; logged out
الرئيسية / تسعى دول التعاون لحشد موقف إقليمي داعم لأمنها ومناوئ للخطر الإيراني

العدد 178

تسعى دول التعاون لحشد موقف إقليمي داعم لأمنها ومناوئ للخطر الإيراني

الأربعاء، 28 أيلول/سبتمبر 2022

بعد أن وصلت المفاوضات النووية الإيرانية إلى مراحل متقدمة، وبات إبرام اتفاق جديد وشيكاً، تثور تساؤلات كثيرة حول مواقف الدول المعنية بتداعيات الملف النووي الإيراني. وتحديداً دول مجلس التعاون الخليجي، وحيث تتجاوز تأثيرات القدرات النووية الإيرانية الحدود التقنية والعسكرية المباشرة، فثمة ضرورة لتحليل سياسات دول الخليج واستشراف تحركاتها المتوقعة إزاء "النووي الإيراني"، في ضوء تطور الدور الإقليمي لطهران، سواء تم إبرام اتفاق جديد أم لا.

وإذ توجد بالفعل تجربة سابقة متمثلة في الاتفاق النووي المبرم عام 2015م، فإن تناول الخيارات الخاصة بدول الخليج، يستلزم الإحاطة بدروس ودلالات تلك التجربة، وقياس ما إذا كانت دول الخليج استفادت منها، أم أن ثمة اختلافات بين الحالتين من شأنها الدفع باتجاه خيارات بدائل خليجية جديدة.

أولاً: عوامل حاكمة:

من أجل نظرة متعمقة إلى تأثيرات الاتفاق النووي المحتمل، والخيارات الخليجية إزاءه، لا بد من إشارة إلى عوامل شبه ثابتة، تنعكس في تشكيل المواقف المتبادلة بين دول الخليج وإيران.

على رأس تلك الثوابت "غياب الثقة" بين الجانبين فتخيم دائماً على العلاقات بين إيران ودول مجلس التعاون "الشك المتبادل". وبالتالي فإن الاتفاق النووي أو تطوير قدرات إيران النووية من شأنه زيادة الشكوك الخليجية في سياسات ونوايا إيران ويعمق الفجوة بين الجانبين. 

العامل الثاني المؤثر هو الأيديولوجيا الدينية، فمنذ قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م، يمثل الدين عنصراً أساسياً في سياسات إيران. وهو العامل الجوهري في توجيه بوصلة السياسات، خصوصاً تجاه دول الخليج.

وقد شهدت المنطقة خلال العقد الأخير مستجدات مهمة. أهمها ما يمكن وصفه بالإحلال والتبديل بين بعض القوى العالمية، فيما يتصل بالاهتمامات والمصالح والأدوار في الشرق الأوسط. وينصرف الحديث هنا إلى كل من أمريكا وروسيا. فقد سارت سياسات القوتين في المنطقة على التوازي في اتجاهين متعاكسين. حيث اتجهت واشنطن للخروج من المنطقة، بينما اندفعت موسكو إلى الانغماس فيها، ولهذا التطور أهمية كبيرة ستتضح لاحقاً عند تناول الخيارات الخليجية والبدائل الممكنة للتعاطي مع تطورات ملف إيران النووي. حيث أصبح جلياً، أن مصفوفة أدوار القوى الدولية الكبرى في الشرق الأوسط، تغيرت بشكل كبير، ولا تزال قيد التغير وإعادة التشكيل. 

 ثانياً: اتفاق جديد قديم:

لتحديد تأثيرات الاتفاق النووي الإيراني والخيارات المتاحة أمام دول الخليج للتعاطي معه، لا بد من الوقوف على طبيعة الاتفاق "الجديد" وحدود الاختلاف فيه عن الاتفاق الأول عام 2015م. ومن ثم يمكن تحديد ما يمكن أن تختلف به ردود الفعل الخليجية على الاتفاق الجديد مقارنة بالسابق، استناداً إلى الفوارق بين الاتفاقين.

  • أوجه التشابه:

ثمة تشابهات بين الاتفاق النووي الجاري التفاوض بشأنه، والاتفاق المبرم عام 2015م. ويمكن العثور على هذه التشابهات في البيئة المحيطة، أو المحتوى أو التداعيات والنتائج التي ترتبت على الاتفاق الأول والمتوقعة إثر الاتفاق الجديد المزمع.

