array(1) { [0]=> object(stdClass)#13382 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 202

الشعبوية " استراتيجية سياسية" ونهج عملي في الحشد والتعبئة بخطاب سياسي يبرز الظلم

الإثنين، 30 أيلول/سبتمبر 2024

شهدت الخمسون عامًا الماضية ظهور عدد من حركات اليمين المُتطرف في دول أوروبا الغربية التي حملت أفكارًا أسميت بالشعبوية، وسُرعان ما ازداد شأن ونفوذ هذه الحركات والأحزاب لدى الناخبين. وبينما كانت في البداية حركات وأفكار "منبوذة" من التيار الرئيسي للرأي العام الأوروبي، انتقلت تدريجيًا لتكتسب أرضية أكبر فيه لعل من مظاهرها وصول السيدة جورجا ملوني، رئيسة حزب "إخوة إيطاليا" إلى مقعد رئاسة الوزراء في عام 2022م، وحصول مرشحي هذه الأحزاب لأغلبية مقاعد البرلمان الأوروبي في انتخابات يونيو 2024م، والفوز الانتخابي الذي حققه حزب "البديل من أجل ألمانيا" في انتخابات ولاية تورينجن في شرق البلاد في سبتمبر من نفس العام. يهدف هذا المقال إلى تحديد السياق المجتمعي الذي مثل حاضنة لنمو الشعبوية في الدول الغربية، وعرض أهم سماتها الفكرية، وممارساتها التنظيمية.

أولًا: السياق المُجتمعي لنمو الشعبوية في الدول الغربية

تواجه هذه المجتمعات على مدى سنوات طويلة عددًا من المشكلات التي أدت إلى نشوء استقطاب سياسي واجتماعي حاد فيها، والذي برز في الأزمات التي شهدتها الولايات المُتحدة خلال فترة رئاسة دونالد ترامب 2017-2020م، والتي انتهت برفضه لنتائج الانتخابات الرئاسية والتشكيك في نزاهة العملية الانتخابية مما دفع مجموعة من أنصاره إلى اقتحام مبنى الكونجرس في 6 يناير 2021م، وذلك أثناء الاجتماع المخصص لإقرار نتائج الانتخابات، وأدى ذلك إلى تعميق الانقسامات الاجتماعية القائمة، وهو ما تظهر ملامحه في انتخابات الرئاسة لعام 2024م.

وفي حالة المملكة المتحدة، ظهر تأثير الأفكار الشعبوية في التأثير علي سلوك الناخبين في الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 2016م، ثم عاشت البلاد لفترة في ظل عجز الحكومات المتتالية لحزب المحافظين على إدارة شئون البلاد، مما أدى إلى استنزاف شرعيتها، وهزيمتها بقوة في الانتخابات البرلمانية لعام 2024م، وعودة حزب العمال إلى الحكم بعد غياب دام 14 عامًا. وفي فرنسا، برز أيضًا في حصول حزب التجمع الوطني اليميني برئاسة ماري لوبان المرتبة الثانية في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية في نفس العام.

من مظاهر هذا الانقسام المُجتمعي أيضًا، صعود النزعات القومية والهويات الفرعية التي تُطل برأسها من آن لآخر. وكان من أبرزها، حصول الحزب القومي في إسكتلندا على أغلبية مقاعد البرلمان منذ عام 2014م، واستمرار المشاعر القومية الكامنة لدى قطاع من سكان إيرلندا الشمالية، ويدل على ذلك أن أغلبية الناخبين في هذين الإقليمين صوتوا لصالح استمرار بقاء المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي خلافًا للنتائج العامة للاستفتاء الذي أُجري بهذا الشأن.

ومن أمثلة صعود هذه النزعات القومية، المغامرة الفاشلة في مقاطعة كتالونيا عام 2017م، لإجراء استفتاء بشأن انفصالها عن إسبانيا، ومبادرات الرئيس الفرنسي ماكرون للوصول إلى حل وسط مع التيارات القومية في جزيرة كورسيكا الفرنسية. وتكمن خطورة صعود النزعات القومية، في أن أغلب الدول الأوروبية تضم بين ظهرانيها عدة جماعات قومية واثنية.

