أثار أمر محكمة العدل الدولية بشأن التدابير المؤقتة في قضية تطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة والمعاقبة عليها (جنوب إفريقيا ضد إسرائيل) الكثير من الاهتمام،
في هذه الدراسة المقتضبة، نحلل تحليلًا نقديًا المسار الذي اتبعته المحكمة مما أدى إلى إصدار تدابيرها المؤقتة، ونحاول قدر الطاقة الاهتمام بمسائل قانونية يندر تناولها في الأدبيات القانونية العربية، مثل ماهية التدابير التحفظية المؤقتة، وشروط إصدارها، ومسؤولية تنفيذها، والأسس القانونية للأمر بالتدابير المؤقتة، ومعقولية الحقوق التي يطالب بها أطراف النزاع القانوني أمام المحكمة.
كانت جنوب إفريقيا في 29 ديسمبر 2023م، رفعت دعوى ضد دولة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بشأن انتهاكات مزعومة لاتفاقية الأمم المتحدة لمنع والعقاب على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية عام 1948م، وطلبت جنوب إفريقيا تسعة تدابير مؤقتة في إيداعها للدعوى في المحكمة، وأصدرت المحكمة أمرها بشأن التدابير المؤقتة في 26 يناير2024م، أي بعد أقل من أسبوعين من جلسات الاستماع -وهو ما قد يكون مؤشرًا على إلحاح الوضع -ثم أضافت المزيد من الإجراءات المؤقتة في مارس 2024م، بسبب تدهور الوضع الإنساني هناك.
كانت المحكمة أصدرت ستة تدابير مؤقتة يمكن تلخيصها على النحو التالي: التزام إسرائيل بمنع ارتكاب الإبادة الجماعية، وضمان عدم ارتكاب جيشها للإبادة الجماعية، ومنع التحريض على الإبادة الجماعية والمعاقبة عليه، والسماح بتقديم المساعدة الإنسانية، ومنع تدمير الأدلة وضمان الحفاظ عليها وإبلاغ المحكمة بتنفيذ التدابير.
ولم يبرز الحكم الأولي للمحكمة بتاريخ 26 مارس 2024م، خطورة الاتهامات التي وجهتها المحكمة ضد إسرائيل وحسب، بل أكد أيضاً على ضرورة تدخل المجتمع الدولي في الحالات التي يبدو فيها خطر الإبادة الجماعية وشيكاً.
وجاءت هذه الأوامر في أعقاب قرار جنوب إفريقيا الشجاع ببدء إجراءات قانونية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية في ديسمبر 2024م، بعد أكثر من شهرين من القصف الإسرائيلي المتواصل لقطاع غزة.
وقد نبعت هذه الخطوة الهامة التي اتخذتها دولة جنوب إفريقيا تأسيسا على قرائن وأدلة قدمتها جنوب إفريقيا للمحكمة، بأن تصرفات إسرائيل في غزة، بدءاً من الثامن من أكتوبر2023م، وامتدت إلى السياق الأوسع لاحتلالها طويل الأمد للأراضي الفلسطينية، ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لمنع والعقاب على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية عام 1948م.
لذلك ستتناول هذه الدراسة النقاط الرئيسية التالية:
أولاً: تعريف التدابير التحفظية المؤقتة وأهميتها في القانون الدولي.
ثانياً: شروط إصدار التدابير التحفظية.
ثالثاً: تنفيذ التدابير التحفظية.
رابعاً: الأسس القانونية للأمر بالتدابير المؤقتة.
- الكلمات المفتاحية: اتفاقية الإبادة الجماعية، غزة، الفلسطينيون، إسرائيل، جنوب إفريقيا، تدابير مؤقتة، المعقولية، محكمة العدل الدولية، الضرر الذي لا يمكن إصلاحه.
