array(1) { [0]=> object(stdClass)#13138 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 181

الصحوة الأوروبية بإقرار ترابط قضايا الأمن الإقليمي في الخليج وأوروبا تطور مهم

الخميس، 29 كانون1/ديسمبر 2022

بعد أن انتهى عام 2022م، نكاد نسمع دوائر صنع القرار الأوروبي وهي تتنفس الصعداء لانقضاء عام يمكن وصفه بأنه الأكثر أهمية ومصيرية في التاريخ الأوروبي الحديث ومنذ انتهاء حقبة الحرب العالمية الثانية، وذلك على صعيد المؤسسات المركزية في بروكسل أو حكومات دول الاتحاد الأوروبي.

 وأهم ما يميز هذا العام أولا وقبل أي شيء، عودة الصراع المفتوح ليشق طريقه مرة أخرى إلى القارة الأوروبية، بعد غزو روسيا العسكري لأوكرانيا بداية فبراير الماضي. ففي الوقت الذي لا تزال القارة العجوز تتلمس طريقها في مرحلة ما بعد جائحة فيروس كورونا، وجدت نفسها تواجه معضلة أخرى زاد من حدتها أزمة الطاقة واسعة النطاق الناتجة عن الحرب المشتعلة، والتي أثرت بشكل أساسي على حياة كافة الأسر في مختلف أنحاء القارة الأوروبية، مما اضطر حكوماتها إلى التدافع من أجل إيجاد بدائل للطاقة الروسية التي كانت تعتمد عليها بشكل كبير لسد احتياجاتها من الوقود والغاز، تزامنًا مع إدراكها حقيقة أن إيجاد حلول سريعة أمر بعيد المنال. ومن ثم، يبدو محتومًا ألا يدوم ذلك الشعور بالارتياح طويلاً مع قدوم نهايات عام 2022م، وسط مؤشرات توحي بأن عام 2023م، سيكون على ذات القدر من الصعوبة والتحدي كسابقه.

نقطة تحول تاريخية

حمل الغزو الروسي العسكري لأوكرانيا في طياته العديد من التداعيات واسعة النطاق على المجالات الاقتصادية، والسياسية، والأمنية، والاستقرار الاجتماعي داخل القارة الأوروبية. وهو ما جعل المستشار الألماني أولاف شولتس يصف الحرب الروسية -الأوكرانية بأنها "نقطة تحول تاريخية تتجاوز معها فكرة عالم جديد متعدد الأقطاب حدود أوكرانيا أو الأمن الأوروبي، لتطرح تساؤلاً مهمًا:" كيف يمكن لأوروبا أن تحافظ على كينونتها كطرف فاعل مستقل في عصر جديد من صراع القوى العالمية". حيث توجد قناعة أوروبية بأن الغزو الروسي ضد أوكرانيا تسبب في تدمير بنية السلام العالمية، التي ظلت متماسكة على مدار الـ 70 عامًا الماضية، وأعاد فتح الباب أمام عودة الإمبريالية من جديد إلى واجهة السياسة الدولية. وتحت وطأة هذه المتغيرات، أدرك الأوروبيون أن العودة للنظام العالمي القديم أو الوضع السابق لم تعد ممكنة. فضلًا عن استمرار معايشة عدة تقلبات في البيئة الأمنية العالمية لبعض الوقت، إلى أن تتضح معالم ومعايير النظام الجديد، وهو ما يجعل الغزو الروسي لأوكرانيا يتخطى كونه شأننا أوروبيا محليا ليصبح أزمة عالمية.

