; logged out
الرئيسية / يواجه الحل الدائم في سوريا معضلتين: التواجد العسكري الأجنبيّ وملف اللاجئين

العدد 186

يواجه الحل الدائم في سوريا معضلتين: التواجد العسكري الأجنبيّ وملف اللاجئين

الإثنين، 29 أيار 2023

بدأت الأزمة السورية في سياق ما يُعرف بـ "الربيع العربي" أذار/ مارس 2011م، ولكن سرعان ما تدخلت فيها عوامل خارجيةٌ، حولتها إلى صراعٍ دمويٍّ، انخرط فيه الجميع، بشكلٍ مباشرٍ وغير مباشرٍ، وأثّرت بشكلٍ سلبيٍّ على جميع مناحي الحياة في سوريا، وإذا كان الصراع أمرًا لا مفر منه، حسب الكاتب الأمريكي ماكس لوكادو لكنّ القتال اختياريٌّ، فسوريا بحكم موقعها الجيوسياسي، كانت ميداناً متكرراً للصراع، لكنّ الاحتكام للسلاح من قبل فئةٍ من السوريين كان خطيئةً وطنيةً دفع ثمنها كلّ السوريون.

سوريا دولةٌ "شرق أوسطية"، رسمت حدودها اتفاقيتي سايكس بيكو 1916م، وأنقرة 1921م، ناضلت لتحقيق استقلالها الوطنيّ، وهو ما حدث عام 1946م، ورثت مشكلاتٍ عن الحقبة الاستعمارية (المشكلات الهوية والحدود)، وعاصرتها مشكلاتٌ أخرى، ونتج عن سياساتها مشكلاتٌ سياسيةٌ وتنمويةٌ، ولكنّ الدافع الأساس فيما حدث عام 2011م، هو: الإحباط الاقتصاديّ/ الاجتماعي الذي كان سائداً لدى فئة من السوريين، فالأزمة المالية العالمية 2008م، تركت أثاراً عميقةً عالمياً، وفي سوريا كانت مضاعفةً بسبب الجفاف التي عاشته خلال 2006-2011م، فارتفعت معه مستويات البطالة لتصل 16.5%، والهجرة، وانتشرت العشوائيات، مما خلق بيئةً لعدم الاستقرار، ثانياً: الخطاب المتطرف المتأثر بالجوار الإقليميّ سيما بعد حرب العراق 2003م، ثالثاً: الآثار المدمرة لثورتيّ التواصل الرقميّ والإعلاميّ، والتي لعبت دوراً تخريبياً، رابعاً: الصراع الجيوسياسي الخارجيّ، سيما مع وجود قوىً إقليميةً تهدف لنشر أنظمة حكمٍ مشابهة (نموذج الإسلام السياسيّ)، وهو ما تنبهت لخطورته دولٌ عربيةٌ فاعلةٌ فيما بعد.

وبنتيجة هذه الحرب المستمرة لقي ما يقارب (300) ألف مدني حتفهم، مع وجود (6.9) ملايين نازحٍ داخليًا وأكثر من (5.4) ملايين لاجئٍ خارجياً، وما يقرب من ثلاثة ملايين طفل خارج المدارس، كما شهد الاقتصاد تدهوراً كبيراً، وساهم قانون قيصر للعقوبات الأمريكية في زيادة الآثار السلبية، وعمقّها التداعيات الكارثية لزلزال 6 شباط/ فبراير ، فبات 90% من السوريين تحت خط الفقر، وأكثر من 14 مليون سوريٍّ يعتمدون على المساعدات الإنسانية، وتجاوزت قيمة الأضرار الـ (442) مليار دولار، فبلغت أضرار رأس المال الماديّ 117.7 مليار دولار وخسائر الناتج المحليّ 324.5 مليار دولار ، وقدرت خسائر قطاع الطاقة بنحو 107 مليارات دولار، وقطاع الكهرباء 6121 مليار ليرة سورية، ووصلت نسبة تضرر قطاع المياه إلى 41% وفاقت قيمة الأضرار إلـى 780 مليون دولار، وتعرضت البنى الصحية والتعليمية لأضرار بالغة، الأمر الذي انعكس على الناتج الإجمالي، الذي فقد ما نسبته 54%، وانخفضت الصادرات السورية من 8.7 مليار دولار عام 2010م، إلى 0.7% عام 2018م،  وباتت تكلفة إعادة الإعمار في النهاية تُقدر بأكثر من 400 مليار دولار.

