array(1) { [0]=> object(stdClass)#13138 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 181

احتمالية زيادة الصراعات الأهلية الإفريقية وسط التضخم وعدم الاستقرار السياسي

الخميس، 29 كانون1/ديسمبر 2022

حصاد وآفاق: رسمت السرديات المختلفة، على مدى العام الماضي، مجموعة واسعة من وجهات النظر عن إفريقيا وحاجتها لتسريع عجلة التنمية بعد سنوات وباءٍ عجاف، وتصاعد لأعمال الإرهاب، التي شكلت تهديداً مكلفاً، زاد من نسب الفقر، والهجرة القسرية، وعدم الاستقرار السياسي. فقد وُصِفَت القارة طِوال الأعوام، التي سبقت الجائحة، بأنها قوة اقتصادية صاعدة، وأنها أكثر القارات نمواً،

د. الصادق الفقيه

سفير سوداني ــ الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي ــ الأردن

 

وحققت معدلات جذب عالية للاستثمارات الخارجية المباشرة، ونُعِتَت بكل ما من شأنه أن يُبرِز خصائصها الإيجابية، ويُعلِي من أسهمها في سوق المنافسة الدولية. غير أن الحقيقة هي، كما هو الحال دائماً، لا تكون أكثر دقة في تقديم تقييم موضوعي يستصحب كل المتغيرات الحادثة داخلياً؛ وما هو مرتبط منها بالخارج، الذي يتمثل في جائحة الفيروس التاجي "كورونا"، كوباء عَمَّ العالم بأسره، وحدة التنافس على الموارد والفرص، وحمأة الصراع بين القوى العظمى على النفوذ والاستقطاب. لكن، هناك شيء واحد مؤكد وهو أن التحول الإيجابي، الذي شهدته إفريقيا في العقود الأخيرة كان ملحوظاً، وأن القارة الفتية بدأت تُشَكِّل مصيرها، ووجب أن يُشارُ إليها باسم "الفرصة الإفريقية"، وأن تكون محل إشادة من العالم أجمع، بدلاً من النظرة القديمة، التي ترى أن إفريقيا ما هي إلا "تهديد" لتحضر ورفاهية هذا العالم. أو كما تقول أمينة غريب فقيم، رئيسة جمهورية موريشيوس السابقة، إن تجاهل هذا التقدم يعتبر قُصر نظر، لكن الاعتراف بالتقدم لا يعفي من المسؤولية لمواصلة العمل لتحقيق نتائج إيجابية أسرع وأكبر. ويذهب الاعتقاد الآن أن بطء النمو، الذي شهده العام الماضي 2022م، ما هو إلا حالة مؤقتة ستتجاوزه القارة باقتدار هذا العام. ويتأتى ذلك، في تقديرنا، من خلال الاعتراف بحقيقة أن إفريقيا هي قارة الموارد المتبقية للبشرية، التي ستمكن الحكومات والمواطنين والمنظمات في القارة، وحول العالم، من أن يكونوا في وضع أفضل لمواجهة التحديات السالبة، وزيادة تعزيز الاتجاهات الإيجابية؛ مثل، تعزيز مكاسب الحوكمة، والطريق الآمن إلى الاستقرار السياسي.

