array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 185

منطلقات ينبثق عنها 10 أدوات لتطوير العمل العربي المشترك ترتبط بالأمن والمصلحة

الأحد، 30 نيسان/أبريل 2023

ما بين التشاؤم والتفاؤل بإنتاج صيغ عمل عربية نوعية تشكل انعكاس لهويتها الحضارية، يبقى التحدي الأبرز في بوصلة العمل هو بقاؤه وقدرته على الاستمرار، والتحرر من فكرة استصدار القرارات فقط والاستثمار في أدوار إيجابية أكثر اتساقاً مع متطلبات الواقعية في العلاقات الدولية، وأكثر نجاعة في معادلات الاستقرار والأمن والتنمية، وهو ما يعزز ضرورات إعادة بناء فلسفة العمل العربي المشترك لا سيما في ظل ما يفرزه السياق الدولي من أزمات وخارطة تحالفات متبدلة ومتغيرة، وسيكون لخريطة المهام التي تنتظر المسير العربي دور هام في تبني استراتيجية التفاعل النوعي بملفات المنطقة وسيشكل الملف السوري نقطة اختبار لهذا الدور المنتظر لا سيما إذ اتسق مع متطلبات الاستقرار والتمكين المحلي وضرورة دعم الرؤى الوطنية لجل الاستحقاقات.

العمل العربي المشترك: إنجازات وإخفاقات

لطالما وصِف العمل العربي المشترك  بأوصاف دالة على "عدم النجاعة"، وبغض النظر عن أنها نتاج توجهات مفرطة بالاتكاء على الإيديولوجية والتي تنظر لـ "الوحدة العربية" كأساس ومحرك للتقييم السياسي ومعيار مهم لـ "التكامل الاقتصادي" ، فإن تقييم هذا العمل ينبغي له أن يضع معايير مرتبطة بمحددات الواقعية الجديدة في العلاقات الدولية وأن يتم قياسها وفقاً للتحولات السياسية والأمنية التي شهدتها المنطقة العربية عموماً منذ أنشاء أول تكتل للعمل العربي المشترك (جامعة الدول العربية عام 1945م) والذي أتى في لحظة سياسية فارقة في النظام الدولي. فإذا ما تم التقييم وفقاً لمعيار التحالفات السياسية البينية وامتلاك أسباب القوة فإنها ستكون دالة على أن هناك محاولات يمكن البناء عليها ( نموذج مجلس التعاون الخليجي )،  فقد جرت العديد من المحاولات الرامية للتعاون والعمل المشترك، فلم تستمر الوحدة بين مصر وسورية (1958-1961م)، وكذلك تعثرت الوحدة الأردنية / العراقية عام 1958، بينما  بقيت "جامعة الدول العربية" مستمرة حتى الآن وتضم 21 دولة عربية وتعتبر مؤسسة إقليمية لها شخصيتها الدولية، وتضم مؤسسات ومجالس كثيرة تعمل مثل القمة العربية والأمانة العامة والمجالس الوزارية والاتحادات التخصصية.

كما يعد مجلس التعاون الخليجي الذي أنشئ عام 1981م، من التحالفات الناجعة في حركية العمل العربي المشترك بحكم أنها كانت أقاليمية (منوطة بدول شبه الجزيرة العربية) ومنصة للنقاشات والمهددات الأمنية ، إلا أنه لا يزال يشهد جملة من التحديات أهمها عدم توافق أعضاءه على تعريف التطورات السياسية والتي أفرزت خلافات تم استيعابها بعد قطيعة، إضافة لعدم تدارس توسعة المجلس لتعزيز أسباب القدرة المرتبطة بعدد السكان ولتعزيز التماسك الجغرافي.

كما شكل مجلس الوحدة المغاربية الذي أنشئ في عام  1989م،  كتلة جغرافية وبشرية مناسبة لدول المغرب العربي إلا أن غياب ديناميات داخلية "ملزمة" لحل الأزمات بين تلك الدول  ساهمت في عدم احتواء الخلافات الجزائرية / المغربية حول الصحراء الغربية في توقف هذا المجلس عن العمل منذ 1995م، كما لم يتمكن مجلس التعاون العربي المكون من مصر والعراق واليمن والأردن من الاستمرار رغم ما تمثله هذه الدول الأربع من كتلة بشرية واقتصادية مهمة فقد عطله انعدام الانسياب الجغرافي إضافة إلى الخلافات البينية، ثم عصفت به حرب الخليج الثانية التي استتبعت الاحتلال العراقي للكويت عام 1990م.