 يعيش على أرض القارة الأوروبية عدد 87 جماعة أثنية وقومية، منها 33 تمثل أغلبية السكان في دولة واحدة على الأقل، بينما تنتشر الجماعات الباقية وتختلف نسب وجودها من دولة لأخرى فتصل أعلاها في بلجيكا إلى 42%، وإستونيا 32%. ثم تنخفض تدريجيًا الى 21% في سويسرا، و19.3% في هولندا، و18.8% في بيلاروسيا، و16% في كل من بلغاريا وفرنسا وجورجيا، و13% في النرويج، و12.6% في إيرلندا، و12% في السويد، و11.5% في رومانيا، و11% في أسبانيا، و10% في الدنمارك. 

ومن العوامل التي سهلت صعود الشعبوية الأعداد الكبيرة من المهاجرين الذين تدفقوا إلى القارة العجوز، والأزمات الاقتصادية التي تعرضت لها هذه الدول وخصوصًا بعد جائحة كوفيد 19، وتداعيات الحرب الروسية / الأوكرانية. من العوامل السياسية في هذا الشأن، التزايد المستمر لدور الأفراد والرجال الأقوياء على حساب المؤسسات في نظم الحكم، وهي الظاهرة التي وصفها الباحثون بعدة تعبيرات، مثل "إسباغ الطابع الشخصي على الحياة السياسية"، و"الطابع الرئاسي للسياسة". إضافة إلى التعبير الأقدم عهداً، وهو "شخصنة السلطة". وكان من شأن هذا التطور، دعم نفوذ السلطة التنفيذية على حساب السلطة التشريعية، وانتساب السياسة للرؤساء والقادة أكثر من انتسابها للمؤسسات والأحزاب والبرامج. وقد ظهر ذلك بوضوح في الحملات الانتخابية والسلوك التصويتي للناخبين، كما اتضح في عديد من الحملات الانتخابية في أوروبا والولايات المتحدة.

في هذا السياق، ازداد الاهتمام بالبحث في مفهوم الشعبوية وجذورها، فالمفهوم ليس جديدًا بل راج في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في روسيا القيصرية والولايات المتحدة. ففي ستينيات القرن، نشأت حركة الناردونيك في روسيا، والتي وجهت خطابها السياسي إلى المزارعين الذين واجهوا أوضاع اقتصادية صعبة.

وفي ثمانينات القرن-وتحديدًا في عام 1887-، تأسس في أمريكا "حزب الشعب"، والذي اشتهر أيضًا باسم "الحزب الشعبي" واُطلق على أنصاره "الشعبويون"، وكان قوامه أيضًا المزارعون الذين تضررت مصالحهم الاقتصادية فنشأ الحزب لتمثيلها والدفاع عنها، وانتهى الأمر بحل الحزب في 1908م.  

في هذه الفترة، استخدم تعبير الشعبوية للإشارة إلى تحركات الجماهير غير المسيسة أو غير المنتمية إلى أحزاب، والتي اتسمت بمعاداة مؤسسات النظام الديمقراطي ونخبته الليبرالية، وجادلت بتمثيلها بسطاء الناس والمهمشين ومصالح الوطن.

وربط الباحثون بين ظهور تلك الحركات والتحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها الدول الغربية. والتي كان من أبرزها، عملية التحضر السريعة، وانتقال أعداد كبيرة من البشر من الريف إلى المدن، والآثار النفسية والقيمية للحرب العالمية الأولى 1914-1918م، والمعاهدات غير المتكافئة التي أبرمت في أعقابها مع الدول المهزومة وأوجدت الظروف الموضوعية لنشأة الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا، واللتان حملتا كثيرًا من الأفكار والممارسات الشعبوية. وهو ما شرحه بشكل مبدع عالم النفس الاجتماعي ايريك فروم(1900-1980) في كتابه "الهروب من الحرية" الصادر في عام 1944.

 ووجدت الأفكار الشعبوية أرضًا خصبة لها في دول أمريكا اللاتينية، فتبناها الرئيس جتوليو فارجاس الذي تولى الحكم في البرازيل خلال الفترة من 1930-1945 و1951-1954م، والرئيس خوان بيرون في الأرجنتين في الفترة بين 1945-1955.

