; logged out
الرئيسية / أزمات البحر الأحمر والقرن الإفريقي تحتاج منهجًا إقليميًا / دوليًا لتوفير العقلانية لتحقيق الاستقرار والأمن

العدد 195

أزمات البحر الأحمر والقرن الإفريقي تحتاج منهجًا إقليميًا / دوليًا لتوفير العقلانية لتحقيق الاستقرار والأمن

الخميس، 29 شباط/فبراير 2024

باتت الهجمات التي تشنها الجماعة الحوثية تتزايد على السفن في منطقة البحر الأحمر كرد فعل للحرب الإسرائيلية في غزة تشكل تهديداً على هذا الخط البحري الحيوي والأمن العالمي بشكل عام. وتأتي هذه المخاطر في سياق أهمية منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي وتداخلها كموقع استراتيجي مهم على خريطة العالم، حيث يقع فيها مضيق باب المندب الذي يعد ممراً رئيسياً للنقل البحري. لقد أثرت التغيرات في الوضع السياسي والأمني في الشرق الأوسط الكبير على هذه المنطقة، وينظر إلى القرن الإفريقي على نحو متزايد من قبل القوى الإقليمية والدولية كمنطقة جغرافية استراتيجية ذات ارتباط كبير بأمن الشرق الأوسط، وأدى ذلك إلى تحولها إلى منطقة صراع رئيسية في سباق التأثير الجيوسياسي إقليمياً ودولياً.

حيوية منطقة باب المندب والقرن الإفريقي للأمن العالمي:

يقع مضيق باب المندب بين اليمن وجيبوتي وأريتريا ويصل بين البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب، حيث يبلغ عرض باب المندب ١٨ ميلًا عند أضيق نقاطه مما يجعل حركة الناقلات صعبة مما يجعله محدوداً بقناتين فقط لدخول وخروج ا لسفن. تفصل جزيرة بريم المضيق مما يخلق القناتين، القناة الشرقية وتسمى باب إسكندر ويبلغ عرضها ميلين، والقناة الغربية وتسمى دقة المايون ويبلغ عرضها ٢٥ ميلًا. يعتبر مضيق باب المندب ممر رئيسي لحركة الملاحة العالمية ومن ثم التجارة والاقتصاد الدولي، حيث تعبر ما قيمته ٢.٥ تريليون مليار دولار من التجارة عبر الأحمر، ويمثل ذلك ما يوازي ١٣٪ من التجارة العالمية. يتم عن طريقه شحن ما يقرب من ١٥% من البضائع المستوردة إلى أوروبا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا من آسيا والخليج، كما يمر ما يقرب من ٢١.٥% من النفط المكرر وأكثر من ١٣% من النفط الخام عبر هذا المضيق. يمنع إغلاق المضيق الناقلات الآتية من الخليج الوصول لقناة السويس مما يؤدي إلى تحويل حركتهم عن طريق جنوب القارة الإفريقية مما يزيد من تكلفة ومسافة الرحلة. يمثل البحر الأحمر حلقة وصل مهمة كطريق استراتيجي واقتصادي في شبكة من الممرات المائية العالمية الممتدة من البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الهندي إلى المحيط الهادئ، فهو ليس مجرد ممر للخدمات اللوجستية، بل يعتبر أيضًا رقعة شطرنج حقيقية للقوى الإقليمية والعالمية.

