; logged out
الرئيسية / حل أزمات البحر الأحمر يتطلب صيغ مقبولة للوفاق بين الأطراف المتشاطئة وعزل المنطقة عن الصراع الدولي

العدد 195

حل أزمات البحر الأحمر يتطلب صيغ مقبولة للوفاق بين الأطراف المتشاطئة وعزل المنطقة عن الصراع الدولي

الخميس، 29 شباط/فبراير 2024

إن الحديث عن الأهمية الجيوسياسية والتاريخية للبحر الأحمر ومنطقة القرن الإفريقي، ليست وليدة اليوم، حيث كان للمنطقة دورًا مؤثرًا في العصور القديمة، وكانت محط أنظار القوى والامبراطوريات المهيمنة، لأهميتها الاستراتيجية وإطلالتها على طرق التجارة الدولية البرية والبحرية، ومنذ القرن الـ 15 ازداد التنافس الغربي على النفوذ بهذه المنطقة، بل وتحول لصراع في الكثير من الأحيان.

أدركت القوى الاستعمارية مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا الأهمية الأمنية والاقتصادية للمنطقة، مما دفعها إلى إنشاء قواعد عسكرية في الموانئ الرئيسية على البحر الأحمر، بما في ذلك مصر وإريتريا وجيبوتي والصومال واليمن. واستمر هذا التوجه خلال مرحلة   الحرب الباردة، وسلكت نفس النهج الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي البائد.

يشيـر الواقـع الراهـن إلى أهميـة وخطـورة أدوار "الفواعل الإقليمية والدولية في القرن الإفريقي، حيـث تؤكد کافـة المؤشـرات والمعطيـات أن مجمـل المتغيـرات الراهنـة في المنطقـة، في ظل وجود الفواعل الإقليمية والدولية والهيئات غير الحكومية من جماعات متطرفة مليشيات عسكرية، تتجـه نحـو تحفيـز الصـراع واستمـراره بين الفواعل الرئيسية والثانوية. ومن ثم فقد أضحت موازين القـوة وما يرتبـط بها من توازنـات دوليـة وإقليميـة، تمثـل أحـد العـوامل المهمـة لضرورة إعادة الصيـاغة الجيوسياسية لأمن المنطقـة، وتوسيـع رقعـة الخارطـة الجيوبولتيکيـة أکثـر لتشمـل أغلـب دول شـرق إفريقيا وإقليـم البحيـرات العظمـى.

تحاول الورقة البحثية الوقوف على التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية للقرن الإفريقي والبحر الأحمر، والتهديدات التي تحيق بدول المنطقة والتي تجعل منها منطقة ممزقة ومنقسمة على نفسها (Fragmented Region) من جهة النزاعات الأهلية والإقليمية التي تعرفها منطقة القرن الإفريقي، ومن جهة ثانية: المخاطر الأمنية التي تعرفها منطقة البحر الأحمر مع التدخل الحوثي في الحرب على غزة من خلال اعتراض السفن وضربها وعرقلة الممرات البحرية وخاصة باب المندب وخليج عدن. كما تحاول الورقة تقديم رؤية واضحة عن دور الفواعل الدولية والإقليمية في زعزعة استقرار المحيط الإقليمي والدولي، وتأثير استمرار الأزمات في منطقة القرن الإفريقي وشرق إفريقيا على طبيعة النظام الأمني الفرعي والإقليمي والدولي، مما يجعل من المعضلة الأمنية مسألة ذات أهمية مركبة ومعقدة ومتشابكة تتطلب قراءة جديدة وأدوار وسياسات مختلفة تنأى عن الصراعات وتحقق الحد الأدنى من التعاون والتعايش بين دول المنطقة.

أولًا: القرن الإفريقي منطقة جيوسياسية هامة

تحتل منطقة القرن الإفريقي مكانة جيوسياسية كبيرة وحيوية من الناحية الجغرافية، اعتبارًا من أن بعض دوله تطل على المحيط الهندي من ناحية، وتتحکم في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر؛ ومن ثم فإن المنطقة تتحكم في طرق التجارة العالمية، وقد زاد من أهميتها الاستراتيجية كونها تمثل منطقة اتصال مع شبه الجزيرة العربية الغنية بالنفط، فالموانئ وحاملات النفط والغاز والاتجار بالبضائع والأسلحة وعبور الأشخاص عوامل جعلت منها نقطة جذب دولية لا محيد عنها.