أولاً: تعريف التدابير التحفظية المؤقتة وأهميتها في القانون الدولي
في سياق محكمة العدل الدولية، فإن التدابير المؤقتة هي في الأساس أوامر مؤقتة تصدرها المحكمة للحفاظ على حقوق الدول المتنازعة في الدعوى القضائية أمام المحكمة، النزاع أثناء نظر القضية الرئيسية. وتهدف هذه التدابير إلى منع تفاقم الوضع، وحفظ حقوق الدولة المدعية طالبة هذه التدابير بالأساس، ويعد طلب الأمر بوقف الفعل المنتهك للقانون الدولي مثل حالة الإبادة الجماعية في دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل مثالًا صارخًا في هذا الصدد، كما يمثل التزام أي من أطراف النزاع أمام المحكمة باتخاذ خطوات معينة لمنع وقوع ضرر جسيم نمطًا آخرًا من أنماط الأوامر التي تأمر بها المحكمة.
أهمية التدابير التحفظية
تلعب التدابير التحفظية دورًا مهمًا في إطار النزاعات الدولية، حيث تُستخدم لمنع وقوع ضرر جسيم ولا يمكن إصلاحه قبل صدور حكم نهائي من قبل المحكمة الدولية، وتُلزم أوامر المحكمة الدولية الدول باحترام هذه التدابير والامتثال لها.
ثانياً: شروط إصدار التدابير التحفظية
- الخشية من وقوع ضرر جسيم لا يمكن تعويضه:
يشمل الضرر الجسيم الذي لا يمكن تعويضه أي ضرر يصعب أو يستحيل إصلاحه بمجرد وقوعه، وقد يكون ذلك الضرر بيئيًا أو ثقافيًا أو اقتصاديًا أو بشريًا.
تُعدّ الخشية من وقوع ضرر جسيم لا يمكن تعويضه أحد أهم العوامل التي تدفع الدول إلى طلب التدابير التحفظية من المحكمة الدولية، لذلك يعد الاستعجال عنصرًا أساسيًا في التدابير المؤقتة، فهو من حيث معناه الموضوعي شرط لا غنى عنه لمنحه، ومن حيث المعنى الإجرائي فإنه يعني طريقة سريعة لمعالجة الطلب من جانب المحكمة.
بالنظر إلى تيقن المحكمة من "الخشية من وقوع ضرر جسيم يحيق بالفلسطينيين في قطاع غزة جراء ارتكاب إسرائيلي جريمة الإبادة بحقهم، وأن ذلك الضرر الجسيم لا يمكن تعويضه لاحقًا، قامت المحكمة بعد أسبوعين من تقديم جنوب إفريقيا طلبها بإصدار الأوامر الستة باتخاذ التدابير التحفظية لحماية الفلسطينيين في قطاع غزة".
تقييم احتمال وقوع الضرر وجسامته
تلعب عملية تقييم احتمال وقوع الضرر وجسامته دورًا محوريًا في تحديد ما إذا كانت المحكمة الدولية ستمنح التدابير التحفظية أم لا، وتعتمد المحكمة الدولية على مجموعة من المعايير لتقييم ذلك، تشمل:
- خطورة الضرر:
- تُقيّم المحكمة مدى خطورة الضرر المحتمل وتأثيره على الحقوق والمصالح المعنية، وتأخذ بعين الاعتبار نوع الضرر، مثل الضرر البيئي أو الاقتصادي أو الإنساني، وتخلص في النهاية إلى تقييمها الموضوعي لخطورة ذلك الضرر.
- جسامة الضرر:
- تُقيّم المحكمة مدى خطورة الضرر وتأثيره على الحقوق والمصالح المعنية، كما تقوم المحكمة بتقييم معياري لاحتمالية تسبب ذلك الضرر في آثار طويلة الأمد على الأفراد أو المجتمع.
ثالثاً: تنفيذ التدابير التحفظية
التزام الدول باحترام قرارات المحكمة الدولية
ينص ميثاق الأمم المتحدة على وجوب احترام قرارات محكمة العدل الدولية من قبل جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة (المادة 94). كما تنص العديد من المعاهدات الدولية الأخرى على التزام الدول باحترام قرارات المحكمة.
