; logged out
الرئيسية / دمج هدفي أمن المناخ وأمن الطاقة في وضع وتنفيذ الاستراتيجيات الوطنية للطاقة والمناخ

العدد 181

دمج هدفي أمن المناخ وأمن الطاقة في وضع وتنفيذ الاستراتيجيات الوطنية للطاقة والمناخ

الخميس، 29 كانون1/ديسمبر 2022

عانى قطاع الطاقة العالمي في عام 2022م، أصعب تجربة مر بها منذ عقود بسبب الحرب الروسية / الأوكرانية، التي اندلعت في 24 فبراير 2022م، والقرارات الأوروبية لمقاطعة الغاز والنفط الروسيين اللذين يشكلان عماد إمدادات الطاقة لأوروبا، ومن ثم رد فعل موسكو بقطع بعض من إمداداتها الطاقوية إلى أوروبا، في استخدام عنيف لما يعرف بـ"سلاح الطاقة".

ولذلك لم يكن غريبًا أن يطلق عدد من المراقبين مصطلح "11 سبتمبر في مجال الطاقة" لوصف التداعيات الشديدة التي تركتها هذه الحرب على منظومة الطاقة العالمية. فمثلما أدت الهجمات الإرهابية التي وقعت في ذلك اليوم على الولايات المتحدة إلى نظام أمني عالمي جديد هيمن على الساحة الدولية لأكثر من عشرين عامًا، فمن المرجح أن تقود الأزمة الأوكرانية، وما تلاها من استخدام "سلاح الطاقة" في المواجهة بين روسيا من جهة والغرب بقيادة الولايات المتحدة من جهة أخرى، إلى نشوء نظام عالمي جديد في مجال الطاقة.

ويشير هؤلاء المراقبون إلى أن السمة الأساسية التي ستحدد شكل النظام الطاقوي العالمي الجديد، في عام 2023م، وما بعده، هي محاولة صانعي القرار في الحكومات وشركات الطاقة العملاقة في العالم التوفيق بين ضرورتين مزدوجتين تتمثلان في تحقيق كلا من أمن الطاقة وأمن المناخ، من خلال خفض الانبعاثات الكربونية من قطاع الطاقة العالمي لمواجهة التداعيات السلبية لتغير المناخ من فيضانات وجفاف وموجات حر وبرودة شديدة ومجاعات وموجات هجرة وغيرها.

وفي هذا السياق، يؤكد الخبراء على أهمية العمل على تحقيق هاتين الضرورتين، أمن الطاقة وأمن المناخ، في الوقت نفسه، من دون السماح لأحدهما بأن يكون على حساب الآخر، وهو الأمر الذي أصبح يتطلب اضطلاع الحكومات بدور أكثر توسعاً في دعم أسواق الطاقة وصياغتها وتوجيهها، وتصحيح الإخفاقات التي أبرزتها إلى حد كبير أزمة الحرب الأوكرانية في عام 2022م، ويحذر هؤلاء الخبراء بقوة من أن غياب التدخل الحكومي في أسواق الطاقة العالمية خلال عام 2023م، وما بعده، (من خلال بناء البنية التحتية الضرورية، وتسعير الكربون، ووضع المعايير، وتوفير الحوافز المشجعة للقطاع الخاص وغيرها) قد يؤدي إلى إمكانية معاناة العالم انهياراً في أمن الطاقة أو أسوأ الآثار المترتبة على تغير المناخ – أو الأمرين معاً.

ومع ذلك، تثير المطالبة بزيادة التدخل الحكومي في قطاع الطاقة العالمي، خلال الفترة القادمة، من أجل تحقيق أمن الطاقة ومواجهة تغير المناخ العالمي، الكثير من القلق والهواجس، خاصة تلك المتعلقة بأن يؤدي مثل هذا التدخل إلى "تفتيت" و"تجزئة" قطاع الطاقة العالمي، خاصة إذا ما "تقوقعت" بعض الدول في تكتلات استراتيجية في مجال الطاقة، وركزت بشكل متزايد على إعطاء الأولوية لإنتاج الطاقة محلياً وللتعاون الإقليمي، الأمر الذي من شأنه أن يهز بقوة دعائم الاستقرار والثبات في أسواق الطاقة، التي شهدها العالم خلال الخمسين عامًا الماضية.