يتعلق أول التشابهات بتوجهات الإدارة الأمريكية. وهي في الحالتين إدارة ديمقراطية، صار نائب الرئيس في أولاهما هو الرئيس في الثانية. وشأن كل الإدارات الديمقراطية، تميل إدارة بايدن للحوار والتهدئة وتغليب التفاوض لتسوية المشكلات. كما تشترك مع إدارة أوباما في تطور التعامل الأمريكي مع دول الخليج ومنطقة الشرق الأوسط، بالميل نحو تقليل الانغماس في قضاياها بدرجات متفاوتة تبدأ من الحياد وتصل إلى التجاهل. مع ملاحظة أن هذا الاتجاه الانسحابي ملحوظ على إدارة بايدن أكثر من عهد باراك أوباما، لاعتبارات خاصة بتطور التقديرات الأمريكية لضرورة الاتجاه شرقاً، بالإضافة إلى بروز مؤشرات على اتجاه الشرق الأوسط للهدوء والاستقرار. خاصة فيما يتعلق بالتنسيق حول مقتضيات الأمن بين بعض دول المنطقة وإسرائيل، والتعاون متعدد الأطراف استهدافاً لمصالح اقتصادية مشتركة.

وهذا التشابه بين إدارتي أوباما وبايدن على سلوك الوفد الأمريكي المفاوض في الحالتين. حيث بدا واضحاً أن لدى واشنطن الرغبة في التوصل لاتفاق أقوى مما لدى الأوروبيين أو حتى إيران نفسها. أو على الأقل نجحت طهران في إخفاء رغبتها إلى الاتفاق. في تكرار دقيق لما فعلته خلال المفاوضات النووية الأولى. ثمة تشابه آخر، يتعلق بمضمون المفاوضات وبالتالي مضمون وبنود الاتفاق. فقد تجنب الاتفاق الأول بناء موقف متشدد من إيران، التطرق إلى ملفين مهمين. هما القدرات الصاروخية والتمدد السياسي الإيراني في المنطقة.

وشهدت المفاوضات الجارية تجاذبات حول إدراج الملفين في الاتفاق الجديد، دون حسم. ما يعني أحد احتمالين، إما تفاهمات غير معلنة قد تتم، تشمل الموضوعين وربما غيرهما، أو أنهما خارج نطاق الاتفاق كما في الاتفاق الأول.

وأخيراً، فإن الاتفاق النووي المحتمل، لا يختلف عن السابق في الفلسفة الحاكمة له. فقد كان اتفاق 2015م، محكوماً بدافع أساسي هو عدم السماح لإيران بالمضي في أنشطتها النووية، وهو نفس الوضع الراهن، فبعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق 2015م، استأنفت طهران أنشطتها النووية وسمحت بعمليات المراقبة والتفتيش التي تقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية بصورة انتقائية. فأصبح الهدف الأمريكي/الغربي عشية إجراء المفاوضات ثم في اثناءها، هو كبح عجلة التقدم المتسارعة في النشاط النووي الإيراني. والتوصل إلى اتفاق ولو مرحلي، قبل أن تصل إيران إلى إنتاج "الكعكة الصفراء" أي إنتاج رؤوس نووية غير سلمية.

وبالتالي، فكما كان الاتفاق السابق في جوهره عملية "ترحيل" الخطر الإيراني. فإن الاتفاق الجديد المحتمل لا يختلف عنه في اتخاذ نفس المقاربة في التعاطي مع أنشطة إيران النووية، أي الترحيل، وليس الإيقاف أو التعطيل.

(وكما كانت وجهة النظر الأمريكية) أن هذه المقاربة هي فقط الممكنة والقابلة للتطبيق، فإن المنطق نفسه لا يزال هو الدافع لخوض واشنطن المفاوضات الجديدة، والمحرك للسلوك التفاوضي الأمريكي خلالها.