آليات تنفيذ التدابير التحفظية
تتبع محكمة العدل الدولية آليات مختلفة لتنفيذ قراراتها المتعلقة بالتدابير التحفظية، منها:
- طلب الامتثال الطوعي: توجه المحكمة طلبًا إلى الدولة المعنية للامتثال لقرار التدابير التحفظية بشكل طوعي.
- طلب الامتثال عن طريق مجلس الأمن: إذا لم تمتثل الدولة طوعيًا، يمكن للمحكمة إحالة الأمر إلى مجلس الأمن الذي قد يصدر قرارًا ملزمًا بفرض جزاءات على الدولة (المادة 94 من ميثاق الأمم المتحدة).
رابعاً: الأسس القانونية للأمر بالتدابير المؤقتة
وفقًا للاجتهاد القضائي يجب استيفاء الشروط التالية لكي تصدر المحكمة تدابير مؤقتة:
- أن يكون لها اختصاص ظاهر الوجاهة؛
- أن الحقوق المطلوب حمايتها معقولة وكذلك الصلة بين هذه الحقوق والتدابير المطلوبة؛
- أن هناك ضرر جسيم وإلحاح لا يمكن إصلاحه.
الاختصاص الظاهر الوجاهة
سعت جنوب إفريقيا إلى تأكيد اختصاص المحكمة استنادًا إلى المادة التاسعة من اتفاقية الإبادة الجماعية، والتي تتطلب وجود نزاع بين الأطراف فيما يتعلق بتفسير الاتفاقية أو تطبيقها أو الوفاء بها، وقد أقرت المحكمة مسألة وجود النزاع مستأنسة بالأدلة التي قدمتها للمحكمة الدولة المدعية جنوب إفريقيا .
في هذه القضية وبغية إثبات وجود وجهات نظر متعارضة ورد فعل الطرفين، استندت المحكمة إلى وثيقة نشرتها وزارة الخارجية الإسرائيلية في ديسمبر تنكر فيها الاتهامات العامة بالإبادة الجماعية، وإلى إعلان جنوب إفريقيا في الجمعية العامة في 12 ديسمبر 2024م، الذي تتهم فيه إسرائيل بالعمل ضد التزاماتها وفقًا لاتفاقية الإبادة الجماعية.
واعتمدت المحكمة وجهة نظر عملية لأنه لتحديد وجود نزاع، فإنها تحتاج إلى مجرد مظهر واحد من كلا الطرفين في محافل مختلفة لاستنتاج وجهات نظر متعارضة.
ومع ذلك، واستمرارا للولاية القضائية الظاهرة الوجاهة، أوضحت المحكمة كذلك أنه بالإضافة إلى وجود نزاع، من الضروري التأكد من أن الأفعال أو الإغفالات التي يدعيها مقدم الطلب يمكن أن تدخل في نطاق اتفاقية الإبادة الجماعية من حيث الموضوع، ولم يكن ذلك صعبًا على المحكمة.
الحقوق الملتمس حمايتها والمعقولية
وفقا للمحكمة-لكي تمارس سلطتها-يجب أن تكون مقتنعة بأن الحقوق التي يؤكدها الطرف الذي يطلب هذه التدابير معقولة على الأقل، وقد أدخلت المحكمة صراحة شرط "المعقولية" لأول مرة في قضية بلجيكا ضد السنغال، وأشير إليها في أوامر لاحقة بشأن التدابير المؤقتة.
ومنذ ذلك الحين، لم تسهم الإشارات إلى شرط المعقولية في أوامر المحكمة على الإطلاق في توضيح المعايير. وعلاوة على ذلك، لا يزال هناك بعض الالتباس بشأن درجة مرونة المعقولية، وما إذا كانت معقولية المطالبة أو مجرد الحقوق هي التي يتعين تقييمها.