فوضى غير مسبوقة

الارتباك في قطاع الطاقة العالمي خلال عام 2022م، لم يكن وليدًا للحرب الأوكرانية فقط، وإنما كان أيضًا نتيجة خفض الاستثمار طوال العقد الماضي في تطوير صناعات الوقود الأحفوري (النفط والغاز الطبيعي) بما هو ضروري لملاقاة النمو في الطلب على الطاقة، ومن ثم تقلص الطاقة البترولية والغازية الإنتاجية الإضافية عالمياً. هذا في الوقت الذي استعاد فيه الطلب العالمي على النفط والغاز الطبيعي حيويته للمستويات ما قبل جائحة «كوفيد-19». وقد أدى هذا الخلل في ميزان الطاقة العالمي إلى زيادة الأسعار العالمية للنفط والغاز الطبيعي، ومن ثم الارتفاع "التاريخي" لفواتير الكهرباء والتدفئة ووقود المواصلات في كثير من دول العالم خلال العام الماضي. هذا بالتزامن مع عدم قدرة مشروعات الطاقات المتجددة من طاقة رياح وطاقة شمسية عن تعويض التراجع في مستويات إنتاج الوقود الأحفوري، نظراً إلى "عدم انتظام" و"توافر" الحرارة الشمسية والرياح على مدى النهار وإمكانية غيابها لأيام عدة في بعض المناطق.

هذا الارتباك في قطاع الطاقة العالمي خلال العام الماضي، فضلاً عن استخدام "سلاح الطاقة" عقب الأزمة الروسية الأوكرانية، أدى إلى بروز أحد أهم ملامح أزمة الطاقة خلال عام 2022م، وهو ارتفاع الأسعار العالمية للغاز الطبيعي إلى "مستويات قياسية". حيث تم تداول الغاز الطبيعي في أوروبا، وقت كتابة هذه السطور، عند 110 يورو / ميجاوات ساعة، بعد أن وصل إلى 350 يورو / ميجاوات ساعة في أغسطس 2022م، ونتيجة ونظرًا لأن أسعار الغاز كثيرًا ما تحدد السعر الذي تُباع به الكهرباء في كثير من دول العالم، فقد ارتفعت أسعار الكهرباء أيضًا. كذلك وصلت أسعار النفط العالمية في عام 2022م، إلى أعلى مستوى لها منذ عام 2008م. ففي الشهور الأخيرة من العام الماضي، تم تداول النفط بين 80 و90 دولارًا، بعد أن لامس 130 دولارًا كحد أقصى في مارس 2022م، مما أدى إلى تحقيق مكاسب ضخمة لمنتجي الوقود الأحفوري، تبلغ 2 تريليون دولار أعلى من صافي دخلهم لعام 2021م.

تطور أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية في الفترة من يونيو 2021 إلى أكتوبر 2022

 

وقد تزامنت زيادة أسعار منتجات الطاقة المختلفة مع إعادة رسم طرق التجارة الدولية، خاصة بعدما أعلنت الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية وبعض حلفائها الآسيويين التخلي عن شراء النفط والغاز الروسيين. كما امتنعت العديد من شركات الشحن التعامل مع النفط الروسي بسبب العقوبات ومخاطر التأمين. وبالإضافة إلى ذلك، لم يتمكن العديد من كبار منتجي النفط والغاز من زيادة العرض لتلبية الطلب المتزايد -حتى مع وجود حافز لارتفاع الأسعار بشكل كبير -بسبب نقص الاستثمار في السنوات الأخيرة.

