array(1) { [0]=> object(stdClass)#13837 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 200

الهيمنة تمنع تطبيق العدالة .. ويقظة الرأي العام العالمي في عالم بدأ يتغير

الإثنين، 29 تموز/يوليو 2024

ورد في كتاب "السيطرة على الإعلام" لعالم المنطق والمؤرخ والناقد "نعومي تشومسكي" ما يلي: "طالبت الحكومة اللبنانية إسرائيل تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 425 والذي يطالب بالانسحاب الفوري وغير المشروط من لبنان، والذي يعود تاريخ صدوره إلى 1978م، ومنذ ذلك الوقت كان هناك قراران متعاقبان طالبا بالانسحاب الفوري غير المشروط لإسرائيل من لبنان". بالطبع إسرائيل لا تطبق أو تحترم هذه القرارات. لأن الولايات المتحدة الأمريكية تدعمها في الوقت الذي يتعرض فيه جنوب لبنان للاحتلال". منذ 1978م، فإنه يتم غزو لبنان وتُهاجم بيروت والمدنيون يموتون والمشافي تُدمّر. اليوم في عام 2024م، يحدث الأمر ذاته في غزة، فهل من تغيير؟ وعلى الرغم من اتخاذ قرارات عادلة من قبل محكمة العدل الدولية عبر السنوات الماضية هل تكرّست العدالة عالميًا؟ بشكل عام يمكن الجزم بأن العدالة لا يمكن أن تتحقق في عالم قائم على الهيمنة، فالعدالة تناقض فكرة الهيمنة القائمة أصلًا على مبدأ القوة. وهو ما منع ويمنع التأسيس لمبادئ تردع الدول من شن حروب ضد بعضها. ومع كل ذلك فإن ما قامت به دولة جنوب إفريقيا مؤخرًا برفع دعوى تتهم فيها "إسرائيل" بارتكاب جرائم إبادة جماعية في أثناء العدوان على غزة، يعدّ بمثابة منعطف يحتّم إعادة النظر بأسس العدالة عالميًا.

يناقش هذا البحث عددًا من الأفكار منها: "القانون الدولي الإنساني وجدوى المحاكم الدولية، وأهمية ما قامت به دولة جنوب إفريقيا، تطبيق القانون، الهيمنة وقانون القوة، ودور الصين في هذا المجال.

 

القانون الدولي الإنساني وجدوى المحاكم الدولية

 

 تنطلق فكرة العدالة الدولية مما يجوز أو بالأحرى مما يجب على الدول فعله فيما يتعلق بالشعوب الأخرى. إذ غالبًا ما تقوم نظريات العدالة الدولية على الصعيد العالمي بناء على فكرة تتعلق بما يجب على دولة أن تفعله أو أن تقوم به في خارج مجالها المحلي أو خارج حدودها من أجل ضمان حق الدول الأخرى. وهو ما يستند بالأساس على فرضية ضرورة إقامة عدالة بين شعوب العالم، وبالتالي تحقيق عدالة عالمية بين الدول. عموما تعدّ محكمة العدل الدولية هي المحكمة الدولية الوحيدة التي تتولى تسوية النزاعات بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة البالغ عددها 193 دولة. وهذا يعني أنها من المفترض أن تقدم مساهمة مهمة في السلم والأمن العالميين، وتوفر وسيلة للدول لحل القضايا دون اللجوء إلى الصراع. الأمر الذي يستحق السؤال فعلًا، فكيف يمكن الحديث عن عدم اللجوء إلى الصراع في الوقت الذي يشهد فيه العالم صراعات متعددة الأنواع والأشكال والدرجات. فعالمنا ومنذ زمن يشهد صراعات سياسية واقتصادية وتجارية بعضها أفضى إلى حروب وهناك خوف من أن يفضي بعضها الآخر إلى حروب لاحقة في المستقبل. وهنا يوجد سؤال لا بد من طرحه ألا وهو مصير العدل والعدالة في ظل عالم قائم على أسس غير متوازنة، في ظل شعوب تحيا بشكل غير متكافئ، ما هي أسس العدالة القائمة في عالم اليوم، وإن نحّينا الحروب والصراعات الدامية جانبًا، والتي هي بالدرجة الأولى تُلغي أول حق من حقوق الإنسان أو أول حاجة من الحاجات الأساسية التي يجب أن يحيا في ظلها الإنسان ألا وهي الأمن والأمان، إذا نحّينا كل الصراعات الدامية وتحدّثنا عن أسس من المفترض أن يرتكز عليها العدل ألا وهي الاستقرار الاقتصادي والذي بدوره يؤمن استقرارًا اجتماعيًا، ألا يمكننا أن نسأل عن مفهوم "العدالة" السائد عمومًا بغض النظر عن المسار القضائي لحل أي نزاع أو صراع. فعلى سبيل المثال فإنّ محكمة العدل الدولية، التي صمدت أمام ضغوط كبيرة من الولايات المتحدة، أصدرت حكمًا عادلًا لجنوب إفريقيا بالدعوى القضائية ضد إسرائيل، إلا أنها عانت من صعوبات كثيرة في التنفيذ. وهو ما يحيلنا إلى نقطة أخرى ألا وهي "تسييس العدالة". أي تسييس هذا المفهوم المجرد بغض النظر عن أي مؤسسة دولية. فأين هي العدالة التي يمكن الحديث عنها في الوقت الذي يختل فيه العالم لصالح الدول المستعمِرة، وتتحطم فيه الموازين لتميل نحو من ينهب ثروات الدول ويفقرها وبالتالي يجوّع شعوبها بما يحوّل تلك الدول إلى أراض فقيرة ومنهوبة ومستغلة.