وتُعزى أهمية هذه المنطقة جغرافياً إلى کونها تقع داخل الإقليم الذي أضحى يعرف باسم "قوس الأزمة"، ويتمثل عنصر الارتكاز الأخر في البعد الاقتصادي، الذي يعد ملمحاً آخر لأهمية القرن الإفريقي بالنسبة للقوى الإقليمية والدولية، ومرد ذلك أن دول القرن الإفريقي غنية بالثروات الطبيعية، سواءً النفط أو الذهب أو اليورانيوم أو الغاز الطبيعي، كما تملك ثروة مائية هائلة تجعلها أحد أكبر مخازن المياه في العالم، وثروة حيوانية هائلة.

إضافة إلى احتياطيات النفط والغاز والحياة البحرية والشحن وخدمات الموانئ. ويقدر المحللون أن الصومال تمتلك حوالي 110 مليارات برميل من احتياطيات النفط البرية والبحرية، مما يجعلها سابع أكبر دولة في العالم من احتياطيات النفط. علاوة على ذلك، يقال إن الصومال تمتلك ما يقرب من 440 تريليون قدم مكعب من الغاز البحري، مما قد يجعلها رابع أكبر حامل لاحتياطيات الغاز على مستوى العالم.

من الناحية الأمنية والعسكرية، أصبحت المنطقة ساحة للمنافسة بين القوى الدولية والإقليمية، بما في ذلك أمريكا والصين وروسيا، الذين يشكلون منافسين عالميين استراتيجيين. وتتمتع قوى دولية كبيرة، مثل الاتحاد الأوروبي وأعضائه والهند ودول مجلس التعاون الخليجي، بالإضافة إلى تركيا وإيران في المنافسة على المنطقة، وإضافة إلى البحر الأحمر فقد أصبح القرن الإفريقي جزءاً لا يتجزأ وحلقة وصل بين الأنظمة الأمنية في منطقة الشرق الأوسط والمحيطين الهندي والهادئ، والبحر الأبيض المتوسط، وبالتالي، فإن التطورات في القرن الإفريقي لا تعني هذه المناطق فحسب، بل تؤثر أيضًا بشكل مباشر على بيئاتها السياسية والاقتصادية والأمنية.

يمكن فهم التداخل الحاصل بين البحر الأحمر والخليج والقرن الإفريقي جزئيًا من خلال منظور الانقسام، مع وجود مفاهيم متناقضة للبحر الأحمر باعتباره سمة موحدة أو مثيرة للانقسام. في حين شكلت المنطقة ولفترة طويلة فضاءً جيدًا لتفاعل الشعوب والدول عبر هذا الطريق البحري الضيق، فإن الاتجاهات العالمية تذهب في اتجاه توسيع فجوة التفاوت بين الدول القوية والضعيفة في المنطقة، وتحول مراكز السلطة، وزيادة الهجرة، والمطالب الشعبية بالديمقراطية، والمنافسة التجارية البحرية الشديدة، وأصبحت الحدود غير واضحة عبر البحر الأحمر بشكل لم يسبق له مثيل، مما يطرح العديد من التساؤلات عن طبيعة النظام الإقليمي الناشئ، سواء كان تعاونيًا أو تنافسيًا أو فوضويًا.

ومن منظور جيوستراتيجي، يستعد القرن الإفريقي لنظام جديد تشعل شرارته التعبئة السياسية الوطنية في دول المنطقة والمنافسة العالمية المرتبطة بالمواقف الاستراتيجية التي تتخذها القوى الكبرى تجاه إفريقيا. وتمتد المنافسة في منطقة البحر الأحمر إلى طرق الإمداد والأسواق الواسعة.

