; logged out
الرئيسية / الحل الأمثل للخطر الإيراني هو سيناريو "البلقنة" والشعوب غير الفارسية تسعى للتحرر

العدد 183

الحل الأمثل للخطر الإيراني هو سيناريو "البلقنة" والشعوب غير الفارسية تسعى للتحرر

الإثنين، 27 شباط/فبراير 2023

تحميل    ملف الدراسة

شهدت إيران خلال السنوات الماضية العديد من الاحتجاجات والمظاهرات، أهمها عام 2009 بعد إعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية، والتي أعتبرها منافسوه عملية تزوير للانتخابات وعرفت فيما بعد بالحركة الخضراء، واحتجاجات عام 2017 و 2018 و2019 م، بسبب ارتفاع أسعار الوقود وتردي الأوضاع المعيشية. ورغم أهمية تلك الاحتجاجات التي واجهها النظام الإيراني بالقمع المفرط، إلا أن معظمها كانت مطلبية، لم تؤد إلى تآكل وتقهقر النظام من الداخل، ولم توحد الدول الغربية خلفها كما فعلت الاحتجاجات الحالية.

 انطلقت المظاهرات الإيرانية منذ منتصف شهر سبتمبر من العام الماضي احتجاجاً على مقتل الشابة الكردية جينا أو مهسا أميني، على يد شرطة الآداب، من مسقط رأسها مدينة سقز الكردية، وسرعان ما انتشرت كالنار في الهشيم، وشملت لأول مرة في تاريخ النظام الإيراني جميع الشعوب الإيرانية بنسب مشاركة مختلفة في جميع مناطق البلاد. جمعت تلك الشعوب هتاف” المرأة، الحياة، الحرية“، ومطالب سياسية غير مسبوقة أخرى رفع المحتجون سقفها عاليًا، وصلت لأول مرة المطالبة بإسقاط النظام الإيراني برمته. بل ذهبت الشعوب غير الفارسية بالمطالبة بتأسيس دولهم القومية وكان شعار” حرية، كرامة، سلطة وطنية“ أحد الهتافات الرئيسية في تلك المناطق.

خلافًا للاحتجاجات السابقة، كانت المرأة وطلاب الجامعات وتلاميذ المدارس في الصفوف الأولى للمحتجين، وهذا الأمر يثبت دون أدنى شك، فشل النظام الإيراني في الوصول لأهدافه الثقافية والسياسية المتعلقة بترسيخ عقيدة الولاء عند تلك الشرائح. الرفض الواسع لارتداء غطاء الرأس أو الحجاب كما يطلق عليه في إيران وحرقه خلال الاحتجاجات الشعبية يعتبر أكبر عملية تمرد لنساء إيران على نظام الجمهورية الإسلامية خلال الأربعة عقود الماضية. حصل ذلك التمرد على موجه تعاطف دولية واسعة بقص برلمانيات وممثلات ومحاميات من الدول الأوروبية والغربية عامة خصلات من شعر رؤوسهن أمام عدسات الكاميرات وهن يرددن هتاف الاحتجاجات التي أصبح أيقونتها هو” المرأة، الحياة، الحرية“.

ظهرت لأول مرة في تاريخ الاحتجاجات ضد النظام الإيراني لجان تنسيقية في كل مدينة، تدعو المواطنين إلى التظاهر، وتقوم بالتنسيق مع مثيلاتها في المدن الأخرى، وقادت تلك اللجان الاحتجاجات بتكتيكات وسبل جعلت قوات الأمن تواجه صعوبات في التعامل مع المحتجين، بل اخترقت تلك اللجان صفوف قوات الأمن والحرس الثوري الإيراني وجعلتهم يتعاطفون معها ويتمردون على أوامر السلطات الإيرانية لقمع المتظاهرين. كشف النظام الإيراني في وقت متأخر العناصر الأمنية والعسكرية التي كان لها تواصل مع المحتجين وباشر بتصفيتها، أهمها القيادي في الحرس الثوري” قاسم فتح اللهي “العضو في فيلق محمد رسول الله، والقائد لقاعدة” ثار الله “التابعة إلى الباسيج ومقرها مسجد الإمام سجاد بطهران. اغتيل فتح الله أمام منزله ونشرت وكالتا فارس وتسنيم التابعتان للحرس الثوري مقتضب عن الخبر ونسبت الاغتيال إلى أشخاص ربطت دافع القتل بالسرقة! شككت مصادر عديدة برواية النظام الإيراني، وكشفت فيما بعد قناة” إيران إنترناشيونال “المعارضة نقلاً عن مصادرها الداخلية بأن عملية اغتيال فتح الله كانت تصفية من قبل الحرس الثوري الإيراني بعد كشف تواصله مع المحتجين عبر جهاز ” بلي ستيشن “.

