تعد الدول العربية من أكثر دول العالم محدودية في مواردها المائية، حيث فرضت الاعتبارات الجغرافية على هذه الدول واقعاً معقداً، حيث تنبع الأنهار الرئيسية التي تغذي عدداً من الدول العربية من دول الجوار غير العربية. وعلى الرغم من التفاوتات البارزة من حيث الموقع والقدرة ومعدلات التنمية الاقتصادية، كشفت سياسات دول منابع الأنهار في الجوار العربي عن عدد من مظاهر التشابه والتي تأتي جميعها من محاولة كل دولة الاستئثار بأكبر قدر ممكن من الموارد المائية دون تسويات توافقية مع دول الممر والمصب، الأمر الذي جاء خصماً مباشراً من الإيراد المائي للدول العربية.
وتسعى الورقة لاستكشاف هذه الظاهرة انطلاقاً من رصد مؤشرات أزمة الشح المائي في الدول العربية، ثم معالجة أربع حالات مختلفة تتمثل في السياسة المائية التركية تجاه نهري دجلة والفرات، والسياسة المائية الإيرانية تجاه روافد نهر دجلة، ثم السياسة المائية الإثيوبية تجاه النيل الأزرق، والسياسة المائية الإثيوبية تجاه نهري جوبا وشبيلي. وتقدم الورقة أخيراً تصوراً لعدد من المسارات المستقبلية من أجل تقليل حجم تضرر الدول العربية وتعزيز قدرتها على التصدي لمشكلات الندرة المتزايدة في المياه.
أولاً: أزمة الشح المائي في الدول العربية: اتجاهات ومؤشرات
في عام 2023م، أصدرت مجموعة البنك الدولي تقريرها عن "اقتصاديات شح المياه في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا". وكشف التقرير الذي جاء على قدر كبير من الشمول والتفصيل عن عدد من المؤشرات الخطرة لأزمة شح المياه في الدول العربية في الوقت الراهن، والتي تعد نتاجاً لمسار من التراجع المطرد تعرضت له دول المنطقة منذ عقود. وفي ظل التقديرات التي تشير إلى استمرار معدلات النمو السكاني في الدول العربية دون تغيرات ملموسة في العقود الثلاثة المقبلة، ينتظر أن يتجاوز عدد سكان المنطقة 700 مليون نسمة بحلول عام 2050، وفي ظل محدودية موارد المياه المتاحة في المنطقة ينتظر أن ينعكس هذ الوضع بالتناقص المستمر في حصة الفرد من المياه الذي يتصور أن يدخل في فئة الشح المطلق للمياه في عام 2030 م، وذلك بأن يقل نصيب الفرد سنوياً عن 500 متر مكعب من المياه.
ومع استمرار معاناة الدول العربية من مشكلة الاعتماد على أنهار عابرة للحدود تقع منابعها خارج الدائرة العربية، يتصور أن تلجأ المزيد من دول المنطقة لخيارات بديلة صعبة لتوفير المياه وعلى رأسها خيار التوسع في إنشاء محطات تحلية المياه، والتي يقدر الطلب عليها في عام 2050 بنحو 25 مليار متر مكعب إضافية سنوياً. وعلى الرغم مما يحمله هذا الحل من تعقيدات خاصة على المستويين التمويلي والتقني، تظل الحلول البديلة عصية على التطبيق السريع، فعلى سبيل المثال تم رصد ارتفاع كبير في معدلات استنفاد المياه الجوفية في العديد من دول المنطقة بما يقلل من فرص الاعتماد عليها مستقبلاً. كذلك، وعلى الرغم من الاحتياج الكبير للتشدد في تطبيق الإجراءات الضامنة لكفاءة استهلاك المياه والحد من الفاقد، يشير التقدم البطيء المحرز في هذا المجال إلى صعوبة التعويل عليه كبديل رئيسي.