مع ذلك، تظل أوروبا أول وأشد المتضررين بشكل مباشر من تبعات الغزو الروسي لأوكرانيا. وبلا شك سيذكر عام 2022م، في التاريخ على أنه العام الذي تسبب الغزو الروسي خلاله في تسريع أزمة طاقة عالمية وأوروبية بشكل خاص. وذلك بعد أن أدت الحرب الروسية وما تبعها من عقوبات غربية ضد موسكو، إلى فرض ضغوط جديدة على إمدادات النفط والغاز، وتقييد مسار التعافي الاقتصادي السريع من تبعات كورونا السلبية على الأسواق. وسرعان ما انسحبت كبريات شركات الطاقة من السوق الروسي، وقررت بدورها شطب أصول تقدر قيمتها بعشرات المليارات من الدولارات، فيما تسابقت دول أوروبا من أجل إيجاد بدائل أخرى لتجنب اندلاع أزمة نقص في الكهرباء، أو شح في إمدادات الوقود الضرورية من أجل التدفئة، وحماية مواطنيها من الموت بسبب الصقيع والبرد القارس خلال موسم فصل الشتاء. في غضون ذلك، سجلت أسعار الغاز الطبيعي قفزة إلى أعلى مستوى منذ أعوام، في حين ظلت أسعار الوقود قرب مستويات مرتفعة قياسية، مما أدى إلى دوامة عنيفة من التضخم خلال مرحلة ما بعد كورونا، تمخض عنها أزمة في تكاليف المعيشة داخل بلدان أوروبية. وقد انعكس ذلك عبر قراءات مؤشرات التضخم في العديد من دول القارة العجوز، حيث بلغت مستويات غير مسبوقة منذ 50 عامًا. وفي إطار مساعيها البائسة من أجل إيجاد بدائل، اضطرت بعض الحكومات الأوروبية إلى تأجيل خططها وأهدافها بشأن التغير المناخي، مع اتخاذ دول مثل ألمانيا قرار بإطالة أمد إنتاجها من الطاقة النووية، بل وحتى اللجوء إلى استخدام الوقود الأحفوري. في حين تحتاج كبرى الشركات الألمانية العاملة في مجال المرافق مثل "يونيبر" إلى مساعدات مالية تصل قيمتها إلى مليارات اليورو لتتجنب شبح الإفلاس.

في السياق ذاته، دفع الغزو الروسي لأوكرانيا دول أوروبا إلى إعادة تقييم علاقاتها مع موسكو نظرًا لاعتمادها على إمدادات الغاز الروسية من أجل سد احتياجاتها من الطاقة. وفي ضوء الترتيبات طويلة الأجل المعمول بها بين الجانبين سلفًا، أضحى من الصعب تنفيذ مثل هذا التحول على المدى القصير، ولكن سيكون له آثار يتخطى مداها ما هو أبعد من عام 2023م، مدعومة في ذلك بالخطوات الأولية المتخذة في هذا الشأن والتي شملت؛ وضع حد أقصى لسعر النفط والغاز الروسيين، ضخ مزيد من الاستثمارات في قطاع الغاز الطبيعي المسال، إلى جانب تسريع عملية التحول الأخضر أو الانتقال لمصادر الطاقة المتجددة. ومع اضطرار أوروبا إلى مواءمة أوضاعها سريعًا والتكيف مع البيئة الراهنة المتغيرة، كان لابد من إجراء بعض المقايضات التي لا مفر منها، لاسيما ما يتعلق بإصرارها على تبوؤ دور ريادي في توجيه الأجندة العالمية لتغير المناخ، مع الحفاظ في الوقت ذاته على نمط العيش الأوروبي المدعوم بالنمو الاقتصادي والرفاهية المادية. حيث سارع الاتحاد الأوروبي إلى إقرار حزمة دعم مالي موسعة، بقيمة تريليوني يورو، من أجل إعادة بناء "أوروبا ما بعد كورونا"، إلى جانب تقديم مساعدات طارئة ودعم مالي إلى دول أوروبية وأوكرانيا من أجل احتواء التداعيات الإنسانية للحرب. كذلك تم إصدار برنامج دين مشترك ومُلزم لكافة الدول الأعضاء بالاتحاد، وذلك للمرة الأولى في تاريخ التكتل الأوروبي.

مع ذلك، فإن الكم الهائل من التحديات الاقتصادية المقبلة يثير التساؤل إلى أي مدى عساها أوروبا مواصلة التوسع في التزامات ديونها، وإذا ما كان برنامج الدعم المالي الراهن سيُحرز التأثير المُتصور، بحيث يعيد الاقتصاد الأوروبي مرة أخرى إلى مساره الصحيح". ومما أثار دهشة الكثيرين أن أوروبا استطاعت الحفاظ على مستوى غير مسبوق من الوحدة والتنسيق الجماعي في مواجهة التحديات التي بدأها التحرك الروسي لغزو أوكرانيا. وفي حين كان يأمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الأرجح أن تسمح له الانقسامات الداخلية الأوروبية الإفلات بقرار الحرب، وتكبد تكاليف أقل مما كان عليه الحال. حدث ما هو عكس ذلك، حيث لم يتخذ الاتحاد الأوروبي قرارًا بشأن الحزمة الثامنة من العقوبات ضد روسيا وجولة جديدة من المساعدات المالية والعسكرية لأوكرانيا سوى خلال اجتماع المجلس الأوروبي الذي عقد في 15 من ديسمبر الجاري. وحتى هذه اللحظة، نجحت الوحدة الأوروبية في الصمود أمام التحديات وإن كان لا ينبغي التسليم باستمرار ذلك مع قدوم العام الجديد (انظر أدناه). لاسيما مع استمرار وجود العديد من التناقضات على صعيد الجبهة الاقتصادية، التي تنذر بأن تظل السياسة الأوروبية، سواء على مستوى الاتحاد الأوروبي أو المستوى المحلي داخل الدول الأعضاء، خلافية إلى حد كبير.

نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب

يحمل وصف die zeitenwende أو "نقطة تحول" دلالة وتطبيقًا خاصًا، حينما يتعلق الأمر بالعلاقات الخارجية الأوروبية. إذ تسعى أوروبا، التي اعتبرت الأعوام المقبلة حاسمة في معركة الدفاع عن النظام العالمي القائم على قواعد، إلى أن تجد لها مكانًا يجنبها ظهور خطوط صراع جديدة، أو تنافسات أيديولوجية وجيوسياسية قد تزيد من مخاطر نشوب حرب باردة جديدة. رغم ذلك، يزداد وضوحًا يومًا تلو الآخر أن العودة ببساطة إلى النظام الأمني الأوروبي ما قبل اندلاع الأزمة الأوكرانية لم تعد ممكنة، نظرًا لتباين المواقف الدولية الناشئة خاصة لدول نصف الكرة الجنوبي حول كيفية هيكلة النظام العالمي الجديد، إلى جانب الاتجاهات الراهنة المتناقضة؛ ما بين الاستمرار في العولمة، و"مزيد من الأقلمة" من أجل تقليص مخاطر اضطراب سلاسل الإمداد، التي من شأنها تقييد قدرة أوروبا على المناورة نظرًا لتفضيلها المتأصل عبر التاريخ لحماية" الوضع الراهن". بالتالي، يبقى خط الدفاع الأساسي لأوروبا هو علاقاتها الجوهرية مع الولايات المتحدة، وحضورها الأمني والدفاعي المترسخ داخل حلف شمال الأطلسي "ناتو". وعلى الرغم من المساعي المستمرة صوب زيادة الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي، وتبني ثقافة استراتيجية جديدة تسمح لأوروبا حماية مصالحها الخاصة وتعزيزها بشكل أفضل، يُنظر إلى "الشراكة عبر الأطلسي" إلى حد كبير باعتبارها أمر لا غنى عنه في سبيل تعزيز قدرتها على مواجهة التحديات الراهنة. وقد برهنت الأزمة الأوكرانية بالفعل على أن أوروبا كانت ستواجه صعوبة وإن لم يكن استحالة، في إيقاف الطموح الروسي، ما لم يكن هناك التزام أمني من جانب الولايات المتحدة تجاه أوكرانيا سواء على صعيد العلاقات الثنائية أو تحت مظلة حلف الناتو. وكما هو الحال دومًا، لايزال حلف الناتو، الذي اكتسب مزيدًا من القوة والأهمية مع انضمام كل من السويد وفنلندا، هو الضامن النهائي للأمن الأوروبي الأطلسي.

في الوقت ذاته، ثمة مخاوف حيال استمرارية الاستعداد الأمريكي الدائم للدفاع عن حلفاء واشنطن من الأوروبيين، وتساؤلات حول إذا ما كانت المصالح الأمريكية والأوروبية لا تزال تلتقي إلى حد كبير عبر القضايا الرئيسية التي تعد مبعثًا للقلق. فمن ناحية، ليس هناك ما يضمن ألا تأتي انتخابات الرئاسة الأمريكية المقررة في 2024م، مرة أخرى برئيس قد يشكك في الروابط الأساسية الأمريكية الأوروبية مثلما فعل الرئيس السابق دونالد ترامب خلال فترة وجوده في المنصب، والذي ذهب بعيدًا في وصفه الاتحاد الأوروبي بأنه أحد أكبر خصوم الولايات المتحدة. من ناحية أخرى، هناك أيضًا خيبة أمل متزايدة حيال نهج إدارة الرئيس جون بايدن الحالية كما يتجلى عبر النزاع الأخير حول قانون خفض التضخم المطروح من قبل الولايات المتحدة، والذي يعتبره الاتحاد الأوروبي انتهاكًا لقواعد التجارة الدولية وتمييزًا تجاه الشركات الأوروبية. فيما ترى وجهة نظر أوروبية شائعة أن إدارة جون بايدن تتبع بشكل أو بآخر، سياسات سلفه دونالد ترامب المتعلقة بإعادة المجد مرة أخرى للولايات المتحدة، لاسيما على صعيد الجبهة الاقتصادية. وبالتالي، يتطلب الأمر من الجانبين -الأوروبي والأمريكي-حذرًا في إدارة دفة العلاقات بين الجانبين خلال الأعوام المقبلة، إذا ما أرادا الحفاظ على رابط قوي عبر الأطلسي.