 

 الاحتجاجات الشعبية إلى أين؟

 

بعد أسابيع من انطلاقتها أصبحت الاحتجاجات أكبر تحد أمني وسياسي تشهدها البلاد منذ انتصار الثورة الإيرانية عام 1979م، وذلك باعتراف محمد دهقان المساعد الحقوقي للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي. الذي قال في مقابلة نشرتها وكالة فارس للأنباء” إن هذه الاحتجاجات التي هي مخطط أعداء النظام غير مسبوقة وتشكل تحديًا أمنيًا وسياسيًا للبلاد والنظام على حد سواء“. تحولت تلك الاحتجاجات إلى ” ثورة “وفقًا للعديد من المراقبين والباحثين في الشأن الإيراني، بل هذا هو اعتقاد من يقود الاحتجاجات في داخل إيران ومن يناصرها في الخارج. وذهب الرئيس الفرنسي أمانويل ماكرون في كلمته بمنتدى باريس للسلام، بتاريخ الثاني عشر من شهر نوفمبر من العام الماضي إلى وصف الاحتجاجات الشعبية في إيران بأنها ” ثورة “. لم تختصر على المطالبة بإسقاط النظام الإيراني فحسب، بل عملت على نسف وتغيير جميع المفاهيم والمعتقدات والثوابت السياسية والثقافية والاجتماعية التي حاول النظام الإيراني تكريسها طيلة أربعة عقود في المجتمع الإيراني وخارجه، خاصة في الدول التي تهيمن عليها طهران. بمعنى إن النظام الإيراني أخفق داخليًا في تثبيت النموذج الذي يتبجح في تصديره إلى المنطقة.

لم يكن النظام الإيراني يتوقع إن جدار الرعب الذي بناه على مدى 44 عامًا يتهاوى بهذه السرعة على يد فتيات وفتيان لا زال معظمهم في العقد الثاني من أعمارهم. تمثّل سقوط جدار الرعب الذي يشبه سقوط جدار برلين وكان فاصلًا ما بين مرحلتين، بحرق صور وتماثيل رموز النظام الإيراني، على رأسهم المرشد الإيراني علي خامنئي، وقاسم سليماني قائد فيلق القدس السابق، وتدحرج عمائم الملالي المنتسبون للنظام في الشوارع على يد المحتجين. يعتبر سقوط حاجز الخوف، نهاية هيبة النظام الإيراني ومقدساته على حد سواء، ويؤسس لمرحلة سياسية جديدة في الساحة الداخلية الإيرانية والخارجية بما فيها ساحة المعارضة، حيث ستكون الشعوب غير الفارسية ومطالبها في سلم أولويات تلك المرحلة. ما جعل تلك الثورة أو الاحتجاجات الشعبية ذات أهمية كبرى تزامنها مع متغيرات كبرى ومنعطفات خطيرة يمر بها البلاد على الصعيد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي، أهمها:

 

ـ وجود أزمات عديدة

 

شكلت الأزمات المستعصية على الحل، مثل الوضع المعيشي المتردي وارتفاع الأسعار وسقوط العملة الإيرانية، بالإضافة إلى الحكم الديكتاتوري، خيبة أمل كبيرة تبدلت شيئًا فشيئًا إلى انعدام الثقة بالنظام الإيراني ووضعت البلاد على حافة الهاوية. ونتيجة تلك الأزمات يعيش اليوم نحو نصف المجتمع الإيراني تحت خط الفقر، وفقا لتصريحات ” إحسان خاندوزي“ وزير الاقتصاد والمتحدث الاقتصادي لحكومة إبراهيم رئيسي. أما انتشار الفساد في المؤسسات الحكومية العسكرية والاقتصادية والسياسية أصبحت معطلة كبيرة يدفع المواطن ثمنها الباهظ بشكل يومي. أدرجت منظمة الشفافية الدولية في تقريرها الجديد، الذي نشرته 31 يناير/ كانون الثاني من العام الجاري، إيران في أسفل جدول مؤشر "مدركات الفساد" في العالم لعام 2022م، وأكدت منظمة الشفافية الدولية أن إيران لم تحرز أي تقدم في مكافحة الفساد، بما في ذلك عمليات غسيل الأموال والفساد السياسي والإداري، خلال السنوات الثلاث الماضية.