وإذا ما خصصنا للجامعة العربية الحيز الأوسع في عملية التقييم باعتبارها الإطار الأوسع والهيكل التنظيمي المستمر قرابة 77 عاماً فهي لعبت العديد من الأدوار الإيجابية وارتاب حركتها عدة أوجه قصور، فمن جهة الأدوار الإيجابية فقد نجحت أن تجعل من نفسها إطاراً عاماً للتشاور ولتبادل وجهات النظر فيما بين الدول العربية. ومنذ إنشائها في عام 1945م، ظلت النظرة إلى هذه الجامعة على أنها "بيت العرب الكبير"، كما نجحت الجامعة أن تبرم العديد من الاتفاقات كموضوع إنشاء سوق عربية مشتركة، وكذلك اتفاقية الدفاع العربي المشترك. إضافة إلى إنشاء مجموعة من الوكالات (المنظمات) المتخصصة والتي وافق مجلس الجامعة عليها أو دعا الدول الأعضاء إلى الانضمام إليها. ومن أهم هذه الوكالات: اتحاد البريد العربي، والاتحاد العربي للمواصلات السلكية واللاسلكية، ومنظمـة العمل العربية، والمنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة، والمنظمة العربية للعلوم الإدارية.

أما فيما يتعلق ببعض أوجه القصور التي شابت أداء جامعة الدول العربية فناهيك عن عدم قدرتها في تفعيل الديناميات الأمنية المشتركة بين الدول وتوظيفها في خدمة الصالح العربي العام فإنها لم تنجح في بناء صلات مادية أو خلق بنية تحتية تربط بين الدول الأعضاء. كما أنها وقفت عاجزة أمام العديد من التحديات التي فرضت على المنطقة نتيجة تباين مواقف أعضائها.

أما على المستوى الاقتصادي وعلى الرغم من توصل الدول العربية إلى وضع برنامج تنفيذي لتفعيل اتفاقية تيسير وتنمية التبادل التجاري بين الدول العربية لإقامة منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى بدأ تنفيذها في 1998م، وتم تفعيلها في 2005 م " وأصبحت جميع السلع ذات المنشأ العربي المتبادلة بين الدول الأعضاء في منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، معفاة من كافة الرسوم الجمركية والرسوم والضرائب ذات الأثر المماثل المفروضة عند الاستيراد. إلا أن تحرير التجارة البينية العربية لا يزال يشهد العديد من العراقيل من أبرزها، عدم اتفاق الدول العربية حتى الآن على إزالة الرسوم غير الجمركية المفروضة، وخاصة تلك التي تتعلق بالإجراءات غير الجمركية  لحماية إنتاجها الوطني والحد من المنافسة وضبط موازينها التجارية وتوفير الموارد المالية لميزانية الدولة، والتعقيدات الإدارية مما أدى، في غالب الأحيان، إلى تعقيد الإجراءات الإدارية وإجراءات التخليص في المنافذ الحدودية والتعسف في تطبيقها والتشدد في التحقق من منشأ السلع وتراكم أنواع عديدة من الرسوم وإجراءات التحقق والمطابقة للمواصفات والمقاييس الوطنية.

وبعد عام 2011م، واندلاع حركات الاحتجاج في عدة بلدان عربية، تميز العمل العربي المشترك بقدرته على التماهي مع مطالب الشارع العربي ولعب أدوارًا "فريدة"، واتخذت الجامعة عدة قرارات مهمة في هذا الصدد لا سيما بعد تدحرج حركات الاحتجاج ووصولها لعدة بلدان عربية وتخلي الرئيس المصري حسني مبارك عن الحكم كاستجابة لمطالب لهذه الحركات، ومن هذه القرارات تجميد عضوية ليبيا وطلب الحظر الجوي، وإرسال بعثتي مراقبة عربية إلى سورية  ثم تجميد عضويتها كما فرضت عقوبات ضد دمشق (وهو الإجراء الأول من نوعه للجامعة  منذ إنشائها عام 1945م.