بإيجاز، يمكن القول إنه لا جديد منتظر في الاتفاق النووي الجديد عن اتفاق 2015م. ففي المجمل، إذا لم تختلف المفاوضات الجارية عن سابقتها. لا على مستوى الهدف من المفاوضات ولا الأجندة التفاوضية ولا طريقة إدارة الأطراف لجولات التفاوض.

  • حدود الاختلاف:

تلك التشابهات، لا تنفي وجود اختلافات بين 2015 و2022م، ومن أهمها، تطور استقبال دول الخليج للحدث وتعاطيها معه. فالاتفاق الأول قوبل بسكوت خليجي وردود فعل متأخرة وانقسام زاد من وطأة التحركات الإيرانية وحد من قدرة دول الخليج على بناء تكتل أو حائط صد أمام تغلغلات إيران. بينما هذه المرة بدأ التعاطي الخليجي مع الاتفاق منذ كان مجرد فكرة لجو بايدن في سباق الرئاسة الأمريكية. وبمرور الوقت ومع مضي إدارة بايدن في إجراء مفاوضات مع إيران، طوّرت دول الخليج مواقفها عبر عدة مراحل، بدأتها بالتحفظ عن تجديد التفاوض، انطلاقاً من أن الاتفاق السابق نفسه كان خطأً فادحاً ولم يحقق المطلوب منه. ثم طلبت المشاركة في المفاوضات، فضلاً عن كونها طرفاً أصيلاً في كل ما يتعلق بالشرق الأوسط والخليج.

ورغم أن فرنسا أيدت المطلب الخليجي، بل طرح الفكرة الرئيس ماكرون، إلا أن رفضاً إيرانياً قاطعاً وقبول واشنطن لذلك الرفض، حالا دون دخول دول الخليج ضمن أطراف المفاوضات. ومن ثم باشرت دول الخليج مقاربة أخرى ليست مباشرة في الشأن النووي، لكنها مباشرة مع إيران بفتح حوار معها حول الوضع الإقليمي، مع طرح ملفات محددة للتباحث. وجرت بالفعل لقاءات مع الإمارات والسعودية. شملت زيارات من جانب مسؤولين إماراتيين رفيعي المستوى لطهران. بالتوازي مع جولات حوار سعودي إيراني، استضافتها بغداد.

ثمة اختلاف آخر، ربما ينعكس في الاتفاق المحتمل يتعلق بدروس ونتائج الاتفاق السابق. فمن ناحية، ألقى انسحاب إدارة ترامب من اتفاق 2015م، بظلاله على المفاوضات الجديدة قبل أن تبدأ. وذلك بوضع إيران على رأس قائمة مطالبها التفاوضية، وجود ضمانات كافية بعدم تكرار واقعة الانسحاب الأمريكي.

ثم مع المضي في التفاوض، تمسك الوفد الإيراني بمطالبة بلاده ما تعتبره تنازلات. وإن بادرة حسن النية يجب أن تبدأ من واشنطن، التي انسحبت من الاتفاق السابق. وتكمن الدلالة في الثقة التي بدت على سلوك إيران التفاوضي، وانعكست في تصميم وفد طهران على تقديم أقل ما يمكن من تنازلات. لذا كان موقف المفاوض الإيراني متصلباً طوال المفاوضات، حتى حين تتأزم الأمور ويتم تعليق جولات التفاوض، تظل طهران متمسكة بمواقفها، ولا تتراجع عنها إلا في حدود ضيقة. ومن الأمثلة المهمة على ذلك موقفها المتصلب بشأن رفع "الحرس الثوري" من قائمة العقوبات..

إجمالاً، يُتوقع أن يأتي الاتفاق المنتظر نسخة أخرى من الاتفاق السابق. ربما تختلف فقط بعض التفاصيل والترتيبات الإجرائية مثل مراحل تنفيذه وتوقيتاتها وإجمالي المدى الزمني للاتفاق وكيفية تجديده. والشروط المتعلقة بالضمانات اللازمة والإجراءات الجزائية المحتملة لإخلال أي طرف بالاتفاق.

لكن في النطاق الأوسع، يمكن ملاحظة تغيرات مهمة في البيئتين العالمية والإقليمية. ما سينعكس بالضرورة على الاتفاق الجديد، إن لم يكن في البنود والمضامين، أو كيفية التطبيق وحدود التزام الأطراف بها.