 

  • العجز وغياب الإرادة في معالجة الأزمات

 

تعود معظم أسباب تلك الأزمات لسياسات ومشاريع الشركات التابعة إلى الحرس الثوري الإيراني التي لم تأخذ مصالح المواطنين بعين الاعتبار. أدت المشروعات الاقتصادية ذات الطابع الأمني مثل بناء السدود بشكل عشوائي وتجفيف الأنهار والبحيرات والأهوار في الأحواز مثلًا بحجة تسهيل عملية التنقيب عن النفط، إلى كوارث بيئية خطيرة أحدى نتائجها تلوث المياه والهواء حيث أصبحت العديد من المدن الإيرانية من بين الأكثر المدن تلوثا في العالم، وفقا لمنظمة الصحة العالمية. قال ”حسين علي حاجي ديليجاني“ عضو لجنة التخطيط والموازنة بالبرلمان الإيراني، يوم 16 يناير من العام الحالي، لصحيفة اقتصاد اونلاين ”إن مشروع قانون الموازنة للعام الإيراني المقبل ( تبدأ 21 مارس 2023) لم يأخذ في الاعتبار المشكلات الرئيسية الثلاث للبلاد في الوقت الحالي، وهي خلق الاستقرار الاقتصادي، الحد من التضخم، وارتفاع الأسعار. أضاف دليجاني بأنه بالأساس لا توجد خطة لمعالجة الفقر والفجوة الطبقية. رغم تصريحات البرلمانيين الإيرانيين عن التوقعات غير المنطقية بشأن مبيعات النفط وأسعار العملة، والعجز في الموازنة العامة التي تصل إلى 476 ترليون تومان إيراني، ) أكثر من 11 مليار دولار أمريكي). رغم المظاهرات العمالية والقطاعات الأخرى المتواصلة منذ فترات طويلة احتجاجًا على تردي وضعهم المعيشي وارتفاع الأسعار وتأخير دفع رواتبهم، لم يعير النظام الإيراني اهتمامًا لمعالجة الأزمات الحقيقية في البلاد، بل صادق البرلمان الإيراني وفقًا لموقع بهار نيوز الإلكتروني بزيادة ميزانية مؤسساته العسكرية والدعائية مثل الإذاعة والتلفزيون والقوات الأمنية والمجلس الأعلى للحوزة العلمية، ومركز خدمات الحوزة العلمية، وهيئة الدعاية الإسلامية، وجامعة المصطفى بملغ قدره 13.6 مليار تومان إيراني.

 

ـ انسداد اُفق التغيير في سلوك النظام الإيراني تجاه المواطنين

 

دعمت الشعوب في إيران التيار الإصلاحي ( 1997-2005م) بأمل التغيير الذي وعد به، وطالبت بتنفيذ المواد المعطلة من الدستور الإيراني، لكن تبين فيما بعد أن تيارات النظام جميعها وجوه لعملة واحدة تقوم بتبادل الأدوار في تخدير المواطن عبر الوعود التي لم تتحقق طيلة أربعة عقود الماضية البتة. أوصل المواطن رسالته التي تحمل مطالبه في جميع الاحتجاجات السابقة إلى السلطات الإيرانية بشكل شفاف، لكنها بقت دون جواب إيجابي. لذلك وصلت الشعوب في إيران إلى نتيجة بانسداد اُفق التغيير في سلوك النظام الإيراني. وبالنتيجة ستبقى الأزمات السياسية والأمنية ملازمة لحكمه، بل تتجه نحو المزيد من الصراعات والتعقيد والرفض الذي يظهر نفسه كالبركان الغاضب بين حين والآخر.