الأزمة السورية، محطاتٌ سياسيةٌ وعسكريةٌ مستمرةٌ.

مرّت الأزمة السورية بمحطاتٍ عسكريةٍ وسياسيةٍ مهمةٍ: الأولى هيّ الاحتجاجات في أذار/ مارس –أيار/ مايو  2011م، والثانية هي التحرّك المسلّح 2011 -2012م، والثالثة تصعيد القتال 2012 -2013م، لتليها المرحلة الأخطر وهيّ صعود الجماعات الإرهابية "داعش والنصرة" في كانون ثاني/ يناير -2014م، لتبدأ بعدها مرحلة التدخل العسكريّ الخارجيّ مع تدخل الولايات المتحدة، أيلول/ سبتمبر 2014م، ثم التدخل الروسيّ 2015م، والتركيّ 2016م، والإسرائيليّ الذي بدأ (علنياً) في 2014م، أما المرحلة الخامسة فهيّ استعادة حلب واتفاق وقف إطلاق النار 2016م، واستعادة الغوطة الشرقية 2018، ودرعا، لتبدأ بعدها المرحلة السادسة وهيّ الوضع الراهن على خطوط تماس اتفاق سوتشي 2018م، ودخول الأزمة مرحلة الصدام العسكريّ السوريّ "الإسرائيليّ" المكثّف بعد عام 2020م، أما، سياسياً مرت الأزمة السورية بمحطاتٍ متزامنةٍ مع المحطات العسكرية، بدءًا من خطة العمل العربية المشتركة 2011م، ثم مؤتمر جنيف الأول 30 حزيران/ يونيو 2012م، يليه القرار 2118 (2013م) ومؤتمر جنيف الثاني 2014م، ثم القرار 2254  (2015م) وسلال ستيفان ديمستورا الأربع، لينشأ بعده سياق أستانا 2016م، ومسار سوتشي 2018م، وتشكيل لجنة مناقشة الدستور، ومع تعثر مسار جنيف بجولته السابعة، بات مسار أستانا هو الوحيد المؤثر على المشهد السياسيّ السوريّ.

ملامح تسويةٍ في الأفق (دبلوماسيةٌ سياسيةٌ وعسكرية).

مساران في آنٍّ، تطبيعٌ (سياسيٌّ) سوريٌّ لعلاقتها مع الدول العربية، ومسارٌ آخرٌ (عسكريٌّ) تُمثله المفاوضات مع تركيا بشكلٍ مباشر، من خلال (المحادثات الثلاثية) في موسكو بين وزراء دفاع روسيا وسورية وتركيا 28/12/2022م، والاجتماع (الرباعيّ) الذي انعقد على مستوى نواب وزراء خارجية تركيا، وروسيا، وسورية وإيران 4/4/2023م، والرباعي العسكري في موسكو بين وزراء دفاع سورية، إيران، روسيا، تركيا 24/4/2023م، ويشير المساران إلى محاولة إنضاج شكلٍ من التسوية للحرب السورية، تتضمن ملامح هذه التسوية ثلاثة عناصر رئيسةً: إخراج كلّ القوات الأجنبية من سورية، وحدة أراضي الجمهورية العربية السورية وسلامتها الإقليمية، مع رفض أيّ شكلٍّ فيدراليٍّ مقترح، وثالثاً، تسويةٌ سياسيةٌ من خلال مرجعية القرار 2254.

