يُعتبر البحر المتوسط من أهم المواقع الجيوستراتيجية في العالم، ويضم دولاً من قارات ثلاث. بدأ هذا البحر يُثير الاهتمام بعد أن تبين أنه يحتوي على النفط والغاز. إلا أن استغلال هذه الموارد يقتضي مسبقاً "تحديد المناطق البحرية" التابعة للدول الساحلية، وفقاً "للقانون الدولي للبحار"، الذي يُعدُّ جزءًا من "القانون الدولي العام"، ويشمل الصكوك القانونية الدولية المعنية بمواضيع البحار والمحيطات، وأهمها "اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982"، التي تتضمن 320 مادة وتسعة ملاحق.
تكمن أهمية هذه الاتفاقية، بأنها خصصت للدول الساحلية مناطق بحرية خاصة بها، وأكدت على أن جميع هذه المناطق بحاجة إلى تحديد، انطلاقاً من خطوط الأساس في الدول الساحلية.
عند تطبيق البنود المعنية بتحديد المناطق البحرية من هذه الاتفاقية، وبالأخص تلك المعنية بـ"المنطقة الاقتصادية الخالصة" و"الجرف القاري" وبالجزر"، تبين أن بعضها يتضمن أحكام غامضة، يمكن عزوها لكون اتفاقية عام 1982م، "إطارية"، ولأنها نتجت عن تسويات تم التوصل إليها بين الدول، للتوفيق بين مصالحها المتضاربة.
تسببت هذه الأحكام الغامضة، بحدوث نوعين من النزاعات البحريّة. الأوّلى، تتعلّق بـ"ترسيم الحدود بين المناطق البحريّة للدول الساحلية"، علماً أنّ عملية "ترسيم الحدود" -وفق محكمة العدل الدولية-"تنطوي على تحديد حدود منطقة ما تتواجد بالفعل تخصّ الدول الساحليّة، وليس تحديد لهذه المنطقة من جديد". أما الثانية، فتتعلّق بـ"استحقاقات المناطق البحريّة". لذلك، ثارت خلافات حول المناطق البحرية بين دول حوض شرق البحر المتوسط، بعد اكتشاف ما يقارب من (107) مليارات برميل من النفط الخام و(122) ترليون متر مكعب من الغاز الطبيعي في باطن شرق المتوسط.
سنحاول فيما يلي عرض أبرز الأحكام الغامضة في اتفاقية عام 1982م، حول تعيين حدود المناطق الاقتصادية الخالصة والجرف القاري والجزر، وتأثيرها على تركيا واليونان، إذ تسببت لها بنزاعات متعددة، تعتبر الأكثر تعقيداً في الفترة الراهنة في شرق المتوسط.
أولاً) المنطقة الاقتصادية "الخالصة" والجرف القاري
- تعريفهما
يُطلق على المنطقة الاقتصادية "الخالصة"Exclusive Economic Zone مسميات عدة، منها المنطقة الاقتصادية "الحصرية". وهي من نتاج اتفاقية عام 1982م.
كذلك، يُعرف الجرف القاري Continental Shelf، بمسميات أخرى، منها "الرف" القاري.
فيما يلي مقارنة بين المنطقتين.
جدول (1): مقارنة بين المنطقة الاقتصادية الخالصة والجرف القاري
الرقم |
المنطقة |
التعريف |
العرض |
الحقوق |
1 |
المنطقة الاقتصادية الخالصة |
هي مساحة من مياه البحر تقع خلف المياه الإقليمية والمتاخمة للدولة الساحلية |
لا يزيد عرضها عن 200 ميل بحري، تُقاس ابتداء من خط الأساس للدولة الساحلية. وفي حالة الدول المتقابلة والمتلاصقة يكون تحديد هذه المنطقة بالاتفاق، باعتماد خط الوسط بينها. |
للدولة الساحلية فيها حقوق سيادية لاستكشاف واستغلال الموارد الطبيعية الحية وغير الحية، ولا يجوز للغير أن يتشارك فيه معها، إلا بعد الموافقة الصريحة من الدولة الساحلية. |
2 |
الجرف القاري |
هو الامتداد الطبيعي لليابسة داخل البحار والمحيطات، وهو بالنسبة لأي دولة ساحلية قاع وباطن أرض المساحات المغمورة التي تمتد إلى ما وراء البحر الإقليمي. |
يمتد عرض الجرف القاري إلى مسافة 200 ميل بحري من خطوط الأساس التي يُقاس منها عرض البحر الإقليمي، وإذا كانت الحافة القارية للدولة الساحلية تمتد إلى أبعد من 200 ميل بحري، يكون عرض الجرف القاري في هذه الحالة بـ 350 ميلاً بحرياً.