 باختصار من الصعب الحديث عن مفهوم العدالة في عالم قائم على النهب والاستعمار، فلا عدالة في ظل عالم منهوب من الدول الغنية أو المتقدمة. وهو ما يحيلنا إلى فكرة أخرى: "كيف تُخلق العدالة عبر المساواة بين غير المتساويين أصلا؟". ألا يُعد الحديث عن العدالة في هكذا عالم هو حديث وهمي حتى في ظل وجود مؤسسات تسعى إلى تطبيقها. وهو ما يعني إجمالًا أنّ علاقة العدالة بالسياسة هي علاقة هيمنة، تلك الهيمنة التي تمنع من تطبيق مفهوم العدالة بشكل واقعي، وبذلك تبقى الصراعات تتأرجح في أروقة المؤسسات الدولية منتظرة من ينفذها فيها.  

وعلى الرغم من أننا نقرأه كخبر والذي قد أصبح يمر بشكل يومي والذي هو التالي: "أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة، ارتفاع حصيلة ضحايا القصف الإسرائيلي إلى 38 ألفا و600 شهيد و89 ألفا و100 مصاب منذ السابع من أكتوبر الماضي." وفي الوقت الذي يسأل فيه كثيرون عن طريقة الحكم في غزة في فترة ما بعد الحرب، ومن سيحكم القطاع، يبرز سؤال أكثر أهمية ألا وهو كيف ستحيا عائلات الضحايا في مرحلة ما بعد الحرب، ولا يُقصد بهذا الأمر هنا فكرة الإعمار وفيما إذا كان سيوجد منزل أو خيمة تأوي أهل القطاع، بل يوجد سؤال أكثر إلحاحًا ألا وهو، كيف سيتابع أولئك الأفراد حياتهم من الناحيتين الجسدية والنفسية، وهو ما يثير فكرة أخرى وهي أن العالم الذي لا يستطيع تطبيق المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، هل يمكن أن يتحدث عن رفاهية العدالة. إذ كيف يمكن لمجموعة من السكان ولمجرد تواجدهم في تلك البقعة من الكرة الأرضية أن يتعرّضوا لكل تلك الآثار العنيفة من التعذيب الجسدي والنفسي. وهو ما يُنتج عالمًا غير عادل بالكامل.

