; logged out
الرئيسية / عدم وجود أجندة أمريكية حيال الاحتجاجات الإيرانية: إما دعمها أو التمسك بالاتفاق النووي

العدد 183

عدم وجود أجندة أمريكية حيال الاحتجاجات الإيرانية: إما دعمها أو التمسك بالاتفاق النووي

الإثنين، 27 شباط/فبراير 2023

     تواجه إيران منذ سيطرة نظام ولاية الفقيه على مقاليد الأمور في العام 1979م، موجات احتجاجية شعبية حاشدة ذات نطاق جغرافي واسع يصل إلى المحافظات الإيرانية كافة، بعضها احتجاجات شعبية محدودة، والأخرى احتجاجات شعبية كبرى، بدايةً من احتجاجات عام 1999م، مرورًا باحتجاجات ،2009 واحتجاجات 2017م، ثم احتجاجات 2019 و2021م، حتى الاحتجاجات الكبرى الراهنة التي اندلعت في 2022م، على خلفية مقتل الفتاة الكردية مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق، والتي تكشف جميعها عن أزمة شرعية ملازمة لنشأة ونموّ وتطوُّر النظام الإيراني، بفعل سياساته الداخلية ومحاولاته الخارجية للتمدد.

 

الاحتجاجات انفجار للرفض

   إن فهم الدوافع العميقة التي تحث المتظاهرين على العودة إلى الشوارع، يتطلب الإدراك بأن أجيال الإيرانيين الغاضبين من النظام تولي أهمية كبيرة للثقافة الإيرانية المضادة والباطنية، كما يجب الاطلاع على القصص الشخصية عن قتل المتظاهرين الشباب بسبب تحدثهم علنًا ضد النظام، كما أن مقاطع الفيديو والقصص التي يتم تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي تشير إلى ازدياد أصوات المعارضة، بينما يبدو النظام في حيرة من أمره بشأن كيفية التصرف لتهدئة الوضع المتأجج ، يتضح لنا أمر وحيد هو الشجاعة والمثابرة اللتان يتحلى بهما هؤلاء المتظاهرون، لا سيما "الجيل زد" في إيران، أي أولئك الذين وُلدوا حول مطلع الألفية وأصبحوا الآن بالغين.

 

    على الرغم من الموقف الانعزالي وثقافة الامتثال اللذين يتسم بهما نظام ولاية الفقيه، إلا أن ذلك لم يمنع من نزول الشباب إلى الشوارع. فطالما استهلك الشباب الإيرانيون الموسيقى والأفلام الغربية وحاولوا تقليدها داخل إيران، ومهّد نمو هذه البيئة الثقافية المضادة في خلال الأعوام الأربعين الماضية، فضلًا عن إمكانية الوصول إلى العالم الخارجي بشكل غير مسبوق، لظهور جيل جديد يرفض متبنيات ولاية الفقيه، ففي عصر الإنترنت والقنوات التلفازية الفضائية، اطّلع "الجيل زد" في إيران على المعارف والأفكار السائدة في العالم الخارجي، وأصبح يدرك جيدًا عدم مصداقية النظام.

 

   بعد فوز المتشدد والمحسوب على الحرس الثوري الإيراني  إبراهيم رئيسي في الانتخابات الرئاسية وتوليه المنصب، خلفاً لحسن روحاني، تم فرض "قانون الحجاب والعفة" في يوليو/تموز الماضي، وهو ما أضاف مزيداً من القيود على المرأة، مثل منع النساء من دخول بعض البنوك والمكاتب الحكومية وبعض وسائل النقل العام، وزاد عدد سيارات شرطة الأخلاق في الشوارع، وظهرت مقاطع مصورة على مواقع التواصل الاجتماعي لضباط يضربون النساء ويعاملونهن بطريقة سيئة أثناء احتجازهن ، وكان لحادثة قتل مهسا أميني على يد قوات الأمن في 15 سبتمبر 2022م ، الأثر في انفجار الأوضاع واندلاع احتجاجاتٌ غاضبة لتعامل النظام مع غير المحجبات، وصلت لدرجة إهانة شخص المرشد الإيراني، أو خلع الحجاب علانيةً في الميادين والطرقات، وجاءت تلك الاحتجاجات ردًّا على ما سمّته الحكومة برنامج العفاف والحجاب، والتي تسعى لفرضه على المجتمع، وهو برنامج يُشدَّد الرقابة على النساء والمؤسّسات حتى لا يُسمح لامرأة غير محجبة، أو ترتدي حجابًا سيئًا، أن تكون حاضرةً بصورة طبيعية في المؤسّسات العامة، حيث وجد المجتمع نفسه في مواجهةٍ مع سياسةٍ قمعية لفرض ثقافة ومظاهر معينة على المجتمع النّسوي، وهو ما فجَّر موجةً من الغضب على وسائل التواصل الاجتماعي، فضلًا عن نزعة لتحدي السلطة في الشارع.