ورغم تراجع الأسعار العالمية للنفط والغاز الطبيعي عن ذروتها في النصف الثاني من عام 2022م، إلا أن عددًا من التوقعات أشارت إلى إمكانية حدوث قفزة أخرى في هذه الأسعار خلال العام الجديد. ففي 5 ديسمبر 2022م، قفزت أسعار النفط بعد أن أبقت دول تحالف "أوبك+"، التي تجمع السعودية وروسيا مع كبار منتجي النفط في العالم، أهدافها الإنتاجية ثابتة. كما تلقت أسواق النفط أيضًا إشارات إيجابية للطلب، بعد مضي الصين، وهي أكبر مستورد للخام في العالم، قدماً نحو إعادة فتح اقتصادها، إذ خففت المزيد من المدن الصينية قيود مواجهة "كوفيد-19"، بما في ذلك شنغهاي. وفي هذا الإطار، ارتفعت أسعار العقود الآجلة لخام برنت القياسي -تسليم فبراير 2023م-بنحو 3 في المائة أو 2.55 دولار، إلى 88.12 دولارًا للبرميل. 

ومن جهة أخرى، زادت الأمور تعقيدًا في قطاع الطاقة العالمي خلال عام 2022م، مع استهداف عددًا من مرافق الطاقة العالمية بالتدمير والتخريب المتعمد، مما أشاع حالة من الهلع والقلق في كثير من أسواق الطاقة العالمية. ففي خضم النزاعات السياسية المتفجرة بين موسكو والعواصم الغربية تم إطلاق الصواريخ على مناطق قريبة جداً من المفاعلات النووية الأوكرانية، وتم تبادل الاتهامات حول تخريب أنابيب نقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى ألمانيا (نورد ستريم 1 و2).

 

موجات تضخم قياسية

ساهم ارتفاع أسعار الطاقة العالمية في عام 2022م، إلى حدوث موجات تضخم غير مسبوقة في معظم دول العالم، الأمر الذي أدى إلى زيادة معدلات الفقر بشكل مؤلم، كما اضطرت بعض المصانع إلى تقليص الإنتاج أو حتى الإغلاق الكامل. وكل ذلك، قاد إلى تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي لدرجة أن بعض الدول تتجه نحو ركود حاد. كما قد تلجأ أوروبا، التي تتعرض إمداداتها من الغاز الطبيعي للخطر بشكل فريد بسبب اعتمادها الكبير على روسيا، إلى تقنين الغاز في شتاء 2022/2023م.

ومن ناحية أخرى، شهد العديد من الاقتصادات الناشئة ارتفاعًا حادًا في فواتير استيراد الطاقة ونقصًا خطيرًا في منتجات الوقود المختلفة. كما ساهم ارتفاع أسعار الطاقة عالميًا أيضًا في زيادة انعدام الأمن الغذائي في العديد من الاقتصادات النامية، حيث يقع العبء الأكبر على عاتق الأسر الفقيرة حيث يتم إنفاق حصة أكبر من الدخل على الطاقة والغذاء. وفي هذا الإطار، تتوقع بعض الدراسات أن يفقد حوالي 75 مليون شخص ممن حصلوا مؤخرًا على الكهرباء القدرة على دفع ثمنها، مما يعني أنه لأول مرة في التاريخ منذ توافر البيانات عن مدى إتاحة الكهرباء للبشرية، قد يبدأ العدد الإجمالي للأشخاص الذين لا تتوفر لديهم الكهرباء في الارتفاع. كما قد يتم أيضًا دفع ما يقرب من 100 مليون شخص إلى الاعتماد على الحطب في الطهي بدلاً من الحلول الأكثر نظافة وصحة.

ردود الفعل مختلفة لحل أزمة الطاقة

تفاوتت سياسات الدول لحل أزمة الطاقة خلال العام الماضي. فبعض الحكومات حاولت تخفيف حدة هذه الأزمة من خلال دعم المواطنين والشركات، إما من خلال المساعدات المباشرة، أو عن طريق الحد من أسعار منتجات الطاقة المختلفة للمستهلكين، ثم دفع الفرق لمزودي ومنتجي الطاقة. وقد وصل إجمالي الدعم الذي أنفقته الحكومات، حتى كتابة هذه السطور، إلى أكثر من 500 مليار دولار، خاصة في الاقتصادات المتقدمة، لحماية المستهلكين من الآثار السلبية المباشرة لارتفاع أسعار الطاقة. ولكن نظرًا لأن التضخم في العديد من دول العالم كان في مستوى مرتفع للغاية، فضلاً عن أن ميزانيات كثير من الدول قد شهدت عجزًا كبيرًا في السنوات الثلاث الأخيرة بسبب "كوفيد-19"، فقد كان تأثير هذه المساعدات محدودًا بشكل ملحوظ، الأمر الذي أدى إلى حدوث مظاهرات شعبية غاضبة احتجاجًا على ارتفاع أسعار الطاقة في كثير من دول العالم، بما في ذلك الدول الأوروبية الغنية كألمانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها.