كذلك، كشفت التطورات عن ظهور خطر مباشر يتهدد القطاع الزراعي في الدول العربية، حيث تصل نسبة المياه المخصصة للزراعة في الدول العربية إلى 83% في المتوسط، بينما يبلغ المتوسط العالمي 70% فقط، وهو ما يرجع إلى الطبيعة القاحلة للمنطقة. وفي الوقت الذي تضم فيه أربعة دول هي مصر والعراق وسوريا والمغرب النسبة الأكبر من سكان الريف في الدول العربية، تقع هذه الدول في فئة الشح المطلق للمياه، وهو ما من شأنه أن ينعكس بعدد من الانعكاسات السلبية في المستقبل على هذه الدول من خلال تراجع قدرتها على تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء اعتماداً على الزراعة المحلية، ورفع تكلفة استيراد المزيد من السلع الغذائية.
ووفق التقرير الذي أصدره معهد الموارد الدولي فإن المنطقة العربية تضم ست عشرة دولة من بين الدول الخمس وعشرين الأكثر معاناة من الضغوط المتصلة بندرة الموارد المائية، حيث احتلت خمس دول عربية المراكز الأولى في التعرض لهذه الضغوط وهي على الترتيب البحرين والكويت ولبنان وعمان وقطر، كما قدرت نسبة السكان المعرضين لمخاطر الضغوط المائية بنحو 83% وهي النسبة الأعلى عالمياً، حيث جاءت دول جنوب آسيا في المرتبة الثانية بنسبة لم تتجاوز 74%. وتدفع الضغوط المائية دول المنطقة العربية لاستهلاك أكثر من 80% من إيرادها السنوي من المياه المتجددة في أغراض الزراعة والصناعة والاستخدامات المحلية. هذا بجانب ما تم رصده من معاناة العديد من دول المنطقة من مخاطر الجفاف الموسمي قصير الأمد.
ثانياً: نماذج للسياسات المائية لدول المنابع غير العربية
تعددت النماذج التي كشفت عن طبيعة السياسات المائية لدول المنابع غير العربية في الجوار العربي القريب، وهو الأمر الذي لم يكشف عن فوارق جوهرية بين دول المنابع في الدائرة الآسيوية، ودول المنابع في الدائرة الإفريقية. حيث مارست دول المنابع سياسات كشفت عن توجه عام بالتعامل مع المجاري المائية العابرة للحدود من منطق السيادة من دون أي اعتبار للحقوق الأصيلة والمكتسبة لدول الممر والمصب.
- سياسة تركيا بشأن نهري دجلة والفرات
تمثل مساحة الحوض المائي لنهري دجلة والفرات داخل الأراضي التركية نحو 12% فقط من المساحة الإجمالية، لكن في المقابل تعد تركيا كدولة منبع للنهرين مصدراً لأكثر من 50% من إيرادهما المائي السنوي. وقد بدأت تركيا منذ ستينيات القرن العشرين في سياسة تشييد السدود الكبرى من دون التوصل لاتفاقات نهائية تنظم تقاسم المياه مع سوريا والعراق، وذلك بداية من سد كيبان الذي بدأ بناؤه عام 1966م، واستمر حتى افتتاحه عام 1975م، والذي تبلغ سعته التخزينية الإجمالية نحو 30 مليار متر مكعب من المياه.
وفي عام 1977م، اكتملت مخططات مشروع جنوب شرق الأناضول الذي تضمن بناء 22 سداً على نهري دجلة والفرات والذي دخل في طوره التنفيذي في عام 1986م، ومنذ ذلك التاريخ تعاقب افتتاح السدود التركية على النهرين بداية من سد كاراكايا عام 1987م، وحتى سد إليسو عام 2018م، وعلى الرغم من تباين السعة التخزينية لمجموعة السدود التركية والتي يعد سد أتاتورك أكبرها بسعة تخزينية تبلغ نحو 48 مليار متر مكعب، إلا أن الخطر الذي تعرضت له تدفقات نهري دجلة والفرات للعراق وسوريا لم يقتصر على حجز المياه. وإنما جاءت السياسات التركية للتوسع في الزراعة للرفع من معدلات استهلاكها من مياه النهرين بمستوى طفري، حيث تشير الخطة الرئيسية المعتمدة إلى استهداف زراعة 446 ألف هكتار في حوض نهر الفرات، و351 ألف هكتار في حوض نهر دجلة.
