; logged out
الرئيسية / "استغلال الفرص "فرصة لتعظيم المصالح الخليجية السياسية والاقتصادية والأمنية

العدد 178

"استغلال الفرص "فرصة لتعظيم المصالح الخليجية السياسية والاقتصادية والأمنية

الأربعاء، 28 أيلول/سبتمبر 2022

هناك الكثير من التداعيات للصراع الروسي /الأوكراني على مجال الطاقة، أبرزها الجوانب الأربعة التالية: أولاً، تفاقم الاضطرابات في سوق الطاقة مع ارتفاع أسعار الطاقة والجولات المتعددة من العقوبات والعقوبات المضادة التي فرضت على روسيا.  ثانيًا، أدت صدمات أسعار الطاقة إلى ارتفاع أسعار السلع العالمية وتداعيات على تكلفة المعيشة العالمية. ثالثًا، تسبب التضخم المكثف في الدول الغربية إلى حالة من الاستياء العارم ومخاوف من رفع أسعار الطاقة على المدى القصير مقابل الاستثمار في بدائل منخفضة الكربون. رابعًا، يهدد الصراع بإفشال الجهود المبذولة لمواجهة التحدي العالمي لخفض انبعاثات الاحتباس الحراري لتجنب التغير المناخي الكارثي. وانعكست هذه التداعيات في مواقف دول العالم، فالبعض يرفض الغزو وفي الوقت نفسه يحترم الشواغل الأمنية لروسيا في سياق المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية، وأخرى تربطها بالمصالح الجيوسياسية في سياق التنافس الروسي / الأمريكي، وتسعى لتعزيز نفوذها اعتمادًا على مكانتها في سوق الطاقة العالمي، لتعزيز أمنها الإقليمي وإنعاش اقتصاداتها بعد كوفيد-١٩. 

بالنظر لدول مجلس التعاون الخليجي، هناك مخاوف من الآثار للصراع على مصالح هذه الدول المتعلقة بأسواق الطاقة، والتوازن بين التكامل السياسي والأمني مع أمريكا وشراكات الاستثمار والطاقة مع روسيا والصين. تحلل هذه الدراسة مستقبل أسواق الطاقة في ضوء الصراع الروسي / الأوكراني، وسياسات أمن الطاقة لروسيا في ظل العقوبات المتتالية من الجانب الأمريكي والغربي، وتداعياتها على سوق الطاقة لدول مجلس التعاون في سياق نظرية "استغلال الفرص"، مع إلقاء الضوء على الخيارات والسياسات الصينية لأمن الطاقة على المدي القريب والبعيد وكيف تتعامل دول مجلس التعاون مع هذه السياسات.

 

أولاً، الحرب الروسية / الأوكرانية ومستقبل أسواق الطاقة العالمية

 

وضعت الحرب الروسية / الأوكرانية قضية أمن الطاقة في مكانة أكثر بروزًا بعد أزمة النفط في السبعينيات، مما جعل بلدان في جميع أنحاء العالم مضطرة إلى إعادة فحص قضايا أمن الطاقة الخاصة بها. فبالرغم من التحركات العسكرية الروسية السابقة ضد جورجيا 2008م، والاستيلاء على شبه جزيرة القرم 2014م، إلا أن المساعي الأمريكية والدول الأوروبية في الصراع الحالي يتركز على كسر سوق الطاقة الروسي-السلاح السياسي الذي يستخدمه بوتين، مع الأخذ في الاعتبار أن أي نقص فوري في الإمدادات الروسية يتطلب استبداله -في عالم يعمل على تحقيق صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2050م.

