تسعى هذه الورقة إلى دراسة التطور التاريخي لنشاط وسياسة حلف شمال الأطلنطي (الناتو) في منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة ومنطقة الخليج العربي بصفة خاصة، وإدراك مدى نجاح مساعي الحلف على هذا المستوى في خلق شراكات استراتيجية وسياسية مع بعض دول المنطقة، وخلق توافق مشترك بين الطرفين من الأزمات السياسية والعسكرية الجارية في المنطقة.
يتطلب ذلك بداية أن نشير إلى وثيقة المفهوم الاستراتيجي لحلف الناتو والتي تحدد أولويات الحلف ومهامه الأساسية، وذلك طبقًا لآخر تعديل تم إقراره في تلك الوثيقة من قبل رؤساء دول وحكومات الحلف في القمة التي انعقدت في العاصمة الإسبانية مدريد يومي 29 و30 يونيو 2022م، وذلك بعد تأخر سنتين من الموعد المقرر لمراجعتها وإقرارها، حيث كان مقررًا أن تتم هذه المراجعة كل عشر سنوات، وجاء هذا التأخر بسبب الظروف التي واجهتها دول الحلف خاصة جائحة كورونا والحرب الروسية / الأوكرانية. ونشير هنا إلى أنه لا مجال لمناقشة كافة تفاصيل وعناصر تلك الوثيقة، وبالتالي فسوف يقتصر الحديث على الجوانب التي تتعلق بدور حلف شمال الأطلنطي في منطقة الشرق الأوسط كما ورد في وثيقة المفهوم الاستراتيجي للحلف.
وتشير مراجعة عناصر هذه الاستراتيجية إلى طبيعة المهام الرئيسية للحلف، وطبيعة تعامل الحلف مع الأزمات الدولية ومدى الاستجابة لها، وكذلك مسارات تحقيق الأمن التعاوني سواء بين دول الحلف أو بين الدول التي يسعى الحلف إلى خلق شراكات معها.
وبهذا الخصوص نشير إلى ما يلي:
أولًا: يتركز الهدف الرئيسي لحلف شمال الأطلنطي (الناتو) في ضمان الأمن الجماعي للدول الأعضاء في مواجهة التهديدات التي تتعرض لها؛ على اعتبار أنه تحالف دفاعي.
ثانيًا: أكدت الوثيقة الجديدة على أن المنطقة الأوروبية الأطلسية لم تعد فيما كانت تشهده من سلام وذلك بعد الانتهاكات الروسية لأوكرانيا حسب ما ورد فيها، مؤكدة أنه لا يمكن استبعاد احتمال شن هجوم يهدد سيادة أعضاء الحلف وسلامتهم الإقليمية وهو تعديل لم يكن واردًا في الاستراتيجية القديمة. وقد انبثق من هذا المبدأ ما يستتبعه وما يفرض ضرورة تطوير قدرات وآليات الدفاع والردع للدول الاعضاء في مواجهة جميع التهديدات بالطريقة والتوقيت والمجال الذي يقرره الحلف، وهو ما فرض ضرورة تطوير دفاع جوي وصاروخي متكامل لم يكن متضمنًا في الوثيقة القديمة أو لم تشهده من قبل أشكال التعاون بين دول الحلف، بالإضافة إلى تعزيز الجاهزية الجماعية للدول الأعضاء، وتحسين القدرة على الانتشار والاستجابة والتكامل وقابلية التشغيل البيني للقوات التابعة للدول الأعضاء.
ثالثًا: أوضحت الوثيقة كذلك أن حلف الناتو سوف يواصل العمل على منع الأزمات، سواء في المنطقة الأوروبية أو في المناطق التي تمثل لدول الحلف مصلحة استراتيجية، وتوفير عناصر الاستجابة لها عندما يكون لها تأثير مباشر على أمن الحلفاء وذلك من خلال آليات يسعى الحلف لتوفيرها لمضاعفة جهوده، خاصة توقع الأزمات والتعامل معها. وفيما يتعلق بهذا الموضوع فقد لوحظ أن الوثيقة الجديدة قد أكدت على أن الحلف سوف يسعى إلى منع الأزمات التي يمكن أن تحمل مخاطر على أمن دول الحلف، وهو ما يعني زيادة في الانتشار الجغرافي للحزب لتثبيت استراتيجية أكثر اتساعًا.