إن استمرار النظر إلى القارة السمراء على أنها بؤرة للجهل والفقر والمرض والجوع والصراعات فقط هو بلا شك تجاهل متعمد للخطوات الكبيرة، التي قطعتها البلدان والمجتمعات الإفريقية في سبيل الارتقاء بكل جوانب حياتها، بما في ذلك التعليم. ولأن هذا التعليم هو المحرك الأساس لأي تقدم منشود، فقد ارتفع عدد الأطفال الأفارقة الملتحقين بالمدارس الابتدائية من 60 مليون في عام 2000 م، إلى أكثر من 150 مليون في العام الماضي. وارتفعت معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة لدى الكبار بنحو 10 نقاط مئوية منذ عام 1995م، وتتقلص الفجوة بين الجنسين في محو الأمية، مدفوعة جزئياً بالتحسينات الهائلة في التكافؤ بين الجنسين في الالتحاق بالمدارس. ورغم أن إفريقيا ظلت تنمو بمعدلات تتراوح بين 5 و9٪ منذ حوالي 10 سنوات حتى الآن، ولكن دون القضاء على الفقر، مع واجب الاعتراف بأن نسبة الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع في إفريقيا قد انخفضت على مدى الأعوام الماضية، وبالنسبة لمعظم البلدان، فإن التوقعات الخاصة بالحد من الفقر كانت في العام الماضي إيجابية، بما في ذلك تقليل نسبة الجوع وما يرتبط به من آثار. كما أن الأبعاد غير النقدية للفقر آخذة في التحسن، إذ أكدت بيانات العام الماضي أن العديد من البلدان الإفريقية تسير على الطريق الصحيح لتحقيق تقدم كبير في أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة بحلول عام 2030م. وتلتزم الحكومات الإفريقية والعاملون في مجال الصحة بالوقاية من الأمراض، وخاصة الأمراض المهملة، التي غالباً ما تكون قصيرة المدى، وتحسين الوصول إلى العلاجات، وإيجاد طرق أفضل لتقديم رعاية صحية جيدة. وساهمت الاستجابة الفعالة للنزاعات والأزمات؛ في عدد من البلدان إلى الالتزام بما سبق أن حدده الاتحاد الإفريقي في عام 2019 م، باعتباره "عام اللاجئين والعائدين والنازحين داخلياً في إفريقيا"، الذي انعكس إيجاباً على محصلة التقديرات العامة لهذه المشكلات في عام 2022م، ويتوقع أن يستمر هذا الإجماع الإفريقي على أهمية الحلول، التي يقودها الاتحاد الإفريقي، لبناء حل مستدام لقضايا القارة المختلفة في عام 2023م، وما بعده. 

الفرص والتحديات:

إن من المعلوم بالضرورة، أن إفريقيا تمثل مساحة أكبر من الولايات المتحدة والصين والهند واليابان وأوروبا مجتمعة، ومع ذلك فإن الكثيرين في الغرب ليسوا على دراية بهذا الأمر، ويعبرون عن الجهل بهذه الحقيقة بسلوكهم تجاه ما يقع في القارة من أحداث. فإذا كانت هناك أعمال شغب في مونروفيا بليبيريا، فإن الشركات الأجنبية تُسرِعُ في الانسحاب من نيروبي في كينيا، من دون أن يضعوا اعتباراً لأكثر من 5000 كيلومتر تفصل بين المدينتين. من جانب آخر، يتم في الغرب إيلاء الكثير من الاهتمام لبلدان الـ"بريكس"، لكن بالكاد يذكرون شيئاً عن القارة السمراء، إلا في سياق سلبي. ومع ذلك، وعلى مدى العقد الماضي، كانت ستة من البلدان العشر الأسرع نمواً في العالم هي في إفريقيا. ويبلغ عدد سكانها أكثر من مليار نسمة، وهم الأسرع نمواً والأصغر سناً في العالم، وفيهم طبقة وسطى ناشئة، كما تضم هذه الطبقة مستهلكين أكثر ازدهاراً اليوم من أي وقت مضى. وبالنظر لآفاق الاقتصاد الإفريقي في عام 2023م، فإن الشعار المرفوع هو دعم التعليم والحوكمة والديمقراطية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتعزيز المرونة في مواجهة تغير المناخ والتحول العادل للطاقة النظيفة. ولكن، على الرغم من أن إفريقيا تمثل 3٪ فقط من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون التراكمية في جميع أنحاء العالم تاريخياً، في حين أن سكانها يزيدون على نسبة 17٪ من سكان العالم الحاليين، ومع ذلك، فإن تغير المناخ والظواهر الجوية المتطرفة تؤثر بشكل غير متناسب على القارة، مع عواقب اقتصادية واجتماعية وبيئية وخيمة على سكانها، التي تُشَكِّلُ تهديداً متزايداً للحياة وسبل العيش فيها.