طبعاً المساران معقدان ومتداخلان، ولكنّ المسار العربّي يبدو أكثر يُسراً، فالمبادرة العربية تنطلق من رؤية (خطوة مقابل خطوة) وهيّ ضمن الرؤية الأردنية التي أُعلن عنها في عام 2022م، وتتعهد بتقديم المجتمع الدولي والعربي مساعداتٍ اقتصاديةً لسوريا وتخفيف العقوبات تدريجياً عنها، والبدء بإعادة الإعمار، في مقابل إعلان عملية كبرى لإطلاق سراح المعتقلين بموازاة الانخراط جديّاً في عمليةٍ سياسيةٍ ديمقراطيةٍ قوامها انتخاباتٌ شاملةٌ وفق القرار (2254)، يجري طرحها ً نيسان/ أبريل 2023م، ضمن رؤيةٍ عربيةٍ أوسع عبر عنها اتفاق جدّة (14/4/2023م)، أمّا بشأن التسوية مع تركيا، فالرؤية السورية تنطلق من ضرورة تنفيذ تعهدات برتوكول سوتشي في 17/9/2018م، كمقدمةٍ لتنفيذ تعهداتها في سياق أستانا، مقابل ضمان سوريا لحدود تركيا ومنع أيّ تهديدٍ يضرّ بالأمن القوميّ التركيّ في منطقة الحدود وربما تشهد العلاقات عودةً لاتفاق أضنة 1998م، وينص البرتوكول على سحب السلاح الثقيل، من داخل المنطقة منزوعة السلاح وإبعاد جميع الجماعات الإرهابية عن المنطقة، بينما يضمن سياق أستانا ضمان سيادة سوريا على جميع أراضيها، وسلامتها الإقليمية.

1-         المسار السياسيّ للحل مرجعية القرار 2254م، وتضارب قاطرات الحل.

يمُثّل القرار 2254 مرجعيةً سياسيةً للحلّ في سوريا، وتمّ تدعيم هذا القرار بآخر دوليٍّ وهو القرار 2268 الذي كرّس اتفاق وقف الأعمال القتالية 22/2/2016م، ولكن قراءة هذا القرار تختلف بين أطرافه، وغالباً ما ارتبطت بمجريات العمليات العسكرية على الأرض، فالمعارضة ومن خلفها الولايات المتحدة وتركيا تريد حلاً سياسياً تيسره الأمم المتحدة عبر عمليةٍ سياسيةٍ انتقاليةٍ تفضي إلى هيئة حكمٍ انتقالية، تضمن انتقالاً سياسياً للسلطة في سورية، بينما ترى الحكومة السورية، أنّ الحلّ هو عمليةٌ سياسيةٌ يقودها السوريون أنفسهم، تفضي إلى حكومة وحدةٍ وطنية، وتعديلٍ للدستور، وإجراء انتخاباتٍ بإرادة سورية، وإذا كان القرار 2254 هو المرجعية، إلّا أنّ تفسيره مرتبطٌ بقاطره المسار، إذ يوجد قاطرتان للحل القاطرة الأول: مسار جنيف (2) 2014ــ 2017م، الذي سبقه مسار جنيف 1 الذي عُقد في مقر الأمم المتحدة بجنيف في 30 حزيران/ يونيو 2012م، والذي حضره ممثلون عن القوى المعنية بالملف السوري، ليفضي المؤتمر إلى بيان جنيف واحد، وعقد حتى اليوم ثماني جولات توقفت عام 2017م، وتعود قوى المعارضة إلى هذا البيان لتفسير القرار 2254، القاطرة الثانية مسار أستانا الثلاثي 2016-2023م، والذي أفضى إلى مناطق تخفيف التصعيد الأربع، والذي مهّد البيئة لحلٍّ سياسيٍّ، القاطرة الأولى كانت سياسيةً في نشأتها، والثانية عسكريةٌ، ولكن مع توقف عجلات مؤتمر جنيف بجولته الثامنة، أصبح سياق أستانا هو قاطرة الحلّ (اجتمعت 19 جولة حتى الآن) والذي انبثق عنه اجتماعات لجنة مناقشة الدستور 2019م، والتي اجتمعت ثمانيّ جولاتٍ بصيغتها المصغّرة.

