; logged out
الرئيسية / بناء قوة شاملة لمواجهة تغول إيران والقوة السعودية أوقفت التمدد الإيراني في اليمن

العدد 183

بناء قوة شاملة لمواجهة تغول إيران والقوة السعودية أوقفت التمدد الإيراني في اليمن

الإثنين، 27 شباط/فبراير 2023

شهدت إيران منذ خريف العام الماضي احتجاجات داخلية لم تكن هي الأولى من نوعها، لكن الرمزية الخاصة لهذه الاحتجاجات لارتباطها بقضية الحجاب التي تقع في صلب سياسات النظام ومن ثم ترتبط بشرعيته، وامتدادها إلى المكونات غير الفارسية في الشعب الإيراني، ونيلها من الرموز العليا للنظام كمرشد الثورة الأول ومرشدها الحالي وامتدادها زمنيًا دفع إلى جدل واسع حول تأثير هذه الاحتجاجات على الداخل الإيراني وسياسات النظام الخارجية، وتهتم هذه المقالة تحديدًا بتأثير هذه الاحتجاجات على سياسة النظام الإيراني في محيطه الإقليمي مفهومًا على أنه المحيط العربي وإسرائيل على أساس موقف هذا النظام منها كما يعبر عنه في مواقفه المعلنة ومن خلال دعمه ل"حزب الله" في لبنان، ولكي يمكن بلورة فروض حول هذا التأثير سوف يتطلب الأمر أولًا تقديم رؤية تحليلية لهذه الاحتجاجات واحتمالات استدامتها وتأثيرها على النظام الإيراني القائم كي يكون من الممكن استعراض السيناريوهات المختلفة بشأن التأثير المحتمل للاحتجاجات على تحرك إيران في محيطها الإقليمي، ويكتسب هذا التأثير المحتمل أهمية واضحة نظرًا لانخراط إيران الكثيف في أربع دول عربية على الأقل هي سوريا ولبنان والعراق واليمن، كما أن التأثير بديهي في الصراع العربي-الإسرائيلي نظرًا للعلاقة العضوية بين "حزب الله" في لبنان وبين إيران مما يجعله أداة مهمة في تنفيذ السياسة الإيرانية تجاه إسرائيل.

   أولًا-طبيعة الاحتجاجات الإيرانية ومستقبلها:

      لن يكون ممكنًا بطبيعة الحال تقديم أي فروض بشأن التأثير المحتمل للاحتجاجات الداخلية الأخيرة في إيران على تحركها الخارجي عمومًا وفي المحيط الإقليمي الذي تهتم به هذه المقالة خصوصًا دون تقديم نظرة تحليلية لهذه الاحتجاجات وموقعها من مظاهر المعارضة الشعبية للنظام القائم في إيران، ذلك أن هذه الاحتجاجات ليست بالجديدة، وتذهب بعض التحليلات إلى أن نموذج التفاعلات السياسية الإيرانية يشهد منذ مطلع القرن العشرين احتجاجات دورية كل عقد من الزمان تقريبًا، وليس كاتب هذه السطور في موقع يمكنه من الحكم على دقة هذه المقولة فضلًا عن التغير الجذري الذي حدث في نظام الحكم الإيراني في أعقاب ثورة١٩٧٩م، غير أن المؤكد أن الاحتجاجات قد تكررت في المشهد السياسي الإيراني على نحو شبه منتظم كما في سنوات١٩٨٨و١٩٩٩وكذلك في٢٠٠٩و٢٠١٧و٢٠١٩و٢٠٢٠و٢٠٢١م، أي أن الاحتجاجات تكررت أولًا على نحو شبه دوري ثم زادت وتيرتها في السنوات الأخيرة، والحقيقة أن ثمة أسباب موضوعية لهذه الاحتجاجات ترجع بالإضافة لطبيعة نظام الحكم وقبضته القوية إلى الأوضاع الاقتصادية المتردية سواء كانت ناجمة عن أسباب داخلية أو تكلفة الانخراط الكثيف في الشؤون الخارجية أو العقوبات الدولية، وقد زادت هذه الأوضاع ترديًا في السنوات الأخيرة وحتى الآن بسبب جائحة كورونا وتزايد العقوبات الدولية والأزمة ثم الحرب في أوكرانيا مؤخرًا، وتشير العديد من الدراسات إلى مؤشرات اقتصادية قاسية كوقوع حوالي نصف الشعب الإيراني تحت خط الفقر وانخفاض الناتج الإجمالي إلى النصف ووصول نسبة التضخم إلى٥٠٪‏ وانخفاض غير مسبوق للعملة الإيرانية وغير ذلك، وأيًّا كانت دقة هذه التقديرات فإن المؤكد أن الوضع الاقتصادي بالغ الصعوبة ناهيك بالطبيعة التسلطية للنظام، وهو ما يجعل وقوع تلك الاحتجاجات المتكررة أمرًا مفهومًا، ويمكن أن نضيف لهذه الاحتجاجات ما يمكن تسميته بالاحتجاجات السلبية، وهي تلك المتعلقة بتراجع نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية من٨٥٪‏في الانتخابات قبل الأخيرة إلى٤٩٪‏في الانتخابات الأخيرة (٢٠٢١م).