رابعًا: أكدت الوثيقة كذلك على الاستمرار في تعزيز الشراكات مع الحلفاء الذين يؤمنون بقيم الحلف والنظام الدولي القائم على القواعد حسب نص الوثيقة، والعمل مع الشركاء لمعالجة التهديدات والتحديات الأمنية المشتركة في المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية للحلف، وأشارت هنا إلى منطقة الشرق الأوسط ومنطقة الساحل ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
خامسًا: اهتمت الوثيقة بصورة واضحة بالتحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية والعسكرية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والساحل الإفريقي، وما تحمله من مخاطر على أمن حلف الناتو باعتبارها الجناح الجنوبي للحلف، لا سيما في تعقد الأزمات القائمة فيها منذ فترة طويلة وصعوبة التوصل إلى حلول بالنسبة لها، بالإضافة إلى تهديدات الأمن الغذائي والتغير المناخي وهو ما يوفر في وجهة نظر الحلف مناخًا مواتيًا وأرضًا خصبة لانتشار التنظيمات الإرهابية، ويؤدي في نفس الوقت إلى عدم استقرار الدول في تلك المنطقة، وزيادة عمليات الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر الذي يمثل خطورة كبيرة على دول الحلف ينبغي الاستعداد له والتعامل معه.
محاور حركة وانتشار حلف شمال الأطلنطي في المنطقة
تتحدد محاور حركة وانتشار الحلف في المنطقة من خلال عدد من المحاور أهمها مبادرة إسطنبول، وكذلك الحوار المتوسطي، بالإضافة إلى التعاون الجماعي مع المنظمات الإقليمية والدولية المعنية بالمنطقة، وكذلك التعاون الثنائي مع بعض دول المنطقة والانخراط في بعض أزماتها بصورة واضحة، سواء بصورة جماعية أو من خلال نشاط أو حضور لدول أعضاء في الحلف.
وفيما يتعلق بمبادرة إسطنبول والتي يتم الاحتفال حاليًا بمرور 20 عامًا على إعلانها والتي استهدفت بصورة أساسية دعم التعاون بين الحلف ودول الخليج؛ فلا شك أنها كانت بمثابة خطوة مهمة لتعزيز التعاون والشراكة بين الطرفين، وقد اتضح ذلك جليًا في مجالات متعددة، خاصة دعم الأمن البحري ومكافحة الإرهاب وتوفير الأمن في الممرات ومعابر التجارة الدولية، هذا فضلًا عن تعزيز التعاون في مجالات متنوعة، مثل: التدريب العسكري، والسياسات الدفاعية، كذلك تبادل المعلومات والخبرات. وهو ما ساهم في تعزيز قدرة الدول الشريكة على التعامل مع بعض التحديات الأمنية التي واجهتها.
ومن الملاحظ أنه رغم توافر التوجهات الإيجابية لدعم العلاقات بين الطرفين إلا أن مسار تلك المبادرة وعلى مدى السنوات الطويلة التي استغرقتها والاجتماعات التي عقدت بين الطرفين لم ترتب مستوى من الشراكة الاستراتيجية الكبيرة التي يتمتع بها حلف الناتو مع الدول الأوروبية غير الشريكة في الناتو، وإن كان من المرجح أن ذلك ارتبط بتفاوت الأولويات والمصالح بين الطرفين.
ولا شك أن موقف حلف الناتو من منطقة الخليج يعد موقفًا أكثر تميزًا إذا ما قورن بموقف الحلف مع دول منطقة الشرق الأوسط على اتساعها، خاصة وهو يدرك حجم المصالح التي لدول حلف شمال الأطلنطي سواء مجتمعة أو منفردة مع منطقة الخليج ومع الدول الكبرى فيها، وفي ظل الشراكة الاقتصادية المتصاعدة بين الطرفين، وكذلك ما يمثله البترول والطاقة لدى دول المنطقة من أهمية للدول الأوروبية.
وقد تصاعدت أهمية المنطقة بصورة كبيرة في ظل الحرب الروسية / الأوكرانية وتصاعد أزمة الطاقة، وبالتالي اتجاه الدول الأوروبية على اتساعها لتكثيف علاقتها بدول الخليج لتوفير مصادر آمنة للطاقة بالنسبة لها، وهو ما حتم على حلف الناتو الانخراط بصورة أكبر سواء على المستوى الثنائي أو الجماعي مع دول الخليج، وأكد زيادة أهمية دول الخليج العربي ضمن الاستراتيجية العليا لحلف الناتو.
وبخصوص الحوار المتوسطي وهو المحور الثاني لتعامل الناتو مع منطقة الشرق الأوسط، فقد شمل هذا الحوار حلف الناتو وسبع دول من دول المنطقة المطلة على البحر المتوسط هي الجزائر ومصر وإسرائيل والأردن وموريتانيا والمغرب وتونس. واستهدف هذا الحوار منذ بدايته دعم التعاون الثنائي بين تلك الأطراف، وتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة.
