; logged out
الرئيسية / على أمريكا القبول بنظام ثنائي القطبية وتوفير الفرص لعقد تحالفات مع شركاء محتملين

العدد 181

على أمريكا القبول بنظام ثنائي القطبية وتوفير الفرص لعقد تحالفات مع شركاء محتملين

الخميس، 29 كانون1/ديسمبر 2022

يأتي العام الجديد ومعه فرصة جيدة للتفكير في القوى الرئيسية التي تشكل السياسة الخارجية للولايات المتحدة داخل منطقة الشرق الأوسط وسائر دول العالم، وكيف ستحاول واشنطن الاستفادة من الفرص الجديدة الناشئة، والتغلب على التحديات المستمرة والجديدة.

أ.د. جودت بهجت

الأستاذ بمركز الشرق الأوسط وجنوب آسيا للدراسات الاستراتيجية -جامعة الدفاع الوطني-واشنطن

 

الأوضاع المحلية: أدت التبعات الناجمة عن الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا، والتي تأتي بعد مرور عامين وأكثر على تفشي جائحة فيروس كورونا، إلى تباطؤ الأنشطة الاقتصادية الأمريكية والعالمية بشكل حاد، بعد أن تسبب الصراع الدائر في ارتفاع أسعار السلع الأساسية، مما يزيد من اضطرابات سلاسل الإمداد العالمية، وتزايد انعدام الأمن الغذائي، إلى جانب ارتفاعات قياسية في التضخم، وتشديد الأوضاع المالية.  فضلاً عن أنه أدى إلى مضاعفة حجم المخاطر المالية وإضفاء مزيد من الضبابية وعدم اليقين حول السياسات. واستجابة للآثار المدمرة الناجمة عن انتشار الجائحة والحرب الأوكرانية، قرر مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي رفع أسعار الفائدة 7 مرات متتالية خلال عام 2022م، مستهدفًا بشكل كبير احتواء الارتفاع المضطرد في التضخم، والذي يقترب من تسجيل أعلى مستوى له في نحو 40 عامًا. وتعمل الزيادات المقررة في أسعار الفائدة مع مبدأ يطلق عليه الاقتصاديون " الاتجاه المطول والمتغير"، مما يعني أن محافظي البنوك المركزية قد لن يتمكنوا على مدار عام أو أكثر من معرفة ما إذا كانوا قد بالغوا في إجراءات التشديد، أم أنها لم تكن كافية لدرء الأزمة. وقد أدت قرارات رفع الفائدة الأمريكية المتعاقبة خلال 2022م، إلى تباطؤ ملحوظ في أداء القطاعات التي تتأثر بأي تغيير يطرأ على أسعار الفائدة مثل قطاع الإسكان. مع ذلك، تشير توقعات المستثمرين إلى انخفاض سريع في معدل التضخم وهو أمر محتمل حدوثه مع استمرار الركود. وبالتالي تتشكل صورة مختلطة عن الاقتصاد الأمريكي مع بدايات العام الجديد 2023م، فبينما يشهد الطلب المحلي تراجعًا ويعاني سوق الإسكان من حالة انكماش حاد، يظل سوق العمل محتفظًا بصلابته، في حين قد يساعد التراجع المتوقع لأسعار الغاز في تدعيم الإنفاق الاستهلاكي.

وقد لعبت هذه الاتجاهات الاقتصادية المتضاربة وضبابية المشهد العام دورًا في تشكيل نتائج الانتخابات النصفية للكونجرس الأمريكي التي جرت في نوفمبر الماضي. فبعد توقعات بتحقيق الحزب الجمهوري "فوز ساحق" داخل مجلسي النواب والشيوخ، انتزع الجمهوريون بفارق ضئيل السيطرة على حزب النواب، في حين منوا بهزيمة ثقيلة داخل حزب الشيوخ. وجاء إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عزمه الترشح للانتخابات الرئاسية المقررة في 2024م، ليضفي مزيدًا من الضبابية الغالبة على المشهد السياسي، فيما من المتوقع أن يعلن الرئيس جون بايدن قرار ترشحه من عدمه بداية العام المقبل. وفي غضون ذلك، فمن غير الواضح بعد إذا ما سينجح كل من ترامب وبايدن في الحصول على ترشيحات حزبيهما وسط دعوات من قبل العديد من أعضاء الحزب الديمقراطي تحث بايدن على عدم الترشح لولاية ثانية لوجود مخاوف من تقدم الرئيس في السن، بينما من المرجح أن يعلن أعضاء جمهوريين آخرين، بخلاف ترامب، نيتهم خوض غمار المنافسة الرئاسية على رأسهم رون دي سانتيس، حاكم ولاية فلوريدا، والذي يراه كثيرون مرشحًا جديًا محتملًا.