2-         مراحل متطلبات الحل في سوريا

            تفكيك الأزمة السورية معقدٌ كما حيثياتها، ومسبباتها وطبيعتها، وصراع أطرافها الإقليميين والدوليين، وهو ما يحتاج إلى وقتٍ وجهدٍ وإرادةٍ صادقة في التعامل، والحلّ باعتقاديّ سيكون على ثلاث مراحل (بناء الثقة، الانخراط التفاوضي، ضمانات الحل)، المرحلة الأولى (إقليميةٌ ودوليةٌ) والثانية (داخليةٌ) والثالثة (أمميةٌ)، مرحلة بناء الثقة ستفضي إلى انطلاق قاطرة الحلّ السياسيّ (فعلياً) وهيّ مرهونةٌ بثلاثة أمور: الأول عسكريٌّ بشقين، بدايةً من توقف إطلاق النار كليّاً، وهو أمرٌ مرتبطٌ بنجاح سياق أستانا، وتحديداً برتوكول سوتشي الملحق بهذه الاتفاقيات، والشق الثاني، هو القضاء على الإرهاب بشقيه "الداعشي والقاعدي"، وتحديداً في منطقتي خفض التصعيد بإدلب، ومنطقة عمل التحالف الدوليّ في الجزيرة، الأمر الثاني، هو البيئة الجيوسياسية للحلّ (إقليمياً ودولياً)، وهذا يتطلب إجماعاً على بدء الحل، والتسليم بأنّ الصراع على سورية سيفضي إلى مزيٍد من عدم الاستقرار في "الشرق الأوسط"، والأمر الثالث، إنهاء الاحتلال العسكريّ الأجنبي للأراضي السورية والعودة إلى وضع قبل الأزمة، المرحلة الثانية هيّ التفاوض بين المكونات السورية على طبيعة الحلّ وشكله بما فيه قضايا اللاجئين (العودة الأمنة والكريمة) والعملية السياسية، والانتخابات، وتعديل الدستور، والأسرى والمعتقلين، وباعتقادي إذا كان هنالك رغبةٌ إقليميةٌ بالحلّ فلن تكون هنالك الكثير من العثرات أمام هذه المرحلة، شرط ضمانها السيادة والاستقلال الوطنيين، أمّا المرحلة الثالثة فهيّ إخراج الحلّ وتنفيذه، وهو يحتاج إلى ضماناتٍ كبرى ربما (الأمم المتحدة، جامعة الدول العربية، مسار أستانا) تتعهد بعدم نكوص أطراف الصراع سيما الإقليميين والدوليين عن تفاصيل الحلّ ومساره، بحيث تكون هذه المرحلة رادعةً لكلّ من يريد العودة إلى النار.

وإذا كانت المتطلبات تبدو بدايةً غير معقدةٍ، إلّا أّن الكثير من التفاصيل تجعلها أكثر تعقيداً، وخطورةً، وتكلفةً مما يعتقد البعض، وفي مقدمها:

أ‌-          التباسات الموقف التركي، وضرورة انسحابهم عسكرياً بلا شروط، فرغم مرور خمس سنوات على برتوكول سوتشي، إلّا أنّ الأتراك لم ينفذوا تعهداتهم بما يخص التنظيمات الإرهابية.

ب‌-        عدم نية الولايات المتحدة الانسحاب من سوريا، واستمرار دعم الكيان الكرديّ الفيدراليّ في الجزيرة.

ت‌-        استمرار الحرب "الإسرائيلية" على سورية للوجود العسكري الإيراني في سوريا.

ث‌-        استمرار العقوبات الغربية على سوريا، وربطها بالانتقال السياسيّ للسلطة في سورية.

ج‌-        ربط ملف اللاجئين الإنساني بالمسار السياسي.

ويواجه الحل المستدام في سوريا معضلتين أساسيتين، التواجد العسكري الأجنبيّ، وملف اللاجئين، ومرد اعتبارهما (معضلتين) علاقتهما بالتسوية، فهل هما نتيجة التسوية، أم مقدمةٌ للتسوية؟

وفي خضّم التعقيد المستمر في سياق الأزمة، تسارعت المتغيرات العربية تجاه سوريا، بما ينبئ ببداية تفكيكٍ مستدامٍ لهذه الأزمة.