وتوضح التوقعات الاقتصادية الإفريقية أن الوباء والحرب الروسية الأوكرانية يمكن أن تترك أثراً سلبياً دائماً على مدى عدة سنوات، إن لم يكن حتى عقد من الزمان. فقد ازدادت حدة التنافس والاستقطاب، وفي الوقت نفسه، تم دفع حوالي أكثر من 30 مليون شخص إلى الفقر المدقع، في عام 2021م، وفقد حوالي 22 مليون وظيفة في نفس العام بسبب الوباء. ومن المتوقع أن يستمر هذا الاتجاه خلال عام 2023م، إذ يقدر أن تؤدي الاضطرابات الاقتصادية الناجمة عن الحرب الروسية / الأوكرانية إلى دفع ما يقرب من مليوني شخص آخر إلى الفقر المدقع في عام 2022م، وقد يتضخم هذا العدد إلى 2.1 مليون شخص آخر في عام 2023م. وتقدر احتياجات التمويل الإضافية للقارة للفترة 2023-24 بنحو 500 مليار دولار. وظلت ​​القارة تخسر ما بين 5٪ و15٪ من الناتج المحلي الإجمالي بسبب تغير المناخ، وتلقت بشكل جماعي فقط 18.3 مليار دولار في برنامج تمويل المناخ بين عامي 2016 و2019م، وهذا يترك فجوة تمويل المناخ تصل إلى 1288.2 مليار دولار سنوياً من 2020 إلى 2030م، وسيتطلب تمويل المساهمات المحددة وطنياً من البلدان الإفريقية، والتعهدات العامة من البلدان الأخرى، بشأن كيفية التخطيط للعب دور في العمل الجماعي لما يصل إلى 1.6 تريليون دولار بين عامي 2023 و2030م.

وبالعودة لتأثيرات الحرب الروسية-الأوكرانية على إفريقيا، نعتقد أن التأثير الحقيقي على كل اقتصاد يرتبط بمستوى الاعتماد على صادرات، أو واردات النفط والغاز، والسياحة، والحبوب والأسمدة المستوردة، من بين أمور أخرى. ورغم قلة ما تستورده وتصدره إفريقيا للدولتين، إلا أن هناك آثار واضحة طويلة الأجل، بما في ذلك إعادة التنظيم الجيوسياسي المحتمل، وعدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، وعدم القدرة على تحمل أعباء الديون، التي من المرجح أن تُؤدي إلى اتساع نطاق عدم المساواة وتعميق الفقر. ويتمثل التأثير الأكثر وضوحاً للحرب على إفريقيا في ارتفاع أسعار الوقود والغذاء والتضخم وعدم الاستقرار المالي، وسيكون الأكثر فقراً هم الأكثر تضرراً حيث إن نسبة كبيرة من إنفاقهم الاستهلاكي يذهب إلى الغذاء والنقل. لذلك، فمن المرجح أن يستمر انعدام الأمن الغذائي، وأن يكون له تأثير سلبي على جميع جوانب التنمية البشرية من الدخل إلى الصحة والتعليم. وتتوقع مجموعة الاستجابة للأزمة العالمية، التابعة للأمم المتحدة، والمعنية بالغذاء والطاقة والتمويل، أزمة تكلفة معيشية عالمية تنتقل من خلال ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وارتفاع أسعار الطاقة، وتشديد الأوضاع المالية. ولذلك، فالمطلوب استجابة عالمية لتحقيق الاستقرار في أسواق السلع الأساسية، ومعالجة ارتفاع تكلفة الديون، مع زيادة قدرة الناس والبلدان على التأقلم. كما أن إعطاء الأولوية للتحول الهيكلي الأخضر والشامل والمرن، الذي أشرنا إليه، سيضمن عدم تخلف أحد عن الركب، وأن تكون إفريقيا مستعدة بشكل أفضل للأزمة القادمة.

التعليم والتنمية:

إذا أخذنا التعليم كنقطة انطلاق للتنمية، فإنه في عام 2022م، كان أكثر من ربع سكان إفريقيا في سن الدراسة، وقطعاً فإن هذا الرقم مُرشحٌ للزيادة في هذا العام، وبحلول عام 2035م، سيكون هؤلاء الشباب في سوق العمل. لذلك دعت اليونسكو، في 10/05/2022م، كل الحكومات، كواجب لا مهرب منه، أن تستثمر الآن في تعليم أولئك الذين سيحملون مستقبل القارة بأيديهم غداً. فالتعليم يُعَدُّ من عوامل البقاء والإنجاز، وهو الاستثمار الأكثر فعالية في مكافحة الفقر، ويساهم في تحسين التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ومع وجود 3 من كل 5 أشخاص تحت سن 25، و50٪ من السكان الذين تتراوح أعمارهم بين 3 و24 عاماً، فإن إفريقيا هي أصغر قارة على وجه الأرض. بالإضافة إلى الشباب، فإن عدد سكان إفريقيا ينمو بسرعة أيضاً، إذ زاد عدد الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 3 و24 سنة بنسبة 58 في المائة، منذ عام 2000م، ومن المقدر أن يزداد بنسبة 22 في المائة أخرى في الأعوام العشر القادمة. ويمثل هذا العدد الكبير، والمتزايد بسرعة، من الشباب في إفريقيا فرصاً عظيمة وتحديات كبيرة على حد سواء، إذ يجعل الضغط على أنظمة التعليم والتدريب كبيراً جداً. وتواجه البلدان الإفريقية، التي لديها بالفعل أضعف معدلات الالتحاق بالمدارس ونتائج التعلم في العالم، طلباً متزايداً على هذا التعليم والتدريب. في هذه المواقف، ولقلب هذا التحدي إلى فرصة، فمن الضروري السعي باستمرار لجعل المدرسة مكاناً لتكافؤ الفرص، وتخصيص الموارد البشرية والمادية، من أجل توفير مراقبة محددة للطلاب حتى يتمكنوا من استيعاب الأساسيات، جنباً إلى جنب مع التحقق من عمق وملاءمة المعرفة لحاجات الدولة والمجتمع. 

إن التأكيد على أن التعليم يجب أن يكون على رأس أولويات الحكومات الإفريقية، مطلوب الآن أكثر من أي وقت مضى، خاصة مع معرفة حقيقة أن هذه الحكومات تنفق في المتوسط 4.1٪ من ناتجها المحلي الإجمالي على التعليم، أي أعلى بقليل من الحد الأدنى المعياري، وأقل قليلاً من المتوسط ​​العالمي 4.3٪. وعلى مستوى مناطق القارة، تتراوح النسبة بين 3.1٪ في وسط إفريقيا إلى 5.9٪ في الجنوب الإفريقي. ومع ذلك، تكشف البيانات الوطنية عن تفاوتات كبيرة في الإنفاق العام كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي؛ يختلف من 1٪ في جمهورية إفريقيا الوسطى إلى 8٪ في سيراليون، أما في أكثر من نصف البلدان الإفريقية، فهو أقل من 4 في المائة. ووفقاً لتقديرات بنك التنمية الإفريقي، تنفق البلدان الإفريقية في المتوسط ​​25٪ على كل تلميذ في المرحلة الابتدائية مثل دول أمريكا اللاتينية و5٪ مثل الدول الآسيوية. بالنسبة لتلاميذ المدارس الثانوية، تنفق إفريقيا أقل من نصف ما تنفقه أمريكا اللاتينية على كل تلميذ، و5٪ مثل آسيا. وإلى جانب ذلك، هناك عاملان يؤثران على حجم الإنفاق العام على التعليم كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي وهو قدرة الحكومات على تعبئة الموارد المحلية، وأولوية الميزانية، التي تمنحها هذه الحكومات لقطاع التعليم.

ثروة بشرية:

تقول البيانات إن إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، موطن لأكثر من مليار شخص، نصفهم سيكون أقل من 25 عاماً بحلول عام 2050م، وهي قارة متنوعة تتوفر فيها الموارد البشرية والطبيعية، التي لديها القدرة على تحقيق النمو الشامل، والقضاء على الفقر. ومع أكبر منطقة تجارة حرة في العالم، أقرتها دول الاتحاد الإفريقي، وسوق يضم 1.2 مليار شخص، تخلق القارة مساراً جديداً تماماً للتنمية، وتعمل على تسخير إمكانات مواردها وشعوبها لبناء المستقبل. وذلك رغم أن القارة تتكون من بلدان منخفضة الدخل، ودول متوسطة دنيا، وأعلى متوسطة، وعالية الدخل، منها 22 مصنفة على أساس أنها هشة، أو متأثرة بالصراعات. ويوجد في إفريقيا أيضاً 13 دولة صغيرة، تتميز بقلة عدد السكان ومحدودية رأس المال البشري ومساحة الأرض المحصورة، كما أن هناك دول حبيسة، يعيقها هذا الوضع في تنمية صادراتها ووارداتها. وتُظهر آفاق منطقة شرق وجنوب إفريقيا انتعاشاً مستداماً بلغ 4.1 % في فترة الجائحة، وانخفض إلى 3.1 % في عام 2022م، ويتوقع الاستقرار في حوالي 3.8 % في عام 2023م، ومن المتوقع أن تنمو منطقة غرب ووسط إفريقيا الفرعية بنسبة 4.6 % عام 2023م، ومن المتوقع أن ينمو النشاط الاقتصادي في إفريقيا جنوب الصحراء بنسبة 3.9 % و4.2 % في عامي 2023 و2024م، على التوالي. ومن المتوقع حدوث انتعاش في الطلب العالمي على الموارد الإفريقية في عام 2023م، حيث من المتوقع أن تتبدد معظم الصدمات، التي تسببت في تراجع الاقتصاد العالمي.

بيد أن التهديد، الذي يلوح في الأفق ويُنْذِر بالركود في جميع أنحاء العالم وسط مشهد من الصدمات المتعددة الجديدة والمتغيرة، يُؤكد على حاجة صانعي السياسات الأفارقة إلى تنفيذ سياسات تُسَرِّع التحول الهيكلي من خلال النمو المعزز للإنتاجية، وخلق وظائف أكثر وأفضل. ويعد تعزيز الإنتاجية الزراعية أمراً ضرورياً لدفع عملية التحول الهيكلي المعززة للنمو. ووسط ارتفاع أسعار المواد الغذائية وقيود العرض، يحتاج صانعو السياسات إلى تجنب ارتكاب أخطاء السياسة السابقة المتمثلة في إجراءات الحظر، أو الرسوم الجمركية، وزيادة الضرائب على الصادرات والواردات، وضمان تدفقات التجارة الدولية. إذ إنه على الرغم من تحسن الحوكمة بشكل كبير في جميع أنحاء إفريقيا، منذ عام 2000م، وعلى مدى الأعوام العشر الماضية، شوهدت تحسينات كبيرة في المشاركة وسيادة القانون والحقوق، وأظهرت أربعة وثلاثون دولة، يمثل مواطنوها ما نسبته 72 % من سكان القارة، تحسينات في الشفافية والمساءلة. فمنذ بداية عام 2015م، شهدت إفريقيا أكثر من 27 تغييراً ديمقراطياً في القيادة، مما سلط الضوء على الضغط الشعبي من أجل مزيد من المساءلة والديمقراطية، التي شجعت الكثير من الشركاء الدوليين على إمكانية تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في جميع أنحاء القارة. غير أن عام 2022م، شهد ردة على مسيرة الديمقراطية، وذلك عبر عدد من الانقلابات العسكرية، والانقلابات المضادة. ومع ذلك، فإن الدول الإفريقية لا تجهل هذه التحديات، أو تتجاهلها، ويكرس الاتحاد الإفريقي جهوداً جبارة لكسب المعركة ضد الفساد، مع زيادة تعليم المواطنين، الذين أصبحوا أعلى صوتاً وأكثر استعداداً لمحاسبة المسؤولين المنتخبين عن احتياجات الناس.

قضايا ومسارات:

إن هناك العديد من القضايا، التي يجب أن تتعامل معها إفريقيا خلال العام الجديد، وكلها مترابطة في عالمها القاري الحصري، وفي سعة تواصلها مع قضايا العالم الأوسع والأعقد. وكجزء من الرؤية طويلة المدى المنصوص عليها في أجندة 2063م، تبنى مؤتمر رؤساء دول وحكومات الاتحاد الإفريقي تطلعات إفريقية مشتركة، مستفيدة من إمكانات سكانها، ولا سيما مواطنون يتمتعون برأس مال بشري يتغذون جيداً. ويتمتعون بصحة جيدة مع التركيز بشكل خاص على النساء والشباب والأطفال. رأس المال البشري هو مفتاح التنمية لأنه يؤدي إلى تحسين حياة الأفراد وزيادة الدخل وتحسين الدخل للبلدان. لذلك، من الواضح أن هناك الكثير من العمل، الذي يتعين على إفريقيا وقادتها القيام به. فالتطلع إلى الماضي القريب يمكن أن يوفر بعض الأمل في المستقبل، إذ إن دولة مثل رواندا، التي اشتهرت في السابق بالإبادة الجماعية المأساوية، تَعْرِض ‘نجازاتها الآن كنموذج للاستقرار والنمو الاقتصادي، بينما يستمر الاتحاد الإفريقي لتحقيق أجندته الكبرى، التي بدأت ثمراتها في تقنين فضاء تجاري واقتصادي مشترك، هو منطقة التجارة الحرة الإفريقية، التي سيزيل اكتمالها كل الحواجز، والتي أقعدت حركة تبادل المنافع بين دول ومجتمعات القارة في السابق. ويجتهد الاتحاد حثيثاً في وقف الحروب والعداوات والصراعات في داخل البلدان الإفريقية، وفيما بينها، عملاً بمبدأ الحلول الإفريقية للمشكلات الإفريقية، التي لا تستثني مساهمات القوى الإقليمية والدولية، كما حدث بالنسبة لاتفاق السلام الأخير في إثيوبيا، وما يعمل على تحصيله من توافق سياسي في السودان. الأمر الذي يوجب على البلدان الإفريقية أن تدفع باتجاه المزيد من مبادرات السلام والتصالح، مع الاستمرار في دعم الاستقرار لزيادة تحسين النمو والتمكين لنهضة القارة.

ونظراً لأن القارة تستوعب تطلعات الاتحاد الإفريقي الكثيرة، التي من شأنها تحسين التعليم والصحة والأمن والتوقعات الاقتصادية، يجب أن يتم ذلك في نفس الوقت، الذي تبني فيه دولها وحكوماتها أنظمة إدارة مستدامة، والتي من شأنها أن تدعم جميع القضايا الأخرى. وعلى الرغم من أنه يمكن تفسير العديد من النزاعات، في السنوات الأخيرة إلى حد كبير، من خلال صعود المنظمات المتطرفة، وهي مشكلة عابرة للحدود والقارات، يُعقدها تغير المناخ، الذي يسبب الهجرة الجماعية في أجزاء كثيرة من القارة، ويميل العالم إلى التغاضي عنه، وكأنه مُقيدٌ جغرافياً بإفريقيا. فهناك حاجة إلى مزيد من التقدم في تقليل عدد النزاعات، وبالتالي عدد النازحين واللاجئين، في القارة، والهجرة غير الشرعية إلى خارجها، التي تشهد بوادر على إحراز تقدم فيها. ويلزم التنويه إلى أن التنوع الجغرافي للقارة يحمل إمكانات هائلة للطاقة الشمسية وطاقة الرياح، كما أن تربتها تُعَدُّ موطناً للعديد من المعادن والأتربة النادرة اللازمة لتقنيات الطاقة النظيفة. ولطالما ركزت الوكالة الدولية للطاقة بشكل خاص على إفريقيا، لا سيما فيما يتعلق بعملها في قضايا الوصول إلى هذه الطاقة البديلة، فإن التحول إلى الطاقة النظيفة يُمثلُ فرصة للعديد من البلدان الإفريقية لتجاوز أنواع الوقود التقليدية، وتأسيس البنيات التحتية، والتوجه مباشرة لبناء أنظمة طاقة مستدامة، التي لا بد أنها ستحتاج إلى دعم المجتمع الدولي، ولا سيما لجذب الاستثمارات اللازمة. وقد أبرز تحليل الوكالة أنه بسبب المخاطر المتصورة، غالباً ما تواجه استثمارات الطاقة في إفريقيا تكاليف تمويل أعلى بكثير من المشاريع المماثلة في الأسواق المتقدمة.