لقد أصبحت هذه المنطقة مسرحًا ناشئًا لمنافسة القوى العظمى لقربها من منطقة الشرق الأوسط ذات الحساسية الكبيرة مع قضايا ومصالح دولية تتمثل في عوامل النفط والصراع العربي الإسرائيلي، ولذلك فهناك تواجد دولي وإقليمي بشكل دائم، حيث تقيم العديد من البلدان كمثال قواعد عسكرية على أراضي جيبوتي تضم فرنسا، والولايات المتحدة، واليابان، وإيطاليا، والصين، وألمانيا وإسبانيا. يعود ذلك التواجد في هذا المضيق الاستراتيجي الذي يربط طرق التجارة العالمية للعديد من الأسباب الأمنية والعسكرية تتضمن هجمات الجماعة الحوثية كما يحدث اليوم وقضايا القرصنة البحرية والحرب على الإرهاب. يفصل جيبوتي عن اليمن حوالي ٢٢ كم فقط في مضيق باب المندب، وهذه المداخيل السنوية التي تأتي من القواعد العسكرية المختلفة في البلاد والتي تصل سنويًا إلى حوالي ١٦٠ مليون دولار من أهم الإيرادات للدخل القومي لجيبوتي لفقر الموارد في هذه الدولة. أبدت أيضاً الهند والمملكة العربية السعودية اهتمامًا بإنشاء قواعد في جيبوتي، التي تعد موطنًا للميناء الوحيد في المياه العميقة في المنطقة، في حين أن روسيا بدأت محادثات مع إريتريا حول وجودها الاستراتيجي في البحر الأحمر.

التصعيد الحوثي في البحر الأحمر:

في أكتوبر ٢٠١٦م، بدأت الحركة الحوثية في استخدام ميناء الحديدة الاستراتيجي بعد الاستيلاء عليه كقاعدة، وهو الذي يقع على الساحل الغربي لليمن، حيث قاموا في ذلك الوقت بإطلاق النار مرتين على السفينة الحربية الأمريكية يو إس إس ماسون كشكل من أشكال الهجوم المضاد على الولايات المتحدة التي تقدم الدعم الجوي للسعوديين. وفي يناير ٢٠١٧م، قام الحوثيون بالتحول من إطلاق الصواريخ الباليستية والطائرات بدون طيار عبر الحدود البرية باتجاه الرياض، وأرسلوا بدلاً من ذلك ثلاثة زوارق انتحارية، كما حاولوا تلغيم الممر المائي. وكان رئيس المجلس السياسي الأعلى التابع للحوثيين صالح الصماد، الذي قُتل لاحقاً في غارة جوية في أبريل ٢٠١٨م، قد هدد بقطع ممرات الشحن في البحر الأحمر إذا واصل التحالف تقدّمه نحو الحديدة. ونُقل عن الصماد قوله على قناة "المسيرة": "إذا استمر المعتدون في التقدّم نحو الحديدة، وإذا وصل الحل السياسي إلى حائط مسدود فستكون هناك بعض الخيارات الاستراتيجية التي سيتم اتخاذها كنقطة لا عودة تشمل منع الملاحة الدولية في البحر الأحمر". وأضاف بأن "السفن تمر بمياهنا بينما شعبنا يتضور جوعًا". في عام ٢٠١٩م، وجه عبد الملك الحوثي زعيم الجماعة الحوثية خطاباً ضد إسرائيل حيث نفي مزاعم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بأن إيران بدأت في تزويد الجماعة بصواريخ دقيقة، وتوعّد الاحتلال الاسرائيلي، قائلا: لن نتردد في إعلان الجهاد ضد العدو "الإسرائيلي" وتوجيه أقسى الضربات ضد الأهداف الحساسة في كيان العدو إذا تورط العدو في أي حماقة ضد شعبنا، مضيفاً التأكيد على أن موقف الحركة في العداء لإسرائيل ككيان غاصب هو موقف مبدئي إنساني أخلاقي والتزام ديني.