   تتّصل حلقة الاحتقان تلك بالأوضاع السياسية المتأزمة في ظل إخفاق حكومة إبراهيم رئيسي في الوفاء بوعودها بعد وصولها إلى السلطة على مستوى الداخل والخارج، حيث تزايدت الانتقادات لأداء وزرائه، وبدأ الإصلاحيون في توجيه سهامِ نقدهم لشخص رئيسي وحكومته في التعاطي مع الأزمات الداخلية، فضلًا عن قلة الخبرة في التعاطي مع الملفات الخارجية ولاسيّما فيما يتعلق بالتعثّر في المفاوضات الخاصة بإحياء أو تعديل الاتفاق النووي، ومِن ثَمَّ استمرار الضغوط الأمريكية القصوى على إيران، وعودة الولايات المتحدة لتكثيف العقوبات، في الوقت نفسه، لم تحقّق سياسة حل مشكلات إيران بعيدًا عن الاتفاق النووي الأهداف المرجوة منها، ومِن ثَمَّ تتراجع شرعية حكومة رئيسي، وهي الحكومة التي جاءت إلى السلطة في ظل مشاركةٍ انتخابية هي الأضعف منذ الثورة .

 

   يلعب العامل الاقتصادي دورًا مهمًا في تفسير سرعة الاحتقان الداخلي واشتعاله مع أيّ محرك، حيث تفاقمت الأزمات الاقتصادية والمعيشية بإيران في الوقت الراهن وأبرزها: رفع الدعم، والبطالة، والتضخم الكبير والمستمر، والعجز المالي للحكومة، وهو ما تجلَّى خلال الأشهر الأربعة الماضية في رفع حكومة رئيسي الدعم عن الدولار المخصَّص لاستيراد السلع الغذائية الأساسية، فتسبَّب القرار في ارتفاع أسعار الغذاء في إيران بدرجةٍ غير مسبوقة على مدى عقود، واقتربت الزيادات السعرية عامةً من 70%، بل تضاعفت أسعار بعض الأغذية الرئيسية، والتي تشكِّل المكوِّن الأساسي لطعام الفقراء ومحدودي الدخل، الذين هُم نسبة كبيرة من الشعب تزيد عن ثُلثي الإيرانيين، وفضلًا عن ذلك يواجه جيل الشباب من الجامعيين تحديدًا تحديَ ندرة فرص العمل أو نِسبًا مرتفعة من البطالة، علاوةً على رفع الدعم عنهم. ولعبت العقوبات الأمريكية دورًا كبيرًا في الأمر؛ كما أن الحكومة بالكاد تستطيع تسيير شؤون البلاد اليومية ودفع رواتب ملايين الموظفين في ظل العقوبات، الأمر الذي يجعل البيئة الداخلية محتقنةً تجاه الحكومة وقابلةً للاحتجاج والتفاعل مع أي سلوك عدائي من السلطة.

 

تداعيات الاحتجاجات داخليًا:

 

  أدت حادثة مقتل الفتاة الإيرانية مهسا أميني، وما تبعها من احتجاجات نسائية على ممارسات النظام الإيراني بحق المرأة، إلى بعض النتائج السلبية على إيران، وتتضح فيما يلي:

 

     - اتساع الفجوة بين الدولة والمجتمع: 

