فإن الغرب يواجه حليفين متماسكين كما أظهر التحليل.

 

   وعليه فإن البديل الرشيد يتمثل في اللجوء لسياسات التهدئة وتسوية الخلافات والتعايش بين الطرفين بما يعيد إلى الحياة روح اتفاقية هلسنكي، وليس من الضروري أن تتم تسوية هذه الخلافات كافة، إذ يمكن أن يوفر النجاح في تسوية بعضها مناخاً إيجابياً يمثل دفعة قوية لتسوية المتبقي منها، وبطبيعة الحال فإن إنجاز هذا البديل ليس بالأمر السهل ولكنه ليس مستحيلاً في الوقت نفسه، وعلى سبيل المثال فإن مشكلة تايوان يمكن أن تُحل وفقاً لنموذج هونج كونج (دولة واحدة ونظامان)، ولاشك أن هذا البديل من مصلحة شعوبنا التي تعاني حالياً معاناة حقيقية من تداعيات الصراع في أوكرانيا، وعلينا أن ندفع بكل قوة في اتجاه هذا البديل باتخاذ مواقف متوازنة مبنية على مصالحنا الوطنية ولا شيء سواها لأن ممارسات التصعيد التي تتخيل إمكانية احتواء الخصوم وهزيمتهم لم ينجم عنها سوى الكوارث التي حدثت في ڤيتنام والعراق وأفغانستان وتجري وقائع آخرها أمام أعيننا الآن في أوكرانيا.

مقالات لنفس الكاتب