المنافسة الاستراتيجية: على مدار عقد كامل وربما أكثر، ظل تركيز واشنطن منصبًا على ما يسمى بـ “صراع القوى العظمى" أو "المنافسة الاستراتيجية"، ولا يعني هذا بالضرورة اهتمامًا أمريكيًا أقل بالتحديات الأخرى، حيث تبرز مشاركة الدبلوماسيين الأمريكيين في الجهود العالمية الرامية لمكافحة الإرهاب، ومنع انتشار الأسلحة النووية، ومحاربة تجارة الأعضاء، ومخاطبة قضايا التغير المناخي. غير أن الأعوام الأخيرة، شهدت تصدر المنافسة العالمية أمام موسكو وبكين رأس أولويات الأجندة الأمريكية.

وتظل المفاجأة الأكبر لعام 2022م، هي الإذلال العسكري الذي تعرضت له القوات العسكرية الروسية في أوكرانيا. فبعد أن تمكن الجيش الأوكراني من صد الهجوم الروسي العسكري الأول، شن هجومًا مضادًا في الجزء الشمال الشرقي من البلاد وجنوبها، لينجح في استعادة بعضًا من الأراضي المفقودة. في حين تحول الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، من ممثل كوميدي إلى قائد حرب يحظى بشعبية واسعة. وقد يجادل بعض المؤرخين بأن الحرب الروسية-الأوكرانية تعد من مخلفات أو أخر ما تبقى من " النهاية السلمية المفاجئة" لانهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991م، حيث لم يقبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قط بفكرة استقلال وسيادة أوكرانيا على أراضيها، فهو ينظر إلى هذه المعركة -ودوره فيها -كجزء من مسار التاريخ الروسي، وسط إصرار من جانبه على استعادة "روسيا العظمى" التي كانت قبل ارتماء أوكرانيا في أحضان الغرب.

وبرغم من أن استجابة الولايات المتحدة للتحرك الروسي ضد أوكرانيا كانت جوهرية، إلا أنها لم تعدو كونها رد فعل، اكتفت خلاله واشنطن بتوسيع نطاق دعمها العسكري لأوكرانيا التي لاتزال تقاوم بتحدٍ الغزو الروسي، في حين فاضل الرئيس جون بايدن بين تزويد أوكرانيا بالأسلحة، والمخاوف من تصاعد حدة الصراع ليتحول إلى صدام أمريكي مباشر مع روسيا. وبينما يُنظر إلى قرار بايدن بتزويد كييف بالمساعدات اللازمة لمنع هزيمتها أمام روسيا باعتباره مخاطرة في حد ذاته، يظل هذا القرار غير كاف لإجبار روسيا على الانسحاب أو القبول بالتسوية. كما ساعدت موازنة حلف الناتو بين القوة والحذر، في تمكين بوتين من الاحتفاظ بزمام المبادرة رغم الخسائر المفجعة، حيث لا تزال موسكو في وضع الهجوم عبر تهديداتها المتواصلة بشن هجمات نووية تكتيكية، والتلويح باستخدام القنابل القذرة، والتحكم في حركة صادرات الحبوب سواء بالتشغيل أو الإيقاف، وتفجير شبكات الطاقة الأوكرانية. كذلك تلجأ موسكو إلى تطويع أساليب التخريب ونشر المعلومات المضللة، واستعراض طائراتها بدون طيار لتحذير العالم من العواقب الخطيرة المترتبة على تصاعد الصراع الدائر.

وبالنظر إلى الأوضاع خلال عام 2023م، والتي تأتي في خضم شتاء قاس، من المرجح أن تستمر حالة الجمود على الأرض دون تغيير. حيث يراهن بوتين على فوزه في "معركة الإرادة" وإن لم يكن ذلك من خلال اختبار صبر الأوكرانيين الذين يتحملون مشقة العيش تحت ظروف قاسية، قد يكون من خلال الشعوب الأوروبية التي تواجه نقصًا في الطاقة، وارتفاعًا في الأسعار، وموجات الركود المتلاحقة، أو ربما من خلال الرأي العام الأمريكي وسط معارضة الكونجرس الجديد لتحمل أعباء وتكاليف حرب بديلة.