ومن ناحية ثانية، سارعت معظم الدول الأوروبية إلى البحث عن شركاء جدد من أجل تعويض الغاز الروسي.  وفي هذا السياق، تم التوصل إلى كثير من الاتفاقات مع دول مثل مصر وإسرائيل والجزائر والنرويج وأذربيجان. كما استأنفت العديد من الدول (أو وسعت) استخدام الفحم لتوليد الكهرباء، ولجأت دول أخرى إلى إطالة عمر المحطات النووية المقرر إيقاف تشغيلها. وأتفق أعضاء الاتحاد الأوروبي على التعاون في بناء مخزونات الغاز، وعلى أهداف طوعية لخفض الطلب على الغاز والكهرباء بنسبة 15 في المائة هذا الشتاء من خلال تدابير تحسين الكفاءة، وزيادة استخدام مصادر الطاقة المتجددة.

ومن أجل ضمان إمدادات نفطية كافية، قرر أعضاء وكالة الطاقة الدولية اللجوء إلى مخزون النفط الاستراتيجي، من خلال قرارين في 1 مارس و1 أبريل 2022م، حيث تم الإفراج عن حوالي 182 مليون برميل من نفط الطوارئ من المخزونات العامة أو المخزونات الملزمة التي تحتفظ بها شركات الطاقة. كما أصدرت بعض الدول الأعضاء في وكالة الطاقة الدولية بشكل مستقل قرارات إضافية في هذا المجال، مما أدى إلى إطلاق أكثر من 240 مليون برميل من المخزونات بين مارس ونوفمبر 2022م، كما نشرت وكالة الطاقة الدولية أيضًا خططًا لخفض استخدام النفط، وتقليل الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي وإرشادات للمواطنين العاديين من أجل تقليل استهلاكهم للطاقة.

ومن ناحية ثانية، برزت كثير من الدراسات ومقالات الرأي عن مراكز الفكر والأبحاث في عدد من الدول الغربية التي تطالب صانعي القرار بتسريع نشر الطاقة المتجددة مثل الرياح والطاقة الشمسية والطاقة النووية، مشيرين إلى أهمية الاستثمار أيضًا في البنية التحتية القوية لشبكات الغاز والكهرباء لتحسين تكامل الأسواق الإقليمية. كما شهد العالم مبادرات رئيسية لتطوير كفاءة الطاقة وتعزيز مشروعات الطاقات المتجددة. فعلى سبيل المثال، أصدر الاتحاد الأوروبي خطة ري باور إي يو (REPowerEU) في مايو 2022م، والتي تهدف إلى تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري وتسريع الانتقال الأخضر. كما أصدرت الإدارة الأمريكية للرئيس جو بايدن قانون "خفض التضخم في الولايات المتحدة" في أغسطس 2022م، والذي يعزز من اعتماد التكنولوجيات ذات الأثر الكربوني المنخفض ووضع قواعد سياسية داعمة لها.