|
للدولة الساحلية حقوق سيادية حصرية على جرفها القاري، تتمثل بممارسة سيادتها لأغراض الحفر والاستكشاف والاستغلال للموارد الطبيعية غير الحية كالنفط والغاز والمعادن، ويكون هذا الحق خالصاً للدولة الساحلية، ولا يجوز لأحد أن يقوم بهذه الأنشطة دون موافقة صريحة منها. |
المصدر: من إعداد الكاتب
تجدر الإشارة إلى أن ابتكار اتفاقية عام 1982م، للمنطقة الاقتصادية الخالصة، قلل كثيراً من أهمية الجرف القاري، لسببين: الأول، لأن المنطقة الاقتصادية التي تمتد إلى مسافة مئتي ميل بحري من خط الأساس تستطيع احتواء الجرف القاري، والثاني، لأن الدولة الساحلية تتمتع في المنطقة الاقتصادية بحقوق مشابهة نوعاً ما لحقوقها في الجرف القاري إذا لم يتجاوز امتداد الجرف القاري مسافة مئتي ميل بحري، أما إذا تجاوز امتداد الجرف القاري هذه المسافة إلى ما لا يتعدى 350 ميلاً بحرياً، يُطبق حينها النظام القانوني الخاص بالجرف القاري.
الشكل رقم (1) صورة مقطعية تبين المنطقة الاقتصادية والجرف القاري وإمكانية مده
Source: https://cdn1.byjus.com/wp-content/uploads/2019/12/EEZ-700x299.jpg
- الأحكام الغامضة حول المنطقة الاقتصادية والجرف القاري
ثمة أحكام في اتفاقية عام 1982م، لم يتم إيضاحها حول هاتين المنطقتين، من بينها:
- حددت هذه الاتفاقية "هدف ترسيم حدود المناطق البحرية للدول الساحلية"، وهو "للتوصل إلى حل منصف"، لكنها لم تُشر إلى "الطريقة" التي ينبغي تطبيقها لتحقيق هذا الهدف. لذلك، تستخدم المحاكم الدولية:
- طريقة "النهج الثلاثي المراحل" القائم على "تساوي المسافات/الظروف ذات الصلة" لتيسير تعيين الحدود بطريقة عادلة.
- طريقة "الزاوية المنصفة" في الحالات التي لا يمكن فيها تطبيق "النهج الثلاثي" آنف الذكر.
- أَثَّرَ ابتكار المنطقة الاقتصادية في اتفاقية عام 1982م، تمشياً مع الجرف القاري، في حدود 200 ميل، و"المنطقة الدولية لقاع البحار(المنطقة) “International Seabed Area (The Area) تمشياً مع الحدود الخارجية للجرف القاري الذي قد يتجاوز 200 ميلاً بحرياً، على طريقة فهم نظام الجرف القاري، فيما يتعلق بسبب وجوده. كما أوجدت إجراءات التمديد للجرف القاري تمايزاً داخل نظام قانوني واحد، بين رفين مختلفين، أحدهما داخل الـ 200 ميل بحري، والآخر يتجاوز الـ 200 ميل بحري.
- أدى وجود تعريف للجرف القاري في "اتفاقية جنيف للجرف القاري لعام 1958م"، وتعريف جديد له ممتد في اتفاقية عام 1982م، إلى صعوبة صياغة تعريف محدد للجرف القاري، خاصة مع ندرة الدراسات والأبحاث التي أُجريت بشأن "الجرف القاري الممتد".