لذلك، ونحن على مشارف عام جديد، سيحتاج أصدقاء أوكرانيا بذل مزيد من الجهود في سبيل دعم كييف اقتصاديًا وليس عسكريًا فحسب، في ظل تأرجح الاقتصاد الأوكراني على حافة الانهيار، واحتياج الحكومة نحو 5 مليارات دولار شهريًا لتلبية الاحتياجات غير العسكرية. من جانبها، تستهدف موسكو بشكل أساسي ضرب البنية التحتية الأوكرانية، والملاجئ الأساسية، والمنشآت والمرافق الطبية، والمدارس. كذلك يحمل العام الجديد اختبارًا لقدرة واشنطن على الدمج بين سياساتها الحربية تجاه أوكرانيا والاستراتيجية العالمية التي تتبناها. وذلك بعد أن وجهت ردود فعل الرئيس بايدن حيال الأحداث المندلعة في 2022م، بوصلة السياسيات الأمريكية صوب مواجهات طويلة الأمد مع كل من روسيا والصين، ومن المرجح أن يتعزز هذا المسار عبر السياسات المحلية في الداخل الأمريكي.

وإذا ما رأت إدارة بايدن أن النفوذ الأمريكي يجب أن يشكل تهديدًا لروسيا والصين، بالتزامن مع جهودها لإعادة بناء الداخل الأمريكي وتدعيم القوة العسكرية الأمريكية، فإن واشنطن ستكون في حاجة إلى تقييم ما إذا كانت المواجهة المزدوجة ستكون انتقائية أم كاملة، حيث أن قرارها بشأن الصراع على جبهتين كفيل بتحديد المسار الأمريكي لعقد قادم.

وقد عززت الحرب الدائرة في أوكرانيا قناعة واشنطن بشأن تراجع نفوذ روسيا كقوة عالمية عظمى، مقابل إجماع بين كبار المسؤولين العسكريين الأمريكيين ومسؤولي الخارجية الأمريكية على صعود المارد الصيني كقوة عالمية ذات قدرات قوية ومتنامية من شأنها أن تهدد المصالح الأمريكية حول العالم والنظام العالمي الليبرالي. وقد تبلورت هذه الرؤية عبر وثيقة استراتيجية الأمن القومي (التي طرحت في وقت سابق من العام الجاري) والتي جاء فيها نصًا: "نحن في خضم منافسة استراتيجية لتشكيل مستقبل النظام الدولي". في تأكيد على اعتقاد راسخ في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي بأن الصين هي المنافس الوحيد للولايات المتحدة سواء كان من خلال سعيها لإعادة تشكيل النظام العالمي، أو عبر قدرات بكين الاقتصادية، والدبلوماسية، والعسكرية، والتقنية المتنامية، والتي تمنحها القدرة من أجل تحقيق ذلك.

وقد عكست زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ التاريخية إلى المملكة العربية السعودية ولقائه مع قادة المملكة، ودول مجلس التعاون الخليجي وزعماء دول عربية أخرى، تنامي المنافسة الاستراتيجية بين بكين وواشنطن لاسيما مع توجه الدول العربية نحو توسيع نطاق روابطها مع الجانب الصيني ليشمل مجالات مثل مبيعات الأسلحة، ونقل التكنولوجيا، ومشروعات البنية التحتية. في غضون ذلك، تواصل الشركات الصينية بناء مدن جديدة داخل كل من مصر والمملكة العربية السعودية. كما قام الجانب الصيني ببيع التكنولوجيا الحديثة إلى الحكومات العربية وعقد شراكة معها في مجال بحوث الذكاء الاصطناعي. وسعت الصين خلال الفترة الأخيرة إلى تعزيز حضورها وبصمتها البحرية داخل المنطقة، والتي تمثل ممرًا مهمًا ضمن مبادرتها "الحزام والطريق" من أجل تسهيل نفاذ صادراتها إلى شركائها التجاريين داخل أوروبا.

وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة ظلت حليفًا وثيقًا لدول المنطقة العربية والخليجية، إلا أن علاقات الأخيرة مع الجانب الصيني شهدت توسعًا متسارع الخطى. وبرز دور بكين خلال الأعوام الأخيرة بصفتها أكبر شريك تجاري للعديد من دول منطقة الشرق الأوسط. في ظل احتياج بكين الدائم لإمدادات ثابتة من الوقود الأحفوري من أجل الحفاظ على تشغيل عجلة الاقتصاد، الذي يعد ثاني أكبر اقتصاد على مستوى العالم. وقد تعزز هذا الاحتياج من خلال أسعار الطاقة المتقلبة في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير الماضي، وأزمة الطاقة الصينية أيضًا التي تسببت في تعتيم المدن والمصانع بسبب انقطاع التيار الكهربائي.

من جانبهم، أكد القادة السعوديون وغيرهم من القادة العرب أن الشراكة مع الولايات المتحدة تظل محورًا مهمًا، مؤكدين رفضهم الانحياز إلى طرف على حساب الآخر. وفي الوقت الذي تعد المملكة العربية السعودية المصدر الرئيسي الثالث لواردات النفط الأمريكية، وأكبر عميل لمبيعات الأسلحة العسكرية الأجنبية، تتمتع الرياض بشراكة اقتصادية استراتيجية مع الجانب الصيني، كما تحرص المملكة على إيجاد بدائل تُجنبها الاعتماد على دولة بعينها، وتبدو الصين مؤهلة لتبوء هذا الدور. وكان وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود، قد أوضح أن التورط في عملية الاستقطاب العالمي أمر بالغ السلبية، وأن العرب يسعون جاهدين لتحقيق مصالحهم في الغرب والشرق على حد سواء. ويتجسد ذلك في التعاون الموسع بين المملكة العربية السعودية، الدولة الرائدة في المنطقة وأكبر مصدر للنفط في العالم، والمارد الصيني صاحب ثاني أقوى اقتصاد عالمي وأكبر مستهلك للطاقة على مستوى العالم. حيث وقع الجانبان اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة يتم بموجبها عقد قادة البلدين لقاءً متجددًا كل عامين. كما تمت صياغة 34 صفقة استثمارية بين الجانبين في العديد من القطاعات بما في ذلك التكنولوجيا والطاقة. وتضمنت الصفقات توقيع مذكرة تفاهم بين شركة هواوي الصينية ووزير الاتصالات السعودي لإنشاء إنترنت محمول بسرعة 10 جيجابيت في الثانية ومنشأة للحوسبة السحابية في المملكة، إلى جانب توقيع الجانبين صفقات في مجال البناء تشمل بناء 300 ألف وحدة سكنية. وفي غضون ذلك، وقعت شركة إنوفيت" الصينية المتخصصة في إنتاج السيارات الكهربائية مذكرة تفاهم مع الشركة السعودية القابضة لبناء مصنع للسيارات داخل المملكة بطاقة إنتاجية تصل إلى 100 ألف مركبة سنويًا. من ناحية أخرى وافقت الصين ودول الخليج على إقامة منتدى مشترك للاستخدامات السلمية للطاقة النووية، والمركز الصيني الخليجي للأمن النووي.

تنظر غالبية الدول إلى صراع القوى العظمى باعتباره التحدي الأكبر لمصالحها أكثر من التهديد الذي تمثله كل قوة منفردة. ومن هذا المنطلق، تتعامل العديد من الدول العربية مع الصين بوصفها أكبر شركائها التجاريين وأحد أكبر الأسواق العالمية لصادرات المنطقة. في الوقت ذاته، تعتز العديد من الدول العربية بعلاقاتها مع واشنطن باعتبارها شريكها الأمني الرئيسي. وبالتالي فإن الاضطرار إلى الانحياز إلى طرف دون آخر أو حتى تقييد التعاون معه سيكون أمرًا مكلفًا لهذه الدول، وهو السبب الذي دفعها إلى تبني نهج جديد من أجل موازنة علاقاتها مع واشنطن وبكين، وذلك عبر السعي إلى إقامة علاقات وثيقة مع القوتين العالميتين.