وقد استهدف هذا الحوار تحقيق عدد من الأهداف الملموسة، من بينها: تعزيز الأمن والاستقرار من خلال التعاون في مجالات مختلفة مثل مكافحة الارهاب والأمن البحري، والعمل على بناء التفاهم المتبادل من خلال تبادل المعلومات الاستخبارية وتوفير فرص تدريب مشترك، فضلًا عن تقديم الحلف لمبادرات لدعم قدرات بعض هذه الدول وخاصة لمواجهة تهديدات مكافحة الإرهاب وإدارة الكوارث والتخطيط للطوارئ.
وقد اكتسب هذا المحور أهمية ولا يزال لدى حلف الناتو؛ على اعتبار أن تلك المنطقة تحمل الكثير من المخاطر على دول جنوب المتوسط الأوروبية الأعضاء في الحلف، وبصفة خاصة الهجرة غير الشرعية والتي ارتبطت بعدم الاستقرار في ليبيا بدرجة أساسية، والهجرة من منطقة الساحل إلى دول جنوب المتوسط، أو عبر ليبيا إلى الدول الأوروبية.
وكان لافتًا تبعًا لذلك حجم الاهتمام الذي يوليه حلف شمال الأطلنطي (الناتو) بالتطورات في ليبيا، وإن كان موقفة من تلك التطورات قد تأثر بعديد من العوامل، وخاصة في ظل التحالفات ومواقف القوى الإقليمية والدولية من تلك الأزمة، وحتى تباين مواقف أعضاء الحلف أنفسهم من تطوراتها؛ إلا أن الحلف قد نجح في بلورة عدد من المسارات للتعامل مع الأزمة الليبية. أول هذه المسارات هو دعم العملية السياسية في ليبيا وتعزيز الحكم وتشجيع كافة الأطراف على التعاون من أجل التوصل إلى حل سياسي شامل.
أما المسار الثاني فهو الاهتمام بمكافحة الإرهاب وتوفير الفرص لدعم الحدود الليبية سواء من خلال الدعم اللوجستي أو الاستخباري للجهود المحلية والدولية لمكافحة الإرهاب حرصًا على منع الهجرة غير الشرعية لدول الحلف. وعلى الرغم من تلك الجهود إلا أن حلف الناتو واجه تحديات متعددة في التعامل مع تطورات الأزمة الليبية؛ بسبب تعقيدات الوضع السياسي الداخلي، وتباين مواقف بعض أعضاء الحلف من التطورات الليبية وانحيازها لتحقيق مصالحها بالدرجة الأولى دون توفير أي فرص لحل الأزمة.
مستقبل التعاون بين حلف الأطلنطي ومنطقة الشرق الأوسط
تشير كافة المعطيات خاصة تحليل النسخة الأخيرة من المفهوم الاستراتيجي لحلف شمال الأطلنطي (الناتو) على أن تركيز الحلف بصورة كبيرة أصبح منصبًا على روسيا، إذ تضمنت هذه النسخة الأخيرة للمفهوم الاستراتيجي تعديلات متعددة كان من أبرزها التركيز على الأمن الذاتي لدول الحلف والتوسع في علاقات دول الجوار لأعضاء الحلف لمواجهة الخطر الرئيسي الذي تحدثت عنة الوثيقة وهو روسيا بدرجة أساسية في ظل الحرب الروسية الأوكرانية واتخاذ الترتيبات العسكرية والدفاعية التي تؤمن دول الحلف وتحاصر أي تمدد روسي، الأمر الذي وصل إلى احتمالات مواجهة مباشرة ما بين دول الحلف وروسيا.
النقطة الثانية التي تتضح من الوثيقة التي تحدد إطار ومستقبل عمل حلف شمال الأطلنطي في السنوات العشر القادمة هو أن تركيز الحلف كذلك ينصب على الصين بدرجة كبيرة، وبالتالي فإن هناك تمددًا واضحًا متوقعًا لحلف الناتو ليس فقط في منطقة الشرق الأوسط او منطقة الخليج العربي بالدرجة الأولى ولكن كذلك بدول الجوار لمنطقة الخليج أي منطقة المحيط الهندي ومناطق أخرى بقارة آسيا بصورة أساسية. الأمر الذي يعني أن هناك تصاعد للتعاون ما بين حلف الأطلنطي وكل من الهند والمجموعات والكتل التي صاغتها الولايات المتحدة الأمريكية في آسيا. وهو الأمر الذي يعني أن الحلف لم يعد اهتمامه أو نطاق عمله قاصرًا على قارة أوروبا فقط، ولكنة يمتد إلى مناطق أخرى، بحيث يكون الذراع الأساسية للاتحاد الأوروبي مع الولايات المتحدة الأمريكية للتعامل مع الأزمات الدولية.