في مقال تحت عنوان: "كيف يجب تغطية حملة الحرب على الإرهاب صحفيًا؟" ورد ما يلي: "هناك مبدأ للثقافة الفكرية، وهو رغم أنك تتقصى جرائم العدو بإفراط، فأنت لن تتقصّى جرائمك، وطالما نحن الذين نقوم بالأمر فهو لن يعد إرهابا". هي فكرة عملت الولايات المتحدة الأمريكية على تكريسها، فغزو العراق هو طبيعي (طبعا من وجهة النظر المهيمِنة) لأنه يُمثّل بحثًا عن أسلحة الدمار الشامل، وقتل الأبرياء في فلسطين اليوم هو بحث عن منظمة "حماس". وهوما يعني أنّ كل ما تقف الولايات المتحدة الأمريكية ضده هو إرهاب، وكل ما تقف معه هو عدل وعدالة، والعالم كان قائمًا على هذه الفكرة. وهو ما يعني تزييف التاريخ بأكمله، وتشكيل رأي عام عالمي قائم على حقائق مشوّهة. ولكن اليوم ما يثير الأمل هو أنه بعد كل ما أثارته الولايات المتحدة الأمريكية من شائعات وحروب عالميًا، وعلى الرغم من كل ما تحمله المرحلة الحالية من صعوبات وتحديات، إلا أنّ الرأي العام العالمي بدأ يصحو ويتشكّل من جديد، فالعالم كله بدأ يتغير. وعلى الرغم من كل ما يحصل من تسييس لكل القضايا والنزاعات التي تُحال إلى محكمة العدل الدولية، إلا أنه وفيما يتعلق بما قامت به دولة جنوب إفريقيا له أهمية كبيرة، وهو ما سنتحدث عنه في الفقرات التالية.

محكمة العدل الدولية والسياسة

بالعودة إلى فكرة المحكمة الدولية، على الرغم من أن جميع القضاة تم انتخابهم من قبل الجمعية العامة ومجلس الأمن للأمم المتحدة ويمارسون وظائفهم بشكل مستقل، ولا يمثلون حكوماتهم وهم قضاة مستقلون، ولكن في دراسة إحصائية أجرتها كلية القانون في جامعة "شيكاغو" أظهرت النتائج ما يلي: هناك دليل قوي على أن القضاة يفضلون الدول التي تُعيّنهم وأنهم يفضلون أيضًا الدول التي يقترب مستوى ثروتها من مستوى ولاياتهم. وأدلة أضعف على أن القضاة يفضلون الدول التي يكون نظامها السياسي مماثل لنظام دولهم. وأنه وبشكل أضعف فإن القضاة يفضلون الدول التي تشبه ثقافتها (اللغة والدين) ثقافة دولهم. بينما هناك أدلة ضعيفة أو معدومة على أن القضاة يتأثرون بالتحالفات الإقليمية والعسكرية. ولكن وبعيدًا عن الحديث عن القضاة بحد ذاتهم، كي لا نقتطع الحدث من سياقه العام، وبطريقة أكثر اتساعًا يمكن توجيه السؤال التالي: على الرغم من سعي محكمة العدل الدولية إلى النظر في القضايا المحالة إليها بشكل عادل، إلا أنه كيف يمكن تفسير ما يحدث من حروب في مختلف أنحاء العالم؟ يرى بعض الخبراء ممن يعملون في المجال القضائي أن مجلس الأمن يفرض سيطرته بطريقة أو بأخرى على المحكمة، هذا بالإضافة إلى أنه وحتى في حال صدور حكم من محكمة العدل الدولية فإنّ المشكلة الأساسية في عدم وجود آلية تنفيذ ملزمة للحكم. وهو ما يؤدي إلى تداخل في السلطتين السياسية والقضائية على الصعيد العالمي.

 قانونيًا ووفقًا لما جاء في البحث التالي: "تسييس النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ودوره في تقويض فعاليتها" والذي نُشر في مجلة: "الحقيقة" المحكمة علميا، فإنه يوجد بعض المواد القانونية التي يمكن النظر فيها على سبيل المثال:

نص المادة 12 إذ جاء فيه: "فيما يخص الشروط المسبقة لممارسة المحكمة لاختصاصها والتي تتمثل بضرورة أن تكون الدولة طرفًا في النظام الأساسي. أما إذا لم تكن طرفًا فيتعين عليها أن تعلن قبولها اختصاص المحكمة وهو ما من شأنه أن يقوّض المحكمة ويحد من فاعليتها إذ يجعل ممارسة اختصاصها رهنا بإرادة الدول".