   غير أن تحليلات عديدة تذهب إلى أن الاحتجاجات الأخيرة ذات طبيعة مختلفة مع أنها حتى الآن لا تُعتبر الأعنف إذا قورنت مثلًا باحتجاجات٢٠١٩م، التي سقط فيها قرابة١٥٠٠قتيل، وذلك استنادًا إلى عدة أسباب أولها أنها على الرغم مما يبدو من أنها تمحورت حول موضوع اجتماعي يتعلق بزي المرأة وهو الحجاب إلا أن هذا الموضوع يتعلق بجوهر شرعية النظام وما يسمى بــ "ثقافة العفة" فيه، والتي ترى نخبته أنها رمز للمواجهة بين الثقافتين الغربية والإسلامية وأن في انهيارها انهيارًا للنظام، والواقع أنه ليس ثمة حاجة لاستنتاجات غير مباشرة بصدد نيل الاحتجاجات من شرعية النظام فقد طالت الشعارات التي رفعها المحتجون والصور التي حرقوها أو أتلفوها الرموز العليا للثورة الإيرانية كما يمثلها مرشد الثورة الأول ومرشدها الحالي، ولا يقل خطورة عن هذا أن شرارة الاحتجاجات قد ارتبطت بفتاة كردية وهو ما أدخل الأقوام غير الفارسية في معادلة الاحتجاجات، فمن المعروف أن المناطق الحدودية الإيرانية يقطنها مواطنون ينتمون لقوميات غير فارسية كما في العرب الأهواز على الخليج العربي، والأكراد الذين يتماسون مع كردستان العراق والبلوش الذين يتماسون مع امتداداتهم الإثنية في أفغانستان وباكستان والأذريون الذين يتركزون بمحاذاة بحر قزوين والحدود مع أذربيجان التي تعتبرها طهران قاعدة متقدمة للموساد للتجسس عليها والتدخل في شؤونها، وثمة افتراض بأن هذه الأقليات لديها الشعور بالتهميش مما أوجد حسًا بالمظلومية وإشكالية في المواطنة والهوية، وهو وضع يمثل مناخًا مثاليًا لامتداد الاحتجاجات إلى هذه الجماعات، وتقدر بعض استطلاعات الرأي العام أن٥٥٪‏من الإيرانيين يؤيدون الاحتجاجات، وإن لم تكن هناك وسيلة للتأكد من مدى دقة هذه النسبة التي يرى البعض أنها قد تتجاوز ذلك.