تُعد روسيا أكبر مصدر للنفط في الأسواق العالمية؛ إذ تُمثل صادراتها النفطية أكثر من ٥ ملايين برميل يوميًا من النفط الخام بنسبة حوالي 12٪ من إجمالي التجارة العالمية، وتُمثل حوالي ٢٬٨ مليون برميل يوميًا من صادرات المنتجات النفطية العالمية، أي ما يعادل حوالي 15٪ من تجارة المنتجات المكررة عالميًا. وهي المصدر الرئيسي للغاز الطبيعي للاقتصاد الأوروبي، حيث استقبل الاتحاد الأوروبي أكثر من حوالي 45٪ من صادرات روسيا من الخام والمنتجات النفطية في نهاية عام 2021م.

في اليوم الأول للصراع، أعلنت دول غربية عديدة عقوبات سريعة ضد روسيا، بهدف إجبارها على وقف الصراع، من خلال استبعاد موسكو من النظام المالي والتجاري العالمي، مما يؤدي إلى تدفق سريع لرأس المال الروسي وتوجيه ضربة كبيرة للاقتصاد الروسي. تسببت الجولة الأولى من العقوبات في انخفاض سريع في سعر صرف الروبل على المدى القصير (من 75 روبل إلى 150 روبل للدولار)، إلا أن روسيا اتخذت سريعًا إجراءات مضادة، تتضمن رفع أسعار الفائدة بشكل حاد (من 9.5٪ إلى 20٪)، مع تنفيذ ضوابط رأس المال والتسوية الإلزامية للعملات الأجنبية والغاز الطبيعي بالروبل. وقد أدت هذه الإجراءات المضادة إلى عكس اتجاه الروبل ليصبح العملة الرئيسية الأفضل أداءً في العالم هذا العام.

أصدرت وكالة الطاقة الدولية خطتين، "خطة النقاط العشر للاتحاد الأوروبي لتقليل اعتماده على الغاز الروسي" في 3 مارس 2022م، و "خطة النقاط العشر لتقليل استهلاك النفط ". ومن أجل قمع ارتفاع أسعار النفط العالمية وكبح ذعر السوق، أطلقت الدول الأعضاء في وكالة الطاقة الدولية منذ أبريل 60 مليون برميل من احتياطي النفط، في محاولة لتعزيز الإمدادات بعد الضغوط الكبيرة في أسواق النفط الناتجة عن الصراع. وفي مواجهة الحظر المفروض على النفط والفحم ومصادر الطاقة الأخرى في أمريكا وأوروبا ودول أخرى، تعامل موسكو مع المخزون الممتلئ بخفض الإنتاج وإغلاق البئر. كما كانت روسيا في عام 2013م، تستورد ما يقرب من 45 ٪ من إجمالي استهلاك الغذاء، ولكنها حققت الآن الاكتفاء الذاتي من الغذاء. بالإضافة إلى ذلك، أجرى البنك المركزي اختبارات ضغط مكثفة للنظام المصرفي في البلاد منذ عام 2014م، استعدادًا لظروف أكثر صرامة، مما ساعد النظام على الحفاظ على استقراره منذ استهدافه بالعقوبات في مارس 2022م.

في الجولة السادسة من العقوبات في 2 يونيو، توصل الاتحاد الأوروبي إلى عقوبات ضد تجارة النفط، وحظر على الفور 75٪ من واردات النفط الروسية، ووسع الحظر على الواردات إلى أكثر من 90٪ بحلول نهاية العام. ومع ذلك، في يوم إعلان العقوبات، لم ترتفع أسعار نفط برنت وغرب تكساس الوسيط بأكثر من 2٪، مما يعكس أن العقوبات لا يمكن أن تضر بصادرات النفط الخام الروسية. نظرًا لأن جزءًا كبيرًا من العالم يرفض فرض عقوبات على صادرات الطاقة الروسية، وعندما ينخفض ​​المعروض النفطي الروسي، لا تملك الدول الأخرى القدرة ولا الرغبة في زيادة الإنتاج بسرعة لتعويض فجوة العرض.