تؤكد السطور أعلاه على أن مسيرة العمل العربي المشترك شهدت عدة تطورات وعدة انتكاسات، لكن "ضخامة الهدف" المنوط به جعل حركية هذا العمل دون التوقعات، فلا يزال ينظر إلى أي عمل عربي مشترك على أنه خطوة ينصهر فيها الجزء العربي لصالح الكل وهذا ما ترفضه الحركية ذاتها ومالا يتوافق مع منطق الدولة وخصوصيتها.

وإذا ما تجاوزنا القرارات الدالة على عمل عربي مشترك وعلى كافة الصعد فإن في مسيرة هذا العمل كموناً مهماً للاستثمار به لعمل نوعي عابر للنمطية،  وعلى الرغم من أن جل هذه القرارات صدرت ضمن صيغ تنظيمية إلا أن تلك الصيغ تتعرض لتحديات كبيرة تنبع من صعوبة التوصل لتوافقات سياسية بين الأعضاء من جهة ولعدم التوازن الاقتصادي أيضاً من جهة ثانية، ناهيك عن أن هذا العمل يتعرض بشكل مستمر لتحديات مركبة تنبع من تسارع التحولات وتباين خرائط التحالفات وتنوع الأزمات سواء المحلية أو الإقليمية أو الدولية، وهو ما يشكل فرصة وتحديًا في آن واحد للعمل العربي المشترك.
العمل العربي المشترك: وجوب تغيير الفلسفة الناظمة

ليس ثمة شك في أن العمل العربي المشترك تأثر بشكل واضح في ظل حركات "الربيع العربي" وما لحقها من تحولات، وإذا كانت جامعة الدول العربية قد واجهت عدة أزمات كبيرة على الصعيدين الداخلي والخارجي، حيث عجزت منذ تأسيسها عن إنشاء كيان عربي متماسك وقوي قادر على الصمود في مواجهة الأزمات التي تعصف بالعلاقات بين الدول العربية، وذلك لأسباب متعددة، منها ما يتعلق بميثاقها وطبيعة العلاقة بين الأعضاء، وطبيعة المصالح الإقليمية والدولية .. الخ. وقد ساهمت هذه الأسباب في ضعف أداء جامعة الدول العربية، وساعدت في إفراغ ميثاقها من محتواه، مما أدى لحالة من التدهور والتبعثر في العلاقات العربية  -العربية، بسبب طغيان الإرادة القطرية للدول الأعضاء على الإرادة العربية الجامعة والموحدة، مما انعكس على أدائها في معظم القضايا العربية الهامة وهو ما يعزز من ضرورة طرح سيناريوهين لمستقبل الجامعة (باعتبارها الصيغة التنظيمية الأدق للعمل العربي المشترك)، سيناريو الإصلاح؛ حيث إن منظومة العمل العربي المشترك لا ينبغي أن تظل حبيسة مفاهيم وأطر وهياكل لا تتغير ولا تتطور مع تغير العلاقات الدولية وإلا أصيبت بالجمود وعدم الفعالية .وعليه فإن تطوير وتحديث هذه المنظومة من حيث المفاهيم وآليات العمل أصبح ضرورة ملحة لتحسين الأداء وبلوغ الأهداف المرجوة، وقد كان واضعو الميثاق على دراية بهذه الحقيقة فضمنوه المادة "19" التي نصت على مبدأ التطوير وحددت آلية تعديل الميثاق، ومن هنا لم تغب مبادرات وأفكار واقتراحات التطوير عن الجامعة منذ التوقيع على ميثاقها في العام 1945م، غير أن معظم تلك المحاولات قد أخفق إخفاقاً كبيراً .وقد كان من بين تلك المبادرات إعلان قمة تونس 2004م، الذى طرحت عدداً من النقاط للإصلاح، من بينها: تطوير العمل العربي المشترك وفق برامج ومشاريع إصلاحية تنسيقية في مختلف المجالات "السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية والدفاعية والعسكرية....إلخ." إنشاء محكمة عدل عربية للنظر في مختلف القضايا العربية الهامة من الناحية القانونية، وإنشاء برلمان عربي انتقالي واعتماد نظامه الأساسي، وإنشاء هيئة لمتابعة تنفيذ القرارات والالتزامات وتعديل الفقرة " 2" من المادة " 6" بشأن التصويت في الحالات الخاصة بالاعتداء على دولة عضو، واعتماد نص جديد للمادة " 7" من الميثاق بشأن تعديل آلية اتخاذ القرارات. تطوير معاهدة الدفاع العربي المشترك، وإنشاء جيش عربي مشترك، وتطوير المجلس الاقتصادي والاجتماعي، وتطوير عمل المنظمات والمجالس الوزارية المتخصصة، ودراسة مشكلات الأزمة المالية للمنظمة.