وترجع محاولات العراق وسوريا التوصل مع تركيا إلى حلول تفاوضية بشأن تقاسم المياه إلى وقت مبكر نسبياً، فقد سبق أن قبلت الحكومات التركية المتعاقبة طوعاً على الدخول في ترتيبات توافقية بداية من البروتوكول رقم 1 من اتفاقية الصداقة وحسن الجوار بين العراق وتركيا لعام 1946م، وما تضمنه من نص يلزم تركيا باطلاع العراق علماً بكافة المنشآت المائية على نهري دجلة والفرات. كما أطلقت المفاوضات العراقية التركية في عام 1965م، بمناسبة شروع تركيا في تشييد سد كيبان، إلا أن الجانب التركي قد استخدم مجموعة من التكتيكات التي كان الغرض الرئيسي منها كسب الوقت وفرض الأمر الواقع، التي تؤكد تمسك تركيا بمنطق السيادة على المياه النابعة من الأراضي التركية. هذا بجانب بروتوكول التعاون الاقتصادي والفني بين العراق وتركيا لعام 1971م، الذي يلزم الدولتين بالمسارعة بمناقشة قضية إدارة المياه المشتركة على أن يتم البدء بالفرات أولاً، وهو ما سعت تركيا للالتفاف عليه عبر طرح المقترح الإشكالي بدمج حوضي دجلة والفرات في حوض واحد
- سياسة إيران بشأن روافد نهر دجلة
تقدر نسبة الموارد المائية الواردة إلى العراق من إيران بما يبلغ نحو 35% من إجمالي الإيراد المائي السنوي للعراق، وهو ما يأتي نتيجة تعدد هذه المصادر، والتي تتمثل في روافد نهر دجلة النابعة من الأراضي الإيرانية، وهي الروافد التي تمتد بامتداد الإقليم العراقي من نهر الزاب الأسفل في الشمال وصولاً إلى نهر كارون الذي يصب في شط العرب في أقصى الجنوب، هذا بجانب العديد من الأنهار الموسمية والجداول التي تغذي المناطق الشرقية من العراق. حيث تقدر الأنهار الكبيرة والصغيرة النابعة من إيران والتي تصب في العراق بنحو 40 مجرى مائي. لكن السياسة الإيرانية منذ تسعينيات القرن العشرين تبنت توجهاً بمحاولة حجز أكبر كمية من المياه داخل الإقليم الإيراني عبر تغيير مجاري الأنهار، وإنشاء عدد كبير من السدود الصغيرة.
فعلى سبيل المثال، شيدت إيران 12 سداً صغيراً على رافد سيروان المغذي لنهر ديالى بين عامي 2011 2019م، كما قامت بتشييد خمسة سدود على نهر الكرخة بين عامي 2011 م، و2017م. وفي عام 2012 م، شيدت إيران سد جوتفاند على نهر كارون والذي حرم الجنوب العراقي من نسبة مؤثرة من المياه العذبة. هذه السياسة الإيرانية أدت إلى نشوب أزمة بين البلدين عام 2011م، بعد أن أبلغت إيران اللجنة الفنية المكلفة بترسيم الحدود العراقية / الإيرانية بأن إيران سوف تغلق كافة الأنهار المتجهة للعراق للتصدي لأزمة الجفاف الموسمي الحادة، وهو ما طال أنهار الكرخة والكارون والوند. وفي عام 2021م، أعلن وزير الموارد المائية العراقي عن تكرار قيام إيران بتحويل مجاري الأنهار وهو ما بلغ مستوى متقدم بالنسبة لنهر كارون الذي حولت إيران مجراه من مصبه الطبيعي في شط العرب، إلى منطقة بهمنشير بالداخل الإيراني. كما امتدت هذه الممارسات لتؤثر على الشمال العراقي حيث انحسر إيراد نهر الزاب الأسفل ما أدى لانخفاض حاد بمنسوب المياه في خزان سد دوكان، كما انحسر إيراد نهر ديالى ما أسفر عن تراجع منسوب المياه في خزان نهر دربنديخان والذي شهد انخفاضاً بنسبة 70% مقارنة بالعام السابق. وفي عام 2024م، أعلنت وزارة الموارد المائية العراقية قيام إيران بقطع 4 روافد مغذية لنهر دجلة، إلى جانب القيام بتغيير عدد من الأنهار الصغيرة المغذية لنهر ديالى.