- حَفّزَّ ظهور الحقوق الخاصة بموارد "المنطقة"، التي نصت عليها اتفاقية عام 1982م، مطالبة المستثمرين توفير المزيد من الدقة والاستقرار في تعيين الحدود البحرية، بين: "الجرف القاري في المسافة التي يمتد فيها إلى ما يزيد عن 200 ميل بحري" التي تؤول خيراتها للدولة الساحلية، و"المنطقة" التي لها نظام دولي خاص، للحفاظ على حقوقهم الاستثمارية وعدم تسببهم بتعديات على الحقوق الخاصة بالغير.
- أَثَر الأحكام الغامضة على تركيا واليونان
تكمن أهمية ترسيم حدود المناطق البحرية للدول الساحلية، بأنها تُقلل من احتمالية حدوث النزاعات بينها، وتعمل على تعزيز الإدارة المستدامة وحوكمة المحيطات، امتثالاً للقول المعروف بأن "الأسوار الجيدة تجعل الجيران طيبين". غير أن الأحكام الغامضة -أنفة الذكر-لها تداعياتها على ترسيم الحدود البحرية، ويكون أثرها أكبر عندما تكون استحقاقات الدول الساحلية في المناطق الاقتصادية الخالصة أو الجرف القاري، متداخلة، إذ يترتب عليها عواقب وخيمة، منها:
- نشوب نزاعات حول المناطق الاقتصادية
للدلالة عليها، نُذَكِّر بأنه منذ عام 1974م، تم تقسيم قبرص بين "جمهورية قبرص" المعترف بها دولياً، و"جمهورية شمال قبرص التركية" التي لم تعترف بها سوى أنقرة. أدى ذلك إلى:
- تكريس حق جمهورية شمال قبرص بامتلاك مياه إقليمية ومنطقة اقتصادية خالصة، تكون تحت السيطرة التركية.
- وعدم اعتراف تركيا بجمهورية قبرص اليونانية، ولا بالاتفاقيات التي وقعتها مع (إسرائيل عام 2010م) ومع (مصر عام 2013م) لتحديد مناطقها الاقتصادية الخالصة، لأن تلك المناطق – من وجهة النظر التركية-تتداخل مع المناطق التي تود تركيا أن تكون ضمن حدودها الاقتصادية.
يوضح هذا الخلاف، التباين بين دول شرق المتوسط في تفسير وتطبيق نصوص اتفاقية عام 1982م، فتركيا، مثلاً، لم تصادق على هذه الاتفاقية، لذلك تتبع سياسات بحرية مختلفة وتقدم مطالبات متباينة بشأن حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة الخاصة بها، مع أنها ملُزمة قانوناً بما ورد في اتفاقية عام 1982م-وفق ما أعلنته محكمة العدل الدولية-بأن "مصادقة ما يزيد عن 168 دولة على اتفاقية عام 1982م، يدل على أنها تحظى بتأييد دولي واسع، وأنها ذات طابع إلزامي للدول كافة".
لم تكتفِ تركيا بعدم الالتزام باتفاقية عام 1982م، وحسب، بل انتقدت اليونان لسعيها للالتزام بتطبيق هذه الاتفاقية، إذ نتج عن ذلك زيادة مساحة المياه اليونانية الإقليمية في بحر إيجة، فأصبحت 12 ميلاً بحرياً، بعد أن كانت 6 أميال فقط، وتقلصت مساحة المياه الدولية، وأصبح بحر إيجه-بحسب رؤية تركيا-"بحراً يونانياً".
أثّرَّ هذا التباين في الالتزام بـ"اتفاقية عام 1982" على كيفية إدارة المناطق البحرية بين تركيا واليونان، وساهم في تأجيج النزاعات بينها. إذ أرسلت تركيا سفنًا للتنقيب في المناطق التي تعتبرها جزءاً من منطقتها الاقتصادية الخالصة، واحتفظت بعشرات الآلاف من الجنود في شمال الجزيرة القبرصية. ما أثار ردود فعل جمهورية قبرص اليونانية والاتحاد الأوروبي، الذي سعى لتخفيف التوتر وحل النزاع، القائم لغاية الآن.