إلى الأمام:

إن هذه خطوات مهمة إلى الأمام، لأنه على الرغم من النمو الاقتصادي المشهود، لا تزال إفريقيا عرضة لتحديات مستمرة، بما في ذلك عدم المساواة، وتدني الإنتاجية الزراعية، ووسائل الإنتاج الضعيفة نسبياً، والبطالة الكبيرة بين الشباب. كما أنها على وشك أن تشهد انفجاراً سكانياً، حيث من المتوقع أن يصل عدد سكان القارة إلى 2.4 مليار شخص بحلول عام 2050م، وفي هذه الحال، يُعَدُّ خلق فرص العمل أمراً ضرورياً، كما أن الثورة الصناعية الرابعة، المدعومة باتفاقيات تجارية استشرافية، وأنظمة دعم لأصحاب المشاريع، لديها القدرة على توفير الكثير من هذا المطلب. ويمكن اكتساب رؤى مفيدة منها، ومبادرات قابلة للتنفيذ تضاعف من "تخمة" البيانات المُرْبِحَة، إذ أصبح من الشائع الإشارة إلى البيانات على أنها "النفط الجديد"، بمعنى أنه وفقاً للأبحاث، من المقرر أن يصل سوق تحليلات البيانات الضخمة إلى 103 مليارات دولار في هذا العام 2023م، فقد صار من الممكن، من ناحية، أن ينتج كل شخص 1.7 ميغا بايت في ثانية واحدة فقط منذ عام 2020م، ومن ناحية أخرى، لا تشبه البيانات النفط كثيراً، لأنها ليست مورداً محدوداً، ولا مهددة بالنضوب. ويمثل هذا فرصة ذهبية لإفريقيا، إذا كان بإمكانها تحويل الكم الهائل من "البتات والبايتات" إلى رؤى مفيدة فعلاً، وقابلة للتنفيذ وفق منهج تنموي محدد، ويمكن الوصول إليها ومشاركتها بسهولة، مما يتطلب تطوير السياسات والمعايير عبر القارات لإنشاء وتنظيم واستخدام وإدارة البيانات؛ وهي مهمة ليست مستعصية.

وفي الختام، نقول إن الإصلاح الشامل يتطلب التحول نحو عدسة سياسية يمكن من خلالها النظر إلى التنمية في إفريقيا على أنها اتجاه إيجابي، وهو ذات الاتجاه المرغوب فيه لأنه لا يدفع الجميع نحو الاستقطاب، ويمنع من العودة إلى ديناميكيات الحرب الباردة، التي سيكون مدمراً لإفريقيا، بل والعالم. إن عودة حالة الاستقطاب، فيما يبدو أنه حرب باردة جديدة، ستؤدي حتماً إلى تفاقم التراجع الأخير للديمقراطية في أجزاء من القارة، التي شهدت تحولات سياسية تخريبية وغير دستورية، وعادت حمى الانقلابات العسكرية في أكثر من بلد إفريقي خلال العام الماضي. إلى جانب ذلك، سيكون تنافس القوى الكبرى وصراعاتها على المورد والنفوذ مثبطاً للبلدان، التي تحاول القيام بالشيء الصحيح في الوقت المناسب، بما في ذلك الدعوة إلى الاستثمار في تعددية قوية وذات مغزى في إفريقيا، وإصلاح النظام البيئي الاستثماري، والاستكشاف الاستباقي لاستخدام آليات التمويل المبتكرة. ومن هنا، علينا أن نؤكد أن الأوقات غير المألوفة تتطلب حلولاً استثنائية وغير عادية، لأنه في مواجهة هذه التحديات، التي استعرضناها، وغيرها مما لم تسعه مساحة هذا المقال، لن يكون نهج العمل المعتاد كافياً، خاصة وقد ضاعف غزو أوكرانيا العوامل، التي تعوق الانتعاش في القارة. وذلك على الرغم من أن الروابط التجارية والمالية المباشرة مع روسيا وأوكرانيا صغيرة، إلا أنه من المرجح أن تؤثر الحرب، كما أسلفنا، على اقتصادات إفريقيا جنوب الصحراء من خلال ارتفاع أسعار السلع الأساسية، وارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود والتضخم، وتشديد الأوضاع المالية العالمية، وخفض تدفقات التمويل. ومن المتوقع أن تكون تأثيرات النمو في المنطقة هامشية، ومع ذلك، فإن التأثير الأكبر سيكون في زيادة احتمالية نشوب صراعات أهلية نتيجة للتضخم، الذي تُغذيه أسعار الغذاء والطاقة؛ وسط بيئة من عدم الاستقرار السياسي المتزايد. 

مقالات لنفس الكاتب