وبمجرد انفجار الحرب في غزة في أكتوبر ٢٠٢٣م، بدأ الحوثيون في إطلاق صواريخ غير فعالة باتجاه مدينة إيلات الساحلية الإسرائيلية، وأصروا على أن لا يتوقفوا إلا عندما تسمح إسرائيل بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة. ومن خلال الاستفادة من الأراضي التي استولوا عليها منذ عام ٢٠١٤م، تطورت تكتيكاتهم بسرعة إلى حملة من الهجمات المفاجئة على الشحن والتي نشرت الفوضى عبر سلاسل التوريد في العالم. وفقاً لمركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية فإنه منذ ١٢ نوفمبر ٢٠٢٣م، "تقوم قوات الحوثيين بتدريب جنودها في فرق هجوم بحرية برمائية، مع تدريبات تشمل إطلاق صواريخ وهمية تستهدف سفن بحرية وهمية وعمل محاكاة للغارات على السفن. كما قاموا بتوسيع أهدافهم تدريجياً من السفن التي ترفع العلم الإسرائيلي إلى السفن التي تتاجر مع إسرائيل”.  كرد فعل لهذه الهجمات قامت الولايات المتحدة بتكوين تحالف أطلقت عليه "حارس الازدهار" الدولي، بمشاركة كل من بريطانيا وأستراليا والبحرين وكندا وهولندا، والذي يهدف وبشكل رئيسي إلى تدمير القدرات العسكرية للحوثيين في اليمن بغرض حماية الملاحة في البحر الأحمر حيث نفذت الولايات المتحدة وبريطانيا ضربات ضد أهداف للحوثيين داخل اليمن. من جهة أخرى يقود الاتحاد الأوروبي ما يطلق عليه عملية أتلانتا وتضم أسطولًا من السفن الحربية من 13 دولة أوروبية لمكافحة القرصنة في منطقة البحر الأحمر.

 لقد حذر العديد من الخبراء الاقتصاديين الدوليين بأن أي صراع يطول أمده في البحر الأحمر إضافة للتوترات المتصاعدة في جميع أنحاء الشرق الأوسط سيكون لها آثار مدمرة على الاقتصاد العالمي، مما يؤدي إلى زيادة التضخم وتعطيل إمدادات الطاقة. تشعر السعودية عدم الرضا من هذه الضربات على الجماعة الحوثية كونها ستعيق فرص إحلال السلام في اليمن. وينظر الغرب إلى أن الهجمات الصاروخية على الحوثيين على أنها الخيار الوحيد، ولكن ذلك ليس بلا تكلفة، حيث أن طائرات الجماعة الحوثية بدون طيار رخيصة الثمن، وعلى النقيض من ذلك ينفق الفرنسيون ما يقرب من مليون يورو على كل صاروخ من طراز أستر 15 الذي يستخدمه الفرنسيون والبريطانيون لصد الطائرات الحوثية بدون طيار. ويشير عدد من المراقبين الى أنه من المحتمل أن تكون هذه الحرب طويلة ومكلفة.

في هذا السياق، وفي علاقة وثيقة مع أمن البحر الأحمر شهدت منطقة القرن الإفريقي انهيار حدود دول مع تداخل السياسات المحلية والإقليمية، وأصبح هناك تغلغلًا إقليميًا ودوليًا بشكل متزايد في تلك المنطقة يسعى إلى ممارسة النفوذ في منطقة أصبح التشرذم هي السمة الغالبة فيها بشكل متزايد. من هذا المنطلق كان للنزاع في اليمن دور كبير في تشكيل التفكير الاستراتيجي لدى الدول الخليجية بتشكيل سياساتها وتحركها في منطقة القرن الإفريقي، حيث أصبحت تولى أهمية وبشكل متزايد لهذه المنطقة. وعلى الرغم أن الأهمية طويلة الأجل لعلاقات دول الخليج مع القرن الإفريقي قد تكون أقل استراتيجية من مناطق أخرى بشكل عام، إلا أن ديناميكية توازنات القوى الإقليمية والدولية وتأثير النزاعات المحلية في منطقة القرن الإفريقي سيكون لها نتائج سلبية على مصالح وأمن منطقة الخليج.

