; logged out
الرئيسية / اتجاهان متضادان يحكمان السياسة الخارجية وتقلبات السلوك الإيراني: المثالية والواقعية

العدد 183

اتجاهان متضادان يحكمان السياسة الخارجية وتقلبات السلوك الإيراني: المثالية والواقعية

الإثنين، 27 شباط/فبراير 2023

يوصف روح الله رمضاني الذي هاجر للولايات المتحدة في 1952م، وعمل أستاذاً للعلوم السياسية في جامعة فرجينيا بأنه عميد دراسات السياسة الخارجية الإيرانية، وخبير الخبراء في الشأن الإيراني، وكان يستشار من قبل المسؤولين الأمريكيين فيما يتعلق بإيران (توفي عام 2016م).  كتب رمضاني على مدى ستة عقود أكثر من مئة دراسة في الشأن الإيراني، وأعاد نشر عشرين منها في هذا المجلد الذي صدر عام 2013م، تحت عنوان استقلال بدون حرية: السياسة الخارجية لإيران وذلك من أجل مساعدة الرأي العام والمسؤولين الأمريكيين على فهم إيران، وقد صدر عن مطابع جامعة فرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية.

 كتابات رمضاني من النوع الذي لا يحدها زمن؛ فأطروحاته تتجاوز سياقها التاريخي لذلك جاء هذا العرض لبعض ما تضمنه كتابه في إطار السعي لفهم إيران التي أصبحت بالنسبة لنا في الخليج العربي مصدر التهديد الأول.

ينطلق رمضاني في كتاباته من افتراض بوجود مشكلة في فهم السلوك الإيراني وتحديداً عند الأمريكيين وهو ما يفسر استمرار التوتر بين إيران والغرب.  فالرؤية الغربية السائدة تنظر لإيران كدولة غامضة وترى سياستها الخارجية نتاج لقرارات غير رشيدة منبعها عقلية متزمتة لا تدرك كيفية التعامل مع الواقع الدولي.  ويرى رمضاني أن في هذا تبسيط شديد وهو سبب عدم فهم إيران وسياستها الخارجية فهي أكثر تعقيداً وتعكس مزيجاً من تأثير البيئتين الداخلية والخارجية.

وينبه رمضاني بأن البيئة الداخلية لا تنحصر فقط في الصراع بين القوى السياسية كما يعتقد البعض بل هي شاملة لجميع مكونات الأوضاع الداخلية خاصة عنصري التاريخ والأيدلوجية، والبيئة الخارجية والتي لا تقتصر على العلاقة مع القوى الكبرى.  

وقد قسم كتابه إلى خمسة أجزاء تناول فيها إشكالية العلاقة بين الدين والدولة، وإصلاحات الشاه، وعلاقاته من الولايات المتحدة ولكليهما نصيبه في إشعال الثورة وتضمن الكتاب عدة دراسات عن السياسة الخارجية الإيرانية خاصة بعد الثورة، وتأثير أفكار الخميني، ومناقشة الاتجاهات المتضادة في السلوك الإيراني، وفكرة تصدير الثورة، والصدام بين الأيدولوجيا والبراغماتية، وإشكالية تعريف المصلحة القومية الإيرانية، والأمن في الخليج العربي، إضافة إلى قضايا إقليمية أخرى وموقف إيران منها في عهدي الشاه والثورة.  

يشير رمضاني إلى أن هناك اتجاهان متضادان يحكمان السياسة الخارجية الإيرانية ويفسران التقلبات في السلوك الإيراني وهما المثالية والواقعية.