   وفي نهاية المطاف يمكننا القول إن الجامعة العربية تعاني قصورًا حقيقيًا على جميع الأصعدة، وأنه لا بد من عملية الإصلاح، فأهم خطوة يمكن القيام بها هي ضرورة تعديل الميثاق، لأنه قاصر لعدة مبررات؛ أهمها أنه لم يعد يساير متطلبات وواقع النظام الإقليمي العربي والتحولات الراهنة وتحديات النظام الدولي، كما أن تعديله سوف يغني الواقع عن المبررات التي تحتكم إليها الدول عقب كل فشل، فهو الركيزة الأساسية التي يبنى عليها العمل المشترك، حيث إنه من غير المعقول بناء نظام فعال، على نمط الاتحاد الأوروبي، والجامعة تعاني قصورًا هيكليًا يفتقر إلى سلطة ملزمة.

من جهة أخرى، ومع مطلع الألفية الجديدة وتغير شكل النظام الدولي وخارطة مهدداته، بات لزاماً على الصيغ التحالفية، أو الائتلافية من تغيير الافتراضات التقليدية الدافعة لها، فلا المشتركات وحدها كافية ولا التماسك الجغرافي ولا تنوع الموارد الاقتصادية، بل من شأن كل ما ذكر أن يحفز ويمتن العمل العربي، وينبغي أن تكون منطلقاته متسقة مع مقولات النظرية الواقعية في العلاقات الدولية

فلا السيادة "القطرية" ستنصهر في سيادة قومية ولا النظم السياسية ستتوافق في وجهات النظر بحكم تمايز خرائط الجيوسياسية والجيبولتيك، وبذات الوقت شكلت الصيغ التنظيمية عاملاً إيجابياً لتنسيق الجهود وتشكيل الضغوط، وعليه يمكن القول إن المنطلقات الجديدة للعمل العربي المشترك ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهومي الأمن والمصلحة، وستتمثل في:

  • ربط الصيغ التنظيمية بغايات التنسيق والاستشارة والتباحث وفق قواعد عمل ملزمة للأطراف.
  • "إدارة الأزمة وحل النزاعات" هما غايات رئيسية للعمل السياسي المشترك.
  • تعزيز الديناميات الثقافية وتصدير "العروبة" كمظلة قادرة على إدارة التنوع.
  • ضرورة تطوير السياسات التنموية والاقتصادية وصيانة الموارد البشرية العربية
  • الاستراتيجية الأمنية المشتركة للدول العربية وتستوجب الاتفاق على الخطوط العامة لاستراتيجية دافعة باتجاه الصيانة.
  • الفاعلية الإقليمية والسعي باتجاه "الريادة" وأن يكون العمل العربي موجهاً باتجاه المركزية في النظام الإقليمي.

ويرتبط بهذه المنطلقات جملة من الأدوات اللازمة لتدعيم هذا العمل بما يضمن اتساقه مع المنطلقات الجديدة، ومنها نذكر:

  • قوة عسكرية عربية تتبع للجامعة تعتبر كقوات فصل أو قوات تدخل وفق لقرارات الجامعة في هذا السياق.
  • تفعيل المادة 19 " المحكمة العربية وتختص بحل النزاعات العربية والخلافات البينية.
  • المؤتمرات العلمية الربع سنوية وتهدف لفتح نقاشات سياسية وفكرية وضمان استمراريتها ورفد الدول العربية بهذه النقاشات.
  • تقدير الموقف العربي ضمن الصيغ التنظيمية بشكل دوري وتصديره للمجال العام.
  • تكثيف الحملات الدبلوماسية الجمعية سواء كانت لأهداف أمنية أو اقتصادية أو ثقافية.
  • الإدارة العربية للاستجابة للكوارث والطوارئ.
  • مجلس الأمن الاقتصادي -التنموي العربي.
  • ممثلية للجامعة العربية في الدول الأعضاء تكون بمثابة الوكيل المحلي التنفيذي.
  • أدوات الدبلوماسية اللازمة لتطوير النقاش الأمني وصولاً للاستراتيجية الأمنية العربية المشتركة.
  • تجهيز (softwere) موحد في مناهج التعليم الثقافي