الاهتمام الخليجي بمنطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي:

أصبح الوجود العسكري الإيراني المتزايد لدعم المتمردين الحوثيين في منطقة البحر الأحمر مع اشتداد الحرب في اليمن بعد عام ٢٠١٥م، مصدر قلق حقيقي للدول الخليجية، كما دفع البرنامج النووي الإيراني والسياسات الإقليمية العدوانية في جميع أنحاء الشرق الأوسط إلى زيادة حدة التنافس الاستراتيجي الإقليمي مع دول مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. في هذا الإطار، قامت قوى دولية وإقليمية في السنوات القليلة الماضية، بإنشاء قواعد عسكرية في الدول المطلة على البحر الأحمر، حيث يضم الآن سبع دول ساحلية: مصر والسودان وإريتريا وجيبوتي تشكل الجهة الغربية بينما تشكل المملكة العربية السعودية واليمن الساحل الشرقي. سعت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة إلى الحد من قوة الحوثيين المدعومين من إيران وكذلك كبح نفوذها في منطقة جنوب البحر الأحمر. ولذلك، أصبحت الدول الخليجية تتبع سياسات خارجية تنخرط في منطقة القرن الإفريقي كونها امتدادًا جغرافياً وفي جوارها الأوسع بهدف القدرة على التأثير في السياسة الإقليمية، وتأمين طرق التجارة وأمنها القومي. وتحقيقًا لهذه الغاية، فقد قاموا بتبني العديد من السياسات المرتبطة بالقوة الناعمة وكذلك الخشنة. سعت بعض دول الخليج إلى إنشاء قواعد عسكرية في أماكن استراتيجية في منطقة القرن الإفريقي لتأثيرها المباشر على الأمن الإقليمي. في هذا الإطار، شرعت الإمارات العربية المتحدة في السنوات الماضية في إقامة قواعد عسكرية في جزر سقطرى وبيرم في اليمن، ومناطق أرض الصومال وبونتلاند في الصومال وميناء عصب في إريتريا.

ويشير العديد من المراقبين إلى أن الإمارات تهدف من خلال هذه القواعد إلى أن تصبح طرفًا فاعلاً في منطقة القرن الإفريقي من خلال وجود عسكري في خليج عدن ومضيق باب المندب والبحر الأحمر، كما أنها ترمي أيضاً إلى تعزيز قوة ميناء جبل علي في دبي باعتباره مركزًا لوجستيًا وتجاريًا رئيسيًا يربط آسيا بإفريقيا عبر البنية التحتية لموانئ دبي العالمية، في مواجهة التنافس مع عدد من الموانئ الجديدة الطموحة التي تم أنشاؤها في إيران وباكستان وعمان وكذلك في أماكن أخرى على طول القرن الإفريقي. في هذا الإطار، تشارك موانئ دبي العالمية في مشاريع للبنية التحتية اللوجستية والموانئ في رواندا، وموزمبيق، والجزائر، ومالي. سوف تجعل هذه الموانئ والقواعد من الإمارات لاعباً إقليمياً استراتيجياً من خلال إنشاء ممر آمن لإمدادات الطاقة من الشرق الأوسط إلى العالم، حيث إنها تنتج مليوني برميل من النفط يوميًا، وتسعى إلى الحفاظ على مستوى صادراتها من خلال تهيئة بيئة آمنة في باب المندب لتدفق النفط إلى الأسواق الأوروبية بشكل عام.