ثانيًا: دور البحر الأحمر في السياسة الدولية

يعتقد بعض المحللين الاستراتيجيين أن العديد من المؤشرات والتطورات تمهد الطريق لصراع وتنافس أكثر حدة في منطقة البحر الأحمر، وخليج عدن، والمحيط الهندي، حيث اكتسبت أنماط التفاعل أهمية استراتيجية على المستويين الإقليمي والدولي. إن وجود العديد من القواعد والتجمعات العسكرية الأجنبية على طول الشواطئ الغربية للبحر الأحمر قد أدى إلى ظهور حقائق مادية جديدة لا تجعل المنطقة أكثر عرضة لعدم الاستقرار فحسب، بل تعيق أيضًا وتيرة التنمية التجارية والاقتصادية للعديد من دول المنطقة.

تواجه بعض دول البحر الأحمر، وخاصة تلك الواقعة في القرن الإفريقي، توترات داخلية ومتبادلة ترجع جذورها أو تغذيها الصراعات العرقية والاثنية، على سبيل المثال، تظهر الدولة الصومالية العديد من مظاهر الهشاشة الشديدة التي تستغلها مختلف الأطراف الأجنبية. إن التوتر بين الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات، الناجم عن الخلافات حول السلطة السياسية، وتوزيع الثروة وعائدات النفط، وسلوك بعض حكومات الولايات على مستوى العلاقات الخارجية، يزيد من تقويض استقرار الولاية وفعاليتها.

وتمتلك الدول الساحلية في المنطقة العديد من الموانئ، بما في ذلك السويس وجدة وبورتسودان والحديدة والعقبة وجيبوتي. وإذا تم التعاون بينها بشكل فعال، يمكن لهذه الموانئ أن تعزز نظام الأمن في المنطقة من خلال إعادة تركيز مختلف التسويات والاعتبارات الإقليمية والدولية التي ساهمت في زيادة الهشاشة الأمنية.

تتنوع دوافع انعدام الأمن في هذه المنطقة، ولكنها تتمحور أساسًا حول الحروب والمواجهات بالوكالة والمنافسات الإقليمية. لقد تحولت القرصنة قبالة سواحل الصومال -التي كانت في السابق القضية الأمنية الأولى في محيط البحر الأحمر -إلى عامل ثانوي من عوامل عدم الاستقرار، بفضل عملية بحرية دولية ضخمة بدأت في عام 2008م، ومنذ ذلك الحين، حلت الحرب في اليمن محل القرصنة كتهديد حقيقي للأمن في المنطقة.

ثالثًا: القرن الإفريقي: المخاطر والتحديات

كشفت العديد من التقارير من أن الصراعات الإقليمية والنشاط العسكري المتزايد والتوترات السياسية المتصاعدة في البحر الأحمر، لا تزال تشكل تهديدات للسفن التجارية العابرة لهذه المناطق. ومع تصاعد الصراع بين إسرائيل وغزة، تصاعدت التوترات في منطقة جنوب البحر الأحمر بشكل أكبر، كرد فعل لما تقوم به إسرائيل من إبادة جماعية للفلسطينيين في قطاع غزة.

إن ما بدأ على شكل انتفاضة سياسية وحرب أهلية في اليمن، في أعقاب الإطاحة بالرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح في عام 2012م، سرعان ما أصبح مسرحًا آخر للنفوذ الإيراني سعيًا للتفوق الإقليمي، عندما دعمت إيران المتمردين الحوثيين في اليمن. إن الحفاظ على الأمن الإقليمي في المنطقة دفع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة للإسراع إلى دعم الحكومة الشرعية ومواجهة الحوثيين المدعومين من طهران، وتطورت الحرب بسرعة كبيرة وتحولت إلى تهديد كبير للمبادلات التجارية وحركة للشحن ونقل البضائع في البحر الأحمر.

نفذت قوات الحوثي عشرات الهجمات على السفن الدولية قبالة سواحل اليمن، بدءاً بهجمات صاروخية غير متطورة نسبياً، واستخدم الحوثيون صواريخ مضادة للسفن، بما في ذلك صاروخ C-802 الصيني الصنع ونظيره الإيراني، صاروخ نور. كما قامت القوات السعودية بنزع أسلحة العديد من الألغام التي زرعها الحوثيون والتي تم اكتشافها في الممرات البحرية الدولية.    