- السياسات الإثيوبية تجاه النيل الأزرق
منذ ستينيات القرن العشرين بدأت إثيوبيا في التفكير الفعلي في السيطرة على النيل الأزرق الذي ينبع من بحيرة تانا ليتجه جنوباً ثم غرباً باتجاه السودان ومنها إلى مصر، وذلك على الرغم من القيد القانوني الذي فرضه اتفاق 1902م، الذي وقعه الإمبراطور الإثيوبي منليك الثاني مع السلطات البريطانية الذي يقضي بامتناع إثيوبيا عن إنشاء أي مانع مائي يؤثر على تدفقاته تجاه المصب. وفي أبريل من عام 2011م، دخلت الطموحات الإثيوبية حيز التنفيذ بعد أن قام رئيس الوزراء الأسبق ميليس زيناوي بوضع حجر الأساس لسد النهضة الواقع في إقليم بني شنقول-جوموز بالقرب من الحدود مع السودان. واللافت أن السد بصورته الحالية يخالف ما سبق وأن طرحته إثيوبيا من قبل من إنشاء سد لتوليد الكهرباء بسعة تخزينية لا تتجاوز 14 مليار متر مكعب، في الوقت الذي تم فيه تشييد سد النهضة بسعة تخزينية تبلغ نحو 74 مليار متر مكعب بعد تعديل التصميم ليشمل المشروع سدين متكاملين أحدهما خرساني والآخر ركامي.
وقد بدأت محاولات معالجة التناقضات بين مواقف إثيوبيا من جانب ومصر والسودان من جانب آخر في وقت مبكر، بداية من سبتمبر 2011م، لكن التعنت الإثيوبي أعاق التوصل لتسوية ناجحة. ولتجاوز التعثر في المسار التفاوضي، وقع رؤساء الدول الثلاث في العاصمة السودانية الخرطوم إعلان مبادئ في مارس 2015م، لضمان حقوق الأطراف المختلفة بالاتساق مع مبادئ القانون الدولي المنظمة للاستفادة من الأنهار الدولية. ومع استمرار التعثر، تدخلت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في نوفمبر من عام 2019م، لإطلاق جولة جديدة من المفاوضات برعاية أمريكية بدأت في يناير 2020م، وتعاقبت جولاتها وصولاً لتحديد الثامن والعشرين من فبراير موعداً لتوقيع الاتفاق في صيغته النهائية لتتبنى إثيوبيا موقفاً مفاجئاً بالامتناع عن الحضور والتوقيع. وفي يونيو من العام نفسه أعلنت إثيوبيا بصورة منفردة البدء في ملء خزان سد النهضة بالمخالفة لكل ما تم التوافق عليه في جولات التفاوض السابقة على امتداد تسع سنوات. وقد استمرت إثيوبيا في مسار التصرف الأحادي عبر إفشال كافة محاولات إعادة إحياء المفاوضات بالاستمرار في التعنت.