والملمح الأبرز هو حالة التوتر التي تسود الوضع العالمي، والتي ينتظر أن تستمر لفترة غير معلومة على خلفية أزمة أوكرانيا وانقسامات غربية، أولها بين أوروبا وأمريكا، وأيضاً داخل أوروبا نفسها.

في المقابل، تختلف البيئة الإقليمية عن التي كانت سائدة عام 2015م، حيث يشهد الشرق الأوسط حاليًا تهدئة ومحاولات لتجسير الفجوة بين دوله، والنتيجة أن حالة الاستقطاب الإقليمي الحاد التي استفادت منها إيران في السابق تراجعت ولو جزئياً.

ثالثاً: ما بعد الاتفاق النووي:

تواجه دول مجلس التعاون نفس أوجه التحدي التي فرضها الاتفاق في صيغته الأولى، إضافة إلى تأثير بعض المستجدات وتضافرها مع مقتضيات وتداعيات الاتفاق النووي. لتتشكل ملامح رئيسة لأبعاد المخاطر والتهديدات التي تتعرض لها دول مجلس التعاون، على الأقل من وجهة نظرها.

  • تمدد إقليمي إيراني:

أول ما يجب التوقف عنده في التداعيات المحتملة لإبرام للاتفاق، هو توسيع نطاق الحركة الإقليمية لطهران. وبالتالي تمدد وتعاظم نفوذها في المنطقة. وذلك على المستوى المباشر المتصل بالعلاقات والتفاعلات بين دول المنطقة وأنماطها التعاونية والصراعية. وكذلك غير المباشر والمقصود به الأوضاع الداخلية التي تتأثر في بعض الدول بموازين القوى الإقليمية وبمدى نفاذية أو انحسار الأدوار التي تقوم بها دول أخرى في المنطقة مثل إيران. وغني عن البيان أن هذا التوصيف ينصرف بشكل أساسي إلى اليمن ولبنان والعراق. وفقاً لما حدث من تغول إيراني إقليمي بعد إبرام اتفاق عام 2015م. فضلاً عما قد ينتج لاحقاً من دول أخرى قد تمثل مدخلاً لتحركات وأدوار وربما أذرع إيرانية جديدة في المنطقة.

  • استقواء أذرع إيران:

ترتيباً على التمدد الإقليمي لطهران، ستحظى الأذرع التابعة لها بمساحة واسعة للحركة وبموارد أكبر من إيران. فمثلاً، لن يظل حزب الله في لبنان متأثراً بالأزمات التي واجهها مؤخراً، خصوصاً بعد الانتخابات البرلمانية التي تراجعت فيها نسبة أصوات الحزب وبالتالي عدد مقاعده في البرلمان اللبناني. وفي اليمن، لتكون حركة الحوثيين مضطرة للتهدئة أو قبول الهدنة والتفاوض التي كانت تماطل في قبولها.

  • تعافي الاقتصاد الإيراني:

في وقت تعاني فيه معظم دول العالم من الأعباء الاقتصادية على وقع أزمتي كورونا وأوكرانيا، فإن الاقتصاد الإيراني متعطش للخروج من ضائقة العقوبات. وقياساً على الخبرة الطويلة لإيران في التكيف مع العقوبات، يمكن بسهولة أن ينعكس رفع العقوبات في تمكين إيران من مباشرة سياساتها الإقليمية وتوظيف الموارد والمكاسب الاقتصادية في هذا الاتجاه. بخلاف تخفيف بعض الأعباء المعيشية عن المواطنين الإيرانيين، ما يصب بدوره في تحسين شعبية النظام الحاكم.

  • ارتدادات ثنائية:

المتوقع أن تشهد حالة الانفتاح النسبي التي بدأت ملامحها تتبلور بين إيران، والإمارات والسعودية، انحساراً ملحوظاً في القوة الدافعة لها على الجانب الإيراني. فببساطة ستصبح إيران أقل احتياجاً لأي تحسن في العلاقة مع دول الخليج. ووفقاً للعقل السياسي الإيراني، فإن دول الخليج ستجد نفسها مطالبة بإعادة حساباتها تجاه أي تقارب مع إيران. تحديداً في اتجاه تقديم تنازلات وتغيير المنطلقات التي يفترض أن تتحسن بموجبها العلاقات وكان متفقاً عليها ولو ضمنياً قبل الاتفاق النووي. ولعل بوادر ذلك التحول قد ظهرت مع دخول المفاوضات النووية مرحلة الحسم، إذ لم تنعقد جولات حوار جديدة بين السعودية وإيران منذ عدة أشهر.