- نزاعات حول الجرف القاري
كما أسلفنا، هناك تضارب في الأسس القانونية المعنية بتحديد الجرف القاري بين التعريف الجديد في اتفاقية عام 1982م، والأحكام المتبقية من اتفاقية جنيف للجرف القاري لعام 1958م، نتج عنه خلافات متعددة الأبعاد حول الجرف القاري الواقع بين تركيا واليونان، تتعلق بالحقوق البحرية والسيادة على الموارد الطبيعية في الجرف القاري لكل منهما، وبات هذا الجرف يشكل جزءاً أساسياً من النزاعات الإقليمية في شرق المتوسط، التي باتت على نوعين:
- نزاعات جغرافية: نتيجة تداخل الحدود البحرية بين تركيا واليونان في مناطق بحر إيجة وشرق البحر المتوسط، واختلاف التقديرات بين الدولتين حول مدى امتداد الجرف القاري، نشبت نزاعات بين الدولتين حول حدود الجرف لكل منهما، خاصة بعد أن وقعّت تركيا بتاريخ 27/11/2019م، مع ليبيا مذكرة تفاهم استندت فيها إلى "اتفاقية الجرف القاري لعام 1958" التي يُعتمد فيها على ترسيم حدود الجرف القاري للدول على أساس يابسة الدول دون اعتبار للجزر التابعة لها. بموجب هذه المذكرة، زادت مساحة الجرف القاري لتركيا في البحر المتوسط حوالي 30%. رداً على هذه المذكرة، وقّعَت اليونان اتفاق ترسيم حدود مع مصر في 6/8/2020م، لحماية مناطقها البحرية.
- نزاع حول الجزر: ثمة جزر صغيرة وصخور في بحر إيجة، لا زالت محل نزاع بين تركيا واليونان، أبرزهما جزيرتي "كاستيلوريزو" و"أغاثونيسي". تسعى كل دولة إلى المطالبة بجزء من الجرف القاري بناءً على سيادتها على تلك الجزر. غير أن بعض تلك الجزر صغيرة جداً أو غير قابلة للسكنى، وبالتالي لا يكون لها مناطق بحرية – وفق اتفاقية عام 1982م – كما سنرى لاحقًا. ما أدى إلى تعقيد الأمور بين الدولتين، حول حقوق كل منهما في استكشاف واستغلال موارد الطاقة الموجدة في الجرف القاري لتلك الجزر.
ثانياً) الجـــزر
- تعريف الجزر
لم يتم الاهتمام بالجزر دولياً، إلا بعد استحداث مفهوم المنطقة الاقتصادية وتمديد حدود الجرف القاري اللذين تم إدخالهما في اتفاقية عام 1982م.
عرّفت هذه الاتفاقية "الجزيرة" في المادة (121/1) بأنها "رقعة من الأرض متكونة طبيعياً، ومحاطة بالماء، وتعلو عليه في حالة المد". ونصت أيضاً على أن للجزر بحر إقليمي ومنطقة متاخمة ومنطقة اقتصادية خالصة وجرف القاري يتم تحديدهم وفقاً لأحكام هذه الاتفاقية المنطبقة على الأقاليم البرية الأخرى. لذلك، تُعد الجزر عامل مهم في تحديد المناطق البحرية الخاصة بالدولة الساحلية.
- الأحكام الغامضة حول الجزر
من بين القضايا التي تثير الكثير من النقاش في اتفاقية عام 1982م، المسائل المتعلقة بالجزر. حيث تتداخل في بعض الحالات، مناطق الجرف القاري أو المناطق الاقتصادية للدول الساحلية، بسبب الجزر الصغيرة، وتتسبب بنشوب نزاعات إقليمية. يعود ذلك لغموض في تفسير المادة (121) من اتفاقية عام 1982م، وهي بعنوان "نظام الجزر"، حيث نصت الفقرة (3) منها على أن "ليس للصخور التي لا تهيئ استمرار السكنى البشرية أو استمرار حياة اقتصادية خاصة بها، منطقة اقتصادية خالصة أو جرف قاري". تكمن المشكلة في هذا النص بأنه:
- ينطوي على إمكانية الحد من نطاق المناطق البحرية للدول الساحلية، وبالتالي يكون له أثر على تعيين المناطق البحرية بين الدول المتجاورة. لذلك، يتم التذرع به دوماً لحرمان أي جزيرة من ترسيم حدود بحرية لها.