نص المادة 16 الذي أعطى صلاحيات كبيرة لمجلس الأمن من أجل التدخل في اختصاص المحكمة وطلب وإرجاء التحقيق أو المقاضاة إذ نصت على أنه: "لا يجوز البدء أو المضي في التحقيق أو المقاضاة بموجب هذا النظام لمدة 12 شهرًا بناء على طلب من مجلس الأمن إلى المحكمة بهذا المعنى يتضمنه قرار يصدر عن المجلس بموجب الفصل السابع ويجوز للمجلس تجديد هذا الطلب بالشروط ذاتها. "أما ما هو "التسييس" الفعلي الوارد في تلك الفقرة، فإن ما يتضمنه هذا النص يجسد "التسييس" الفعلي للمحكمة الجنائية الدولية حيث يصبح في هذه الحالة من حق مجلس الأمن تأجيل النظر في الدعوة وإعادة تجديد الطلب لمرات غير محدودة، وذلك اعتراضًا على نشاط المحكمة سواء عند البدء في التحقيق أو المحاكمة أو استمرار في مباشرة التحقيق والذي يحتاج إلى إجماع من الأعضاء الدائمين فيه. وهو ما يعني تبعية هيئة قضائية جنائية لولاية هيئة سياسية. وقد تم تبرير السلطة الممنوحة لمجلس الأمن بأنه لا يستخدم صلاحياته إلا بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهو ما يعني أن هذه الصلاحية لا تعتبر تدخلًا في مجريات العدالة.

وقد توصل البحث إلى الاستنتاج التالي: "إنّ سلطة الأمن بخصوص المحكمة الجنائية الدولية وكذلك السلطة المتاحة للمجلس في إيقاف التحقيق، يهز ثقة الدول في المحكمة الجنائية الدولية". هذا بالإضافة إلى "واقع التدخلات السياسية من قبل الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن". وهو ما يعني أن التعامل بالمعايير المزدوجة التي يمارسها مجلس الأمن تحول دون تطبيق النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية مثلما يحصل في فلسطين مثلًا. فتاريخيًا وفي عام 2004م، أصدرت محكمة العدل الدولية رأيًا استشاريًا أعلنت فيه أن الجدار العازل الذي بنته إسرائيل في الضفة الغربية المحتلة ينتهك القانون الدولي، ودعت إلى هدمه. وتجاهلت إسرائيل هذا القرار.

عمليًا وفيما يتعلق بالأحدث الأخيرة في قطاع غزة أي بعد 7 أكتوبر، فعلى الرغم من أن إسرائيل من الدول الموقعة على اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، التي تمنح محكمة العدل الدولية الاختصاص القضائي للفصل فيها. إلا أنه وحتى اللحظة لم يحدث أي تغيير في مجرى العدالة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وإبادة الشعب الفلسطيني من قبل إسرائيل لم يزل مستمرًا حتى اليوم، وذلك على الرغم من أنّ محكمة العدل الدولية أصدرت أحكامًا ضد إسرائيل في الماضي، إلا أنها فعلت ذلك من خلال ما يُسمّى بـ "آراء استشارية" غير ملزمة تطلبها هيئات الأمم المتحدة مثل الجمعية العامة. وهذه هي المرة الأولى التي تتم فيها مقاضاة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية فيما يعرف باسم "القضية الخلافية"، حيث ترفع الدول قضايا مباشرة ضد بعضها البعض. وهو مالم يُحدِث أيضًا التغير المأمول على أرض الواقع بسبب الهيمنة الغربية. ولكن وعلى الرغم من كل ما سبق لا يمكن إلا القول إن لهذا التحرك أهمية كبيرة، إن هذه هي المرة الأولى التي تتم فيها محاكمة "إسرائيل" بموجب اتفاقية الأمم المتحدة للإبادة الجماعية.