رابعاً: خيارات وبدائل خليجية:

لنصف دول مجلس التعاون (عُمان وقطر والكويت) علاقات قائمة ومستمرة مع إيران ويمكن وصفها بالجيدة. بينما شهدت سياسات النصف الآخر (السعودية والإمارات والبحرين) خلال العامين الماضيين تحولاً مهماً في إدارة العلاقة مع طهران، سواء المباشرة أو غير المباشرة. وكان لتطورات الملف النووي العامل الأكبر في هذا السياق.

فقد أثبت إبرام الاتفاق النووي 2015م، أن الشرق الأوسط مقبل على مرحلة لم يعد ممكناً فيها استبعاد أي دولة من دوله. ليس بالضرورة من باب التعاون وإقامة علاقات قوية، لكن على الأقل من منظور واقعي وعملي. بالتفاعل مع الأطراف الموجودة فعلياً وعدم استبعادها من الحسابات الخاصة بكل دولة حول القضايا الإقليمية، والداخلية. ودلائل هذا الوضع قائمة منذ عقود، وازدادت وضوحاً بمرور الوقت. والجديد هو مدى قناعة دول المنطقة بذلك، وبالتالي الانتقال إلى تبني سياسات تتعارض أو تتفق مع هذه القناعة.

وعلى الرغم من توتر العلاقات بين طهران وواشنطن خلال ولاية ترامب (2016 – 2020م) ووصول الفجوة بينهما إلى حافة الانفجار، إلا أن واشنطن لم تقدم على اتخاذ أي تحرك فعلي ضد إيران، مثل توجيه ضربة جوية أو القيام بعملية عسكرية عقابية. واكتفت إدارة ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي، ثم تجديد وتعزيز العقوبات الاقتصادية السابقة.

  • هجوم إيجابي (المدخل التعاوني):

هو ما يمكن وصفه بالاختراق التعاوني، والنموذج الأوضح الذي يشرح هذا الخيار، هو الانفتاح الذي قامت به بعض دول الخليج تجاه العراق، خاصة خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة (2020 – 2022م). حيث شهدت علاقات العراق / العربية نقلة نوعية على مستويين، الأول مع دول الخليج، والثاني مع دول عربية أخرى. وعلى المستويين، من الواضح أن إرادة مشتركة خليجية عربية لوضع العلاقات بين العراق ومحيطه العربي على مسارها الصحيح.

ولعلها المرة الأولى التي تتبنى فيها دول عربية مقاربة عملية/ مصلحية لتوثيق العلاقات وإيجاد روابط مشتركة تتسم بالأهمية والقابلية للاستمرار، أو روابط "مستدامة". ويكتسب هذا التوجه الخليجي نحو العراق قوة وقابلية عالية للتطبيق في أشكال متنوعة وذات مردود إيجابي على العلاقات مع العراق بمستوييها الشعبي والرسمي.

ولا حاجة إلى إيضاح ما لهذا التحول الإيجابي في علاقات العراق/ العربية من مردود مباشر بالنسبة لدول التعاون في موازين القوى والنفوذ الإقليمي بين إيران. ربما لا يكون ذلك بشكل عاجل، لكن مفاعيله ستظهر بوضوح لاحقاً سواء في الإطار الثنائي المباشر للجانبين العراقي والخليجي مع إيران، أو في سياق التفاعلات الإقليمية بين إيران ودول الخليج خصوصاً والدول العربية عموماً.

  • الضغط العكسي (مدخل عقابي):

إن كان المدخل التعاوني ظهر في السياسات الخليجية تجاه إيران خلال العامين الماضيين، فإن المقاربة بالضغط تبدو جديدة تماماً في هذا السياق. وهي حالة وحيدة حتى الآن التي شهدت نوعاً من الضغوط الخليجية، ليس مباشرة تجاه إيران ذاتها وإنما في واحدة من أهم ساحات نفوذها، لبنان.