وعلى الرغم من عرقلة إثيوبيا جهود اللجنة الدولية التي كان يفترض أن تقدم تقاريراً تفصيلية لتقدير الآثار المختلفة للسد، إلا أن العديد من الدراسات العلمية بدأت في الظهور لتقدم مثل هذه التقديرات، واللافت أن بعضها قدم من جانب علماء إثيوبيين. فعلى سبيل المثال رأى أستاذ الهندسة الميكانيكية في جامعة سان دييجو الأمريكية الإثيوبي أسفاو بييني أن السد لن يكون قادراً على توليد الكم المستهدف من الطاقة الكهربية البالغ 6 آلاف ميجاوات، هذا بجانب ما سيخلفه اتساع مساحة خزان السد من مفاقمة لمشكلات البخر الذي سيقلص من حجم المياه القابلة للاستغلال، وذلك في الوقت الذي تعتمد فيه مصر بصورة أساسية على مياه النيل الأزرق كمصدر لما يفوق 80% من إيرادها المائي السنوي.
- السياسات الإثيوبية تجاه حوض نهري جوبا شبيلي
استفادت إثيوبيا من أزمات الصومال الداخلية التي بدأت في ثمانينيات القرن العشرين وصولاً لانهيار الدولة مطلع التسعينيات، حيث بادرت إثيوبيا بتنفيذ خططها الخاصة بالاستفادة بحوض نهري جوبا وشبيلي النابعين من إثيوبيا عبر عدد من الروافد ليمرا بالصومال في اتجاه المصب في المحيط الهندي. ففي عام 1988م، أطلقت إثيوبيا مشروع سد ملكا واكانا لتوليد الطاقة الكهربية، والذي يتمتع بسعة تخزينية تقدر بنحو 76 مليون متر مكعب من المياه وظفت في مشروع جودي الزراعي. وقد أسفر الأثر المزدوج لتشييد السد وللتوسع في الزراعة عن تقليص إيراد الصومال من المياه بنسبة 60%.
وفي عام 2005م، أصدرت الحكومة الإثيوبية خطتها لتعزيز الاستفادة من روافد نهر وابي شبيلي في الزراعة وتوليد الطاقة عبر خطة تمتد لثلاثين عاماً، حيث تم الإعلان عن 141 مشروعاً للزراعة المروية بمياه النهر تبلغ مساحتها الإجمالية 209 آلاف هكتار تستهلك 2,5 مليار متر مكعب من المياه سنوياً. كما تضمنت الخطة تشييد 21 سدًا لتوليد الكهرباء، تبلغ سعتها التخزينية مجتمعة 4,5 مليار متر مكعب. أما بالنسبة لمخطط الاستفادة من رافد جانالي داوا الذي يتجه جنوباً باتجاه الحدود الكينية فقد أعلنت في عام 2007م، وتضمنت 93 مشروعاً زراعياً بمساحة تتجاوز المليون هكتار، تم البدء بتنفيذ 10 منها، بجانب إقرار تشييد 9 سدود قبل عام 2035، تبلغ سعتها التخزينية مجتمعة 9,9 مليار متر مكعب من المياه.
ثالثاً: مسارات مستقبلية
حتى الوقت الراهن، لا يمكن الحديث بصورة مباشرة ودقيقة عن "حروب مياه" بين الدول العربية ودول المنابع المجاورة، إذ يظل من المتصور وجود فرصة مستقبلية للتوصل لتسويات أكثر إنصافاً واستدامة وأكثر قدرة على تجنيب مختلف الأطراف الاتجاه في مسار التفاعلات الصراعية. وعلى الرغم مما سعت دول المنابع لفرضه من أمر واقع بشأن تقاسم المياه، إلا أن هذه الدول تظل بحاجة للوصول لتسويات توافقية مع دول الجوار العربي من أجل تجنب تحول الملف إلى مصدر ضغط دبلوماسي أو عامل مؤجج للصراعات في المستقبل.