انعكس التأثير الخليجي في القرن الإفريقي كذلك في اتفاقية السلام التاريخية التي وقعها الرئيسان الإثيوبي والأريتري في ٩ يوليو ٢٠١٨م، والذي كان للإمارات دور مهم فيها، حيث أنهت سنوات طويلة من الصراع الدامي في منطقة القرن الإفريقي والذي كان يهدد بشكل دائم استقرار هذه المنطقة. وكسرت الرحلة التي لم يتوقعها أحد والتي قام بها أبي أحمد رئيس وزراء إثيوبيا الجديد الجمود الذي شهدته العلاقات بين هذين البلدين، وكان هذا التصالح نتيجة ترتيبات قام بها رئيس الوزراء الإثيوبي وانخراط دبلوماسي كبير للإمارات في جهود رأب الصدع. وكانت العلاقات بين الإمارات وإثيوبيا قد تطورت بشكل تدريجي في السنوات الماضية خاصة مع تصاعد نفوذ دول الخليج في المنطقة والاهتمام الكبير بالاستثمار في إثيوبيا وأهميتها الاستراتيجية في منطقة القرن الإفريقي. من جهة أخرى قامت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بدعم المجلس العسكري الانتقالي الذي قام بتولي السلطة في السودان بعد انهيار نظام الرئيس عمر البشير بعد انتفاضة عارمة بـ ٣ مليارات دولار من المساعدات، حيث أكد المجلس على التزامه بمواصلة مشاركة القوات السودانية في حرب اليمن. وكان الاختراق في المفاوضات بين المجلس العسكري الانتقالي السوداني وتحالف المعارضة العريض المتمثل في قوى الحرية والتغيير عام ٢٠١٩م، الذي قاد إلى اتفاق الإعلان الدستوري قد حدث بعد ضغوط على الجانبين للقبول بمقترحات من الاتحاد الإفريقي وإثيوبيا قام بها دبلوماسيون من السعودية والإمارات الولايات المتحدة، وبريطانيا. وبعد قيام الحرب في السودان بين الجيش والدعم السريع، يعتبر منبر جدة الذي ترعاه المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية لتسهيل التفاوض بين طرفي النزاع يمثل الآلية والمخرج الرئيسي للنزاع في السودان.

هناك أسباب أخرى لهذا الاهتمام الخليجي إضافة لدعم المجهود العسكري في اليمن وحماية المصالح الأمنية الإقليمية من التهديدات الإيرانية والجماعات المتطرفة على المدى الطويل. يتمثل هذا الاهتمام أيضًا إلى أن دول الخليج، خاصة الإمارات والسعودية تعتبر أن الموانئ التجارية الجديدة في منطقة القرن الإفريقي يمكن أن توفر لها إمكانية الوصول إلى فئة المستهلكين المتسعة في إفريقيا، ومن ثم تأمل هذه الدول أن تمكنهم الاتفاقات باستخدام الموانئ في البحر الأحمر إلى جانب اليمن، في صياغة مستقبل التجارة البحرية في البحر الأحمر وغرب المحيط الهندي، خاصة مع نمو تجارة الصين مع المنطقة بسبب مبادرة الحزام والطريق. يأتي ذلك في إطار رؤى دول مجلس التعاون الخليجي وبحثها عن مصادر بديلة للطاقة وتنويع مصادر واردات الأغذية والذي يمثل دافعاً لها للاستثمار في إنتاج الأغذية في منطقة كالقرن الإفريقي بشكل جدي خاصة في أعقاب أزمة أسعار الغذاء العالمية في ٢٠٠٧-٢٠٠٨م، يمثل الأمن الغذائي والمائي مصلحة رئيسية للدول الخليجية في شرق إفريقيا، ولذلك تحاول تعزيز أمنها الزراعي من خلال الاستحواذ على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية لاستثمارها في مشروعات زراعية كبرى في تلك البلدان. هناك أيضاً إمكانات هائلة للغاز الطبيعي المسال في إفريقيا جنوب الصحراء، ولكن هذه الفرص عليها الكثير من القيود بسبب التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية المختلفة. يرى كثير من المختصين أن منطقة شرق إفريقيا هي الحدود الجديدة للغاز الطبيعي المسال، ليس فقط بالنسبة للقارة الإفريقية، ولكن أيضًا على المستوى العالمي، بسبب الاكتشافات الهائلة الأخيرة للغاز الطبيعي في المنطقة، حيث تمتلك موزمبيق وتنزانيا أكبر احتياطيات مثبتة من الغاز الطبيعي في شرق إفريقيا بطاقة مجتمعة تبلغ حوالي ٢٥٠ تريليون قدم مكعب، كما أن كينيا بلد آخر يحتمل أن يكون واعدًا للغاز الطبيعي المسال في شرق إفريقيا.