ومن المنظور العالمي، لن تغير مثل هذه العقوبات الجزئية المعروض من النفط الخام، لكنها ستغير نمط تجارة النفط الخام وسترفع تكلفة التجارة العالمية. وفي نهاية يونيو، قرر قادة دول الاتحاد الأوروبي فرض حظر تدريجي على النفط الروسي يصل إلى حوالي ٩٠٪ بنهاية عام ٢٠٢٢م، وأعلنت مجموعة السبع خططًا لفرض سقف لأسعار النفط على روسيا، والتي لها تداعيات بعيدة المدى على قدرتها على تأمين الناقلات والتأمين حتى على الصادرات خارج مجموعة السبع. وردًا على هذا القرار، أعلنت شركة غازبروم الروسية توقف العمل في خط ضخ الغاز إلى أوروبا “نورد ستريم1″.

أدت الزيادة المستمرة في أسعار النفط والغاز بسبب العقوبات لزيادة التضخم المصحوب بركود اقتصادي، مما تسبب في وقوع العديد من الأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسط ​​في أزمة فقر الطاقة، مع استمرار التضخم العام في الارتفاع، سيؤدي أيضًا إلى اشتداد الصراعات الاجتماعية في بعض البلدان. على سبيل المثال، بلغ معدل التضخم في المملكة المتحدة 9٪ في أبريل، ووصل معدله في ألمانيا إلى 7.9٪ في مايو.

كما سيكون لارتفاع أسعار النفط تأثير سلبي على النمو الاقتصادي العام للولايات المتحدة، وخاصة الانتعاش الاقتصادي بعد الوباء. فعلى الرغم من أن صناعة النفط الأمريكية قد تكسب فوائد من عملية ارتفاع أسعار النفط، إلا أن ارتفاع أسعار النفط سينتقل أيضًا إلى الاقتصاد الكلي، مما يؤدي إلى آثار سلبية على الصناعات الأخرى.

كما يتزايد القلق حول استمرار عمليات وسلاسل الإمدادات النفطية، إذ تنتج روسيا حوالي عشرة ملايين برميل نفط، وجاء الارتفاع القياسي في أسعار النفط نتيجة رد فعل مستثمري الطاقة تجاه التطورات في أوكرانيا، مع قلقهم من التأثير المحتمل للحرب على إمدادات البترول والغاز، وأنه في حالة استمرار الحرب  سيحدث صدع حاد في الإمدادات النفطية، مما سينعكس على أسعار النفط بشكل ومواصلة ارتفاع أسعار النفط والغاز إلى مستويات قياسية، الأمر الذي سيقود إلى ركود اقتصادي كبير على المدى المتوسط، وسيدفع الدول المستهلكة للنفط إلى تكثيف جهودها للبحث عن بدائل أخرى للطاقة.

على الرغم من أن علاقة الطاقة بين روسيا وأوروبا تتمحور حول الموقع الجغرافي لروسيا فيما يتعلق بتكاليف النقل والمسارات المرتبطة به، فقد ظلت روسيا المورد الرئيسي لأوروبا من حيث خطوط الغاز بسبب قربها من أوروبا والبنية التحتية الحالية كإرث من الاتحاد السوفيتي. وبعد عام 2014م، كان هناك محادثات رئيسية في جميع أنحاء أوروبا بشأن اعتمادهم الكبير على واردات النفط والغاز الروسية، إلا إنها فشلت في معالجتها بشكل مباشر.