3-         العلاقات العربية ـ السورية... (مقدمة الحل، ولقاء الضرورة والتاريخ والهوية).

يُعدّ التطبيع السوريّ مع الدول العربية مقدمةً لابدّ منها لإيجاد أرضيةٍ إقليميةٍ للحلّ المستدام في سوريا، بعد قطيعةٍ دامت سنوات من2011 إلى 2018م، حين قرر وزراء الخارجية العرب في اجتماع طارئ بالقاهرة في 12 /11/ 2011م، تعليق عضوية سورية في الجامعة لحين التزام الحكومة السورية بتنفيذ بنود المبادرة العربية، ورغم ذلك لم ينقطع الحوار كليّاً، فقد وافقت الحكومة السورية على بعثة المراقبين العرب والتي هيّ جزءٌ من خطةٍ عربيةٍ للحلّ في تشرين الثاني / نوفمبر /2011م، ثم جاء العام 2018م، ليحمل بداية انعطافةٍ في العلاقات العربية ـ السورية بجهودٍ إماراتية وعمانية، إذ تم إعادة افتتاح السفارة الإمارتية بدمشق في2018م،، واستقبلت بعدها سورية الرئيس السوداني السابق عمر البشير في 2018م، واستقبلت وزراء خارجية العراق إبراهيم الجعفري في 2018م ،وسلطنة عمان يوسف بن علوي 2019م، وتم طرح مبادرتين: المبادرة العربية الأولى التي اقترحها الملك عبد الله الثاني على الرئيس الأمريكي بايدن منتصف عام 2021م، وأعيد تجديدها 2023م، والمبادرة العمانية 2023م، مع التذكير بنظيرتها 2015م، حين التقى وزير الخارجية السوري وليد المعلم بنظيره العماني يوسف بن علوي،  ومع كارثة الزلزال المدمّر شباط/ فبراير 2023م، استقبلت سوريا وفداً برلمانياً عربياً موسعاً، واستقبلت وزير الخارجية المصري سامح شكري، والأردني أيمن الصفدي، والجزائري رمضان العمامرة، والإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد، وراهناً تقيم 10 دولٍ عربيةٍ علاقاتٍ رسميةٍ معلنةٍ مع الدولة السورية، في حين تراجع ثمانٍ أخر الوضع في ضوء قرارات جامعة الدول العربية، ويرفض فريقٌ ثالثٌ من ثلاث دولٍ استئناف العلاقات مع دمشق لعدم تحسن الوضع السوريّ بعد.

(أ‌)         دوافع تطبيع العلاقات العربية مع سوريا.

شكّلت سورية خط الدفاع الأول في مواجهة المشروع الداعم لـ "لإخوان المسلمون"، والذي بلغ ذروته في "الربيع العربي"، بينما يُشكّل العرب بالنسبة لسوريا تاريخياً العمق الاستراتيجيّ والهوية والقومية، وفيما يلي إيجازٌ بأبرز الأسباب المشتركة في إعادة التطبيع العربيّ-السوريّ:

  • تطبيع العلاقات السورية-الخليجية يعزز التحوط الخليجيّ تجاه إيران سيما السياسة الخارجية السعودية، ويُكسبه مصداقيةً، وموثوقيةً، فتتعامل دول الخليج مباشرةً مع مصدر التهديد لها، لتقليل مخاطر المواجهة، وتستمر في بناء المقدرات العسكرية والاقتصادية لموازنة مصدر التهديد استراتيجياً.
  • تنطلق الرؤية العربية من ضرورة تشكيل تحالفاتٍ أمنيةٍ جديدةٍ (مرنةً، غير تعاهديةً) في المنطقة ضمن صيغة "الأطراف المصغرة"، وسورية ضرورةٌ أمنيةٌ ملّحةٌ لنجاح هذه الأطراف المصغّرة، سيما في مواجهة التنظيمات "القاعدية والداعشية".
  • يُقدر العرب ضرورة إخراج سوريا من أيّ فعلٍ للهيمنة الإقليمية، سواءٌ إيران أو تركيا في مرحلة التفاهمات النهائية، وبهذا مصلحةٌ استراتيجيةٌ عربيةٌ مستدامةٌ.
  • تسعى سوريا من خلال العمق العربي إلى هدفين، أولهما موازنة علاقتها الإقليمية مع جيرانها، وبالتالي خلق ضغوطٍ استراتيجيةٍ على تركيا تدفعها لتقديم تنازلاتٍ في المفاوضات القائمة وتجبرها على الانسحاب من سوريا، وبذات الوقت تسعى إلى رفع أيّ غطاءٍ إقليميّ عن المشروع الفيدراليّ الكرديّ، وتشكيل ضغطٍ على الإدارة الأمريكية للانسحاب من سوريا.
  • تنطلق سوريا من مقاربةٍ موضوعيةٍ متوازنةٍ في علاقتها مع العرب وإيران، فالعرب عمقٌ هوياتيٌّ قوميٌّ وتهدف المقاربة إلى إبعاد سوريا عن تبعات أيّ صراعٍ أو تنافسٍ يؤثر على استراتيجيتها في مواجهة تركيا و"إسرائيل".
  • تقدر تكلفة إعادة الإعمار بحوالي (400) مليار دولار، وسورية بحاجةٍ إلى مساعدةٍ في ذلك، ويُمثل الخيار العربي، خياراً (آمناً)، يجنّبها تبعات شروط التمويل الأجنبيّ المشروط، وتدخلاته في الشؤون الداخلية للدول سيما سياسات البنك الدوليّ.

(ب‌)      أبرز العقبات أمام التطبيع العربي -السوري.

من غير المتوقع أن تكون هنالك انعطافةٌ حادّةٌ في العلاقات السورية ـ العربية، التي انقطعت لعقدٍ كاملٍ، فالعودة هيّ تدرجيةٌ، تفاوضيةٌ، وتحتاج تذليل عقباتٍ كثيرة منها:

  • طبيعة العلاقات السورية ـ الإيرانية التي تشكّل عقبةً أمام التطبيع العربيّ السوري.
  • قد تعمل الإدارة الأمريكية لإعاقة التطبيع العربيّ ـ السوريّ، ريثما تتبلور استراتيجيةٌ أمريكيةٌ تجاه سوريا.
  • تسييس ملف اللاجئين، وبمقدار ما يكون التعامل العربيّ في هذا الملف موضوعياً، يكون التطبيع مثمراً، والعكس صحيح.

سادساً: معضلاتٌ تواجه الحلّ المستدام في سوريا

  1. معضلة التواجد العسكري الأجنبيّ في سوريا

تتلخص هذه المعضلة في علاقتها بالحل السياسيّ، فهل الحل يبدأ بالانسحاب العسكريّ الأجنبيّ، وهو ما تريده سوريا، أم أنّ الانسحاب هو نتيجة الحل، وهو ما تريده القوى الأجنبية؟، والبديهي أنّ تواجد هذه القوات هو عملٌ احتلاليٌّ ولا مبرراتٌ قانونيةٌ لوجودهم، طالما هيّ خارج الأطر الدستورية السورية.