 تصاعد حدة الاحتجاجات في إيران أدت إلى اتساع الفجوة المتزايدة بالفعل بين الدولة والمجتمع، وهو الأمر الذي اتضح في ترديد بعض الشعارات المنددة بالولي الفقيه، من قبيل الموت للدكتاتور و الموت لخامنئي، بل تحولت هذه الاحتجاجات إلى أعمال عنف، ما اضطر القوات الأمنية التابعة للحرس الثوري إلى إلقاء الغاز المسيل للدموع على المواطنين، واستخدام عربات رش المياه لتفريق المتظاهرين، بل اللجوء إلى إطلاق الرصاص الحي، بالتوازي مع قطع خدمة الإنترنت لتقليص فرص تنظيم احتجاجات في مدن مختلفة، وهو ما لم ينجح في النهاية في تحقيق هدفه، ومن ثم، من المؤكد أن تؤدي مثل هذه الحوادث إلى التأثير بالسلب على أنشطة منظمات المجتمع المدني المهتمة بشؤون المرأة في إيران، وأن تزيد مستوى الرفض لدى النساء تجاه سياسات حكومة رئيسي؛ ما قد يُنتج نوعاً من الإضعاف لأسس الروابط الاجتماعية التي تعزز العلاقة بين ركائز المجتمع المختلفة معاً.

 

   - تصاعُد حدة السخط الشعبي ضد الحكومة : 

على الرغم من حالة الاستياء المتصاعدة في إيران بسبب مقتل مهسا أميني على يد دورية إرشاد، فإن وزير الداخلية الإيراني أحمد وحيدي، دافع عن عمل مثل هذه الدوريات، مشيراً إلى أنه إجراء قانوني، بل طالبت صحيفة كيهان الأصولية المحسوبة على المرشد الأعلى بمواجهة التظاهرات والداعين لها حتى على مواقع التواصل الاجتماعي لمنع انتشارها. 

  لاقت ردود الفعل السلبية من قبل الحكومة معارضة شعبية كبيرة داخل المجتمع الإيراني، حيث أشارت بعض الاتجاهات إلى ضرورة التركيز على القضايا الأهم، ولا سيما الاقتصادية، بما يتضمن تقليص معدلات البطالة والتضخم المرتفعة، كما أن من الأفضل للشرطة وفقاً لرؤية بعض المحتجين أن تركز على منع ومتابعة الاعتداءات والسرقات وتصاعد معدلات الجريمة في إيران، بدلاً من ظاهرة الحجاب السيئ التي لا تحظى حتى الآن بتعريف محدد. وقد أشارت اتجاهات عديدة إلى أنه من غير المتوقع أن تؤدي معالجة كهذه إلى تأثير بالإيجاب في مثل هذه القضايا، بل ستؤدي إلى نتيجة عكسية تماماً في غالبية الحالات إن لم يكن فيها كلها.

 

    - فقدان تعاطف الرأي العام العالمي : 

على الرغم من الجهود التي بذلتها إيران لاستقطاب دعم قسم من الرأي العام العالمي لصالحها، وخاصةً بعد فرض العقوبات الاقتصادية من قبل الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة دونالد ترامب، وتصاعد الدعوات لمساعدة إيران على مواجهة تداعيات انتشار فيروس كورونا؛ فإن مثل هذه القضايا الاجتماعية قد تؤدي إلى تصاعد مؤشرها فيما يتعلق بانتهاك حقوق الإنسان، والمطالبة بفرض المزيد من الضغوط الدولية عليها. وظهرت أبرز ملامح ذلك في تنظيم مجموعة من الناشطين الإيرانيين المقيمين في واشنطن تظاهرة أمام المكتب المنظم لمصالح إيران، كما دعا عدد من النشطاء الحقوقيين في فانكوفر بكندا إلى تنظيم مسيرة أمام معرض الفنون في هذه المدينة، فضلاً عن أنه تم تنظيم مسيرة مماثلة في العاصمة الألمانية برلين. وقد يواجه الرئيس إبراهيم رئيسي تظاهرات ضده خلال زيارته إلى نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتوازى ذلك كله مع مطالبة بعض المنظمات الحقوقية الدولية، مثل منظمة العفو الدولية، بمحاسبة النظام في إيران على هذه الجرائم المرتكبة ضد شعبه.