في ذات السياق، كان عنصر القصد أيضًا جزءًا من تحليل المعقولية الذي أجرته المحكمة في قضية أوكرانيا ضد روسيا بشأن تطبيق قضية الاتفاقية الدولية المعنية بمكافحة الإرهاب واتفاقية القضاء على التمييز العنصري.
وشرط النية هذا المطبق على حالة الإبادة الجماعية يرفع عتبة المعقولية، لأن المحكمة تطلب أدلة من أجل إثبات معقولية النية، وتنتقل من معقولية الحقوق إلى معقولية المطالبة؛ مما يجعل الأمر أكثر صعوبة.
أكدت المحكمة من خلال التدابير التحفظية الأولى ضد إسرائيل التي أمرت بها في 26 يناير 2024: "تتألف الحقوق الواجب حمايتها من حق الفلسطينيين في غزة في الحماية من أعمال الإبادة الجماعية، والأعمال المحظورة ذات الصلة المذكورة في المادة الثالثة، وحق جنوب إفريقيا في التماس امتثال إسرائيل لالتزاماتها الدولية بموجب الاتفاقية وفي هذه القضية، رأت المحكمة أن من الضروري الإشارة صراحة إلى شرط النية فيما يتعلق بارتكاب الإبادة الجماعية".
تُشير المحكمة أولاً إلى الإحصائيات الرسمية المتوافرة لديها قبل إصدارها الأمر الأول بهذه التدابير في 26 يناير 2024م، حيث أشارت المحكمة إلى أن "25700 فلسطيني قد قتلوا، وتم الإبلاغ عن أكثر من 63000 جريح، وذلك حين أشارت إلى القصد الخاص المتطلب لارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة.
أشارت المحكمة إلى ضرورة أن يكون القصد تدمير جزء كبير على الأقل من المجموعة المعينة. وهذا ما تقتضيه طبيعة جريمة الإبادة الجماعية ذاتها، فبما أن هدف الاتفاقية ككل وغرضها هو منع التدمير المتعمد للجماعات، يجب أن يكون الجزء المستهدف كبيرًا بما يكفي ليكون له تأثير على الجماعة ككل، كما أشارت المحكمة إلى تدمير أكثر من 360,000 وحدة سكنية أو تضررت جزئيًا ونزح حوالي 1.7 مليون شخص داخليًا، وبَديهي أن إدراج هذه الأرقام في أمر المحكمة له تأثير قوي على مصداقية الأسس التي استندت عليها المحكمة في تقرير أمرها المتقدم.
أيضا أشارت المحكمة إلى التصريحات المتطرفة التي أدلى بها المسؤولون الإسرائيليون الذين يسعون إلى تصوير أنفسهم على أنهم حكومة قوية ستحمي مواطنيها وتنتقم لمذبحة حماس، وكما ذكر أعلاه، فإن هذه البيانات هي التي دعمت في نهاية المطاف تقييم المحكمة للمعقولية.
استنتجت المحكمة أن كل هذه التصريحات تتضمن خطاب الإبادة الجماعية الذي أكده 37 مقررًا خاصًا وخبيرًا مستقلًا وأعضاء في مجموعات العمل التابعة للإجراءات الخاصة لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة .
أخيرًا، خلصت المحكمة إلى أن شرط وجود صلة بين التدابير المطلوبة والحقوق المراد حمايتها قد استوفي، دون مواصلة النظر في وجود تلك الصلة.
ضرر كبير لا يمكن إصلاحه وإلحاح
في حالة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية- ونظرًا لطبيعة الحقوق التي يتعين حمايتها- فإن مسألة الضرر الذي لا يمكن إصلاحه لا تثير مشاكل كثيرة. وتؤكد المحكمة أن اتفاقية الإبادة الجماعية "اُعتمِدت بشكل واضح لغرض إنساني وحضاري بحت"، وبالنظر إلى "المبادئ الأساسية والقيم التي تحميها اتفاقية الإبادة الجماعية"، فإن المساس بالحقوق التي يسعى إليها مقدم الطلب سيكون له ضرر لا يمكن إصلاحه.