   وبسبب هذه الطبيعة المختلفة للاحتجاجات الأخيرة فقد ذهب بعض التحليلات إلى أنها قد تكون بمثابة القشة التي تقصمت ظهر البعير، أي أنها قد تؤدي لانهيار النظام، وهو ما يفتح الباب واسعًا للاجتهاد في التنبؤ بأثر هذه الاحتجاجات على مستقبل النظام الإيراني، لأنه من البديهي أن يتوقف أثرها على سياسة إيران الإقليمية على أثرها على النظام الإيراني ذاته باعتباره صانع هذه السياسات، فتتغير جذريًا أو على نحو شبه جذري في حال انهياره، وقد يتم تعديلها في حالة أخذه بإصلاحات ما، بينما تثبت بطبيعة الحال إذا تمكن من الإفلات من هذه الاحتجاجات، ويعني هذا ضمنًا أننا بصدد ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل النظام الإيراني بسبب هذه الاحتجاجات لابد من استكشاف احتمالات تجسدها على أرض الواقع كي يمكننا افتراض الاحتمالات المختلفة لتأثيرها على سياسات إيران الإقليمية، وتكتنف عملية استشراف المستقبل كما هو معروف صعوبات عديدة لعل أوضحها يتمثل في عدم الإلمام الكافي والدقيق بمعطيات هذه الاحتجاجات لعوامل عديدة كالتضييق المتعمد على الاتصالات والإعلام، والانتشار الجغرافي الواسع للاحتجاجات على نحو قد لا يمكن من متابعتها بدقة، والرسائل المبالغة أو غير الدقيقة التي يطلقها خصوم النظام وهكذا، غير أنه لا مفر كالعادة من محاولة التغلب على هذه الصعوبة بكل الوسائل الممكنة بما في ذلك الاستعانة بالخبرة الماضية.

   ويظهر إمعان النظر في انفجار هذه الاحتجاجات وتطورها أنه على الرغم من السمات التي تفردت بها على النحو الذي سبق بيانه، واصطدامها الواضح بالنظام ورموزه فإنه لم يستخدم أقصى قوته في مواجهتها، ومازالت قواعد قوته المؤسسية بما في ذلك تلك ذات الطبيعة العسكرية لم تُمس، ناهيك بالقطاعات المؤيدة له في الرأي العام، وهو ما يعني أن الحديث عن انهيار النظام ليس حديثًا واردًا في المدى القصير وربما المتوسط، وأن أقصى ما يمكن توقعه في المدى القريب هو تكرار الاحتجاجات على نفس الوتيرة أو بدرجة أعلى بما يربك النظام وسياساته، لكنه لا يدفعه للتخلي عنها أو تعديلها، ويعزز هذا الافتراض عاملان أولهما الخبرة الماضية لمآل هذه الاحتجاجات منذ نجاح الثورة الإيرانية، فقد نجح النظام في الإفلات منها جميعًا بغض النظر عن التكلفة، علمًا بأن بعضها كان يتضمن عنصرًا صراعيًا داخل قوى النظام ذاته، أما العامل الثاني فيتمثل في أن سيناريو انهيار النظام -الذي لا يمكن تحليليًا استبعاده لوجود عوامل أصيلة لمعارضة النظام- بفرض حدوثه يتطلب وقتًا طويلًا وفقًا لدروس الخبرة الماضية، وبعيدًا عن دروس "الرجل المريض" في خبرة انهيار الدولة العثمانية فإن الحالات المعاصرة لانهيار نظم تسلطية بما فيها في منطقتنا من العالم تشير إلى الوقت الطويل الذي ينقضي قبل تحللها، ويعني هذا الاجتهاد بفرض صحته أن أي تدبر للمستقبل بخصوص التحسب لسياسات إيران الإقليمية ذات التأثير الواضح في شؤوننا يجب أن يأخذ في اعتباره أننا سنتعامل في المدى القريب وربما المتوسط مع النظام الإيراني بتركيبته وسياساته الحالية، غير أن هذا لا ينفي أن ملابسات الاحتجاجات وضغطها على أعصاب النظام يمكن أن يؤدي إلى تصرفات ترتبط بسياساته الإقليمية سوف تحاول المقالة استكشافها في الجزء الثاني من التحليل.