من جانبها، تراقب واشنطن بحذر التفاعل الأوروبي مع الصين، مثلما تبقي عين حذرة حيال استعداد دول مجلس التعاون الخليجي تعزيز تعاونها مع بكين، بعد الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى المملكة العربية السعودية في وقت سابق من الشهر الماضي. ورغم الجدل الدائر في الداخل الأوروبي حول المستوى العالي من الاعتماد على الصين على غرار الاعتماد السابق على الطاقة الروسية، ووصف الأوروبيين لبكين على إنها" غريم نظامي"، إلا أنه ثمة قناعة أوروبية سائدة بأن صعود الصين لا يبرر عزلها أو تقييد التعاون معها. وبقدر ما يتعلق الأمر بأوروبا، فإنها لا تنظر إلى الصين في سياق معادلة "أبيض أو أسود"، بل إنها مرة أخرى لا ترغب، على غرار دول الخليج، في أن تُحصر في وضع تضطر معه للاصطفاف إلى طرف دون آخر. مع ذلك، يظل مستقبل العلاقات الثنائية بين الجانبين مرهونًا بموقف الصين من الأزمة الأوكرانية، حيث لم يستوعب الاتحاد الأوروبي بعد صدمة الغزو الروسي، وبلا شك سيلجأ إلى توخي الحذر نوعًا ما حيال توسيع نطاق علاقاته مع بكين.

 وعبر التدقيق المتزايد فيما يتعلق بالعلاقات بين واشنطن والاتحاد الأوروبي والصين، يفتح المجال أمام تناول العلاقات الأوروبية أيضًا مع منطقة الشرق الأوسط وبالأخص دول مجلس التعاون الخليجي. لاسيما بعد طرح الإعلان عن وثيقة الشراكة الأوروبية الاستراتيجية مع الخليج اعتبارًا من مايو الماضي، والتي أكد خلالها الاتحاد الأوروبي عزمه على إعادة تنشيط العلاقات مع الدول الخليجية وتوسيع قاعدة العلاقات الثنائية. وما يعد أهم من ذلك، أن الوثيقة تتضمن اعترافًا بضرورة أن توسع أوروبا دورها و تنخرط بشكل أكبر في مخاطبة قضايا الأمن الإقليمي، وإيجاد نهج مشترك مع شركائها في مجلس التعاون الخليجي، من أجل مخاطبة التهديدات القائمة، وهو ما انعكس بوضوح عبر التصريحات التي جاءت على لسان جوزيف بلوريل ، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، عندما أكد أن " أمن الخليج هو أيضًا أمن أوروبا"،  فيما  أقرت رئيسة المفوضية الأوروبية  أورسولا فون دير لاين، خلال كلمتها في حوار المنامة 2022, بأن أوروبا استغرقت وقتًا طويلاً للغاية كي تستوعب التحذيرات الخليجية على مدار عقود طويلة من الخطر الذي تشكله إيران على أمن المنطقة.

وتشكل "الصحوة الأوروبية من حيث إقرار ترابط وتشابك قضايا الأمن الإقليمي في منطقة الخليج وأوروبا تطورًا مهمًا. والذي يتزامن مع تحسن العلاقات الثنائية بين الجانبين بشكل ملحوظ أيضًا على الجبهة الاقتصادية وتعاملات الطاقة، مع تقديم الدول الخليجية المنتجة للنفط أنفسها كبدائل لمستقبل طاقة أوروبي أكثر أمنًا، واكتساب المحادثات بشأن إعادة إحياء مفاوضات منطقة التجارة الحرة بين أوروبا ودول مجلس التعاون الخليجي مزيداً من الزخم. ومن الأهمية بمكان، مناقشة الجانبين خطط الانتقال الطاقي مع التركيز على التقنيات الخضراء ومصادر الطاقة المتجددة. وهنا يكتسب التعاون الأوروبي والاستثمارات مع دول مجلس التعاون الخليجي في مجال إنتاج الهيدروجين قيمة خاصة، كما يمكن أن يبرز كقاعدة صلبة تبنى على أساسها علاقة جديدة بين الجانبين.