 

ـ مشاركة الشعوب غير الفارسية في الاحتجاجات

 

لأول مرة تنضم جميع الشعوب في إيران مجتمعة إلى الاحتجاجات وتطرح قضاياها القومية إلى جانب المطالبة بإسقاط نظام ولاية الفقيه في إيران. جاءت مشاركة الشعوب خاصة غير الفارسية (ترك أذربيجان، التركمان، الأكراد، البلوش، عرب الأحواز، الكيلك واللر أو البختياريين) كردة فعل طبيعية ضد سياسات السلطات الإيرانية تجاهها. تعاني تلك الشعوب من سياسات مصادرة حقوقها ومنها سياسة التهجير للسكان الأصليين واستبدالهم بسكان من مناطق أخرى باتت سياسة ثابتة خاصة في الأحواز منذ ما يقارب القرن من الزمان، ما زالت آليات تلك السياسة هي منع توظيف العرب في مناطقهم الغنية بثروات البترول والغاز والأرض الخصبة. وضعت السلطات الإيرانية عشرات السدود على مصبات أنهار كارون والكرخة والدز والجراحي لتحقيق عدة مآرب أمنية وسياسية، منها تدمير بيئة الأحواز وإعدام فرص الزراعة للمواطنين العرب لإرغامهم على الهجرة نحو العمق الإيراني واستبدالهم بمستوطنين يتم توظيفهم في شركات النفط والبتروكيمياويات بغرض تغير ديمغرافية الأحواز العربية.

 

ـ تحرك المعارضة الإيرانية في الخارج

 

خلافًا للاحتجاجات السابقة شهدت المعارضة الإيرانية ديناميكية عالية في الخارج على الصعيد تنظيم المظاهرات والارتباط بالدول الغربية ومؤسساتها والتنسيق فيما بينها بغية توحيد صفوفها. نظمت المعارضة الإيرانية عشرات المظاهرات في مدن العالم بدءًا من نيوزلندا واستراليا مرورًا بالدول الأوروبية وصولًا لمدن كندا وأميركا، وحركت الآلاف من الإيرانيين في تلك الدول معها.

نجحت المعارضة الإيرانية في تنظيم المظاهرات، لكن أخفقت لحد الآن في لملمة صفوفها المبعثرة لتشكيل قيادة موحدة تمثل الشعوب في إيران ومطالبها. وهنا لابدّ ان نقسم المعارضة الإيرانية إلى قسميين رئيسيين وهي المعارضة الفارسية والتي تسمي نفسها بالمعارضة الإيرانية الشمولية، والمعارضة التابعة لشعوب غير الفارسية في إيران التي يعتقد العديد من ممثليها من منظمات وشخصيات بأنهم حركات تحرر وطنية ولست معارضة. وبناءً على ذلك تختلف المطالب والأهداف لكل الطرفين. الطرف الأول يطالب بإسقاط النظام الإيراني واستلام السلطة وبناء نظام مركزي، ديمقراطي بشروط تحددها المعارضة الفارسية وحدها دون الأخذ بعين الاعتبار حقوق الشعوب السياسية. أما الطرف الآخر هي منظمات الشعوب غير الفارسية التي تناضل من أجل حقوقها القومية وعلى رأسها، حقها في تقرير المصير. لم يستطع الطرفان لحد الآن الاتفاق على أهداف يلتفان حولها، بل هنالك تناقض في الأهداف يتجلى بوضوح عند المحاولات لوضع صيغة ما تجمع الأطراف. تضع المعارضة الفارسية قبول” وحدة التراب الإيراني “ وإسقاط ”حق تقرير المصير“ والتخلي ”عن النظام الفدرالي المركزي“ كشروط أولية للوصول إلى ائتلاف مع الشعوب غير الفارسية التي تعتبرها أقليات، فيما الهدف الرئيس لتلك الشعوب هو الوصول لحقوقها القومية ووضع حد نهائي للاضطهاد القومي الممنهج. تعتقد بعض منظمات الشعوب غير الفارسية بأن الحل يكمن في تطبيق حقها في تقرير مصيرها وتشكيل دولها وأنظمتها القومية، فيما يعتقد الجزء الآخر بضرورة الاتفاق مع المعارضة الفارسية على تأسيس نظام فدرالي لا مركزي، لكن الأخيرة تعتبره مقدمة لتفكيك البلاد في المستقبل لذلك ترفض الإذعان له.