   ثانيًا-رؤية للتداعيات المُحتملة على سياسة إيران الإقليمية:

      لابد في البداية من التأكيد على عدد من الملاحظات الضرورية لفهم التداعيات المُحتملة للاحتجاجات الداخلية الأخيرة في إيران على سياستها الإقليمية، وأهم هذه الملاحظات يتعلق بالحقيقة البديهية في تحليل السياسة الخارجية لأي دولة وهي ارتباط الداخل بالخارج، وهو مفهوم أصيل في هذا التحليل منذ دشن أستاذ العلاقات الدولية الشهير جيمس روزيناو مفهوم سياسيات الربط linkage politics، ويترتب على هذا أن الداخل الضعيف لابد وأن ينعكس على ضعف مماثل في أداء السياسة الخارجية، وبالتطبيق على حالتنا فإن استمرار الاحتجاجات و/أو تصاعدها لابد وأن يسبب إضعافاً وارتباكًا في أداء السياسة الخارجية الإيرانية عمومًا سواء بسبب تركيز النخبة الحاكمة على مواجهة التهديدات الداخلية للنظام أو لتقلص الموارد المُخصصة لتمويل أنشطة السياسة الخارجية مع استمرار تردي الأوضاع الداخلية، وهذه نتيجة عامة تنسحب على المستويين الإقليمي والعالمي معًا، وإن كان تأثيرها المحتمل يُفترض أن يكون أوضح على الصعيد الإقليمي لوجود أنشطة مكلفة بدرجة أكبر لإيران على هذا الصعيد كما في ضمان دعم وكلائها في المنطقة كـ "حزب الله" اللبناني والحشد الشعبي في العراق والحوثيين في اليمن وتمويل أنشطة دعم النظام السوري في مواجهة خصومه، أما إذا تمكن النظام من كسر الحلقة المفرغة للاحتجاجات فسوف يبقى الوضع على ما هو عليه، والواقع أن خيار تقليص الأنشطة الخارجية المكلفة قد يبدو خيارًا منطقيًا أمام صانع القرار الإيراني للتقليل من حدة الاحتجاجات الداخلية طالما أن مصدرًا رئيسيًّا لهذه الاحتجاجات هو تردي الأوضاع الاقتصادية الداخلية، ونذكر أن المحتجين في احتجاجات٢٠١٧م، قد رفعوا شعار "انسحبوا من سوريا وفكروا بِنَا"، وما ينطبق على سوريا ينطبق على غيرها بطبيعة الحال.

   غير أن المعضلة التي تتطلب تفكيرًا مليًا تتمثل في أن الأنشطة الخارجية للنظام الإيراني ترتبط ارتباطًا عضويًا بشرعيته الداخلية، فالدستور الإيراني ينص في فصله الأول على أن "تُنظم السياسة الخارجية على أساس المعايير الإسلامية والالتزامات الأخوية تجاه جميع المسلمين والحماية الكاملة لمستضعفي العالم"، كما رسم النظام الإيراني عام٢٠٠٣م، في وثيقته المعنونة "إيران في أُفُق٢٠٢٥" رؤيته لموقع إيران وملامحها بحلول٢٠٢٥م،على أساس أن تصبح إيران بحلول٢٠٢٥م، قوة دولية تحتل المرتبة الأولى في منطقة جنوب غربي آسيا في المجالات الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، وأن تصبح نموذجًا ملهمًا ولاعبًا فاعلًا ومؤثرًا في العالم الإسلامي، وفي هذا الإطار الدستوري والسياسي يصعب الفصل بين الداخل والخارج في السياسة الإيرانية، وهو ما يعني أن التراجع الطوعي في السياسة الخارجية أو حدوث نكسات فيها لابد وأن يكون له مردود على شرعية النظام في الداخل لأن التسليم بالهزيمة في الساحة الخارجية لابد وأن يكون له مردود سلبي على الساحة الداخلية، فمن المستحيل على النظام الإيراني على سبيل المثال أن يتخلى عن "حزب الله" اللبناني لأنه الأداة التي يعطي بها صدقية لشعاراته المعادية لإسرائيل بغض النظر عن المردود الفعلي لهذه الشعارات، ومن يَثْبُت خطأ توجهاته الخارجية لابد وأن ينسحب ذلك على توجهاته الداخلية، ويزيد من صعوبة إن لم تكن استحالة حدوث تغيير في توجهات النظام بموجب ضغوط الاحتجاجات الداخلية أن الدوائر المسؤولة فيه دأبت على تفسير الاحتجاجات بعوامل خارجية، بمعنى أنها ناتجة عن تحريض من أعداء النظام الإيراني في بيئتيه الإقليمية والعالمية، ومن ثم فإن أي تراجع أو استسلام في مواجهتهم لن يعني سوى الهزيمة بعينها، وهو احتمال لا يمكن أن يحدث إلا بهزيمة النظام التي ذهب التحليل السابق إلى استبعادها في المدى القصير وربما المتوسط، وسوف يكون البديل الأنسب للنظام هو تقديم تنازلات محسوبة في الداخل الإيراني كما رأينا في خطوة حل شرطة الأخلاق على سبيل المثال، والباب مفتوح أمام تنازلات داخلية جزئية أخرى لا تضرب شرعية النظام إذا اضطُر إليها لتخفيف الاحتقان الداخلي.