من جهة أخرى، أصبحت منطقة القرن الإفريقي مرتعًا للصراعات العنيفة وانعدام الأمن. وبالرغم من ذلك، فإن التغييرات السياسية التي حصلت في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أنعشت الآمال في إمكانية الانتقال السياسي نحو الديمقراطية والاستقرار.  في الصومال: تم انتخاب محمد عبد الله محمد (المعروف باسم “فارماجو”) رئيسًا للبلاد في عام 2017م، وهذا الأمر كان منبع تفاؤل حذر بين الكثير من المراقبين الدوليين الذين كانوا يأملون أن ينجح الصومال في تحقيق التقدم والقضاء على المتمردين الإسلاميين "جماعة حركة الشباب المجاهدين" عادة المعروفة باسم حركة الشباب؛ ودفع عملية عجلة التحول الديمقراطي والتنمية في البلاد إلى الأمام.

 وفي عام 2018م، قادت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي العديد من الاحتجاجات العامة وتعرض التحالف في إثيوبيا لضغوط من أجل الإصلاح، حيث تولى آبي أحمد منصب رئيس الوزراء، وقد رحب المجتمع الدولي برئيس الوزراء الجديد، الذي نجح في التوصل إلى اتفاق السلام طويل الأمد مع إريتريا البلد المنافس. وقد تلقى الاتفاق إشادة دولية كبيرة باعتباره خطوة حقيقية للاستقرار في المنطقة.

لكن تحطمت كل الآمال بشأن استقرار الوضع في منطقة القرن الإفريقي، حينما اندلعت في نوفمبر 2020م، حرب أهلية في إثيوبيا، وتشير التقديرات إلى أنها أدت إلى مقتل حوالي 600 ألف شخص واندلعت الحرب بين الحكومة الفيدرالية الإثيوبية وجبهة تحرير شعب تيغراي، في منطقة تيغراي بإثيوبيا. ووقعت الحكومة الإثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي اتفاقية وقف الأعمال العدائية في أواخر عام 2022م، ولكن الاضطرابات الرئيسية التي بدأت قبل الحرب لا تزال دون حل، ولا تزال الحرب في تيغراي مستمرة وتسهم في زعزعة استقرار إثيوبيا.

وفي الصومال، على إثر تأخر الانتخابات ومحاولة الرئيس الصومالي فرماجو التمديد لولايته، قاد هذا الأخير البلاد إلى حافة الحرب الأهلية في عام 2021م، واستقر الوضع السياسي الداخلي إلى حد ما عندما أجريت الانتخابات في مايو 2022م، وأسفرت الانتخابات عن فوز حسن شيخ محمود الذي شغل بالفعل منصب الرئيس من عام 2012 إلى عام 2017م، حيث تولى المنصب للمرة الثانية. وبالرغم من ذلك، ظل البلد يعيش على إيقاع اللايقين والهشاشة الأمنية؛ ولا تزال حركة المجاهدين الشباب تسيطر على مناطق واسعة من الصومال وتتواصل المواجهات العنيفة بين الميليشيات العشائرية، وكذلك بين الميليشيات والقوات الحكومية بشكل متكرر.

ودخل السودان في عملية انتقالية تاريخية في عام 2019م، عندما أطيح بالرئيس عمر البشير على إثر الانقلاب العسكري، مما تسبب في العديد من التداعيات الإقليمية والدولية، كما أعرب المجتمع الدولي عن رغبته في تغيير النظام السوداني وتطوير الحياة السياسية والدستورية في السودان.

لكن شهد السودان في 2021م، انقلابًا عسكريًا آخر، حيث نشب الصراع بين القوات المسلحة السودانية بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، ذهب ضحية هذا الصراع مئات الآلاف من المقاتلين، كما غادر عدد كبير من السودانيين أراضيهم وبيوتهم بسبب الحرب الأهلية.