ومن بين المداخل المهمة التي تمنح الدول العربية هامشاً أوسع للمناورة بشأن تقاسم المياه تشابك العلاقات مع دول المنابع. فعلى سبيل المثال بحيث تقترن الخلافات بشأن قضايا المياه بصورة لافتة بالخلافات المتعلقة بإدارة الحدود المشتركة. حيث تشكل قضايا الحدود الجنوبية لتركيا أحد الملفات الرئيسية لأمنها القومي الأمر الذي يمكن دولتي الجوار العربي سوريا والعراق من توظيف هذا الملف كورقة تدفع مختلف الأطراف لتبني مقاربة تكاملية شاملة تربط أمن الحدود بتقاسم المياه. وعلى الجانب الآخر تشكل إدارة الحدود المشتركة بين السودان وإثيوبيا ملفاً رئيسياً في ظل عجز الحكومة الفدرالية الإثيوبية عن السيطرة على اختراق المجموعات الأمهرية لمنطقة الفشقة شرق السودان وهو ما يمنح السودان ورقة إضافية في ملف المياه.
ومن بين العوامل الرئيسية التي ساعدت على تطوير دول المنابع لنهجها الأحادي في التعامل مع الأنهار الدولية التي تربطها بالدول العربية الاختلالات الملموسة في موازين القوى لصالح دول المنابع في أغلب الحالات. ذلك أن السياسات المائية لتركيا وإيران لم تكن لتسير بالوتيرة ذاتها إلا بالاستفادة من الوضع الداخلي المأزوم في العراق منذ مطلع التسعينيات وفي سوريا منذ عام 2011م، وبالمثل، استفادت إثيوبيا بصورة لافتة من انهيار الدولة الصومالية عام 1991م، في التوسع في مشروعاتها على نهري جوبا وشبيلي. على هذا، يظل من المهم إدراك أن تعزيز الأمن والاستقرار والتنمية في الدول العربية يعد من بين المداخل الرئيسية لتعزيز مكانتها التفاوضية مع دول المنابع.
كذلك، تظهر أهمية كبرى للدول العربية في التبني المشترك لمشروعات البحث والتطوير المتعلقة بالمصادر البديلة، حيث تعد الدول العربية بحكم الضغوط المائية المكثفة من أكثر دول العالم اعتماداً على إعادة استخدام المياه، وعلى تحلية مياه البحر. وهي المجالات التي تحمل فرصاً واعدة للتطور المستقبلي لكن بشرط مواكبة التطورات التقنية المتسارعة من أجل تعزيز جدوى الاعتماد على مثل هذه البدائل غير التقليدية.
يضاف لما سبق الأهمية الخاصة لتعزيز التعاون بين الدول العربية في مجال المياه، فبحكم الضرورة تعاني كل الدول العربية النهرية وغير النهرية من ضغوط مائية متزايدة. ومما يزيد من أهمية هذا التعاون التناقص المطرد في فرص التوسع الكبير في مشروعات استيراد "المياه الافتراضية" في صورة منتجات زراعية عبر تنفيذ مشروعات استزراع كبرى في دول تتمتع بوفرة مائية. فعلى الرغم مما وفرته بعض دول إفريقيا المدارية من بدائل في هذا المجال في فترات سابقة، تأتي مجموعة من العوامل لتعيق التوسع في هذا المسار مستقبلاً، أولها ارتفاع معدلات النمو السكاني في العديد من الدول الإفريقية احتلت بها المراتب الأعلى عالمياً في ظل التحسن النسبي في الأوضاع الصحية وتناقص معدلات وفيات الأطفال والمواليد، وهو ما أدى لارتفاع الطلب المحلي على المياه كركيزة للنشاط الزراعي لتوفير الغذاء. يضاف إلى هذا انخراط العديد من القوى الدولية الكبرى والوسطى في هذه المشروعات ليزيد من تكلفة المشروعات، ويرفع من حدة التنافسية خاصة مع دول تتمتع بمزايا تقنية متقدمة.
وختاماً، يظل من المهم للدول العربية أن تعمل على بناء استجابة جماعية منسقة لمختلف التحديات التي تواجهها جميعاً بشأن الموارد المائية التي باتت أكثر ندرة وذلك بما يجنب الدول العربية التنافس البيني، وبما يعزز من مواقفها التفاوضية مع دول منابع الأنهار في الجوار غير العربية، وبما يضمن لها الاستدامة المستقبلية لمكتسبات التنمية المتحققة في العقود الماضية كركيزة أساسية للأمن والاستقرار.