في هذا الإطار، أعلنت الحكومة السعودية في بداية ديسمبر ٢٠١٨م، عن تأسيس مجلس الدول المشاطئة للبحر الأحمر، وهو تجمع يضم ٧ دول عربية وإفريقية على شاطئ البحر الأحمر وخليج عدن يضم السعودية ومصر والسودان وجيبوتي، واليمن والصومال والأردن، وأشار بيان للحكومة السعودية إلى أن هذا الكيان يهدف إلى حماية التجارة العالمية وحركة الملاحة الدولية. وقال وزير الخارجية السعودي عادل الجبير "إن هذا الكيان سيعزز الاستقرار والأمن والتجارة والاقتصاد بالمنطقة، ويسهم في إيجاد تناغم في هذه المنطقة الحساسة، ومنع أي قوى خارجية في لعب دور سلبي" ويأتي تكوين هذا التجمع في إطار سعي السعودية حماية سواحل تلك المنطقة من اعتداءات إيران، وجماعة الحوثي المدعومة من طهران. لم يقم هذا الدور بأي دور فعال حتى الآن في التأثير بأي شكل من الأشكال على الأوضاع المتفجرة في منطقة البحر الأحمر. وتترأس السعودية أيضاً منتدى البحر الأحمر الذي يضم ثماني دول ساحلية (باستثناء إسرائيل) وذلك لمعالجة قضايا غير سياسية تشمل القرصنة والتهريب والموارد البحرية.

تداخل الصراعات في منطقة القرن الإفريقي: نموذج مذكرة التفاهم بين إثيوبيا وأرض الصومال

لقد ظل القرن الإفريقي معقلاً للكثير من الصراعات العنيفة وانعدام الأمن لفترة طويلة، ولذلك فإن دول كالصومال وإثيوبيا والسودان جميعها تعاني بشكل متواصل من التشرذم والتفكك من خلال تحدي أساس الدولة نفسه. تقع في هذه المنطقة اثنين من أحدث الدول في العالم: جنوب السودان وإريتريا حيث يعكس ذلك مدى التعقيدات الأمنية والسياسية والمستوى الكبير من التفاعلات الأمنية المتداخلة. إن الصراعات التي تدور في القرن الإفريقي ترتكز على أسس وأسباب تاريخية تتداخل فيها القضايا الاجتماعية والاقتصادية والبيئية وتصنف إلى صراعات داخل تلك الدول وبين دول المنطقة نفسها. يعكس نمط إعادة تشكيل التحالفات والتوجهات على المستوى الإقليمي والدولي في دول القرن الإفريقي الهشاشة الأمنية والسياسية نسبة لعدم الاستقرار وتأثير الاضطرابات الوطنية والتدخلات الإقليمية والدولية. وكمثال للتغيرات في السياسات فإن السودان خلال فترة الحركة الإسلامية في التسعينات حليفاً هاماً لإيران، خاصة في تزويد حماس بالأسلحة في غزة وكذلك حزب الله في لبنان، ولكنه أعاد تشكيل علاقات متجددة ونشطة مع المملكة العربية السعودية بعد أن طرد السودان المسؤولين الإيرانيين في عام ٢٠١٤م. وقد استخدمت السعودية جماعات الضغط في الولايات المتحدة لرفع بعض العقوبات الاقتصادية على النظام السوداني في عام ٢٠١٥ م، واستثمرت منذ ذلك الحين في مليون هكتار زراعي، كما قام النظام في السودان بالموافقة على المشاركة في عاصفة الحزم في اليمن.

وكنموذج لهذا التداخل والاضطراب الأمني وتوازنات المصالح الجيوسياسية الترددات الأمنية والسياسية لمذكرة التفاهم التي تم التوقيع عليها في يناير ٢٠٢٤م، والتي وعدت فيها إثيوبيا الاعتراف بأرض الصومال كدولة مستقلة ذات سيادة، مقابل تأجير أرض الصومال لها مساحة 12 ميلاً من الأرض، بما في ذلك ميناء بحري، مما سيسمح لإثيوبيا بإنشاء قاعدة بحرية.