أما فيما يرتبط بالوضع الاقتصادي، فإن سير العمل العربي منوط بإحدى السيناريوهين،  سيناريو استمرار الوضع القائم  وهو سيناريو خفيف التكلفة إلا أنه لم يفرز إلا تطورات ديكورية، فقد أسفرت تجربة التعاون والتكامل الاقتصادي العربي –– منذ إنشاء جامعة الدول العربية عام 1945م، وحتى الآن عن محاولة متعثرة في إطار مدخل واحد بعينه للتكامل هو ما يسمى بالمدخل التجاري  والقائم على تشجيع المبادلات التجارية البينية، ولكنه تم دون محاولة جادة للانتقال من حيز التجارة إلى الاقتصاد بالمعنى الأوسع، وخاصة من حيث إعادة صنع السياسات الإنتاجية المشتركة فالتجارة العربية البينية لم تزد نسبتها من إجمالي التجارة الخارجية للدول العربية عن نحو 10% عام 2019م،  ورغم العمل الإيجابي المتمثل في إنشاء (منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى) إلا أنها تعاني من مشاكل جمة لذلك فإن هذا السيناريو يمثل تكريسًا لإخفاق المدخل التجاري البحت للتكامل الاقتصادي العربي أما السيناريو الثاني فيفترض وجود قوة ضغط فعالة من الجذور الاجتماعية العربية، فإنه يمكن أن يشهد حل المشكلات المسببة لتعثر المدخل التجاري، وخاصة من حيث التوصل إلى اتفاق متكامل حول «قواعد المنشأ» و«الحواجز التجارية غير الجمركية»، وتنظيم تجارة الخدمات... إلخ. كما يمكن، من جهة ثانية، الولوج من المدخل التجاري إلى «المدخل الإنمائي»، وخاصة من حيث تنسيق السياسات الاقتصادية لمواكبة التطور المنتظر في التجارة البيْنية. وذلك مثل «اتفاق أغادير» بين كل من المغرب وتونس ومصر والأردن. ويقوم هذا الاتفاق الأخير على تشجيع (الشراكة) بين الدول العربية المعنية والاتحاد الأوروبي على أساس من تطبيق قاعدة «المنشأ التراكمي». وهذا يعني أن السلع المنتجة في الدول العربية الأربعة معًا، على أساس مكونات مستوردة من الدول أعضاء الاتحاد الأوروبي، يمكن لها أن تتمتع بمعاملة جمركية تفضيلية في هذه الدول الأخيرة، في حال وصول المكون العربي المشترك لها إلى نسبة 40%.

خريطة مهام معقدة في ظل السياق الدولي الراهن

من أهم تحديات العمل العربي المشترك ما هو مرتبط بالسياق السياسي الدولي وما أفرزه من تحولات غيرت من خارطة التحالفات وإعادة ترتيب الأولويات الأمنية، ولعل المتغير الرئيسي في هذا السياق مرتبط بإدارة واشنطن ومنظورها للمنطقة، إذ  ركزت إدارة (بايدن) في التعامل مع أزمات المنطقة على الأداة الدبلوماسية ومعرفة الوقائع المتغيرة فيها دوماً (وهو ما يطلق عليه المنظرون النيوويلسونية)، وانعكس ذلك في مراجعة الدعم العسكري لدول الخليج  واستئناف الحوار مع إيران  وإمكانية تغيير العلاقة معها وتفصيل الخيارات المتاحة أمام تجنب النزاعات العنيفة بالمنطقة، وتطبيق معايير "القيم الأخلاقية" في مواجهة الأزمات الإنسانية، وعودة الدور الأمريكي كوسيط لحل الصراع العربي-الإسرائيلي عن طريق خلق شعور بالتعاون تؤسس قواعده انطلاقاً من مبدأ الواقع الممكن.