تطبيق القانون: غزة مثال الأمس واليوم

قد يقول البعض، وماذا بعد أن قررت المحكمة الدولية إنهاء الحرب، ماذا حصل بعدها؟ هل انتهت الحرب؟ هل وجدت آلية ملزمة لإيقاف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. ولهذا الأمر جانبان اثنان: الأول هو أنه وعلى الرغم من أن الحرب لم تنته حتى اليوم، إلا أن فكرة اللجوء إلى المحكمة الدولية ضد "إسرائيل" أو فكرة لجوء جنوب إفريقيا إلى إقامة هذه الدعوة ضد "إسرائيل" هي بحد ذاتها خطوة مهمة، ولها رمزيتها لا سيما وأن دولة جنوب إفريقيا عانت من الاستعمار كثيرا في تاريخها. ولكن عمليا وبعد هذا التاريخ الطويل الذي شهده العالم من الاستعمار على مدى قرون من الطبيعي ألا يحدث تنفيذ الحكم الصادر بحق دول ترتكب إبادة ضد شعب أعزل. وهو ما يعني أنه من الطبيعي أنه وبعد تلك الحرب قد يحصل فقط إعادة توزيع القوات الإسرائيلية في رفح، وإدخال بعض المساعدات، بحكم أن العالم لا يستطيع التخلّص من سيطرة الهيمنة بشكل مفاجئ، ومن آثار المهيمِن بشكل فوري. ولكن وعلى الرغم من كل ذلك فـإنها تبقى كبارقة أمل، عسى أن الأفضل قد يكون قادم فعلًا، خاصة في ظل التغير العالمي الحاصل إذ بدأت الكثير من الدول، وتحديدًا في إفريقيا تنتفض في وجه المستعمرين، وهو ما يعني أن العالم قد بدأ يتغيّر فعلًا ليس فقط على الصعيد السياسي وتكون عالم متعدد الأقطاب وإنما على صعيد تكون مفاهيم جديدة، تعطي أملا للشعوب المضطهدة.

ماذا يمكن أن تقدم الصين في هذا المجال

عبر التاريخ عملت الصين على ترسيخ مبادئ التعايش السلمي، فالصين دولة كبيرة وتتألف من 56 قومية وجميعها تعيش بسلام وتناغم، وهو ما لا يمكن أن يتماشى مع هذا النمط من الدمار الذي تنهار فيه دول كي تستفيد دول أخرى أو النظام الذي كان ولم يزل سائدا والذي تنهب فيه الدول الكبرى الدول الضعيفة. فمع أن الصين لم تستعمر دولة أخرى، إلا أنها أصبحت ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وتملك أكبر احتياطي نقدي عالمي، وأول الشركاء التجاريين للعديد من الدول في العالم، وذلك كلّه حصل وفقا لمبدأ التنمية السلمية أو الصعود السلمي. وانطلاقًا من الفلسفة الصينية التي تقوم أساسا على تحقيق الرخاء في الداخل، ومن ثم الانطلاق نحو الخارج لتحقيق الرخاء والاستقرار عالميًا، وهو ما تجلّى عبر طرح مفهوم "مجتمع المستقبل المشترك" و"المستقبل الصيني العربي المشترك"، فإن الصين غالبا ما تُشجع على إقامة السلام، ففي عالم اليوم وفي ظل التغيرات القائمة لم يعد يوجد في هذا العالم دولة واحدة أو مجموعة من الدول بل بات يوجد مصير مشترك يجمع كل الدول بدءًا من الدول الفقيرة الضعيفة وصولًا إلى الدول الغنية.  إن السعي الصيني للسلام-وهو سعي عملي جُسد ويُجسّد بعدة تحركات ملموسة على أرض الواقع، يهدف إلى استقرار الدول حول العالم لإنشاء منظومة كاملة من العمل المشترك يربح فيها الجميع سويًا. وكما ورد في الكتاب الأبيض الصادر عام 2023م، فإن "بناء مجتمع المستقبل المشترك للبشرية هو رؤية مفيدة وعملية تاريخية تتطلب عملًا جادًا جيلًا بعد جيل" وهو ما يعني أنه على جميع البلدان أن تتضامن وتسعى إلى النفع المشترك العام، والقيام بالتخطيط معا، والتحرك معا يوما بعد يوم في الاتجاه الصحيح لبناء مجتمع المستقبل المشترك للبشرية، وخلق مستقبل أفضل للبشرية جمعاء."