وتعتبر حكومة جمهورية الصومال أن دولة أرض الصومال الانفصالية جزءًا من أراضيها، حيث أعلنت عن بطلان هذا الاتفاق. ودعا رئيسها حسن شيخ محمود الصوماليين إلى “الاستعداد للدفاع عن الوطن”، في حين نظمت مسيرات في العاصمة الصومالية مقديشو ضد الاتفاق. في هذا الإطار قال كبير مستشاري الرئيس الصومالي إن الصومال مستعد لخوض الحرب لمنع إثيوبيا من الاعتراف بإقليم أرض الصومال الانفصالي وبناء ميناء هناك. على مدى عقدين من الزمن، عانت الصومال كثيراً من عنف حركة الشباب، التابعة لتنظيم القاعدة، مما يجعلها واحدة من أخطر البلدان في العالم. وعلى النقيض من ذلك، تتمتع أرض الصومال بالسلام نسبياً، ولكنها غير معترف بها من قبل أي دولة. ولن تعترف الحكومات الغربية بها حتى تعترف بها البلدان الإفريقية، ولكن زعماء القارة أحجموا عن الاعتراف بها، تأسيساً على سياسة الاتحاد الإفريقي ضد إعادة رسم الحدود الوطنية الموروثة عن المستعمر. على الرغم من ذلك فهناك وجود لتبادل قنصلي مع كينيا والولايات المتحدة وألمانيا وتركيا والمملكة المتحدة وفرنسا والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وهو إجراء مثير للاهتمام تأتي خارج الأطر التقليدية.

وتعاني أرض الصومال من عدم القدرة على جذب الاستثمارات من دون الاعتراف بها، كما أنها معزولة عن التمويل الدولي، الذي يتم توجيهه في الغالب عبر مقديشو. وقد قال وزير خارجية أرض الصومال، عيسى كايد في مقابلة مع صحيفة الأوبزرفر إن صفقة الميناء مع إثيوبيا "سوف تضفي الشرعية على تقرير مصيرنا" ويمكن أن تقود إلى "تأثير الدومينو" وهو التفاعل التسلسلي باعتراف دول أخرى باستقلالية الإقليم. وقال كايد: "الاعتراف هو ما كنا نناضل من أجله طوال هذا الوقت وهو أهم شيء يمكننا تقديمه لشعب أرض الصومال". لكن هناك ارتباكا بشأن مضمون الاتفاق بين أرض الصومال وإثيوبيا. ولم يعلن أي من الجانبين عن النص الكامل. وعندما تم إبرام الصفقة، قال رئيس أرض الصومال، موسى بيهي عبدي، إن إثيوبيا وافقت على منح الاعتراف الرسمي مقابل عقد إيجار لمدة 50 عامًا لشريط من الساحل، والذي ستقوم بتطويره لأغراض "بحرية وتجارية". ومع ذلك، قالت إثيوبيا إنها وافقت فقط على "إجراء تقييم عميق تجاه اتخاذ موقف بشأن جهود أرض الصومال للحصول على الاعتراف".