إلا أن الاهتمام الأمريكي النوعي انحصر بـ"العلاقة مع ايران" حيث شرعت الإدارة الأمريكية في تبني خطواتٍ من أجل بناءِ الثقة، إذ سمحت الولايات المتحدة لإيران باسترداد بعضٍ من أرصدتها المحتجزة. وعلى هذا الأساس يرى الباحثون أن الإدراك الاستراتيجي للإدارة الأمريكية بدا واضحاً في صياغة تصوراً حقيقياً استناداً لما يمكن تسميته بعوامل الثبات في السياسة الخارجية لامتصاص التوترات والاضطرابات في منطقة الشرق الأوسط، وفي نطاق تعاطيهم مع الحلفاء الاستراتيجيين، بالإضافة إلى توجيه رسالة ردع ضد القوى المناوئة لها في ساحات التصادم الجيوسياسي في المنطقة ( كالساحة العراقية ،والساحة السورية)، مع إعطاء مساحة في لغة الخطاب السياسي والإعلامي لمقولات وشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان والقوة الناعمة وتعزيز الأدوات الدبلوماسية.

وأمام هذه التطورات والأحداث الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط والتحولات أفرزت معطيات هيكلية جديدة ومتداخلة مقابل تصاعد دور قوى كبرى إلى جانب الولايات المتحدة في المنطقة تسعى لإضعاف الهيمنة الإقليمية لأمريكا، إضافة إلى ذلك  تسعى لتأخذ مكانة الأهمية والتأثير والفاعلية الإقليمية على نطاق واسع، في الوقت نفسه تكشف عن وجود تغييرات بطبيعة الفواعل في البيئة السياسية الدولية، يفهم مما سبق أن روسيا تمثل تهديداً محتملاً ضد مصالح الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط من وجهة النظر الأمريكية، بعد إعلان روسيا تركيزها نحو منطقة الشرق الأوسط وإعادة تموضعها الدولي، فهي تعتبر المنطقة ضمن مجالاتها الحيوية ،انعكس في مواقفهما من الأزمة السورية التي أبرزت مدى التجاذب وتعارض المصالح بين الدولتين الكبرى في ملفات المنطقة، إذ انخرطت روسيا تحت راية التعاون والأمن الجماعي دبلوماسياً مع جميع دول المنطقة، وزادت مبيعات أسلحتها إلى مصر والعراق و السعودية وليبيا والإمارات وتركيا. كما أتاح هذا الوضع الجديد فرصة استراتيجية بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي التي تريد أن تكون لاعباً أساسياً في منطقة الشرق الأوسط واستعادة دورها ضمن تشجيع التعاون مع الفواعل الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط لتشكل منافسًا للولايات المتحدة في المنطقة، حيث أصبحت العلاقات الأوروبية في المنطقة أكثر محورية في وضع استراتيجية لمبادرات مشتركة للتعامل مع التحديات الإقليمية الناشئة، ومقاربة مشتركة أكثر قوة لمواجهة التحديات والتهديدات الأمنية.

وبالتضافر مع أسباب داخلية، توجهت تركيا في صياغة توجهاتها في إطار تكوين نوع من التقارب مع القوى الإقليمية كمصر والسعودية واليونان وإسرائيل وغيرها من الدول، انطلاقاً من الضرورات الملحة في حماية مصالحها مع توسيع وجودها وتمددها في الإقليم والحرص على استقلاليتها بعيداً عن التأثير الأمريكي، إذ تحاول تركيا خلق معادلات جديدة عبر اختراق العزلة  المفروضة عليها وتغير النهج الصدامي مع الفاعلين الإقليميين في ظل المتغيرات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، وأهمها ما يتعلق  بالتحولات الجارية في ليبيا وشرق المتوسط وسورية، واستئناف العلاقات العربية- الخليجية.

تدلل التفاعلات أعلاه على أن العمل العربي المشترك سيتحرك في ظل تراجع الاهتمام الأمريكي وضبط أثمان تدخله لا سيما في ظل: 1) تصاعد تعقيدات السياق الدولي: وقضاياه كجائحة كورونا، والتغير المناخي والصراع مع الصين والغزو الروسي لأوكرانيا وانعكاساتها على الأمن الأوروبي، 2)  تزايد حالة عدم اليقين الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط ،3)  تنامي ضغوط الداخل الأمريكي، ومقابل هذا التراجع نجد أن موسكو تحاول توظيف "الملف السوري" في السياسة الخارجية ومدخلاً استراتيجياً لعودة نوعية للمنطقة، وتأسيسها محوراً إقليمياً معادياً للولايات المتحدة فمن المرجح أن يستمر التقارب الإيراني الروسي في الفترة القادمة. وكل هذا سيبقى محدداً ومؤثراً في تموضع الملف السوري من ضمن ملفات المنطقة التي يتمايز عن بقيتها بتعدد الأدوار وتدويل إشكالياته لا سيما مع محاولات موسكو الحثيثة بحرف مسار العملية السياسية فيها.