ماذا يحمل عام 2023 في جعبته لأوروبا؟

بلا شك أن الكثير من تبعات عام 2022م، ستلقي بظلالها على مجريات العام المقبل، وستترك أثرًا محسوسًا، وسط استمرار المساعي الأوروبية من أجل مجابهة التغيرات الطارئة على النظام الاقتصادي والسياسي الدوليين. ويمكن أن يكون الدرس الرئيسي المستخلص من عام 2022م، هو أنه حتى أفضل الخطط المُعدة يمكن أن تُنزع وتفسد نتيجة ظروف غير متوقعة. فقد طرحت المفوضية الأوروبية في أكتوبر الماضي برنامج العمل الخاص بها لعام 2023م، وحددت خلاله ستة أهداف طموحة مستمدة من الصفقة الأوروبية الخضراء، والرقمنة، والحكومة الاقتصادية، وإعلاء نمط الحياة الأوروبية، وحماية الديمقراطية الأوروبية، إلى جانب تنشيط الجهود في مجالي الأمن والدفاع. وقد سبقه برنامج عمل عام 2022م، الذي بالتأكيد لم يأخذ في الحسبان احتمالية قيام روسيا بغزو أوكرانيا عسكريًا مثلما حدث في فبراير الماضي.

وبينما تعد نتائج النزاع الروسي-الأوكراني المتغير الرئيسي الذي من شأنه تحديد المسار الأوروبي في العام الجديد، تبرز المعضلة التي تجنبها مسؤولو السياسات الأوروبية حتى الآن، وهي كيفية إنهاء الأزمة الأوكرانية دون أن يواكب ذلك هزيمة روسية، والتي قد تسفر إما عن مزيد من تصعيد حدة القتال أو حكومة يغلب عليها نزعة أكثر قومية وانتقامية في موسكو خلال المستقبل القريب. وكان المستشار الألماني أولاف شولتس قد كتب مؤخرًا قائلاً: “ينبغي ألا تؤدي تصرفات حلف الناتو إلى مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا، بل أن يعمل التحالف بشكل صادق على ردع العدوان الروسي" وهو ما يستدعي ضرورة الحفاظ على هذا التوازن الدقيق من أجل تفادي شبح استخدام السلاح النووي الذي لا يزال يطل بظلاله مع استمرار النزاع الروسي الأوكراني. 

أما عن ثاني العوامل المؤثرة على المسار الأوروبي خلال عام 2023م، يتمثل في استمرار وحدة مواقف دول الكتلة الأوروبية والتفافها حول هدف مشترك. كما أشير سلفًا، أبدت أوروبا موقفًا موحدًا ملحوظًا على مدار أحداث عام 2022م، وهو أمر لم يكن متوقعًا إلى هذا الحد. لذلك ثمة مخاوف مشروعة من أن تتلاشى هذه الوحدة تدريجيًا خلال العام المقبل تحت ضغط تزايد التيار الشعبوي داخل الخطاب السياسي المحلي الأوروبي، واشتداد المنافسة حول آليات تحقيق تعافي اقتصادي سريع. على سبيل المثال شهدت العلاقات الثنائية بين فرنسا وألمانيا -رغم توافق مواقف الدولتين تحت مظلة الاتحاد الأوروبي -تدهورًا ملحوظًا مع قرار إلغاء المشاورات الحكومية السنوية بين الجانبين التي كانت مقررة في أكتوبر الماضي في اللحظة الأخيرة. وهو ما يشير إلى أن آلية إدارة العلاقات والشؤون الأوروبية ستظل مهمة رئيسية لا ينبغي تغافلها.

العامل الثالث المؤثر يكمن في قدرة أوروبا على صياغة شراكتها الدولية، ليس فقط مع القوى العالمية الرئيسية مثل الولايات المتحدة والصين، ولكن الأهم من ذلك، الترتيبات التي يمكن صياغتها في جوارها المباشر. وهنا تبرز منطقة الخليج كنقطة محورية رئيسية في هذا الصدد أيضًا بسبب أولوية قضايا الطاقة في المعادلة الشاملة. ولكن سيكون على ذات القدر من الأهمية أن يتوصل الطرفان -الخليجي والأوروبي-إلى صيغة لأجندة موحدة مشتركة في مخاطبة القضايا المتعلقة بسائر دول المنطقة من حيث العمل على تأمين الاستقرار والمستقبل القريب لدول مثل مصر، وليبيا، والعراق. كما تعد العلاقات مع تركيا ذات أهمية مماثلة، لاسيما وأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يقف على أعتاب مواجهة انتخابية حاسمة العام المقبل. ومن ثم فإن تقديم أوروبا نفسها كمحاور نزيه، يتمتع بموثوقية لمخاطبة مجموعة متنوعة من التحديات التي تفرضها منطقة الشرق الأوسط، يعد أمرًا حاسمًا في سبيل صياغة شراكات جديدة، وإعادة صياغة الشراكات القائمة داخل بنية نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.

مقالات لنفس الكاتب