الخلاصة
انطلاقًا من تقدير تركيز حلف الناتو خلال السنوات القادمة على توطيد علاقاته مع دول الخليج ومنطقة الشرق الأوسط بصفة عامة فإن ذلك سيفرض على الحلف إعادة صياغة علاقاته مع إيران والتي كانت تعتمد خلال السنوات الماضية على نوع من التوازن على اعتبار أن إيران تحمل سياساتها من خلال أذرعها الممتدة في المنطقة الكثير من المخاطر ليس فقط على دول المنطقة ولكن على المصالح الدولية والأوروبية والأمريكية في المنطقة، ولعل ما يقوم به الحوثي في البحر الأحمر كان دليلًا واضحًا على ذلك، وربما يسفر هذا عن موقف أكثر وضوحًا وبلورة من الحلف تجاه المخاطر والتهديدات التي تحملها السياسة الإيرانية.
كما أن التحالفات الإيرانية مع روسيا والتعاون العسكري يعني ذلك انتقال المخاطر الإيرانية إلى داخل حدود حلف شمال الأطلنطي، بما يرجح كذلك أن يكون هذا الموقف له ملامحه الأساسية في التعامل ما بين الحلف وإيران بصورة تختلف عما كان ساريًا خلال الفترة الماضية. كما أن الملف النووي الإيراني الذي يمثل مخاطر على الأمن الدولي بصورة كبيرة رغم توجهات الإدارة الأمريكية الحالية فإنه سيكون محل اعتبار من حلف شمال الأطلنطي خلال السنوات القادمة.
وبالنظر إلى التحركات الأوروبية تجاه الصين بالدرجة الأساسية ومحاولتها تفكيك التحالف المزمع ما بين الصين وروسيا وتنامي العلاقات المشهودة بين البلدين في الفترة الأخيرة ورفض الصين لتمدد حلف الأطلنطي في دول الجوار بالنسبة لروسيا، وهي أول نقطة تماس مباشرة بين السياسة الصينية وسياسة حلف الناتو؛ فمن المرجح أن تشهد الفترة القادمة مظاهر صراع أكثر وضوحًا ما بين الحلف والصين. ولعل الحضور الصيني في شرق إفريقيا والبحر الأحمر والمحيط الهندي سيمثل أيضَا نقطة تماس واضحة بين النفوذ والحضور العسكري للصين والنفوذ والحضور العسكري لحلف الناتو. ولا شك أن نجاح الصين في نسج علاقات مع دول إفريقية عدة سواء في القرن الإفريقي أو في شمال إفريقيا وهي مناطق يعتبرها حلف الناتو ذات أهمية بالنسبة لدول الحلف وأعضائه، سوف تزيد كذلك من مظاهر ذلك الصراع.
كما أنه من ناحية أخرى يمكن الإشارة إلى أن حلف شمال الأطلنطي وسياساته يمكن أن تتأثر بصورة كبيرة باحتمال عودة الإدارة الجمهورية وترامب في الولايات المتحدة ليس فقط فيما يتعلق برؤية ترامب للحلف وكيفية تمويله ومدى المساندة الأمريكية له وإنما كذلك فيما يتعلق بتباين الرؤى حول التعامل مع روسيا والصين ومناطق العالم المختلفة. الأمر الذي يعني أن مجيء ترامب للسلطة سيطرح متغيرات جديدة سيتعين على الحلف الاستعداد لمواجهتها وإمكانية أن يتحرك منفردًا في التعاون مع القوى العالمية المتصارعة معه، الأمر الذي يعني أننا سنكون أمام متغيرات جديدة ليس فقط في توجهات الحلف ولكن في التحالفات التي يمكن أن ينسجها على المستوى الدولي والإقليمي. وهو ما يثير العديد من التساؤلات: هل يمكن أن يؤدي ذلك إلى تراجع في تمدد وانتشار الحلف في دوائر إقليمية مختلفة، وهل يمكن أن يؤدي ذلك إلى مراجعة سياسات بدأ الحلف وفقًا لمفهومه الاستراتيجي الجديد ينتشر فيها، كلها علامات استفهام يمكن أن نرى إجاباتها بوضوح وفقًا للمتغيرات التي ستفرضها نتائج الانتخابات الأمريكية.