والملمح المهم في هذا السياق، هو الحصار الاقتصادي والسياسي الذي ضربته دول مجلس التعاون حول لبنان. بسبب تصريحات جورج قرداحي الوزير اللبناني السابق انتقد فيها بعض جوانب عملية "عاصفة الحزم" في اليمن. ما دفع دول الخليج لقطع العلاقات الدبلوماسية وسحب سفرائها من لبنان. واتخاذ إجراءات اقتصادية عقابية زادت من وطأة الأزمة الاقتصادية والصعوبات المعيشية في لبنان. وكان واضحاً أن لبنان ليس الهدف، فقد صدرت تصريحات قرداحي قبل توليه حقيبة الإعلام، بالإضافة إلى أن دول مجلس التعاون ظلت لأشهر ترفض تغيير موقفها مقابل اعتذار الوزير اللبناني السابق، بل حتى بعد أن قدم استقالته من الحكومة اللبنانية استرضاءً لها، وهذه المرة الأولى لدول الخليج في ممارسة إجراءات عقابية تجاه إيران أو أحد حلفائها، فمن المحتمل تكرارها وإن بدرجات مختلفة سواء تجاه لبنان أو غيره من حلفاء إيران في الشرق الأوسط.

وربما من المفيد رصد التقابل بين المنطقين الخليجي والإيراني في هذا الخصوص، فقد اعتادت طهران العمل على تشكيل بيئة ضاغطة على دول الخليج. بينما يميل منطق دول الخليج، إلى مواجهة إيران من داخل تلك البيئة سواء بضغوط معاكسة كما في حالة لبنان، أو بتفكيك عناصر القوة الإيرانية كما في العراق واليمن. أو غير المباشرة من خلال تحسين العلاقات مع تركيا والعمل على تثبيت علاقات جيدة مع دول الحدود الشرقية لإيران، خصوصاً باكستان.

  • استقواء إقليمي:

تتجه دول الخليج العربية بمعدل متسارع، نحو تكوين شبكة تعاون إقليمي، تتجاوز الموروثات التاريخية في المنطقة منذ زمن. والتي حكمت التفاعلات بين دول المنطقة. والمقصود هنا بشكل أكثر تحديداً، العلاقات بين الدول العربية والدول الإقليمية خصوصاً إسرائيل. حيث اتجهت بعض دول الخليج (الإمارات والبحرين) إلى الانفتاح على إسرائيل وإقامة علاقات معها، وإن تفاوتت طبيعة ودرجة تلك العلاقات من دول إلى أخرى. مع ملاحظة أن كلاً من قطر وقبلها عمان كانتا الأسبق في إقامة علاقات مع إسرائيل منذ عقود.

وتجدر الإشارة إلى أن خطوات تقارب الإمارات والبحرين مع إسرائيل، بدأت تأخذ صبغة رسمية وعلنية بعد إبرام إيران الاتفاق النووي الأول 2015م. وطوال تلك الأعوام السبعة التي مرت، كان الربط بين التطورين ضمنياً. غير أن الكشف عنه علناً تأخر حتى بدايات (2022م) بالتزامن مع تطور المفاوضات النووية وتواتر مؤشرات أن الاتفاق النووي "الثاني" صار قريباً.

وبذكر البعد "الإقليمي"، من المهم توضيح أن التركيز الخليجي في الإطار الإقليمي على إسرائيل، يرجع إلى عدة اعتبارات. يتعلق بعضها بالاشتراك بين الجانبين في المواقف بشأن الخطر الإيراني، وخصوصاً حال امتلاك طهران قدرات نووية. بينما الأمر مختلف لتركيا من زاويتين. أولاهما أن التفاعلات التركية / الخليجية مرت في العقد الأخير باختبارات صعبة تركت بصمة ثقيلة على مسار العلاقات. بدءاً بالتناقض في الموقف من الانتفاضات الشعبية في بعض الدول العربية، والتي بدأت عام 2011م، وهو تناقض انعكس سلباً على العلاقات الثنائية المباشرة بين تركيا وبعض دول الخليج، خصوصاً الإمارات والسعودية.