وعلى المستوى السياسي والدبلوماسي، تحرك عدد من قادة الدول الغربية من أجل فتح مجالات للتعاون مع الدول التي لديها فائض من منتجات الطاقة المختلفة للاستفادة منه في تخفيف حدة أزمة الطاقة. حيث قام زعماء الولايات المتحدة والصين وعدد من الدول الأوروبية بزيارة كثير من الدول النفطية والغازية في محاولة لكسب ودها، وتوقيع عقود إمدادات فورية أو مستقبلية. كما سمحت إدارة الرئيس الأمريكي بايدن لفنزويلا وإيران بتصدير النفط إلى أوروبا رغم العقوبات المفروضة عليهما، كما قامت الإدارة الأمريكية أيضًا بإعطاء شركة "شيفرون" الأمريكية استثناءً لمدة ستة أشهر لتطوير مشاريعها المشتركة مع شركة النفط الفنزويلية بهدف زيادة الإنتاج، واشترطت أن يصدر النفط من هذه المشروعات إلى الولايات المتحدة فقط، وقبل ذلك قامت إدارة بايدن بسحب 180 مليون برميل من المخزون الاستراتيجي في محاولة لتوفير الإمدادات للمصافي من جهة وتخفيض أسعار النفط من جهة أخرى.

كما قامت دول كبيرة مثل الصين وألمانيا، بتوقيع عقود ضخمة وطويلة الأجل مع قطر لتأمين شحنات الغاز المسال مستقبلاً، بينما تقوم الشركات الأمريكية بالتوسع في محطات الغاز المسال لزيادة الصادرات إلى أوروبا بسبب الطلب المتزايد هناك. كما وقعت الصين على عقود ضخمة مع روسيا لبناء مزيد من أنابيب الغاز لنقل الغاز الروسي إلى الأسواق الصينية.

مفترق طرق مهم

على أية حال، يمكن القول إن الأزمة الروسية الأوكرانية، وما ترتب عليها من ارتفاع صاروخي في الأسعار العالمية للنفط والغاز نتيجة استخدام "سلاح الطاقة"، أدت إلى وضع نظام الطاقة العالمي في مفترق طرق خلال عام 2022م، خاصة بعد أن حولت هذه الأزمة أولويات الحكومات والرأي العام وشركات الطاقة العالمية. وفي هذا السياق، من المتوقع أن يعود الجدل من جديد، في كثير من الدوائر العالمية بشأن التعارض أم التكامل بين تحقيق هدفي "أمن المناخ" الرامي إلى مواجهة التغير المناخي العالمي وتحقيق التنمية المستدامة وبين "أمن الطاقة" والحاجة إلى الحصول على الطاقة بأسعار مقبولة، وبشكل آمن ومستقر، حتى لا تتزايد الاضطرابات الاجتماعية والسياسية في كثير من دول العالم، والتي قد تنجم عن ارتفاع أسعار الوقود بأشكاله المختلفة. و من المنتظر أيضًا أن تثور تساؤلات مهمة بشأن ما إذا كان هناك تكاملاً أم تعارضاً بين تحقيق هدفي مواجهة التغير المناخي وتعزيز أمن الطاقة، وما إذا كان الهدفان هما وجهان لعملة واحدة؟ أم أن تعزيز أحدهما قد يمثل تهديدًا للآخر؟

وفي الإجابة على هذه التساؤلات يبرز فريقان رئيسيان. الفريق الأول يؤكد أنصاره على تعارض تحقيق هدف أمن الطاقة مع هدف مواجهة التغير المناخي، وتحقيق أمن المناخ، على الأقل في المدى القصير. ويرى مؤيدو هذا الفريق أنه من السابق لأوانه تبنّي سياسات متطرفة لمواجهة تغير المناخ العالمي من خلال وقف الاستثمارات الجديدة في قطاع النفط والغاز بشكل "شبه كامل"، قبل تأمين بدائل مناسبة وقابلة للتطبيق. فمثل هذه السياسات ستؤدي، على الأرجح، إلى تقويض أمن الطاقة، وبالتالي التأثير سلبًا على استقرار الاقتصاد العالمي. ويدلل أنصار هذا الفريق على صحة وجهة نظرهم بالإشارة إلى "الردة الكبرى" التي قادتها دول متقدمة فيما يتعلق بسياسات الطاقة منذ بداية الأزمة الروسية الأوكرانية في فبراير 2022م، لدرجة أن بعضها، كان يتحدث قبل هذه الأزمة عن ضرورة الانسحاب من استثمارات الطاقة التقليدية، ثم لم يلبث مع الأزمة أن عاد حتى لاستخدام الفحم كمصدر طاقة تفرضه الحاجة وظروف اللحظة الراهنة. ومن جهة أخرى، يؤكد أنصار هذا الفريق أيضًا على أن مساعي تحقيق أمن المناخ من خلال استبدال مصادر الطاقة التقليدية بمصادر الطاقة المتجددة "ليست حميدة" في كل الأحوال. فعلى سبيل المثال، قد تؤدي زيادة الاعتماد على الغاز الطبيعي في إنتاج الكهرباء، إلى ارتفاع فاتورة الاستيراد لعدد من دول العالم بشكل "رهيب"، وبالتالي تعرض اقتصادها واستقرارها الاجتماعي والأمني للخطر. كذلك، قد يؤدي الاعتماد على الطاقة النووية، من أجل تحقيق أمن المناخ عن طريق خفض الانبعاثات المتسببة في ارتفاع درجة حرارة الأرض، عاملاً في زيادة المشكلات الأمنية المرتبطة بالانتشار النووي، فضلاً عن بروز خطر قيام الجماعات الإرهابية بمهاجمة محطات الطاقة النووية أو بمحاولة صنع قنبلتها النووية مباشرة.