على صعيد منطقة الشرق الأوسط، تعتبر كل من دول البحرين، ومصر، والكويت، وقطر، والمملكة العربية السعودية، والإمارات شركاء في الحوار (حاليون أو محتملون) داخل منظمة شنغهاي للتعاون. وهي منظمة سياسية، اقتصادية، وأمنية ترتكز على الصين، وتُوصف في بعض الأحيان باعتبارها بديل لحلف الناتو. كذلك أعربت بعض البلدان العربية عن اهتمامها للانضمام إلى منظمة "بريكس" أيضا، ذلك التكتل الذي يجمع بين دول الأسواق الناشئة ومن بينها الهند والصين، رغم المنافسة المتعمقة بين الجانبين. (بريكس تعني البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا)

ويمثل التوسع الذي يشهده التكتلان، صعودًا لنظام عالمي بديل لا ترغب من خلاله الدول الساعية وراء توسيع مشاركتها مع دول منظمة شنغهاي أو بريكس، في بناء نظام منافس أو أن تنأى بنفسها عن مجموعة السبع، أو حلف الناتو، أو الأمم المتحدة. بل أن الأمر أشبه بمحاولة إيجاد ملاذ تركن إليه الدول الرافضة لقيود وعواقب النظام العالمي ثنائي القطبية، وذلك من خلال الإبقاء على قدم واحدة داخل المعسكر الذي تقوده واشنطن، وغرس موطئًا للأخرى داخل المؤسسات متعددة الأطراف تحت قيادة موسكو وبكين. وفي حين لم تُطالب واشنطن بشكل مباشر انضمام الدول إلى أحد المعسكرين المتناحرين، يواصل الدبلوماسيون الأمريكيون الحديث عن أفضلية السياسة الأمريكية وملائمتها لتحقيق رفاهية وأمن الشعوب حول العالم، مقارنة بتلك التي تتبناها أو تروج لها الصين وروسيا.

ومن ثم فإن الدول الرافضة للانحياز تستهدف من خلال هذا النهج المتبع تقليص حجم الخسائر المترتبة على صراع القوى العظمى، مقابل تعظيم المنافع المصاحبة له. ومع اشتداد أوجه المنافسة بين القوى العالمية، وجدت الدول الصغيرة والمتوسطة، من حيث المساحة الجغرافية، نفسها عرضة لطلبات متنافسة من جانب كلا المعسكرين. فعلى سبيل المثال تدعوها الصين إلى دعم سياساتها المتبعة في هونغ كونغ وتايوان، في حين تطالبها واشنطن أن تتجنب الاستثمارات في البنية التحتية الصينية وتكنولوجيا الجيل الخامس. ونظرًا إلى أن كلا المعسكرين ينظر إلى هذه الدول باعتبارها شريك مُحتمل، فمن المرجح أن تكون دولة بعينها هدفًا للإقناع بدلا من العقوبات، وهو ما يخول هذه الدول الصغيرة أو المتوسطة إمكانية استرضاء أي من هذه القوى دون أن تجازف بتكبد خسائر أو استفزاز القوى العالمية الأخرى.

 وبدلًا من أن يسعى صانعو السياسات الأمريكية بشكل دائم إلى تقسيم العالم إلى نظام أشبه بثنائية الحرب الباردة، ينبغي عليهم القبول باحتمالية ألا يسفر التصعيد الأخير في صراع القوى العظمى عن نظام ثنائي القطبية في كافة القضايا العالمية، وأن يسعوا إلى توفير مزيد من الفرص أمام عقد تحالفات مع شركاء محتملين، والعمل على جعل هذه التحالفات أكثر قيمة للشركاء، حتى وإن كان لديهم روابط أخرى من التعاون مع القوى العالمية الأخرى المنافسة. ومن الأهمية بمكان أن تعرف واشنطن كيفية اختيار معاركها عند توجيه طلب إلى شركائها. إذ عادة ما تفشل دوائر صنع القرار الأمريكي في مراعاة كيف ينظر شركاء واشنطن إلى مصالحهم الخاصة، وفي أغلب الأحيان ترتكب مغالطة مؤسفة عند افتراضها وجود تماهي بين نظرة واشنطن والدول الحليفة للأشياء ذاتها، أو أن هذه الدول لديها شعور تلقائي بالتعاطف والتضامن مع المصالح الأمريكية. وبرغم من رؤية إدارة بايدن للعالم باعتباره منقسم بين ديمقراطيات تتزعمها واشنطن، وأنظمة ديكتاتورية تحت قيادة الصين وروسيا، إلا أنه يزداد وضوحا يوما تلو الأخر أن أحدث فصول صراع القوى العظمى لن تكون سمته الأساسية مبدأ “كل شيء أو اللاشيء أو "إما أن تكون معنا أو أنك ضدنا" على عكس ذلك، تسعى دول منطقة الشرق الأوسط ودول أخرى حول العالم إلى المشاركة في مؤسسات متعددة الأطراف سواء كانت تحت قيادة أمريكية، أو تلك التي تتزعمها روسيا والصين.