 

وكتحركات فعلية على الصعيد العالمي دعا منتدى التعاون الصيني العربي الذي أقيم في العاصمة الصينية "بكين" منذ قرابة الشهرين بمناسبة الذكرى العشرين لمنتدى التعاون الصيني العربي إلى وقف إطلاق النار وإلى تسوية القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين، وكذلك أكد على أهمية وقف الحرب ومعارضة التهجير القسري. وأعرب البيان المشترك للمنتدى "عن القلق العميق لدى الصين والدول العربية إزاء الصراع الذي طال أمده في غزة، والذي أدى إلى أزمة إنسانية".

وكانت الصين قدمت في عام 2013م، مبادرة لحل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي من أربع نقاط، ثم جددتها في عام 2017م، وجوهرها هو ضرورة الدفع بثبات بالحل السياسي الذي يفرض سلامًا شاملًا دائمًا في منطقة الشرق الأوسط. وفي عام 2023م، أصدرت وزارة الخارجية الصينية ورقة توضح موقف الصين بشأن تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. إذ تم التأكيد فيها على ضرورة وقف إطلاق النار وإنهاء القتال بشكل فوري وضمان سلامة وانسيابية ممرات الإغاثة الإنسانية وتجنب توسع رقعة الصراع، وتنفيذ "حل الدولتين" كمخرج أساسي، وبلورة توافقات دولية للدفع بمفاوضات السلام، وإيجاد حل شامل وعادل ودائم للقضية الفلسطينية في وقت مبكر. كما لفتت الورقة إلى ضرورة تحمل مجلس الأمن الدولي، المسؤولية الأولى للحفاظ على السلم والأمن الدوليين وفقًا لميثاق الأمم المتحدة.

كما دعت الصين إلى عقد مؤتمر دولي للسلام على نطاق واسع وبشفافية كبيرة، بما يفعّل العمل تحت رعاية وتنظيم الأمم المتحدة، وذلك من أجل وضع جدول زمني وخارطة طريق محددة حول تنفيذ "حل الدولتين"، بما يدفع بإيجاد حل شامل وعادل ودائم للقضية الفلسطينية. كما أكدت على ضرورة أن يتم احترام إرادة الشعب الفلسطيني وخياره المستقل. فالرؤية الصينية تتجسد في أن الأمن أساس التنمية، وثمار التنمية لا يمكن أن تجنى في ظل انتشار الحروب والنزاعات. وكما قال وزير الخارجية الصيني "وانغ يي": " إن إحلال السلام يكون بتحقيق العدالة للفلسطينيين وحلّ الهموم الأمنية لكل الأطراف".

خاتمة

قد يكون الطريق نحو إقامة عدالة عالمية طويل وشاق، إلا أن الأمر قد بدأ فعلًا، ولو بشكل بسيط، فما قامت به جنوب إفريقيا هو استكمال للتغيرات التي تحدث في عموم دول العالم اليوم. وما يحدث في العالم اليوم من تغيرات سياسية لا بد من أن يصل إلى مسارات أخرى والتي قد تكون العدالة من أهمها. وهو ما يضع المزيد من المسؤوليات على الدول الكبرى في العالم من أجل العمل على إقامة سلام وعدالة عالميين. أخيرًا كما قال الرئيس الصيني شي جينبينغ: "يدرك الشعب الصيني مدى قيمة السلام، مستعدًا للعمل مع المجتمع الدولي سويًا على وضع مستقبل البشرية ورفاهية الشعوب في عين الاعتبار، والدفع بإقامة مجتمع المستقبل المشترك للبشرية وبناء عالم أجمل"، وهو ما يعكس موقف الصين الفعلي تجاه معظم القضايا العالمية، بما فيها ما يتعلق بالعدالة الدولية.

مقالات لنفس الكاتب