ورغم أن تلك الفجوة بدأت تتقلص في الأشهر القليلة الماضية، وقامت تركيا والإمارات والسعودية بخطوات متبادلة للتقارب وتجاوز الاختلاف، إلا أن النتائج لا تزال قيد البلورة.

الزاوية الثانية، أنقرة لا تعتبر طهران مصدر تهديد مباشر لها أو تشكل خطراً على مصالحها أو الأمن القومي التركي. كما أن طبيعة العلاقات التركية / الإيرانية، تتداخل فيها المصالح، مع مسارات التنافس. ومن ثم فمن الصعوبة افتراض انضمام تركيا إلى تحالف أو تنسيق مضاد لما تعده دول الخليج تهديداً إيرانياً لها، فيما تركيا لا تعتبره كذلك. وبالتالي، في المحصلة ليس من المتصور أن تضع دول الخليج رهانات عالية على أنقرة في مواجهة طهران.

لكن الاستقواء الإقليمي الذي تباشره بعض دول الخليج، لا يقتصر على الدول غير العربية، أي لا يستبعد الدول العربية. إذ تولي الدول الخليجية أهمية للتواجد العربي في أي تحرك، أياً كانت حدود وطبيعة هذا التواجد، رمزية كانت أو عملية. في هذا الإطار يمكن تفسير الاجتماع الذي انعقد في "النقب" وجمع وزراء خارجية الإمارات والبحرين والمغرب ومصر وإسرائيل، إلى جانب وزير الخارجية الأمريكي. والذي لم تتكشف علناً كافة تفاصيله، أو ما إذا كان تمهيداً لخطوات أخرى تتشاركها تلك الأطراف. غير أن مجرد انعقاده والكشف عن أن الموقف تجاه إيران أحد أبرز محاور الاجتماع، يمثل أهمية قصوى ويحمل دلالات مهمة ولو محتملة لجهة المشاورات والاتصالات الجارية في المنطقة والتي تقوم بها دول الخليج المشار إليها بشأن إيران، وإمكانية شمول تلك المشاورات وبناء المواقف دولاً إقليمية وعربية.

إجمالاً، تحاول بعض دول مجلس التعاون حشد موقف إقليمي داعم لأمنها، ومناوئ لما تعتبره خطراً إيرانياً، وقابل للتفاقم. والمتوقع أن تستمر دول الخليج في هذا المسعى، حيث ستزداد أهميته في المستقبل القريب حال إبرام اتفاق نووي جديد. ما سيخلق وضعاً إقليمياً مختلفاً، يضاف إلى الاختلاف الذي بدأ يظهر بالفعل على مواقف وأدوار القوى العالمية الكبرى تجاه قضايا المنطقة وأوضاعها.

  • رهانات خارجية مختلفة:

بعد خبرة دول الخليج مع القوى الكبرى، يشير سلوك بعض دول الخليج مؤخراً إلى أنها بصدد مراجعة كبرى لعلاقاتها وتحالفاتها الخارجية مع القوى الكبرى. ولما كانت السياسات الخليجية تجاه القوى العالمية الكبيرة تميل إلى الاعتمادية، فإن المراجعة تنطوي على تغيير للرهانات الخليجية على الخارج. وهي في الواقع رهانات مختلفة لكن ليست جديدة، فتركيبة وأوزان القوى الكبرى لم تتغير تقريباً منذ ما يقرب من أربعة عقود، حين تعرض الاتحاد السوفيتي للانهيار وانفردت الولايات المتحدة بصدارة القوى المحركة للسياسات العالمية، بل والإقليمية.

ومن ناحية الخليج، فإن الرهان أو بالأحرى الاعتماد الخليجي على واشنطن والغرب سابق على الانفراد الأمريكي بفعل تفكك المعسكر الشرقي بعقود أخرى إلى الوراء. أي أن الرهانات الخليجية الخاضعة للمراجعة حالياً، مستقرة وراسخة منذ أمد طويل.