من يصفهم بالثوريين المثاليين لا يعترفون بالنظام الدولي ويرفضون الالتزام بقواعده ويسعون لإقامة نظام إسلامي عالمي بديل وهو ما ينتج عنه سياسة ومواقف تصادميه. هؤلاء يؤمنون بأن الأولوية للإسلام وأن هدف السياسة الخارجية الإيرانية "خدمة الإسلام" وترجموا ذلك في مشروعهم لتصدير الثورة. هذه الرؤية تذكرنا بأطروحات ليون تروتسكي في العشرينيات حول الثورة الدائمة وأن يكون الاتحاد السوفيتي قاعدة ومنطلقاً لثورة عالمية.  ولا يكترث المثاليون لعزلة إيران في النظام الدولي بل يرونها شرطاً لتحقيق الثورة لأهدافها. ويمكن القول إن الحرس الثوري بقادته وشيوخه وأتباعه وكذلك الميليشيات المرتبطة به يمثلون اليوم الاتجاه الثوري المثالي في السياسة الإيرانية.  

 في المقابل فإن الثوريين الواقعيين يؤمنون بأن تكون سياسة إيران الخارجية ذات طابع تصالحي من خلال إقامة علاقات طبيعية مع المجتمع الدولي انطلاقاً من قناعة بأن مصالح إيران تقتضي التعامل مع الجميع وضرورة التحرك ضمن النظام الدولي القائم وليس مواجهته.  ويتعامل هؤلاء مع الإسلام من منطلق "الإسلام في خدمة إيران".  هؤلاء يؤمنون بمركزية الإسلام في الهوية الإيرانية، إلا أنهم يختلفون حول وزن الإسلام مقابل الانتماء الفارسي في الهوية الإيرانية. طرح الواقعيين شبيه برؤية ستالين "بناء الاشتراكية في بلد واحد" من خلال جعل روسيا نموذجاً للنظام الاشتراكي وترويجه في العالم، فهؤلاء يرون بناء نموذج الدولة الإسلامية أولاً في إيران ومن ثم جعله نموذجاً يحتذى.

ويبدو لنا أن ثنائية المثاليين والواقعيين أكثر دقة في تفسير السلوك الإيراني من الثنائية الشائعة التي تميز بين الإصلاحيين والمحافظين، فهذه الأخيرة لا تسلم من تأثير الميول السياسية لمستخدميها.

وبسبب أن جميع النخب الإيرانية تؤمن بالثورة لكنها تختلف في كيفية تحقيق مبادئها ونتيجة للسيولة التي تتسم بها السياسة الداخلية الإيرانية يرى رمضاني أن المعتدل يمكن أن يصبح متشدداً كما يمكن أن يتحول المتشدد إلى معتدل حسب قراءتهم للظروف التي تواجه إيران ولذلك يستمر التصادم بين النزعتين الأيدولوجية والبراغماتية ويصبح حالة دائمة في السياسة الإيرانية.  كما أن محاولات المزج بين الأيدولوجيا وبين البراغماتية تسهم في حالة التقلب التي نشهدها في السلوك الإيراني. ومما يزيد من حالة التقلب أيضاً نزعة مرشد الثورة للعب دور الموازن بين هاذين الاتجاهين ورؤيته للأنسب منها لتحقيق مصلحة إيران حسب ما تمليه الظروف وطبيعة القضية.

ويرى رمضاني أن التصادم بين الأيدولوجية والمصلحة في السياسة الخارجية الإيرانية ليس أمراً جديداً أو أنه نتاج للثورة بل هو قديم ممتد بدأ مع تأسيس إيران وكان له مظاهره في الامبراطوريات الإيرانية والدولة الإيرانية الحديثة. فعلى سبيل المثال تتباين تفسيرات حروب تلك الامبراطوريات بين السعي لتوسيع الرقعة الجغرافية لإيران ومد نفوذها وبين محاولة نشر الديانة الزرادشتية.