وتعرض الوضع الأمني ​​في جنوب السودان للتدهور والتراجع مرة أخرى، على الرغم من الجهود المبذولة لتنفيذ اتفاق السلام الموقع سنة 2018م، وتشكل جيبوتي وإريتريا استثناءات قليلة للاستقرار النسبي في المنطقة، على الرغم من أن دولة جيبوتي تشهد حوادث عنف غير منتظمة بما في ذلك الدور المتنامي للجماعات المتمردة وتورط إريتريا بشكل كبير في حرب تيغراي.

رابعًا: تضارب استراتيجيات القوى الدولية والإقليمية 

لعبت الأهمية الاستراتيجية للقرن الإفريقي، وكذلك العوامل الثقافية والسياسية الأخرى، دورًا كبيراً في زيادة التدخلات الدولية من أجل السيطرة والنفوذ، وهو ما شكل إلى حد كبير تطور الأحداث التاريخية ومآلاتها في المنطقة، ‏ بيد أن درجة ومستوى هذه التدخلات تباينت عن الفترات الحديثة، ولا أدل على ذلك من أن القرن الإفريقي ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالصراع العربي / الإسرائيلي، مما أدرجه، في تقديرات بعض المحللين والمراقبين ضمن منظومة الشرق الأوسط.

واجتذبت صراعات المصالح قوى دولية أخرى على رأسها الصين، وروسيا، وإيران، والهند، واليابان، إضافة إلى القوى الغربية ذات المصالح التقليدية، وإسرائيل. كما أسهمت حدة التنافس الدولي على الثروة والنفوذ وكثرة اللاعبين الدوليين وانهيار الدولة الصومالية ومستجدات الإرهاب والقرصنة، في إضفاء مزيد من الإشكاليات على مجمل التعقيدات التي تواجه منطقة القرن الإفريقي.

يبقى القرن الإفريقي يحتل الأهمية الاستراتيجية، إقليميًا ودوليًا، وهذا ما يدفع الدول الكبرى، وأبرزها أمريكا والصين وروسيا وأوروبا من أن يكون لها تواجد عسكري لحماية مصالحها في القرن الإفريقي، البحر الأحمر وباب المندب. وما يثير الهواجس أن الدول الواقعة عند القرن الإفريقي تعاني الكثير من الهشاشة وعدم الاستقرار، وأبرزها الصومال، وهذا ما دفع أمريكا ودول أخرى لاتخاذ جيبوتي مقراً لعملياتها في حماية الملاحة البحرية، لموجهة عمليات الجماعات المتطرفة وأبرزها جماعة “الشباب” الصومالية المتطرفة.

تعتمد واشنطن على الطائرات المسيرة لتنفيذ عمليات ضد الجماعات المتطرفة وفي عمليات الاستطلاع أكثر من نشر قواتها على الأرض، وهذا لا يعتبر حل جذري للأزمات في المنطقة، ولا يحد من قدرة الجماعات المتطرفة المتنامية في المنطقة وتهديدها للملاحة البحرية في القرن الإفريقي ـ يعني أن تمدد الفوضى في السودان والصومال وإثيوبيا بدعم من دول أخرى، التي تسعى لاستغلال الفوضى لصالحها، خاصة في حالة عدم وجود تدابير استباقية للأطراف الدولية والإقليمية.

لا يوجد تأثير كبير للاتحاد الأوروبي في القرن الإفريقي رغم وجود “قوة أتلانتا ” ويعود السبب إلى اختلاف أولويات المصالح في إفريقيا أبرزها فرنسا، وكذلك لا ترتقي قوة “أتلانتا” إلى قوة رافعة للقرار الأوروبي، وهذا يعني أن دور الاتحاد الأوروبي سوف يبقى محدوداً في القرن الإفريقي، ويبقى تابعاً للقوات الأمريكية.