غير أن دول الخليج اقتنعت، أخيراً، بأن الولايات المتحدة تباشر بالفعل منذ عدة سنوات، سياسة عالمية جديدة. قوامها التخلي تدريجياً عن الانغماس المباشر والانخراط الفعال في قضايا وتطورات بعض المناطق في العالم. بما فيها منطقة "الشرق الأوسط". وهو ما يشير إلى أهمية تلك الدوافع التي حدت بالحلفاء التقليديين للغرب، الاتجاه نحو قوى كبرى أخرى حتى وإن كان ربما فقط للاستقواء مرحلياً أو جزئياً وليس لتحالف دائم معها أو الاعتماد عليها بنفس الدرجة التي كانت مع واشنطن.

فبعد عقود من الالتزام بمقتضيات تحالف نشط ومتنوع المجالات مع الولايات المتحدة الأمريكية، وبدرجة أقل مع دول غربية أخرى مثل بريطانيا وفرنسا، تتجه بعض دول الخليج حالياً إلى إقامة شراكات قوية وفتح مجالات تعاون مختلفة مع قوى كبرى أخرى، وهي روسيا خصوصاً والصين بدرجة أقل.

ولهذا التحول مقتضيات مهمة وتداعيات ممتدة، خاصة أن آفاق التعاون بدأت بالفعل بين الجانبين الخليجي والروسي تغطي تقريباً كل المجالات بما فيها التي تصب في صميم الأمن والمصالح العليا لدول الخليج. مثل الدفاع والتسلح، وبعض القضايا الجيوــ اقتصادية مثل ضبط السوق العالمية للطاقة (النفط والغاز). إضافة إلى الملفات الاقتصادية المباشرة مثل الاستثمارات والتجارة بشقيها السلعي والخدمي.

وهذه المجالات تجسد منطقاً برجماتيًا وروابط مصلحية من شأنها الانعكاس على التحركات السياسية والمواقف بشأن القضايا والملفات المشتركة، وغير المشتركة. ولنا مثل واضح ومعبر في مواقف روسيا من الملف النووي الإيراني ومجمل المشاكسات المستمرة بين طهران وواشنطن.

وجاءت الأزمة الأوكرانية بين روسيا والغرب، ثم تطورها السريع، لتخلق مشهداً مختلفاً ازدادت فيه أهمية دول الخليج كونها لاعب رئيس في السوق العالمية للنفط. ما أضفى أبعاداً أعمق وأوسع إلى سياسة تعدد المسارات صارت تتبعها دول مجلس التعاون. وانعكست في موقفها من الأزمة وتموضعها بين الجانبين الغربي والروسي وفق حسابات وتقديرات المصلحة الخليجية.

في المجمل، بعض دول الخليج بصدد تطوير سياساتها تجاه إيران وأدوات تنفيذها. وأهم ما يجب الانتباه إليه في هذا الجديد الخليجي، أنه لا يرتبط شرطياً بالتوصل إلى اتفاق نووي إيراني جديد. حيث تباشر دول الخليج بالفعل تحولات ملموسة ويبدو أيضاً أنها مدروسة، باتجاه تغيير بعض السياسات وتفعيل أدوات جديدة لمواجهة تموضع إيراني جديد تتمتع فيها طهران بمزايا نسبية تتجاوز النطاق المباشر للقدرات النووية.

من ناحية أخرى، يبدو واضحاً من حالة المراجعة التي تقوم بها بعض دول الخليج، أن الخطر الإيراني في تقديرات تلك الدول قد وصل بالفعل إلى مستوى يتطلب التعاطي معه بفعالية وبرجماتية وتطوير أدوات المواجهة الخليجية. وبالتالي فإن البدائل والخيارات المتاحة والممكنة، بدأت دول الخليج تتبناها بالفعل، تحسباً لمرحلة ما بعد إبرام اتفاق نووي جديد. لكنها أيضاً في الحسابات الخليجية خيارات ضرورية حتى وإن تعثرت المفاوضات النووية. فإبرام الاتفاق سيزيد من أبعاد الخطر الإيراني المَخشي منه خليجياً، وفي الوقت ذاته فإن عدم التوصل إلى صيغة لإحياء الاتفاق النووي، لا يعني بالمرة اختفاء ذلك الخطر أو انحساره إلى حد تطمئن له دول الخليج.

مقالات لنفس الكاتب