 

الآفاق المستقبلية: لطالما كانت دول مجلس التعاون الخليجي شريكا وثيقًا للولايات المتحدة على مدار أكثر من نصف قرن من الزمان، كما أنها لا تزال تعتبر واشنطن الضامن الرئيسي لأمن المنطقة. ولا تجد في ذلك تعارضًا أيضًا مع مساعيها لتعزيز تحالفاتها الأخرى استعدادًا لما تراه " نظام عالمي ناشئ متعدد الأقطاب سيشهد سطوع نجم الصين كقوة عظمى رئيسية. وبرغم من أهمية المكانة التي تحظى بها واشنطن لدى دول الخليج، إلا أن الحضور الصيني يعد جوهريا بالنسبة لها أيضًا. وبالتالي، فإنها لا تستشعر حاجة للاصطفاف إلى قوة عظمى ضد الأخرى، بل تشعر أنها قادرة على التعاون مع الجانبين الأمريكي والصيني سويًا، ومع القوى العالمية الأخرى مثل أوروبا، واليابان، والهند.

من ناحية أخرى، ستظل السياسة الخارجية للولايات المتحدة خلال الأشهر بل والأعوام المقبلة داخل المنطقة وغيرها حول العالم مرآة تعكس القيم الأمريكية المُتصورة ومصالح واشنطن الاستراتيجية. وفي الوقت الذي تشكل قيم إعلاء الديمقراطية، والشفافية، واحترام حقوق الإنسان محركًا أساسيًا للسياسة الأمريكية، تواصل المصالح القومية الأساسية دورها في تشكيل سياسات الدولة الأمريكية ويتضمن ذلك: إمدادات طاقة مستقرة وآمنة، ومكافحة الإرهاب، ومنع انتشار الأسلحة النووية، والاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي. وإن تحقيق هذه الأهداف يتطلب بشكل أساسي قدوة ومثال يحتذى، مما يعني تقديم أداء اقتصادي قوي وبناء إجماع سياسي في الداخل. وعلى الرغم من التباطؤ الاقتصادي العالمي بسبب انتشار جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا، إلا أن الاقتصاد الأمريكي قدم أداء أفضل مقارنة بغيره من الاقتصادات الأخرى. إذ تحاول الإدارات الأمريكية، الجمهورية والديمقراطية على حد سواء، إنهاء أو تقليل الانخراط في النزاعات العسكرية الأجنبية، ويعد قرار الانسحاب من أفغانستان مثال على ذلك.

وفي حين لم تعد الولايات المتحدة القوة العالمية الرائدة التي كانت عليها قبل عقدين أو ثلاثة عقود ماضية، إلا أنها لا تزال تحتفظ بمكانتها العالمية الكبرى على الصعيد الاقتصادي، والعسكري، والدبلوماسي. وإذا ما كانت المنافسة أمام روسيا والصين خلال الأعوام المقبلة تبدو أمرًا محتومًا، تظل غير مدفوعة بأسباب أيديولوجية، حيث يتمتع الاقتصادان الأمريكي والصيني بدرجة كبيرة من التشابك والاعتماد المتبادل. كما أن الشريحة الأكبر من الطلاب الأجانب داخل الجامعات الأمريكية هم من الصينيين. باختصار، لا ينبغي أن يُنظر إلى التنافس على الريادة العالمية خلال السنوات الأخيرة ضمن إطار معادلة صفرية. وبنفس القدر من الأهمية، لا ينبغي أن يكون الشاغل الأكبر هو ما يحدث سواء في واشنطن، أو بكين، أو موسكو، أو بروكسل بل ما يفوق ذلك أهمية هو كيفية بناء الدول العربية اقتصاداتها الخاصة والاستثمار في شعوبها. حيث أن تحقيق التنمية الاقتصادية العربية والاستقرار السياسي للمنطقة، من شأنه المساعدة في بناء علاقات مستقرة ومتوازنة مع الولايات المتحدة والقوى العالمية الأخرى، بل والحفاظ عليها.

 
مقالات لنفس الكاتب