- بأنه أثار عدداً من المسائل المعقدة المتعلقة بالتفسير، من بينها، التساؤل حول الحجم الذي يؤدي إلى تصنيف الجزيرة كصخرة، وما يؤهلها "للسكن البشري" أو "الحياة الاقتصادية". اجتذبت هذه التساؤلات اهتمام العلماء، وأتاحت لهم إمعان النظر في التعقيدات التي ينطوي عليها هذا النص. نجم عن ذلك اعتراف باستحالة تفسير المادة (121/3) بصورة موثوقة على أساس النصوص القانونية الموجودة في الاتفاقية، وخلصت إحدى المناقشات القانونية حول حُكم مَعنِي بالصخور، إلى أن ممارسة الدول والسوابق القضائية يمكن أن توضح المادة (121/3). غير أن هذه الممارسات والسوابق نادراً ما تمكنت من تقديم توضيح وافي لهذه المادة.
يتضح لنا مما تقدم، أن وضع الجزر لا يزال من النصوص الملتبسة في اتفاقية عام 1982م. لذلك، لا عجب أن أصبح تفسير المادة (121) مطروحاً في المنازعات التي تتعلق بالحدود الخارجية للمنطقة الاقتصادية الخالصة والجرف القاري، بين الدول المتجاورة أو المتقابلة. من الأمثلة على هذه النزاعات، جزر بحر إيجة التي تُعدّ جوهر المشكلة بين تركيا واليونان.
- أثر الأحكام الغامضة على وضع الجزر بين تركيا واليونان
سيطرت اليونان على الجزء الأكبر من جزر بحر إيجة بعد أن خسرت تركيا الجزء الأكبر منها بعد الحرب العالمية الأولى بموجب معاهدتي سيفر 1920م، ولوزان 1923م، وبموجب معاهدة باريس 1947م، بعد الحرب العالمية الثانية. لذلك، كان من بين الأهداف المركزية للسياسة البحرية التركية استعادة السيطرة على مجموعات جزر بحر إيجة الثلاثة المحاذية للبر التركي، ومما زاد من رغبة تركيا باسترجاع هذه الجزر، قيام اليونان بعسكرة وتسليح 18 جزيرة من أصل 23 جزيرة تم وضعها تحت سيادتها، بالرغم من وجود نصوص في معاهدتي لوزان وباريس، تشترط أن تبقى هذه الجزر "منزوعة السلاح وحظر أي نشاط عسكري فيها".
نتيجة لما تقدم، وقعّت تركيا مذكرة تفاهم مع ليبيا، كما أسلفنا، لتوفير أساس سياسي وقانوني لمحاولتها التوسعية في شرق المتوسط، ولحماية حقوقها البحرية، خاصة نشاطات سفنها التي تقوم بالحفر في باطن المتوسط. نجم عن هذه المذكرة، إعادة الجزر للسيادة التركية، على اعتبار حدود اليونان البحرية الاقتصادية مقصورة على ساحل البر اليوناني الرئيس، وليس على أساس مجال عشرات الجزر اليونانية الصغيرة شرق المتوسط ومدخل بحر إيجة، أي على عدم إعطاء أي تأثير لجزيرة "كاستيلوريزو"، وعدم إعطاء تأثير كامل لجزيرة "كريت"، في ترسيم الحدود، وأصبحت المدن الساحلية التركية متقابلة مع المدن الساحلية الليبية. والأخطر، أن المذكرة سمحت بترسيم الجرف القاري بين تركيا وليبيا وفق مبدأ خط الوسط.