في المقابل، اتخذت روسيا خطوات مهمة في تحسين وضع العرض لديها مقارنة بأوروبا، ويُكمن ذلك في توسيع البنية التحتية لخطوط الأنابيب إلى آسيا، مثل خط أنابيب سيبيريا 1 وسيبيريا 2 الذي يتم بناؤه لربط روسيا بالسوق الصيني. على سبيل المثال، زادت صادرات الغاز الروسي إلى الصين في الأشهر الثمانية الأولى من عام 2022م، بنسبة 60٪. كما تدرك روسيا أيضًا بأنه سيستعصي على  شركات الغاز والنفط الأمريكية والقطرية زيادة استثماراتها في مصافي التكرير لحل أزمة الطاقة قصيرة الأجل، ويعزى ذلك إلى أن هذه الشركات لا تستطيع على الفور استبدال صادرات الغاز الروسية، فموسكو توفر ما يقرب من 30-40٪ من الإمدادات إلى أوروبا، كما أن خطط الاتحاد الأوروبي طويلة الأجل لتقليص استخدام الهيدروكربونات والتحول إلى مصادر الطاقة المتجددة فشلت حتى الآن في الحد من الطاقة الروسية، ويتم تلبية طلبات الكهرباء في أوروبا بشكل متزايد بالغاز ومصادر الطاقة المتجددة بدلاً من الفحم، وهو ما يفسر سبب بقاء أولوية روسيا في صادرات الغاز المسال مركزية في الأسواق العالمية والإقليمية، حتى مع انخفاض استخدام الفحم في جميع المجالات.

كما أن العديد من التقييمات تظهر أنه حتى مع اعتماد الطاقة المتجددة على نطاق واسع في جميع أنحاء أوروبا على المدى الطويل، فإن أوروبا والاقتصادات الكبيرة الأخرى ستظل تعتمد على استيراد الطاقة النظيفة من الخارج. ويقوض هذا بشكل مباشر بعض وجهات النظر المتعلقة بأن أوروبا في وضع أقوى على المدى الطويل. مع وضع هذا في الاعتبار، تمتلك روسيا القدرة على أن تكون لاعباً رئيسياً مع إمكانات هائلة للطاقة المتجددة وإنتاج وتصدير الهيدروجين النظيفة.

ويبقى السؤال حول ما إذا كانت أوروبا لديها خطط فعالة مع سياسات موحدة في ظل التشرذم الأوروبي لإدارة أزمة الطاقة هذا الشتاء وعلى المدى القصير؟

 

ثانيًا، نحو عالم متعدد الأقطاب: الصراع أزمة وفرصة لدول الخليج

 

احتلت دول مجلس التعاون المرتبة الأولى على مستوى العالم في مجال إنتاج النفط الخام والغاز، حيث بلغ إنتاج دول المجلس من النفط الخام 16.2 مليون برميل يوميًا عام 2020م، كما بلغ إنتاج الغاز المسوق خلال نفس العام حوالي 424.2 مليار متر مكعب، محتلة بذلك المرتبة الثالثة عالميًا بعد الولايات المتحدة وروسيا.

أعرب المسؤولون لدول المجلس عن دعمهم لحل دبلوماسي ينهي الصراع؛ تتبني الكويت وقطر مواقف تتماشى بشكل وثيق مع أوكرانيا؛ والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة مواقف تتماشى بحذر مع روسيا؛ بينما تسعى البحرين وسلطنة عمان إلى حد كبير الحفاظ على مكانة منخفضة. ولكن يبقى الموقف السعودي الإماراتي هو الموقف العام لدول المجلس، والذي يكشف عن رغبتها في الجلوس على الحياد ومقاومة الانجرار إلى موقف الاختيار. وفقًا لنظرية "استغلال الفرص" الصينية، يعتبر الصراع أزمة وفرصة لدول مجلس التعاون الخليجي.

وفرصة في سياق سياسة التنوع وتعظيم المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية؛ فالصراع ليس انعكاسًا للعلاقات الروسية / الخليجية السابقة فحسب، بل ضمن أيضًا العلاقات بشكل عام بين القوى العظمى ودول مجلس التعاون الخليجي، مما جعل الأخيرة أكثر ضرورة لتلبية احتياجات العالم المتزايدة للطاقة، وتوفر أسعار النفط المرتفعة بشكل عام لدول مجلس التعاون الخليجي إعادة ملء الخزائن التي أفرغها الوباء، وتعزيز الاستقرار الاجتماعي ومنح النخب الحاكمة مكاسب سياسية دولية، على الرغم من أن الأسعار المرتفعة للغاية تخلق دائمًا خطر الانهاك في السوق وعدم الاستقرار. كما تعمل الأزمة الحالية على تغيير سلوك مستهلكي النفط الأوروبيين بشكل كبير؛ الذين يحاولون تقليل اعتمادهم على روسيا بأي ثمن، وهذا يوفر لدول المجلس خيار زيادة تواجدها في سوق النفط الأوروبية تدريجيًا -لتجنب التوترات مع موسكو في الأسواق الآسيوية.