مازالت المعضلة الإيرانية حاضرة وعقبةً حقيقيةً بشأن التطبيع والتسوية السورية، مع وجود توجهٍ عربيٍّ عامٍ بربط التطبيع العربي بإنهاء الوجود العسكريّ الإيرانيّ في سورية، فالرؤية العربية تنطلق من أنّ هناك نشاطٌا إيرانيٌّا متزايدٌا في الشرق الأوسط، مع زيادة في حجم وقدرات القوات الموالية لإيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن، كما تعمل إيران على إنشاء جسر بري عبر المنطقة، إضافةً إلى وجود قلق بشأن "الهلال الشيعي" وتأثيره على المنطقة، وقلق عربي بشأن الاستحواذ الإيرانيّ على الاقتصاد السوريّ، وما يتبعه من عواقب سياسية، كما توجد حساسيةٌ عاليةٌ عربيةٌ تجاه التواجد الإيرانيّ في الجنوب السوريّ على مقربة من الحدود السورية ـ الأردنية، فضبط الحدود بات مطلباً أساسياً للعرب سيما مع تنامي تجارة المخدرات تجاه دول الخليج العربي (البيان الختاميّ لاجتماع وزراء خارجية العراق والأردن والسعودية وسوريا مصر)، وباعتقادي تفكيك هذه المعضلة معقدٌ ويحتاج إجراءات بناء ثقةٍ متعددة الأطراف يتطلب انتهاء حرب اليمن، واستقرار العراق، وأيّ تعنت من الأطراف الفاعلة يعني مزيداً من التعقيد والاستعصاء على الحل، ويحتاج تنازلاتٍ من الجميع ووضوحاً في الاستراتيجيات الإقليمية، أمّا بما يخص التواجد الاحتلاليّ الأمريكيّ والتركيّ فهنالك مساران للتعامل معهما من قبل سورية:

بما يخص تركيا، المسار الأول، سياسيٌّ، من خلال الزام تركيا بتنفيذ تعهداتها في سياق أستانا، والذي يمنع تحّول تركيا إلى دولة احتلال، وهو ما يلتزم به الضامنان الإيرانيّ والروسيّ في سياق أستانا، ويُوضع التقارب العربيّ ــ السوريّ في خانة التحرك السياسيّ السوريّ لإيجاد ديناميات ضغطٍ إقليميةٍ على تركيا للانسحاب من سورية، كما يُفهم من الاجتماعات السورية ــ التركية على مستوى وزار الدفاع ونواب وزراء الخارجية في روسيا في هذا الجهد السياسي والمسار الثاني، هو المسار العسكريّ، وباعتقادي سيكون الخيار الأخير بعد إعطاء فسحةٍ للمسار السياسيّ متعدد الأطراف.

أمّا بما يخص الولايات المتحدة، فأيضاً هنالك مساران، الأول سياسيّ، مرتبطٌ بقدرة سوريا على تحقيق خرقٍ في العلاقات العربية ـ السورية تُشكّل ضغطاً سياسياً للانسحاب، وبذات الوقت خرقاً في العلاقات السورية ـ التركية تُشكّل جبهةً سياسيةً - عسكريةً ضدّ مشروع الكرد، الأمر الذي قد يدفع الإدارة الأمريكية نحو التفاوض، والمسار الثاني المقاومة العسكرية، طبعاً دون إغفال متغير التواجد الإيراني في سورية  الذي يضعه الجانب الأمريكي كشرطٍ للانسحاب وسببٍ للبقاء في سوريا،  لذلك هذا الأمر معقدٌ ومرتبطٌ بالصراع الإيرانيّ ـ الأميركي/"الإسرائيليّ"، وحلّه معقدٌ، مما يًرجّح المسار العسكريّ، ريثما تنضج تفاهماتٌ إيرانيةٌ ـ أمريكيةٌ.

  1. معضلة ملف اللاجئين

يبلغ عدد اللاجئين السوريين حتى عام 2023م، (6.8) مليون نسمة منهم (5.5) مليون تستضيفهم البلدان المجاورة، وهو ملفٌ إنسانيٌّ، وليس سياسيٌّ بحسب دمشق، وطرحت سوريا مبادرةً لعودة اللاجئين، خلال مؤتمرٍ دوليٍّ 2020م، بمشاركة روسيا، والذي أكد على إعادة اللاجئين إلى أرض الوطن ومواصلة الجهود لتوفير ظروفٍ معيشيةٍ كريمةٍ لهم مع دعوة المجتمع الدولي ووكالات هيئة الأمم المتحدة ذات الصلة إلى تقديم الدعم اللازم للمهجرين والنازحين السوريين.