لقد أصبحت إثيوبيا أكبر دولة غير ساحلية في العالم عام ١٩٩٣م، عندما انفصلت إريتريا مع ساحلها على البحر الأحمر. وفي أكتوبر ٢٠٢٢م، قال أبي احمد رئيس الوزراء الإثيوبي إن هذا خطأ تاريخي يهدد وجود إثيوبيا، مما أثار مخاوف من نشوب حرب مع إريتريا. وقال "في عام ٢٠٣٠م، من المتوقع أن يصل عدد سكاننا إلى ١٥٠ مليون نسمة، وهم لا يستطيعون العيش في سجن جغرافي". جيبوتي وهي إحدى دول المنطقة لديها تحفظات بشأن مذكرة التفاهم حيث أن استخدام أديس أبابا لميناء بربرة سيحرمها من ميزة كونها نقطة العبور الرئيسية لواردات وصادرات إثيوبيا، وهو ما يهددها بخسارة قدر كبير من دخلها من الرسوم والضرائب. كما تتخوف أريتريا من حصول إثيوبيا على قاعدة بحرية، حيث أنها تسعى دائما من عدم تمكن إثيوبيا الوصول لمنفذ بحري. من ناحية أخرى، قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال مؤتمر صحفي مع الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود إن مصر «لن تسمح لأحد بتهديد الصومال». يأتي ذلك أيضاً في إطار معارضة مصر لمشروع سد النهضة الإثيوبي الكبير وانسحابها من المفاوضات حيث يضيف ذلك مزيداً من التعقيد الجيوسياسي. في المقابل، فإن أي تدهور في العلاقات الصومالية ـ الإثيوبية يمثل أيضاً تهديدًا للجهود الإقليمية لمكافحة الإرهاب، وقد تؤثر هذه التوترات على الوجود المشروع للجنود الإثيوبيين في الصومال. لدى إثيوبيا حاليًا ما لا يقل عن ٤٠٠٠ جندي منتشرين في الصومال كجزء من بعثة الاتحاد الإفريقي الانتقالية في الصومال وألف جندي آخر منتشرين كجزء من الاتفاقيات الثنائية مع الصومال. وتشكل القوات الإثيوبية ما بين ربع وثلث قوة بعثة الاتحاد الإفريقي البالغ قوامها ١٤ ألف جندي، وهي مسؤولة عن قطاعات في وسط وجنوب غرب الصومال المتاخمة لإثيوبيا. يشكل الاضطراب في العلاقة تهديدًا لجهود مكافحة الإرهاب الإقليمية، نظرًا للدور المهم الذي تلعبه إثيوبيا في محاربة حركة الشباب في الصومال، ومما لا شك فيه قيام حركة الشباب، التي تستفيد من المشاعر المعادية لإثيوبيا من صفقة الميناء، بزيادة هجماتها على القوات الإثيوبية لتعزيز التمويل والتجنيد.

خاتمة:

أصبح البحر الأحمر والقرن الإفريقي ساحة للتنافس الجيوسياسي الجديدة حيث تولي القوى العظمى والإقليمية اهتماما متزايدا لهذه المنطقة. إن بروز هذه المنطقة كساحة سياسية واقتصادية مشتركة يشكل خطر كبير ولكنه يوفر أيضاً فرصاً للتنمية والتكامل. لقد طرح ثابو مبيكي رئيس جنوب إفريقيا السابق الذي يرأس فريق التنفيذ الرفيع المستوى التابعة للاتحاد الإفريقي لمنطقة القرن الإفريقي منذ أعوام مصطلح "ساحة البحر الأحمر". وكانت الفكرة تتلخص في إنشاء منتدى دبلوماسي لا يشمل الدول الساحلية للبحر الأحمر فحسب، بل كل الدول الأخرى التي لها مصالح حيوية في البحر الأحمر وخليج عدن أو التي لها روابط سياسية وتجارية في هذه المنطقة. هذا النوع من المبادرات ربما تكون عملية خاصة وإن منطقة القرن الإفريقي معرضة لخطر حقيقي يتمثل في الصراعات العنيفة التي من شأنها أن تؤدي إلى تفتيت دوله، ومن ثم فقدان الاستقرار على ساحل البحر الأحمر، وزيادة تدفقات المهاجرين، انتشار الإرهاب ومخاطر كبيرة أخرى. لقد عانت المنطقة في الماضي وما تزال من نزاعات مختلفة مثل: حرب اليمن، الحرب الأهلية الصومالية، وحرب الاستقلال الإريترية، وحرب انفصال جنوب السودان، بالإضافة إلى نزاعات متقطعة بين إريتريا وإثيوبيا، والاضطراب الحالي داخل السودان وإثيوبيا. إن بؤر الأزمة المتعددة الأوجه في منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي تحتاج إلى منهج شامل يتم تبنيه دولياً وإقليميًا للتمكن من التعامل مع قضايا المنطقة التي تتطلب حدًا معقولًا من المبدئية والعقلانية في سبيل السلام والاستقرار والأمن.

مقالات لنفس الكاتب