 

     - تراجع شعبية النظام الحاكم بإيران: 

أثارت حادثة مقتل الفتاة الإيرانية الكردية مهسا أميني حفيظة الأحزاب الكردية في إيران؛ حيث دعت أحزاب ونشطاء مدنيون وسياسيون في كردستان إيران إلى الدخول في إضراب عام اعتراضاً على السياسات التعسفية لنظام ولاية الفقيه. ومن ثم، يمكن أن يؤدي ذلك على المدى الطويل إلى تجدد النزعات الانفصالية للأكراد مرة أخرى. 

ومن ناحية أخرى، يُظهر رد فعل النخب في إيران على هذه الحادثة، اتباع السياسات السابقة من حيث التعامل مع الأزمات، التي تقوم على عدم البحث في الجذور الرئيسية، بل تقديم تفسيرات سطحية تساهم في تفاقمها على المدى الطويل ، وظهرت ملامح ذلك في تعليق صحيفة كيهان الأصولية على الحادثة، التي أشارت خلال تقرير لها إلى أن هذه الحادثة نتيجة طبيعية لسياسات الإصلاحيين العلمانية، فضلاً عن أن القيادات الإصلاحية، مثل الرئيس الأسبق محمد خاتمي، والنائب الأول في حكومة حسن روحاني إسحاق جهانجيري، سعداء لمثل هذه الحوادث لإثبات فشل الأصوليين، وإبراز عدم قدرتهم على إدارة دفة الحكم في إيران ؛ ومن ثم، يمكن لهذا النوع من التفسيرات التي تُصر على الابتعاد قدر الإمكان عن الحقيقة وعدم التطرق إلى الأسباب الرئيسية للأزمة، أن تنذر بتصاعد معدلات الاستياء داخل المجتمع الإيراني، وما يترتب عليه من نتائج سلبية بالنسبة إلى الحكومة ونظام ولاية الفقيه.

 

مستقبل الاحتجاجات

 

وفي ظل الظروف المحيطة بالنظام الإيراني، فإن موجة الاحتجاجات القائمة في إيران قد تتبَعُ أحد السيناريوهات التالية:

1-سيناريو استمرار الأزمة وتوسُّع الاحتجاجات: 

ويدعم هذا السيناريو على الأرض حالة الاحتقان الشعبي المتنامي على خلفية الأزمات الاقتصادية، وتردِّي الأوضاع المعيشية وارتفاع مستويات التضخم وتفشِّي البطالة، وإخفاق الحكومة في التعامل مع الأزمات، ومنها: أزمة توزيع المياه، فضلًا عن التداعيات الاقتصادية الناجمة عن الحرب الروسية على أوكرانيا والعقوبات المفروضة على إيران، ومِن ثَمَّ حالة الإحباط العام وغياب أُفقٍ لتسوية الخلافات مع الغرب بشأن الاتفاق النووي، وعودة الولايات المتحدة لتشديد عقوباتها على إيران، حيث تتعدد عوامل الغضب والاحتقان، وتتزايد الهُوّة بين النظام الذي يسعى إلى تطبيق قواعد ثقافية ودينية صارمة، بينما لا يهتم بتحسين معيشة المواطنين.

 

2-سيناريو تراجع الاحتجاجات: 

وهذا السيناريو ربما هو الأرجح، حيث من المتوقع أن تتراجع هذه الاحتجاجات على المدى القصير، عطفًا على نمط الاحتجاجات السابقة، ويدعم ذلك اتباع النظام سياسةً القمع المفرط من أجل تجاوز الأزمة، رغم أن النظام عمد إلى التهدئة، فندًد بالحادثة وعبَّرت الشرطة عن أسفها، وتدخَّل الرئيس إبراهيم رئيسي ووعد أسرة مهسا أميني بفتح تحقيق والكشف عن ملابسات الحادثة، وكذلك تأكيد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أن معالجة موضوع الحجاب، تحتِّم إلغاء البند الذي يعِدّ عدم الالتزام بالحجاب جريمةً تتطلَّب الاعتقال والمحاكمة. إلا أن القمع كان خيار النظام الذي يمتلك خزينًا من التعامل مع الاحتجاجات ومحاصرتها، بما في ذلك قمع المحتجين في حال استمرار نزولهم للشوارع، وقطع الإنترنت، وهو ما يؤثِّر على زخم التظاهرات، فضلًا عن عدم وجود دعم دولي كبير ومباشر لمطالب الشعب الإيراني ولحقوق الإنسان في إيران ولذا ستجد الأحزاب المعارضة نفسها في الموضع الأضعف.