أما فيما يتعلق بالاستعجال، فقد أثبتت المحكمة أن هناك حاجة ملحة عندما يكون هناك "خطر حقيقي ووشيك"، وعندما "يمكن أن يحدث الضرر الذي لا يمكن إصلاحه "في أي لحظة" قبل القرار النهائي، وفي هذا الصدد، تذكر المحكمة أن سكان غزة ضعفاء للغاية، وتشير مرة أخرى إلى البيانات المروعة عن الوفيات، والدمار والتشريد، وإلى ما يمكن اعتباره دليلا حاسماً: بيان رئيس الوزراء في يناير 2024م، الذي أعلن فيه أن العملية العسكرية ستستغرق "شهورًا أطول".
ومع كل هذه العناصر، خلصت المحكمة عن حق إلى أن هناك أزمة إنسانية في غزة -أزمة كارثية- وأن الحالة يمكن أن تتدهور أكثر .
وقد أعلنت المحكمة دائماً أن التدابير المؤقتة التي يتعين إصدارها لا يلزم أن تكون مطابقة للتدابير المطلوبة، لكنها لم تفسر أبداً أسباب عدم اعتماد بعض التدابير أو تعديلها، والتي كانت في هذه الحالة أكثر تطلباً.
ومن ناحية أخرى- وكما ذكرنا- فإن التدابير المؤقتة التي طلبتها جنوب إفريقيا كانت مماثلة أيضاً للتدابير التي طلبتها غامبيا، إذ تقوم دولة إسرائيل وفقًا لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، بالشعب الفلسطيني كمجموعة تحميها اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، والكف عن ارتكاب أي وجميع الأفعال التي تدخل في نطاق المادة الثانية من الاتفاقية.
وفي القضية قيد النظر، قررت المحكمة أن "تذكّر" بأن الأفعال المحظورة بموجب المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية هي تلك التي "ارتكبت بنية تدمير مجموعة في حد ذاتها كليًا أو جزئيًا"، وهي إضافة جديدة إلى صيغة غامبيا ضد ميانمار.
يبقي السؤال الأهم، وهو ما إذا كانت المحكمة لديها القدرة والمعرفة لتحديد التدابير العسكرية المناسبة اللازمة للدولة لحماية نفسها في مثل هذا الوقت القصير. ويجب أن نتذكر أن هذا الإجراء هو إجراء مؤقت، وليس الدخول في الأسس الموضوعية التي تتطلب تحليلًا عميقًا. وقد يكون هذا سببًا آخر لاعتماد المحكمة مثل هذا التدبير غير الفعال لحماية الفلسطينيين في غزة.
وإضافة إلى هذه التدابير، قدمت المحكمة أيضًا تدابير أخرى طلبتها جنوب إفريقيا مثل الالتزام بمنع التحريض على الإبادة الجماعية والمعاقبة عليه، وهو تدبير يمكن أن يكون تدبيرًا فعالاً حقاً: "ستتخذ إسرائيل تدابير فورية وفعالة للتمكين من توفير الخدمات الأساسية والمساعدة الإنسانية التي تمس الحاجة إليها لمعالجة ظروف الحياة المعاكسة التي يواجهها الفلسطينيون في قطاع غزة".
وفي هذه الحالة، أشارت جنوب إفريقيا على وجه التحديد إلى بعض الاحتياجات الأساسية التي ينبغي السماح لسكان غزة بالحصول عليها، مثل الوقود، والمأوى، والملابس، والنظافة، والصرف الصحي والإمدادات الطبية.
الالتزامات الدائمة والالتزامات تجاه الكافة
يستند موقف جنوب إفريقيا في رفع الدعوى أمام الالتزامات تجاه الكافة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية ولم تطعن فيه إسرائيل، وقد أوضحت المحكمة ذلك بالفعل في قضية غامبيا ضد ميانمار أنه يجوز لأي دولة طرف في اتفاقية الإبادة الجماعية أن تحتج بمسؤولية دولة طرف أخرى، على الرغم من عدم تأثرها بشكل خاص، كما تدعي ميانمار.