ومن أجل فهم أفضل للسياسة الخارجية الإيرانية يقترح رمضاني منهجاً يتمثل فيما أسماه بــ الثقافة الدبلوماسية الإيرانية والتي يعرفها بأنها تلك القيم والأعراف وطرق التفكير والسلوك التي تطورت على مدى قرون نتيجة تفاعل إيران مع بيئتها الخارجية. ومن أبرز خصائص هذه الثقافة الدبلوماسية ما يلي:

  1. الهوية. الشعور الإيراني بالهوية متجذر في تاريخ طويل عاشته إيران بين سقوط ونهوض أربع امبراطوريات ودولة حديثة.   وبسبب هذا التاريخ أصبحت الكرامة عنصراً مهمًا في الخطاب الإيراني يظهر بشكل جلي في رفض التهديد وما تصفه بخطاب الاستعلاء، بل وتتطلع للتعاطف معها بسبب ما تعرضت تاريخياً له من تدخلات.
  2. الاستقلال. المحافظة على الاستقلال يمثل دافعاً رئيساً للسياسة الخارجية الإيرانية قبل وبعد الثورة، ولا يمكن المحافظة عليه دون تعظيم عناصر القوة الوطنية.
  3. القوة والنفوذ. بسبب موقع إيران وتاريخها وثرواتها فهناك إيمان عميق بالأهمية الاستراتيجية لإيران في السياسة الدولية ومكانتها كلاعب رئيس في الشرق الأوسط. وبسبب ما تعرضت له إيران تاريخياً من تدخلات أجنبية يسعى زعماء إيران (الشاه أو آيات الله) أو أياً كانت هويتهم لتعويض ذلك الضعف التاريخي من خلال ممارسة النفوذ والتظاهر بالعالمية.
  4. الاستبداد. ويمثل سمة ثابتة في الثقافة السياسية الإيرانية سواء كانت ملكية أو إسلامية ثورية، فالشاه وآيات الله يؤمنون بالحق الإلهي.  
  5. الفئوية.  الصراع السياسي الداخلي قديم قِدم الدولة الإيرانية ويعكس التنوع الإثني والطائفي واللغوي والجغرافي في المجتمع الإيراني، إضافة إلى الانقسامات التي ترتبت على التحديث بين هويات قديمة وأخرى حديثة.
  6. البيئة. السعي لخلق بيئة إقليمية مواتية لإيران تتناسب مع مكانتها كقوة وسطى وهو ما يفسر تدخلاتها المستمرة في جوارها الإقليمي.  

أما أدوات السياسة الخارجية الإيرانية فتتمثل في:

  1. التخريب. ويشير رمضاني إلى أن هذه الوسيلة تمتد لعهد الدولة الصفوية حيث سعت لتعبئة الأقليات الشيعية في صراعها مع الامبراطورية العثمانية.
  2. القوة الناعمة. من خلال كسب التعاطف باستخدام شعار مواجهة القوى الأجنبية.
  3. القوة الصلبة. تاريخياً خاضت إيران عدة حروب، ولكنها ومنذ الغزو الروسي في 1804 أصبحت هدفاً للحرب.
  4. التسويف. من خلال تجربتها التاريخية المتمثلة في مفاوضات الامبراطورية الصوفية مع العثمانيين على مدى قرنين أصبحت المفاوضات الممتدة سمة من سمات الثقافة الدبلوماسية الإيرانية وهو ما يظهر بشكل جلي في مفاوضات إيران بشأن البرنامج النووي.  

          أخيراً، وفي ضوء الاحتجاجات الراهنة نشير إلى قناعة روح الله رمضاني برسوخ تطلعات الشعب الإيراني للديموقراطية منذ بداية القرن العشرين، وأن ما تعرض له من انتكاسات بسبب التدخلات الأجنبية والقمع الوحشي لم يطفئ شعلة الحرية، ولكن وطالما بقي الحكم الاستبدادي فسيستمر في استخدام خطاب الاستقلال لقمع مطالب الحرية.  

ورغم أن الكتاب قديم نسبياً (2013)، إلا أنه يتضمن جملة من الأفكار والأطروحات المهمة والجديرة بالقراءة من أجل فهم أفضل للجار المزعج.

مقالات لنفس الكاتب