 تنطلق رؤية الحكومة السورية لملف اللاجئين من ثلاثة اعتبارات حسب اعتقاد دمشق: (أ) الأنظمة الغربية وتركيا تقوم بخلق ظروفٍ مفتعلةٍ لدفع السوريين للخروج الجماعيّ، وبعد ذلك استغلالهم وتحويل قضيتهم الإنسانية إلى ورقةٍ سياسيةٍ للمساومة. (ب) عودة اللاجئين ستكون أسرع كلما ازدادت الإمكانيات، المرتبط بفك الحصار والعقوبات التي تحرم الدولة من الوسائل الضرورية لإعادة الإعمار وتؤدي لتراجع الوضع الاقتصاديّ.

 (ج) عودة اللاجئين هيّ آمنةٌ، طوعيةٌ، وكريمة إلى أماكن إقامتهم المختارة.

في المقابل تنطلق الرؤية الغربية / الأمريكية من أنّ:

 (أ) توقّف المعارك لا يعني أن سوريا باتت مهيأةً لعودة اللاجئين في ظلّ افتقارها للبنى التحتية اللازمة مع وجود انتهاكاتٍ حقوقيةٍ تشهدها البلاد.

 (ب) الاتحاد الأوروبي سيدعم العودة التي تيسرها الأمم المتحدة مع مراعاة مبدأ عدم الإعادة القسرية.

 (ج) بمجرد التوصل إلى حلّ سياسيّ، سيساعد الاتحاد السوريين على "الفوز بالسلام".

 (د) سيكون الاتحاد على استعدادٍ للمساعدة في إعادة إعمار سوريا بمجرد إجراء انتقالٍ سياسيٍّ شاملٍ ، تُفاوض عليه الأطراف السورية على أساس القرار رقم (2254) وبيان جنيف 2012م، وبالتالي الغرب يربط عودة اللاجئين بانتقالٍ سياسيٍّ للسلطة في سورية، وهو ما تعده سورية تسييساً للملف وإعاقةً لعودة اللاجئين طواعيةً، وتدخلاً في شؤونها الداخلية، وبرأييّ ملف اللاجئين سيكون ملفاً تفاوضياً دبلوماسياً في المرحلة المقبلة في حال نجح التطبيع السوريّ ـ العربّي، والسوريّ ـ التركيّ، الذي سيخلق إمكانياتٍ إقليميةٍ لحلّ ملف اللاجئين، فهنالك حاجةٌ تركيةٌ وعربيةٌ لإنهاء هذا الملف الذي بات مشكلةً داخليةً (سياسيةً اقتصاديةً اجتماعيةً) في دول الاستضافة، ومع دوران عجلة التطبيع الإقليميّ ستقلّ مستويات التسيس والانتقال إلى الحلّ، كجزءٍ من تسويةٍ شاملةٍ للأزمة وفق القرار (2254)، وستكون العودة تدريجيةً، طوعيةً، آمنةً، وكريمةً، ولكنّ ملف الضمانات سيبقى عائقاً يُحلّ بالتفاوض السوريّ ـ العربّي، والسورّي ـ التركيّ برعاية روسية، أمّا بخصوص الموقف الغربيّ سيبقى على حاله إلى أن تتبلور ظروفٌ دبلوماسيةٌ لعودة العلاقات السورية ــ الأوروبية، الذي تُعيقه الحرب الروسية في أوكرانيا.

بالختام، الأزمة السورية أزمةٌ معقدةٌ مركبةٌ متصلةٌ بأزمات أخرى، وهو ما يُصعّب عملية تفكيكها وحلّها، إلّا بحضور جميع أطرافها، ويبقى أّي جهدٍ إقليميّ، لحلّ الأزمة مُهماً، ريثما تنضج ظروفٌ دوليةٌ تساعد على تحوّل هذا الحلّ الإقليميّ إلى دولّي، ينهي مأساة السوريين الإنسانية، وهنا لابدّ من رفع العقوبات التي تمسّ بشكلٍ مباشرٍ حياة السوريين باعتبارها ضرورةً إنسانيةً، وعدم ربطها بالحلّ السياسّي.

مجلة آراء حول الخليج