وتُعد أزمة في ضوء التوازن بين روسيا والولايات المتحدة وحلفائها، وخسائر استثماراتها في قطاع الطاقة الروسي وأيضًا المنافسة على الأسواق الآسيوية على المدي القريب. حيث تواصل صناديق الثروة السيادية في دول الخليج خسائر كبيرة جراء انخفاض أسعار الأصول في روسيا. فحتى شهر مارس، بلغ إجمالي استثمارات الصناديق السيادية الخليجية 69 % من جميع الأصول التي اشترتها جهات استثمارية مملوكة للدولة في روسيا. وتُعد شركة مبادلة للاستثمار في أبو ظبي وجهاز قطر للاستثمار من أكثر صناديق الثروة السيادية نشاطاً في روسيا على مدار العقد الماضي، وهما الآن من بين أكثر الصناديق التي شهدت خسائر جراء تداعيات العزلة المالية المتزايدة لروسيا. بالإضافة إلى ذلك، تحاول موسكو أيضًا إعادة توجيه تدفقات صادراتها إلى آسيا، السوق الاستهلاكية التقليدية لدول مجلس التعاون الخليجي. وهذا بدوره يزيد من حدة المنافسة هناك، ولاسيما حصة السعودية في السوق الصيني.

موسكو لا تزال شريكًا مهمًا للمملكة العربية السعودية في أوبك +، حيث سمح انضمامها إلى المنظمة بزيادة نفوذها في السوق بشكل كبير وسط ثورة النفط الصخري وعواقبها السلبية. بالإضافة إلى ذلك، على مدار العامين الماضيين، تم تشكيل مثلث روسي -أمريكي -سعودي لتحديد عدد من الاتجاهات في سوق النفط. وكجزء من هذه الديناميكية، غالبًا ما تساعد العلاقات مع روسيا السعودية على موازنة نفوذ الولايات المتحدة، التي طالبت سلطاتها بشكل دوري زيادة إمدادات النفط في عام 2021م.

تحاول دول المجلس تبني سياسات للتكيف مع نظام عالمي نحو التعددية، حيث يُنظر إلى الولايات المتحدة على أنها تواجه تراجعًا في النفوذ في مقابل الصين وروسيا، مع عدم اليقين المرتبط بكل من التحولات في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط ومسألة تأثير انتخابات الكونجرس الأمريكية في المستقبل والانتخابات الرئاسية اللاحقة على العلاقات الأمريكية الخليجية.

في ظل هذه الظروف، تريد دول الخليج العربي دعم العلاقات الطيبة مع روسيا كجزء من جهودها لتنويع علاقاتها الدولية مع الحفاظ على توازن مع الشراكة الأمنية السياسية مع الولايات المتحدة الأمريكية. ويبدو أن موقف دول المجلس يعكس تبني نهج مستقل لسياستها الخارجية عن رغبات الولايات المتحدة. على سبيل المثال، امتنعت الإمارات عن إدانة الغزو الروسي في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وفي 1 يونيو، التقى لافروف بوزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي في الرياض، مشيرًا إلى أن دول المجلس لن تنضم إلى العقوبات الغربية على روسيا. علاوة على ذلك، أعلنت المملكة العربية السعودية أنها ستدرس بيع النفط باليوان الصيني إلى الصين، أحد أكبر مستهلكي النفط في العالم، كبديل للدولار كعملة أساسية لمثل هذه المعاملات.