إن سيادة الفوضى والاضطراب في السودان مرشحة إلى الاستمرار والتمدد عبر الحدود، وهذا يعني ما يحدث في السودان له انعكاسات أمنية خطيرة على منطقة الساحل الإفريقي ودول القرن الإفريقي بالتوازي مع غرب إفريقيا عبر تشاد. الاضطرابات المتواصلة في السودان قد تسهم لا محالة في عودة أنشطة الجماعات المتطرفة في الساحل الإفريقي وممرات الملاحة الدولية، وهذا يتطلب من الأطراف الدولية الفاعلة اتخاذ خطوات استباقية لإيجاد حل سياسي في السودان وكذلك اتخاذ تدابير أمنية عسكرية في القرن الإفريقي.

 

خامسًا: تأثير الحرب في غزة على أمن منطقة البحر الأحمر

تزايدت الاشتباكات بين السفن العسكرية والتجارية في البحر الأحمر منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر الماضي. وقد شمل ذلك قيام الحوثيين في اليمن بمهاجمة السفن العابرة للبحر الأحمر. إضافة إلى هجمات بطائرات بدون طيار وصواريخ على إسرائيل. وامتد الصراع في غزة إلى البحر الأحمر، حيث تورطت فيه إيران من خلال حلفائها الحوثيين، ونتيجة لذلك أنشأت واشنطن قوة عمل بحرية في المنطقة.

وانطلاقاً من طموحها لتنويع اقتصادها، قامت المملكة العربية السعودية بتعزيز العلاقات الأمنية في المنطقة، وتحديث الأسطول السعودي في البحر الأحمر، ودعم المبادرات المتعددة الأطراف، بما في ذلك القوات البحرية التي تقودها أمريكا، حيث يعد الاستقرار في منطقة البحر الأحمر أمرًا بالغ الأهمية للعديد من خطط التنمية السعودية، فبالنسبة للنفط تعد محطة خط أنابيب ينبع على البحر الأحمر أمرًا بالغ الأهمية للسعودية  لتصدير النفط.

ولمواجهة أنشطة الحوثيين في البحر الأحمر، أعلنت واشنطن عن تشكيل تحالف بحري دولي أسمته "حارس الازدهار" في 18 ديسمبر 2023م، وهي مبادرة أمنية متعددة الجنسيات تضم أعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وعدة حكومات تحت مظلة فرقة العمل المشتركة للقوات البحرية المشتركة 153. التي تأسست عام 2022م، لتعزيز الأمن البحري في البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن، لكن مع رفض انضمام العديد من الدول الغربية والعربية باستثناء البحرين لهذا التحالف البحري، فإن تأثير مثل هذه القوة البحرية قد يكون محدودًا ولن يفلح في إعادة الأمن والاستقرار للمنطقة.

عقب تشكيل التحالف، هدد الحوثيون بمهاجمة سفن الدول المشارك فيه واستهداف مصالحها، وضرب القطع البحرية الأمريكية في المنطقة، وكشف الحوثيون عن قدراتهم الصاروخية، وأكدوا استعدادهم للتصدي للتحالف، الذي يشكل برأيهم جزءًا من العدوان على الفلسطينيين وقطاع غزة، وأعلنوا أن إيقاف هجماتهم مرهون بتوقف العدوان الإسرائيلي على غزة وفك الحصار عن القطاع.

من الناحية الاقتصادية والتجارية، تتسبب الهجمات الحوثية في تغيير مسار العديد من السفن حول رأس الرجاء الصالح، ما يتسبب في تعطيل سلاسل التوريد وارتفاع تكلفة الإنتاج. وربما أن التأثير المباشر سوف يكون على الاقتصاد المصري، الذي يعتمد بشكل كبير على عائدات قناة السويس، وسيكون التأثير على سلاسل التوريد العالمية من خلال ارتفاع تكلفة النقل والتأمين.