 

النظام الإيراني وازدواجية التعامل مع الشعوب غير الفارسية

 

شهد العالم سياسة التعامل المزدوج بحق الشعوب غير الفارسية في هذه الاحتجاجات حيث أستخدم النظام الإيراني الرصاص الحي والمباشر لإسقاط عدد أكبر من الضحايا في صفوفهم. سقط نتيجة ذلك التعامل نحو 92 قتيلاً من الشعب البلوشي يوم الجمعة الموافق 7/10/2022م، فقط ونصف ذلك العدد في يوم الجمعة التي تلت الأولى. واستخدام المدفعيات والصواريخ الباليستية والمسيّرات لقصف مقرات ومكاتب نشطاء وأحزاب الشعب الكردي اللاجئة في إقليم كردستان العراق من قبل حرس الثورة الإيراني بتاريخ 21/11/2022م، وارتكاب مجزرة عام 2019م، بمدينة معشور التي راح ضحيتها عشرات القتلى، دلائل صارخة على ازدواجية المعايير في التعامل مع الشعوب غير الفارسية. وفقًا للإحصائيات المتوفرة أن أكبر نسبة ضحايا للاحتجاجات الحالية هي من الشعب البلوشي ثم الشعب الكردي ويليه الشعب الاذربيجاني والشعب الكيلكي والشعب العربي الأحوازي رغم أن الأخير لم يشارك في الاحتجاجات الثورية الجارية في إيران لاعتبارات سيكون شرحها خارج سياق هذا المقال.

نتيجة سياسات النظام الإيراني تلك وصل المواطنون الإيرانيون إلى شبه إجماع بضرورة التخلص من النظام الإيراني، حيث أظهر أحدث استطلاع رأي أجراه معهد ”كمان“ الإيراني مقره في هولندا بتاريخ ما بين 21 و31 ديسمبر من العام الماضي، إن نسبة %81 من الإيرانيين داخل البلاد يريدون إسقاط النظام الإيراني. شارك في ذلك الاستطلاع أكثر من مئتي ألف، نحو 158 ألفًا من داخل إيران ونحو 42 الفًا من الإيرانيين خارج البلاد، و%15  فقط من الإيرانيين داخل البلاد يدعمون النظام الإيراني.

 

 الاحتجاجات ومستقبل المنطقة

 

بعد ما أكمل رضا البهلوي سيطرته العسكرية على الضفة الشرقية للخليج العربي باحتلال الإمارات العربية وهي المرازيق، القواسم، البو علي، العبادلة، والمحمرة (الأحواز)، أوصى ابنه محمد رضا البهلوي وصيته الشهيرة التي تعتبر استراتيجية ثابتة للدولة الإيرانية، وهي:”حررتُ الضفة الشرقية للخليج، وعليك أنت أن تحرر الضفة الغربية “. وبالفعل عندما انسحبت بريطانيا من الخليج العربي في بداية السبعينات من القرن الماضي، دخل محمد رضا بهلوي بمفاوضات مع بريطانيا لاحتلال البحرين وجزر الإمارات الثلاث أبو موسى والطنب الكبرى والطنب الصغرى. أخذت طهران الموافقة الضمنية من بريطانيا لاحتلال الجزر الثلاث ومانعت لندن احتلال البحرين وكان المَخرج القانوني آنذاك تنظيم استفتاء عام لشعب البحرين حيث صَوّت لصالح الاستقلال، ورفض أن يكون محافظة إيرانية. بقت تلك الاستراتيجية ثابتة للدولة الإيرانية حتى بعد سقوط النظام البهلوي واستلام الخميني السلطة، حيث باشر بتحريض الشعب العراقي إلى القيام بثورة ضد نظامه إسوة بالثورة الإيرانية، أي ذات السياسة التي انتهجتها طهران وهي تصدير الثورة إلى دول الإقليم. استمرت تلك السياسية تحت عناوين وأساليب وتكتيكات تحددها المرحلة. كانت الحرب على العراق "عبادة “ في منطق النظام الإيراني، لأن الخميني كان يعتبر النظام العراقي السابق نظامًا كافرًا. ثم تحولت المنطقة جسرًا لابدّ من العبور عليه للوصول إلى القدس في فلسفة النظام الإيراني التوسعية، لذلك أسس فيلقًا تابعًا للحرس الثوري مهمته الأساسية التواجد في الدول العربية والسيطرة عليها. بعد ذلك أمست فلسفة التدخل في شؤون الدول العربية تحت يافطة الدفاع عن المستضعفين ومواجهة الاستكبار العالمي والشيطان الأكبر وبالنهاية محاربة الإرهاب! تحقق جزء كبير من أهداف النظام الإيراني بعد إسقاط النظام العراقي السابق واحتلال العراق، حيث أسس الحرس الثوري عشرات المليشيات والأحزاب التابعة له في العراق ثم في سوريا واليمن.