ولكن هذا لا يعني أن دول مجلس التعاون الخليجي قررت الوقوف إلى جانب موسكو، بقدر ما هي مساعي لعدم الوقوع في موقف قد تضطر فيه إلى اختيار طرف في صراع.

 

ثالثًا، سياسات أمن الطاقة الصينية في ضوء الصراع، وتأثيرها على دول مجلس التعاون الخليجي

تنظر السياسة الخارجية للصين لأي فوضوية في النظام الدولي من زاوية نظرية "استغلال الفرص"؛ فهي أزمة وفرصة للسياسة الخارجية الصينية. استغلت الصين الحرب لرفع حصتها من صادرات الطاقة الروسية المخفضة للغاية، حيث قفزت واردات الصين من النفط الخام الروسي في مايو بنسبة 55٪ على أساس سنوي، لتحل محل النفط الخام السعودي كأكبر مورد لبكين والذي انخفض من 1.85 مليون برميل يوميًا في مايو إلى 1.44 مليون برميل يوميًا في يونيو.

ومع ذلك، لا تزال الصين تحتل الصدارة في صادرات النفط الخام السعودي والعراقي والعماني والإماراتي والكويتي وكذلك صادرات الغاز الطبيعي القطري المسال. وباعتبار أمن الطاقة من المصالح الأساسية للصين، فالصراع الروسي / الأوكراني هو أزمة لبكين، تهدد الاستقرار الاجتماعي وأمن النظام والتنمية الاقتصادية المستدامة.

وتتمثل الأزمة في أسعار الطاقة، حيث أدى ارتفاع أسعار الطاقة إلى زيادة تكاليف الإنتاج في مختلف القطاعات الصناعية في الصين، والقطاعان الأكثر تضررًا بلا شك هما صناعات تكرير النفط والغاز. بالإضافة إلى ذلك، سيكون لارتفاع أسعار الطاقة تأثير كبير على تكاليف إنتاج النقل والتعدين والكيماويات والصناعات الأخرى إلى حد ما. ومن خلال تغيير أسعار المنتجات، سيتم نقل الزيادات في أسعار الطاقة أيضًا إلى القطاع السكني، مما يتسبب في أعباء إضافية على تكاليف معيشة السكان. ومن بين الأعباء الإضافية، تأتي أكبر زيادة في الإنفاق أيضًا من استهلاك البنزين، والذي يمثل حوالي 15٪ من الإنفاق الإضافي لكل أسرة، مع تزداد نفقات الأسرة أيضًا من خلال الغذاء والكيماويات والغاز والنقل. كما تواجه بكين موقفًا يحتاج إلى التعامل معه بحذر، ليس فقط لضمان سلامة واردات الطاقة، ولكن أيضًا لتجنب العقوبات المفروضة على روسيا.

كونها أكبر مستورد للطاقة في العالم، يحتل حجم واردات النفط والغاز الطبيعي والفحم للصين المرتبة الأولى في العالم، وضمان أمن إمدادات الطاقة هو الهدف الأساسي، فستعتمد سياسة أمن الطاقة للصين في المستقبل على مواصلة تعزيز سياسة التنويع، فقد عكست التجربة الأوروبية ودروسها بأن الاعتماد المفرط على قنوات توريد ونقل محددة، وحتى أنواع مختلفة من الطاقة، سيؤدي إلى مخاطر كبيرة على أمن الطاقة. وهذا أيضًا درس لدول المجلس للتوازن بين الصين وبناء شراكات للطاقة مع دول آسيوية أخرى، مثل الهند واليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وغيرها، واستغلال فرص التنوع من الاتحاد الأوروبي وأيضًا الدول اللآسيوية بما يخدم مصالحها السياسية والأمنية مع الولايات المتحدة، لتجنب الإفراط في الاعتماد على الصين.