وحتى لو هدأت هذه الاحتجاجات وتراجع زخمها خلال الفترة المقبلة، فإنّ الواقع المثقل بالأزمات يرجّح أن تعود التعبئة الاجتماعية من جديد مع أيّ حادثة مُماثلة في المستقبل، أو قرار من جانب الحكومة، خصوصًا أن سلسلةً من الاحتجاجات الفئوية مستمرة منذ سنوات، وهي تعكس تنامي الغضب بين العديد من فئات الشعب وطبقاته. خصوصًا أنّ الاحتجاجات اتسعت في الجامعات وفي الأوساط الشبابية التي تُعَد دائمًا محركًا للتغيير والتي ترى الحاجة إليه.

 

التعاطي الأمريكي مع الاحتجاجات:

   لا شك أن الإدارة الأمريكية تتابع عن كثب الأوضاع الحالية في إيران، إذ أن ملف الأخيرة يعد الثاني من حيث الأهمية بعد الحرب في أوكرانيا، ويهم سياسة الولايات المتحدة الأمريكية بكل اتجاهاتها، فمن ناحية انزلقت إدارة الرئيس جو بايدن منذ قدومها إلى البيت الأبيض، إلى سياسة العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، فوجدت نفسها تواجه مصاعب على محورين: الأول هو تعامل طهران مع ملفها النووي وتأخرها ووضعها شروطاً إضافية ومعظمها تعجيزية، إضافة إلى تصرفاتها في المنطقة، لا سيما ضد حلفاء واشنطن وشركائها، والثاني هو الاحتجاجات الشعبية التي تشهدها المدن الإيرانية .

هذا التحدي الأول حاولت إدارة بايدن أن تذللـه، فذهب الرئيس إلى جدة للقاء قيادة المملكة العربية السعودية، لإقناعهم بأن الإدارة ستلتزم "معالجة الهواجس الأمنية للدول العربية حيال طهران وتعزيز قدراتهم الدفاعية الفردية". فإن عدم حسم واشنطن وضعها إزاء التصرفات الإيرانية، قد يعطي مساحة نفوذ جديدة للنظام الإيراني على حساب الأمن القومي لدول المنطقة العربية والخليجية منها بالتحديد.

   إن انفجار تظاهرات مهسا أميني في منتصف سبتمبر (أيلول) الماضي، وتوسعها وتحولها تدريجياً إلى ثورة، وتطورها إلى حركة عابرة للمجموعات الاثنية، شكل تحدٍ يتمثل بعدم إسراع إدارة الرئيس بايدن لدعم الثورة بسبب التزامات إدارة الرئيس الأسبق أوباما بدعم اتفاق أمريكي -إيراني منذ 2009م، فلم تقدم الإدارة الأمريكية دعماً طبيعياً وكاملاً لثورة الشعب الإيراني بشكل عارم كما فعلت إدارة أوباما خلال "الربيع العربي" بين عامي 2011 -2013م، وبسبب هذا التردد فقد البيت الأبيض "السيطرة" على هذا الملف.

وعلى الرغم من تصريحات وزير الخارجية أنتوني بلينكن وعدد من حلفاء الإدارة في القطاع الخاص، وصولاً إلى أجزاء من الصحافة وهوليوود وبعض الأكاديميين، أنهم ملتزمون بالدفاع عن حقوق المرأة والمواطن الإيراني، إلا أن المعارضة الإيرانية اكتشفت مع الوقت أن هناك حدوداً غير مرئية قد وضعتها هذه الإدارة ذاتياً، بسبب عدم قدرتها على الخروج علناً في موقف واضح وجلي لدعم هذه الانتفاضة كما فعلت إدارة أوباما - بايدن عام 2011 م، حيال مصر وليبيا وتونس وغيرها من الدول، والسبب هو التزام أوباما والاتفاق النووي مع هذا النظام. فهي تنتقده على "تصرفاته" من ناحية، لكنها تستمر في مفاوضات تحت الطاولة حتى وإن كان بصورة غير مباشرة.