   وإذا كان التحليل السابق قد استبعد سيناريو انهيار النظام الإيراني في المدى القريب وربما المتوسط، بل واستبعد أن يبادر بإدخال تغييرات جذرية على سياسته الخارجية لمردودها السلبي على شرعيته فهل يعني هذا ألا تأثير يُذكر للاحتجاجات الداخلية على سياسته الخارجية؟ الواقع أن المنطق لابد وأن يفضي إلى الإجابة بالنفي على هذا السؤال، فهناك أولًا ما سبقت الإشارة إليه بمناسبة الحديث عن العلاقة بين السياستين الداخلية والخارجية بما أفضى إلى استنتاج أن استمرار الاحتجاجات و/أو تصاعدها لابد وأن يسبب إضعافًا وإرباكًا في أداء السياسة الخارجية عمومًا سواء بسبب التركيز على مواجهة الداخل أو تقلص الموارد المخصصة لتمويل السياسة الخارجية، وإن كان التحليل قد انتهى إلى استبعاد أن يتضمن ذلك تغييرًا نوعيًا لمردوده السلبي على شرعية النظام، غير أن ثمة مسارًا آخر محتملًا لتأثير الاحتجاجات الداخلية على السياسة الخارجية للنظام الإيراني يختلف جذريًا عن منطق التحليل السابق، وهو أن يلجأ النظام لسياسات تصعيدية تنبع من فكرة شائعة في أدبيات تحليل السياسة الخارجية، وهي فكرة مستمدة من الخبرة العملية المقارنة، ومفادها أن النظم الحاكمة تلجأ أحيانًا عندما تتعرض لأزمات داخلية حادة إلى محاولة صرف أنظار الداخل عن قضاياه الأساسية بمغامرات خارجية بدعوى مواجهة أخطار على الأمن القومي بغض النظر عن وجود هذه الأخطار من عدمه، وقد يزيد من هذا الاحتمال تكييف النظام للاحتجاجات الداخلية دائمًا على أنها ناجمة عن مؤامرة خارجية عليه من أعدائه، وبما أن الأمر كذلك فسوف يكون مبررًا من وجهة نظر النظام توجيه ضربات إلى مواقع تدبير التآمر.