وعليه ينتظر مسار العمل العربي خارطة من المهام يمكن ترتيبها وفق الآتي:

  • على مستوى الأداء السياسي والاستراتيجي:
  • إعادة تعريف العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية وجعلها أكثر تحرراً مما كانت عليه.
  • فرض المحور العربي طرفاً في حوارات وتفاوضات أزمات المنطقة.
  • استرداد الأدوار في النظام الإقليمي
  • تكثيف الجهود العربية لتوحيد الرؤى السياسية حيال التحولات الدولية.
  • إدراك عمق الأزمات في البنى المحلية داخل بعض الدول العربية.
  • ربط منهجيات العمل السياسي بمسببات الأزمة وليس نتاجها.
  • تعزيز الاستقرار في البنية العربية
  • على المستوى الأمني فلا يزال الإرهاب والتطرف و"إمكانية توظيفه" مهدداً قائماً وإن خفت صيغه الصلبة، لكن غياب أفق الحلول السياسية الداعمة للاستقرار سيكون بمثابة المناخ المجدد لخطاب المظلوميات التي تتكئ عليه الحركات المتطرفة.

ووسط هذه المهام وفي أتون التفكير بمسار عمل عربي نوعي تبرز سورية كعنصر اختبار حقيقي لهذا المسار وسلوكه إذ ستنعكس التفاعلات "القلقة" أعلاه على المشهد السوري وستسهم بالمضي قدماً في سيناريو تمترس الجغرافية الذي سيعتريه بعض الترتيبات الأمنية بحكم ما ستفضي إليه مفاوضات أنقرة مع النظام من جهة، وبحكم ثبات الموقف الأمريكي في شمال شرق سوريا مع احتمال تفكير واشنطن بدراسة "نوع التموضع" غير المخل بمصالحها من جهة ثانية. بالمقابل سياسياً ستبقى العملية السياسية تعاني من استعصاءات مزمنة إلا أنها ستبقى الإطار التنفيذي لتعريف "حل الأزمة" وهذا لا يمنع من إنجاز صفقات جزئية عابرة للشأن السياسي.

ولتحقيق التوازن ما بين متطلبات العمل العربي وإدراك تعقيدات المشهد السوري وضرورات حله ضمن المقاربات الأممية، فإنه يمكن تبني استراتيجية " الاستقرار في سوريا" وهي شرط لازم لعودة تفاعلاتها في المحيط العربي وفي هذا السياق يمكن دعم الحزم التالية:

  • دعم الأدوار الوطنية المحلية الرامية لتصدير الرؤى الوطنية لقضايا العقد الاجتماعي، والمضي قدماً بتمتين البيئة الأمنية وهياكل الحكم المحلي، وإنتاج برنامج عودة حرة كريمة طوعية للاجئين.
  • دعم التجسير المجتمعي: كإنجاز حوارات لتحسين معادلة المقيم والنازح، ونسج خيوط تواصل مع المجتمعات في كافة المناطق
  • اختبار الحلول البديلة: كالتباحث في "اللامركزية النوعية "كمدخل للحكم المستقبلي في سورية وفق محددات أن تكون ضامنة لوحدة الأراضي السورية ولمشاركة المجتمع المحلي وضمن محددات القرار 2254.
  • "الاستراتيجية العربية الإنسانية" فإعادة التفكير على المستوى الاستراتيجي والتحرك المبكّر بدل انتظار مخرجات جلسات التصويت في مجلس الأمن واحتمال توقف دخول المساعدات وما سينجم عنه من كارثة إنسانية، ينبغي رفض تسييس الملف الإنساني وتشكّل مجموعات ضغط ذات كوادر متخصصة بالعلاقات الدولية والدبلوماسية مدعومة من جلّ المنظمات الإنسانية، للقيام بحملات مناصرة مستمرة في أروقة الأمم المتحدة؛ للدفع باتجاه استمرار إدخال المساعدات عبر الحدود عن طريق الأمم المتحدة ودون ولاية مجلس الأمن وقراراته محدودة المدة.
مقالات لنفس الكاتب