وعلى الرغم من أن واردات الصين من النفط الخام من روسيا في مايو قفزت بنسبة 55٪ على أساس سنوي، لتحل محل المملكة العربية السعودية، فلا يمكن اعتبار الصين وروسيا حلفاء أقوياء، فهي شراكة استراتيجية مهمة للصين، لا تعتمد على الثقة في أمن الطاقة، بقدر ما هي تتعلق ببناء نظام عالمي متعدد الاقطاب يخدم المصالح الأساسية والحيوية للطرفين، ولاسيما يجنب دول مجلس التعاون الإفراط في الاعتماد على حليف واحد، فتنوع الحلفاء يخدم الأمن الإقليمي للمنطقة. وهنا يتمتع الجانبان برؤية مشتركة تدعم فتح المنطقة أمام قوى أخرى مثل الصين وروسيا والهند والتعاون في الأمن البحري ومصادر الطاقة المتجددة والتقنيات العسكرية والاتصالات المتقدمة.

فرضت الحرب أيضًا تحديات للدول المصدرة والمستوردة للطاقة الهيدروكربونية لتعزيز تطوير اقتصاد منخفض الكربون، وإن كان هـذا يتطلب فترة زمنية كبيرة مع الركود الاقتصادي والتضخم في معظم دول العالم. وبالتالي، يمكن لدول المجلس تعزيز التعاون في الطاقة والاستثمارات الصينية المباشرة لتحول اقتصاداتها بعيدًا عن طاقة الوقود الأحفوري والذي يُعد أيضًا مصدرًا لتطوير التكنولوجيا المتقدمة. وفي ضوء استراتيجية" طريق الحرير الأخضر" التي تسعى بكين من خلالها لتعزيز الاستثمارات في الطاقة المتجددة بالخارج، والتي تتضمن أيضًا "حلم الصين" المتعلق ببناء دولة اشتراكية حديثة قوية تقوم على قوة محايدة للكربون بحلول 2060م، يمكن لدول مجلس التعاون وفقًا لخططتها التنموية الوطنية التعاون مع الصين لتطوير الهيدروجين النظيف.

أما سياسة التوازن، فدول مجلس التعاون الخليجي تحتاج الى التوازن بحكمة في علاقتها مع الصين القائمة على الاستثمار والطاقة، مع التحالفات الأمنية والسياسة مع الولايات المتحدة. فالصين تسعى إلى تعزيز قوة خطابها في سوق الطاقة العالمي كجزء من أمن الطاقة، والإسراع في تنوع أشكال تسوية تجارة الطاقة مثل تسعير الرنمينبي، والذي يمكن لدول المجلس تعزيزه من خلال نفوذها المتزايدة في أسواق الطاقة العالمية، والتي يفترض أن تستغلها في التوازن بين علاقاتها مع الصين في إطار مجال الاستثمار والطاقة، وتنوع مصادر صادراتها مع الدول الأوروبية وتعزيز التعاون في مجال الطاقة المتجددة التي أصبحت على قائمة أولويات سياسات أمن الطاقة لأوروبا، وأيضًا مع توقعات ارتفاع حدة المنافسة مع روسيا في الأسواق الآسيوية الفترة القادمة من أجل الحفاظ على توازنها مع روسيا. ناهيك عن أن القادة الصينيين يعتبرون أوكرانيا هي مؤشر ملموس على رد فعل دول مجلس التعاون الخليجي -وخاصة الرياض وأبو ظبي -على أي صراع مستقبلي حول استقلال تايوان.

في الواقع، "الموقف الخليجي الموحد" بشأن الحرب القائم على سياسات التوازن والتنوع في ضوء نظرية "استغلال الفرص “هو في حد ذاته فرصة استراتيجية غير مسبوقة لإبراز دول مجلس التعاون الخليجي كلاعب عالمي، وتعظيم مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية.

مقالات لنفس الكاتب