سادسًا: هل من حلول للمعضلة الأمنية في البحر الأحمر والقرن الإفريقي؟

تظل المعضلة الأمنية في منطقة البحر الأحمر ودول القرن الإفريقي، مرتبطة بالأساس أولاً: تضارب الاستراتيجيات والمصالح بين القوى الدولية والإقليمية، حيث لم تسع الدول الكبرى إلى تحقيق السلم والأمن في المنطقة خاصة في إثيوبيا والصومال والسودان، ثانيًا: ظلت الحروب والنزاعات الأهلية ولا زالت تمزق أوصال المنطقة، ثالثًا: تتسابق بعض القوى الإقليمية كإيران وتركيا للهيمنة على بعض الموانئ البحرية كما هو الشأن بالنسبة لميناء سواكن الذي تهيمن عليه تركيا بالإضافة إلى الحضور الصيني والروسي.

 وبالرغم من مطالبة قرار مجلس الأمن رقم 2722، الذي تم اعتماده في 10 يناير 2024م، الحوثيين بوقف الهجمات وإطلاق سراح جميع البحارة المحتجزين كرهائن، مع الإشارة إلى حق الدول الأعضاء في الدفاع عن سفنها، فإن عدم وجود وقف لإطلاق النار في غزة باعتباره السبب الجذري لاتساع دائرة الصراع لتشمل منطقة البحر الأحمر وعدم الحث على اتخاذ إجراءات تمنع المزيد من التصعيد وتبني استراتيجيات أمنية محايدة بناء على منظومة الأمن الجماعي سوف يضاعف من الأزمات في المنطقة واستمرار الحروب غير المتناهية.

 كما أن ارتباط نظام الأمن في الشرق الأوسط مع نسق الأمن في منطقة البحر الأحمر ودول القرن الإفريقي، سوف يشكل نقطة ارتكاز للجماعات والمليشيات المسلحة التي تبنى تدخلاتها على أساس شرعية المقاومة وغيرها من العوامل الأيديولوجية، في حين تستغل دول أخرى الوضع لاستدامة الأزمات وإضعاف المنطقة فمن جهة أولى، توظف إيران جماعة أنصار الله الحوثي وغيرها من المليشيات للتدخل غير المباشر في المنطقة ومن جهة ثانية، فإن استمرار العنف الإسرائيلي في المنطقة، سوف يساهم في اتساع دائرة الصراع لتشمل مناطق أمنية أخرى بعيدة جغرافيًا عن منطقة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني .

 

خاتمة

اعتبارًا للأهمية الجيوسياسية لمنطقة البحر الأحمر ودول القرن الإفريقي، فإن حل أزمات المنطقة والتوصل إلى صيغ مقبولة بين الأطراف المتصارعة والمتنافسة، وعزل المنطقة عن جحيم التدخل الدولي، تبقى من أهم الأولويات العاجلة لدول وشعوب المنطقة خصوصًا دول الخليج العربي التي تحتاج إلى هذا العمق الاستراتيجي في علاقاتها الأمنية والاقتصادية والتجارية، لكون منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي، تعتبر معبرًا للتجارة العالمية ونقطة التقاء حضارية لدول وشعوب القارتين الآسيوية والإفريقية.

تحتاج المنطقة إلى فهم وقراءة جديدة لآليات وديناميات التنافس والتعاون المتعدد الأقطاب وإلى إرادة جماعية لمواجهة المخاطر المحدقة بها، ومن أهم العوامل التي قد تخدم نظام الأمن المتحور والمتناغم مع حاجة ومصالح هذه الدول، أولاً: العمل على تصفير الأزمات من خلال علاقات متوازنة واستدامة الحوار والتفاعل الإيجابي بين القوى الإقليمية في المنطقة، ثانيًا: الحد من الوكلاء غير النظاميين المدعومين من قبل بعض القوى كجماعة أنصار الله الحوثي في اليمن  والميليشيات الشيعية والسنية على حد سواء، والتي تهدد الأمن الإقليمي والدولي ثالثًا: استمرار الأدوار الإقليمية الفاعلة لدول الخليج العربية وتوحيد كلمتها بقيادة المملكة العربية السعودية التي أصبحت تنأى بشكل واضح عن الاستقطاب الدولي وتنهج سياسات مستقلة على المستوى السياسي والأمني والاقتصادي بما يتجاوب مع مصالحها وأولوياتها واستراتيجياتها المستقبلية.

مقالات لنفس الكاتب