إن المشكلة السياسية والدبلوماسية لهذه الإدارة مع تغير الأكثرية في الكونغرس، تكمن في أن عدداً كبيراً من أعضاء الكونغرس سيسألون إدارة بايدن حول سياسة واشنطن حيال إيران، وسيسأل مسؤولون كبار في هذه الإدارة: هل أنتم مع النظام أم أنتم مع الاحتجاجات؟

وبالطبع لن يتمكن البيت الأبيض أن يجيب عن هذا السؤال بوضوح إلا بعد أن يتخذ القرار النهائي والحاسم فيما يتعلق بالاتفاق النووي، فالتحدي الإيراني ينجم عن عدم قدرة البيت الأبيض في الأشهر المقبلة أن يحسم إلا إذا حصل ما لم يكن في الحسبان من أن تخرج الإدارة بأجندة سياسية واضحة حيال هذه الاحتجاجات، فإما أن تدعمها بالتالي تتخلى عن الاتفاق، أو ألا تتخلى عن هذا الاتفاق بالتالي تحد من قدرتها ونيتها دعم هذه الاحتجاجات.

 

 

وما قد يعقد الموقف الأميركي من الملف الإيراني أمور عدة: الأول هو توسع هذه الاحتجاجات إلى مواجهة شاملة مع النظام، بحيث تشهد بعض المناطق أحداثاً تصل إلى حد المقاومة شبه العسكرية، بخاصة إذا استمرت مؤسسات طهران الحاكمة بتنفيذ أحكام الإعدام ضد شباب الاحتجاجات.

  إن صانعو القرار السياسي الأمريكي يعرفون تماماً أن استمرار النظام في إعدام وقتل وتعذيب المشاركين في التظاهرات، إنما هو السبب الأهم في توسيع رقعة هذه الاحتجاجات وحشد مواطنين آخرين للالتحاق بها، فمن صلب تكوين المجتمعات في العالم أن القمع الدموي يولد الثورات وهذا ما تدركه إيران لكنها تتمادى، وقد أسقط أنظمة في الماضي بغض النظر عن المسافة الزمنية.

 إن عدم حسم هذا الملف في الأشهر الأولى للأزمة، فهو مرشح ليستمر لأشهر في العام الحالي، وستحاول الإدارة من دون شك أن تتوصل عبر مفاوضاتها إلى حلول نصفية أو جزئية، كالطلب من الحكم في إيران بأن يفتح أبوابه للمعارضة "للمشاركة في الحكم"، كالمبادرات مع نظام الأسد في سوريا، أو احتمال خروج مبادرة "إقامة حكومة وحدة وطنية" أو "طاولة حوار" على نمط تحرك "حزب الله" في لبنان، إذ يقبل بالمشاركة مع أطراف أخرى بالشكل. لكن هذا الأمر لا يمكن تطبيقه في إيران، فالمعارضة تحوّلت إلى مقاومة والأوضاع خرجت عن السيطرة و"الإصلاحيون" غير مقبولين لدى الثوار.

  يمكن القول إن التحديات في أوكرانيا أو في إيران مترابطة بشكل وثيق، فإذا لم تتمكن إدارة بايدن من الوصول إلى حل ما إما عسكري أو سياسي للحرب الأوكرانية، وهي مستمرة في الأسابيع القليلة المقبلة، فإن تجديد المواجهة بين روسيا وأوكرانيا ودعم الحلف الأطلسي، سيقود إلى تشدد استراتيجي لدى القيادة الروسية ومن ورائها القيادة الصينية، مما سيكون له تأثير كبير في القيادة الإيرانية، فهذه الأخيرة ستشعر بأن لديها معسكراً كاملاً يدعمها من الخلف، ويكملها استراتيجياً لكي تواجه أي احتمال دعم أمريكي للثورة في إيران.

ومن ناحية أخرى، فإن استمرار الثورة في إيران وتعميمها في كامل المناطق، يمكن أن يحولها إلى قوة تهدد استقرار إيران وأمنها الاستراتيجي، مما يدفع النظام للاقتراب أكثر من روسيا والصين، لا سيما أن طهران قد أرسلت عشرات، إن لم يكن مئات من الطائرات المسيرة التي تصنعها لروسيا لاستعمالها في الحرب على أوكرانيا.