   وبدا أن العراق وبالذات إقليمه الكردي ساحة ملائمة لتنفيذ هذه الفكرة، فقد سبقت الإشارة إلى إحساس الأقوام غير الفارسية في إيران بالتهميش، وإلى ارتباط تفجر الاحتجاجات بوفاة فتاة كردية كانت رهن الاعتقال بسبب مخالفتها الزِّي الذي يفرضه النظام، ويتهم المسؤولون الإيرانيون الأكراد بالتحريض على الاحتجاجات، وبما أن ما لا يقل عن١٠آلاف كردي إيراني يقيمون في إقليم كردستان العراق فقد أصبح هدفًا منذ سبتمبر الماضي لضربات إيرانية استهدف بها الحرس الثوري الإيراني مجموعات من المعارضة الكردية الإيرانية معتبرًا أنها "جماعات إرهابية انفصالية معادية لطهران"، وتنوعات أدوات هذا الاستهداف عبر الحدود ما بين الطائرات المسيرة والصواريخ، بل لقد هدد قائد فيلق القدس بالقيام بعمليات برية غير مسبوقة في الإقليم إذا لم تقم بغداد بنزع سلاح المعارضة المنتمية لأكراد إيران، ويمكن أن يتكرر هذا النموذج في كردستان العراق أيضًا بدعوى وجود قواعد إسرائيلية تستهدف إيران كما حدث في مارس٢٠٢٢م، بالهجوم الصاروخي على اربيل، ويذهب بعض المحللين إلى حد توقع أن يصل هذا السلوك الإيراني إلى حد احتلال أجزاء من كردستان العراق على نحو ما تفعله تركيا في أراضٍ سورية، أو تحريض التنظيمات الموالية لها في العراق على مهاجمة أهداف أمريكية، ولا شك أن هذه التصرفات كافة سوف تكون محكومة بالأوضاع الداخلية في البلدان المستهدفة بهذه الهجمات وكذلك بتوازن القوى، فلن يكون سهلًا في العراق تقبل استمرار الهجمات الإيرانية خاصة وأن هناك معارضة يعتد بها للتغلغل الإيراني في السياسة العراقية، كما أن ردود الفعل الإسرائيلية والأمريكية لابد وأن تؤخذ في الحسبان من قِبَل صانع القرار الإيراني حتى في حالة مهاجمة أهداف إسرائيلية على نحو غير مباشر كما في حالة الهجوم في١٠فبراير الماضي على ناقلة النفط التي ترفع علم ليبيريا والتابعة لشركة يملكها واحد من أقطاب الشحن الإسرائيلي ، ويمكن أن ينسحب التحليل السابق الخاص بلجوء إيران إلى أعمال تصعيد وليس تهدئة في سلوكها الخارجي على الموقف من أذربيجان التي سبقت الإشارة إلى أن إيران تعتبرها قاعدة للموساد.

   خاتمة

      انتهى التحليل السابق إلى استبعاد احتمال انهيار النظام الإيراني نتيجة الاحتجاجات الأخيرة في المدى القريب وربما المتوسط، واستبعد كذلك احتمال حدوث تغيير يعتد به في توجهات النظام وسياساته نتيجة الضغوط المتولدة عليه من جراء هذه الاحتجاجات، بل إن النظام قد يلجأ لتصرفات خارجية تنطوي على أعمال عسكرية ضد من يروج لكونهم مسؤولين عن هذه الاحتجاجات، وهنا يثور السؤال المنطقي حول الخيار الأمثل للتعامل مع إيران في هذه الظروف بالنظر إلى أنها كما سبقت الإشارة منخرطة على نحو كثيف في أربعة مواقع عربية مهمة في سوريا ولبنان والعراق واليمن، ويهدد هذا الانخراط مصالح حيوية عربية كما ثبت من خلال الخبرة العربية في التعامل مع النظام الإيراني، وطالما أنه لا يمكن التعويل على تغيير إلى الأفضل في السياسة الخارجية الراهنة اعتمادًا على تطور الأوضاع الداخلية في إيران على الأقل في المدى القصير فإنه من الممكن اقتراح ما يلي:

   ١-الاستمرار في سياسات بناء القوة الشاملة لمواجهة أي تغول خارجي على الحقوق الوطنية والعربية، وعلى سبيل المثال فلولا قاعدة القوة السعودية لما أمكن إيقاف التمدد الإيراني من خلال جماعة الحوثيين في اليمن.

   ٢-مواصلة سياسة عدم التدخل في الشأن الداخلي الإيراني أولًا انطلاقًا من مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة، وثانيًا لإبطال الادعاء بأن الاحتجاجات الداخلية في إيران صنيعة خارجية، وترك التطورات الداخلية الإيرانية تمضي في مسارها الطبيعي الذي لابد وأن يصل يومًا إلى نقطة النهاية ما لم يقم النظام الإيراني على الأقل بالإصلاحات الواجبة التي تكفل له الاستمرار، وفي الوقت نفسه التصدي بحزم لأي تدخل في الشؤون الداخلية السعودية والعربية.

   ٣-مواصلة السياسة الرشيدة التي تتبعها السعودية لفتح آفاق الحوار مع الجميع بما في ذلك إيران مع التمسك بالثوابت الوطنية والقومية والحذر التام من أي مناورات ترمي لصرف الانتباه عن الهدف الرئيسي للحوار.

مقالات لنفس الكاتب