وخلصت المحكمة إلى استنتاجات في قضية غامبيا ضد ميانمار فيما يتعلق بالقيم المشتركة للاتفاقية، التي تستتبع أن "الالتزامات المعنية بموجب الاتفاقية هي التزامات تقع على عاتق كافة الدول الأعضاء في الاتفاقية تجاه الكافة".
إن حقيقة أن هذه الممارسة قد تم تبنيها من قبل الكثرة الغالبة من الدول قد تكون علامة على أنها ستكون طويلة الأمد أو مثمرة بمرور الوقت.
التحدي الإسرائيلي لتدابير المحكمة
واصلت إسرائيل عملياتها العسكرية متجاهلةً الأمرين اللذين أصدرتهما محكمة العدل الدولية. وأدى ذلك إلى صدور الأمر الأخير في مايو 2024م، والذي يؤكد من جديد التزام إسرائيل بتنفيذ التدابير المؤقتة السابقة "بشكل فوري وفعال".
على الرغم من الإجراء الحاسم الذي اتخذته محكمة العدل الدولية، فإن الوضع على الأرض بعد الحكم يرسم صورة قاتمة للامتثال، وبعد دقائق قليلة من صدور الأمر، شنت القوات الإسرائيلية قصفاً مكثفاً على رفح، مما يدل على التجاهل الصارخ لولايات المحكمة.
تثير الأعمال العسكرية المتكررة بعد أحكام محكمة العدل الدولية تساؤلات حاسمة حول فعالية القانون الدولي والآليات المتاحة له لإنفاذ أحكامه. وعلى الرغم من أن محكمة العدل الدولية كيان محترم قادر على الفصل في المسائل ذات الأهمية البالغة، إلا أنها تفتقر إلى صلاحيات التنفيذ المباشرة، وهذا القيد يعيق بشكل كبير قدرتها على منع استمرار الأعمال التي تعتبرها مخالفة للقانون الدولي.
إن التحدي المستمر من جانب إسرائيل يسلط الضوء أيضًا على التحديات التي يواجهها المجتمع الدولي في معالجة وكبح تصرفات الدول التي تنتهك الأعراف الدولية، خاصة عندما تكون تلك الدول مدعومة بدعم جيوسياسي كبير. إن مبدأ erga omnes الالتزامات تجاه الكافة ، على الرغم من نيته النبيلة لحماية القيم العالمية، يواجه عقبات كبيرة في الممارسة العملية، حيث تزن الدول مصالحها الدبلوماسية والاستراتيجية في مقابل التزاماتها القانونية والأخلاقية.
خاتمة
إن قضية جنوب إفريقيا ضد إسرائيل ليست مجرد معركة قانونية، فهي بمثابة اختبار حقيقي لقدرة النظام القانوني الدولي على دعم العدالة وحقوق الإنسان عبر الحدود الوطنية والتحالفات السياسية.
وبالتطلع إلى المستقبل، يتعين على المجتمع الدولي ومحكمة العدل الدولية أن يدرسا السبل الكفيلة بتعزيز إنفاذ توجيهاتهما، وسواء كان ذلك من خلال آليات أكثر قوة داخل منظومة الأمم المتحدة، أو زيادة الضغوط الدبلوماسية، أو العقوبات الاقتصادية، فإن الحاجة إلى أدوات قابلة للتنفيذ لضمان الامتثال للقانون الدولي لم تكن أكثر وضوحًا من أي وقت مضى، ومع ذلك فإن فعالية هذه التدابير ستعتمد إلى حد كبير على الإرادة الجماعية للمجتمع الدولي لإعطاء الأولوية لحقوق الإنسان والعدالة على المصالح السياسية والنفعية.