وفي مقابل ذلك، يؤكد أنصار الفريق الثاني على تكامل هدفي أمن المناخ وأمن الطاقة، مشيرين إلى أن السياسات والإصلاحات الهيكلية الرامية إلى تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري في قطاع الطاقة سوف تؤدي، ليس فقط، إلى خفض كبير في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون (المتسببة في ارتفاع درجة حرارة الأرض)، وإنما أيضًا سوف تساعد في تحسين أمن الطاقة في جميع أنحاء العالم في المدى البعيد. ويتوقع مؤيدو هذا الفريق أيضًا أن تتلقى سياسات تحول الطاقة في العالم "دفعة قوية"، بفضل التزام كثير من دول العالم بالوصول إلى "الحياد الكربوني" بحلول منتصف القرن الحالي، وبفضل التطورات التكنولوجية وانخفاض التكاليف في مشروعات الطاقة المتجددة، خاصة تلك المرتبطة بالطاقة الشمسية وطاقة الرياح. حيث أصبحت العديد من تقنيات الطاقة المتجددة قادرة على المنافسة من حيث التكلفة مع الوقود الأحفوري في قطاع الطاقة، بعد المستويات القياسية التي وصلت إليها الأسعار العالمية للبترول والغاز الطبيعي. وفي الوقت نفسه، يشعر أنصار الفريق الثاني بالتفاؤل بعدما تولد، من وجهة نظرهم، زخمًا لا رجوع فيه بشأن انتشار مصادر الطاقة المتجددة، خاصة بعد أن بدأت التقنيات الجديدة في طاقة الرياح والطاقة الشمسية وغيرهما، والتي حدثت في الغالب في قطاع الكهرباء، تجد طريقها إلى قطاعات أخرى، مثل: النقل والصناعة والمباني. وبالتزامن مع ذلك، أسهمت الابتكارات في مجال الرقمنة وتخزين الطاقة في توسيع إمكانية ازدهار مصادر الطاقة المتجددة بطرق لم يكن من الممكن تصورها قبل عقد واحد من الزمن. ويشدد مؤيدو هذا الفريق على ضرورة أن توازن سياسات المناخ وأمن الطاقة في العالم بين الحاجة إلى مواجهة التغير المناخي العالمي وتحقيق التنمية المستدامة على المدى الطويل من ناحية وبين الحاجة إلى الحصول على الطاقة بشكل مستقر وآمن وبأسعار مقبولة في المدى القصير من ناحية أخرى، حتى لا تتزايد الاضطرابات الاجتماعية والسياسية في كثير من دول العالم. 

على أية حال، وبغض النظر على صحة وجهة نظر أيا من الفريقين، سيحتاج صانعو السياسات في العالم، بدون شك، خلال عام 2023م، وما بعده، إلى التركيز على دمج هدفي أمن المناخ وأمن الطاقة معًا في عملية وضع وتنفيذ الاستراتيجيات الوطنية للطاقة والمناخ في المستقبل.

مقالات لنفس الكاتب