التغلغل الإيراني العسكري والسياسي والأمني والعقائدي في المنطقة تعتبره طهران مكسبًا استراتيجيًا كبيرًا في إطار بناء امبراطوريتها على حساب دول المنطقة وشعوبها، لذلك لا يمكن أن تتراجع عنه، بل ستكون مهمتها الأساسية المحافظة على مكتسباتها الجيوبولوتيكية وتوسيع نطاق جغرافية تواجدها.

في ظل تلك المستجدات التي كان ومازال النظام الإيراني الحالي جزءاً أساسياً من مشكلاتها وأزماتها خلال أربعة عقود من الزمن، لا يمكن أن يتبدل إلى جزء من الحل، لان تلك الأزمات يعتبرها النظام الإيراني أدواته في السيطرة والتوسع في المنطقة العربية. أثبتت الأحداث الداخلية الإيرانية، بأن النظام الإيراني كل ما واجه أزمات داخلية كل ما حاول إثارة أزمات في المنطقة بغية خلط الأوراق على الداخل وحرف الأنظار عنها بربط ما يحصل بالمؤامرات الخارجية. وبناءً على ذلك من المستبعد أن تتراجع السلطات الإيرانية عن سياسة التدخل في شؤون المنطقة إلا من خلال تحصين الدول العربية شؤونها الداخلية، وتتبنى استراتيجية دعم الشعوب غير الفارسية في إيران وتمكينها على إسقاط النظام الإيراني، ليكون لها الدور الأكبر في تحديد شكل النظام القادم في إيران على أقل التقدير. أما الحل الأمثل والاستراتيجي الذي يخلص الدول العربية من الخطر الإيراني الداهم وإلى الأبد، يكمن في دعم تطبيق سيناريو بلقنة إيران خاصة أن الشعوب غير الفارسية تناضل من أجل ذلك الهدف منذ عشرات السنين.

 

 الاحتجاجات وانعكاساتها على النظام وعلاقاته الدولية

 

 في ظل أزمة الاحتجاجات الشعبية المتواصلة، توسعت دائرة الصراعات داخل أجهزة ومؤسسات النظام الإيراني السياسية والأمنية والعسكرية. استغلت مجموعة مقربة لبيت المرشد الإيراني تسمي نفسها ” جبهة الصمود “ملف علي رضا أكبري مساعد وزير الدفاع علي شمخاني في فترة رئاسة محمد خاتمي، الذي أعدمته إيران بتاريخ 14/1/2023م، بتهمة التجسس لصالح بريطانيا، لتصفية حسابات مسؤولين كانت لهم آراء مختلفة حول التحديات التي يواجهها النظام الإيراني بما في ذلك طريقة تعاملهم مع الاحتجاجات. طالبت جبهة الصمود بإقالة علي شمخاني بذريعة علاقته مع علي رضا أكبري من جهة، وتحميله التقصير الأمني في قضية الهجوم على مزار شاهجراغ في شيراز بتاريخ 26/10/2022م، الذي تبناه تنظيم داعش الإرهابي . من جهة أخرى وجهت شخصيات مرموقة في النظام الإيراني نقدها إلى النظام الإيراني وطالبت بإعادة النظر في التعامل مع المحتجين مثل محمد خاتمي الرئيس الإيراني الإصلاحي الأسبق وحسن روحاني الرئيس الإيراني المعتدل السابق. وصعدت شخصيات أخرى كانت محسوبة على النظام الإيراني من تحديها واصطفت بجانب المحتجين، بل وصفت خامنئي بالديكتاتور والقاتل وطالبت بتغيرات جذرية تستهدف الدستور والنظام برمته. من أهم تلك الشخصيات التي تفاعلت مع الاحتجاجات وعارضت سلوك النظام في قمع المحتجين هم: مير حسين موسوي رئيس وزراء إيران في فترة الحرب الإيرانية / العراقية، وفائزة هاشمي رفسنجاني ابنة الرئيس الإيراني الأسبق علي أكبر هاشمي رفسنجاني، وبدري خامنئي شقيقة المرشد الإيراني خامنئي الوحيدة التي وصفت شقيقها بالديكتاتور وتمنت أن ترى سقوطه، وابنتها فريدة مراد خاني وغيرهم. طالب موسوي من مقر إقامته الجبرية في طهران بضرورة التحوّل الجذري في البلاد من خلال إعداد دستور جديد يصوغه ممثلون عن المجموعات العرقية والسياسية ويصادق عليه الشعب في استفتاء حر وفقًا لبيانه الذي أصدره قبيل ذكرى انتصار الثورة الإيرانية. وتفاعلت أكثر من 300 شخصية سياسية وإعلامية إيرانية معروفة من داخل البلاد وخارجها مع البيان، وأكدوا على ضرورة تطبيق مطالب موسوي. وردا على ذلك البيان وصفت السلطة القضائية الإيرانية عبر موقعها ميزان الإلكتروني إن مطالبة موسوي بصياغة دستور جديد لإيران بمثابة خروج عن النظام، بل وصفته أداة بيد منظمة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة، وأضافت أن المنظمة من مقرها في باريس تقود وتكتب بيانات مير حسين موسوي. هذه التهم عادة تلصقها السلطات الإيرانية ضد المعارضين لتكون ذريعة لتصفيتهم.