  إن توسع الاحتجاجات في إيران سيزيد النظام تدخله إلى جانب روسيا في أوكرانيا، وسيزيد طلباته باستيراد التكنولوجيا العسكرية من الصين وربما أيضاً من كوريا الشمالية، وهذا سيقلب الأمور على عقبها بالنسبة إلى إدارة بايدن، فهي تريد في نهاية المطاف حلاً دبلوماسياً مع روسيا لتجنب مواجهة مع الصين في المرحلة الحالية على الرغم من الخطاب الدبلوماسي المتشدد من جهة بايدن، الترابط بين ملف إيران وأوكرانيا سيكون التحدي الأكبر أمام واشنطن في السنة الحالية، يضاف إلى هذا التعقيد وجود معارضة أقوى وأشرس من قبل الحزب الجمهوري ضد إدارة الديمقراطيين  في مجلس النواب داخل الكونغرس لمدة سنتين قادمتين.

وبذلك فإن أمام إدارة بايدن أن تصل إلى نقطة الخيارات الكبرى في الأشهر الآتية، لأنه لن يكون لديها إلا سنة واحدة، وبإمكانها أن تغير في سياستها الخارجية قبل بداية عام 2024م، لأن العام الأخير من عهده الرئاسي سيكون غارقاً بالمواجهة الانتخابية وبالتطورات التنافسية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وبذلك لن يكون هناك مجال كبير للتفكير والتغيير فيما يتعلق بالسياسة الخارجية.

  بلا شك أنَّ الغرب فقدَ الأمل منذ فترةٍ طويلة في التفاوض مع إيران، في نظرةٍ منه لتمرير القرار بنسبة أصواتٍ عالية، بالإضافة لتقديم مسوَّدة القرار المناهض لإيران من قِبَل الترويكا الأوروبية، وفي نهاية المطاف، لم تعُد هناك خطة العمل الشاملة المشتركة، حيث يتم دفنها الآن، مما يعني أنَّ "التهديدات ضد إيران أصبحت أكثر خطورةً"، مُرجِعًا السببَ إلى تزويد إيران لروسيا بالمسيّرات؛ ما ساهمَ بتكثيف المواقف الغربية ضد إيران، بدءًا بإشارة رئيس وزراء كندا وحديثه عن إمكانية تغيير النظام السياسي في إيران، إلى اجتماع الرئيس الفرنسي مع عددٍ من الناشطات الحقوقيات الإيرانيات، وكذلك تطرُّق المستشارةِ الألمانية ووزيرة خارجيتها علنًا إلى التهديد القادم من إيران، والمواقف الأقوى من قِبَل البرلمان الأوروبي ضد إيران.

   ويبقى الهاجس الإيراني يدورُ حول إقدام الاتحاد الأوروبي على إعادة تفعيل العقوبات الأُممية عليه، من خلال برنامج آلية الزناد، المرتبطة بقرار مجلس الأمن رقم 2231 لعام 2015م، حيث يتم إعادة فرض العقوبات على إيران بمجرد تقديم طلبٍ بذلك من قِبل أيّ دولة مشاركة في خطة العمل الشاملة المشتركة، بعد معاينتها لتصرُّفٍ إيراني يُشكِّل انتهاكًا للقرار 2231م، مع حرمان الدول المشاركة من حقِّ الفيتو لنقض إعادة تفعيل العقوبات. وقد تلجأ المجموعة الأوروبية في القادم القريب لإعادة تفعيل آلية الزناد، نظرًا للتحوُّل في مواقفها واقترابها من الموقف الأمريكي تجاه طهران، وفضلًا عن ذلك ، يتزايدُ المشهدُ قتامةً أمام إيران مع عودة بنيامين نتنياهو لرئاسة الحكومة الإسرائيلية، يرافقُه هذه المرَّة زعيمُ حزب اليمين المتشدِّد إيتمار بن غفير، والمعروف بمعارضته الشديدة لأيّ اتفاقٍ مع إيران، بالإضافة للعدوانية والشراسة في مواجهة المشروع الإيراني بمرتكزاته الثلاثة، النووي والبالستي والتوسُّعي، مما يعني أنَّ إسرائيل المستقبلية ستكون أكثر اندفاعًا في مواجهة المشروع الإيراني، وقد تُحيِّد التصرفاتُ الإيرانية المزعزعة للاستقرار أيَّ تحفُّظٍ أمريكي على دعم الحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل.

مقالات لنفس الكاتب