رفضت اليونان هذه المذكرة كونها تؤثر في حقوقها المكتسبة في ضوء معاهدة لوزان، ولأنها تخسر بموجبها جزءاً من منطقتها الاقتصادية الخالصة لصالح تركيا، إذ جعلت (100) ألف كم2 تحت السيادة التركية، ولأن المذكرة أكدت على أن تركيا لا تعترف بوجود جزيرة كريت اليونانية التي تفصل بين الساحلين التركي والليبي. وطلبت اليونان فوراً من الأمم المتحدة إدانة الاتفاق التركي / الليبي، معتبرة أنه يزعزع السلام والاستقرار في المنطقة. غير أن هذه المذكرة أصبحت وثيقة دولية لتوقيعها بين حكومتين، وإيداعها لدى الأمم المتحدة.
رداً على المذكرة بين تركيا وليبيا، وقعّت كل من اليونان وقبرص وإسرائيل في 2/1/2020م، اتفاقية مشروع بناء خط أنابيب تحت البحر لتقل الغاز الطبيعي من الحقول البحرية في شرق المتوسط إلى أوروبا، ليقلل من اعتماد الاتحاد الأوروبي على الغاز الروسي. أثار هذا الاتفاق غضب تركيا التي لديها أصلاً توتراً في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن الأثر السلبي للصراع حول الحدود البحرية بين تركيا واليونان، على مساعي تركيا في الانضمام للاتحاد الأوروبي، وساهمته في ضغط اليونان على الاتحاد بعدم قبول عضوية تركيا.
الشكل (2): المناطق البحرية المتنازع عليها في شرق المتوسط ومشروع خط الأنابيب تحت البحر
Source: https://www.icwa.in/show_content.php?lang=1&level=3&ls_id=5410&lid=3827
بموازاة ذلك، بدأت في عام 2023م، محاولات دولية حثيثة لتأمين التقارب اليوناني / التركي. وبالفعل، انخرط البلدان العضوان في حلف شمال الأطلسي (الناتو) في مباحثات حول بناء الثقة ومناقشة ملفات عدة، من أهمها قضية السيادة الإقليمية على بحر إيجة. إلا أن تركيا علّقت في9/4/2024م، على "اعتزام اليونان إنشاء حديقتين بحريتين إحداهما في بحر إيجة"، بأن القانون الدولي للبحار يُشجع على التعاون، وبأنها مستعدة للتعاون مع اليونان في هذا البحر، ولفتت إلى أن تركيا لن تقبل حالات الأمر الواقع التي قد توجدها اليونان على التشكيلات الجغرافية المتنازع عليها. ما يدل على أن مواقف الجانبين لا زالت متباينة بشأن حقوقهما السيادية والحدود والمناطق البحرية الواقعة بينهما.
نخلص مما تقدم، إلى أن ترسيم حدود المناطق البحرية للدول الساحلية في البحر الأبيض المتوسط، بالاستناد إلى اتفاقية عام 1982م، التي يتسم بعض أحكامها بالغموض، كان له تداعيات على الأمن الجماعي والإقليمي في شرق المتوسط، لا سيما في ظل وجود تحديات، أبرزها: النزاع على جزيرة قبرص، ترسيم الحدود البحرية بين اليونان وتركيا، والصراع بينهما بعد اكتشاف الغاز في باطن البحر المتوسط. علماً أن ترسيم المناطق البحرية يُنذر بنزاعات أكثر حدة مستقبلاً في المناطق التي يزعم كل طرف أنها تقع ضمن جرفه القاري أو منطقته الاقتصادية الخالصة، فضلاً عن أن أنشطة التنقيب يمكن أن تضيف بعداً بيئياً للنزاعات، وسيكون لها تأثيرات سلبية على دول المتوسط، التي تعيش زمناً، تأثير المفاجآت فيه أقوى بكثير من الحسابات.
لذلك، نوصي المشرّع الدولي بإعادة النظر بالأحكام الملتبسة في اتفاقية عام 1982م، التي ساهمت بحدوث تلك النزاعات، لتجنب المزيد منها في المستقبل. مع دعوتنا للاعتماد على ما تضمنته هذه الاتفاقية من نظام فريد للتسوية السلمية للنزاعات، لمعالجة ما يتعلق منها بالبحار الدولية.