ستترك الاحتجاجات الإيرانية الحالية واقعًا مختلفًا تمامًا عما كانت عليه قبل ذلك، فتمرد النساء على الحجاب الذي فرضه النظام الإيراني لن يعود كما كان في السابق، فلا النساء مستعدات أن يتراجعن عن هذا المكسب، ولا النظام الإيراني يستطيع فرضه بالقوة كما كان في السابق خوفاً من عودة كابوس الذي نتج عن مقتل الشابة الكردية جينا/ مهسا أميني. من جهته سيبقى النظام الإيراني لفترة ليس بقصيرة يعالج التصدعات وغربلة صفوفه من جديد، هذا سيخلق واقعًا أكثر ديكتاتورية، وستنحصر السلطة بيد مجموعات مقربة جدًا لدوائر صنع القرار في طهران، وبناءً على ذلك ستنضم مجموعات جديدة للمعارضة بعد أن تجد نفسها خارج السلطة رغم خدمتها لسنوات عديدة للنظام الإيراني. في ظل الاحتدام ما بين المعارضة من جهة والنظام من جهة أخرى لكسب الشارع، سيضطر الأخير أن يتراخى على أقل التقدير في مواجهة المواطنين. والعفو العام الذي أصدره خامنئي بالإفراج عن جزء من معتقلي الاحتجاجات الحالية في الذكرى 44 لانتصار الثورة ما هو إلا محاولة لكسب ودّ المواطنين وتحسين صورته التي تشوهت كثيرًا خلال الاحتجاجات.

استمرار الاحتجاجات الشعبية ومشاركة النظام الإيراني في حرب أوكرانيا بتزويد روسيا المسيّرات الانتحارية، ومماطلته في العودة إلى الاتفاق النووي بالإضافة إلى الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان المتعلقة بقمع المحتجين واحتجاز ذوي الجنسيات المزدوجة، ادخلت إيران في دوامة أزمات عصية على الحل. لم تهدأ حدة أزمة ما، حتى تشتعل أخرى. الصراع داخل أجهزة وتيارات النظام الإيراني وعجزه على تقديم حلول لأزمات البلاد الاقتصادية والمعيشية والسياسية وتفضيل الحلول الأمنية لمواجهتها، جعله يواجه تحد كبير في استمراريته في السلطة.

لن تترك الدول الغربية ملفات النووي والصاروخي والتدخل في حرب أوكرانيا مفتوحة لفترة أطول، وستتحرك قريبًا لحسمها في عدة جبهات، وستكون الملفات الداخلية مثل الاحتجاجات وانتهاكات حقوق الإنسان واختطاف وحجز ذوي الجنسيات المزدوجة حاضرة بقوة في حسم تلك القضايا العالقة بين طهران من جهة والمجتمع الدولي من جهة أخرى. ستكون جميع تلك الملفات وسبل معالجتها تحديات وجودية للنظام الإيراني، حيث السقوط بأحضان مسكو وبجين لن يشفع له والسبب يعود إلى إن تلك الدولتين تتعامل مع ملفات طهران بمنطق أدوات الضغط والربح والخسارة، وعليه ستدخل بمقايضات مع الغرب لتحقيق امتيازات في ساحات الاشتباكات العديدة التي تتعارض مصالحهم فيها حينًا وتتقاطع أحيانًا أخرى.

مقالات لنفس الكاتب