ومع أن الحقب الأخيرة من القرن العشرين شهدت ظهور بعض الأحزاب والحركات اليمينية في عدد من الدول الأوروبية والتي تبنت شعارات وممارسات شعبوية، إلا أنها ظلت ذات طابع هامشي. تغير هذا الوضع في العقدين الأوليين من القرن الحالي، وحققت الأحزاب والحركات الشعبوية نجاحات سياسية وانتخابية، وأصبحت عنصرًا في معادلة التوازنات السياسية الأوروبية.

وعند تحليل الشعبوية، ينبغي التمييز بين مستويين: المستوى الفكري الذي يشير إلى مجموعة الأفكار والمعتقدات والقيم التي تتبناها الأحزاب والحركات الشعبوية والتي يدعو اليها مفكروها، والمستوى الحركي الذي يشير إلى الممارسات وأنماط السلوك السياسي التي تنتهجها تلك الحركات والأحزاب.

ثانيًا: الأفكار الرئيسية للشعبوية

من الصعب للغاية اعتبار الشعبوية "أيديولوجية متكاملة" أو نسقًا منظمًا من الأفكار والمعتقدات، فهي تمثل مجموعة متناثرة من المفاهيم ذات المنابع الفكرية المختلفة. وفي ضوء ذلك، يمكن تعريف الشعبوية بأنها مجموعة انتقائية من الأفكار التي لا تنتظم في نسق فكري واحد. ومن استعراض كتابات مفكري الشعبوية وخطابات قادة أحزابها، يمكن الإشارة إلى أربع أفكار رئيسية في الفكر الشعبوي وهي:

 تتمثل الفكرة الأولى، في الإيمان بوحدة الأمة/الشعب التي تستند إلى أسس دينية أو أثنية، وأن هناك مصالح عُليا واحدة لتلك الأمة/الشعب التي تتصدى الأحزاب والحركات الشعبوية للتعبير عنها. ووفقًا لهذه الفكرة، لا ترتبط تلك المصالح العليا للأمة/الشعب بتصويت الناخبين في الدولة أو بالاتجاه الغالب للرأي العام فيها (وهذا ما تقوم عليه الديمقراطية الليبرالية)، بل أنها ذات صيرورة تاريخية دائمة، وهي تعبير عن مصالح الأمة/الشعب في الماضي والحاضر والمستقبل. ويذكرنا هذا المفهوم للإرادة العامة للشعب، بمفهوم جان جاك روسو الغامض عن الإرادة العامة والذي اُستخدم لتبرير النظم المطلقة والاستبدادية، باعتبار أن قادتها يمثلون مصالح الشعب.

وبحكم أن الشعبوية تعتمد على الأديان والاثنيات والأعراق في تعريفها للأمة/الشعب، فإنها تشجع النزعات الوطنية والقومية المتطرفة. وأدى ذلك إلى، تصاعد وزن مسألة الهوية في الخطاب السياسي، وازدياد صراع الهويات حتى أن المفكر الأمريكي فرانسيس فوكاياما كتب أن "سياسات الهوية" أصبحت أحد العوامل الحاكمة لتفاعلات الحياة السياسية في عدد كبير من النظم الديمقراطية، وأهم تحدي يواجهها. ووصف باحثون آخرون هذه الحالة من التشظي الهوياتي بتعبير "القبلية الجديدة". وتتمثل خطورة صراعات الهوية في أنها ذات طابع صفري، وأنها تُقسم المجتمع رأسيًا، ولا يمكن إخضاعها لمنهج المفاوضة والمساومة والحلول الوسط، ومن ثم فإنها تغذي مشاعر العداء وروح التعصب والشوفينية القومية والطائفية.

والفكرة الثانية، هي أن الشعبوية لا تعترف بالاختلافات أو التناقضات الاقتصادية والاجتماعية والطبقات والشرائح في داخل الأمة/الشعب، انطلاقًا من الاعتقاد فى وحدة المصلحة العليا السرمدية لها، وأن الانقسام الوحيد هو بين الأغلبية من أهل الخير من البسطاء وهؤلاء هم "الطاهرون"، والأقلية من الأشرار المتأثرين بمصالح وأفكار خارجية والذين يعملون ضد مصالح الأغلبية وهؤلاء هم الفاسدون. ولذلك، أعلت الشعبوية من فكرة المؤامرة التي تُديرها الأقليات الحاكمة، وتهدف إلى طمس قيم الهوية الأساسية للمجتمع والإعلاء من مصالح الأقلية الغنية والنخب السياسية المدعومة من الخارج على حساب الفقراء والمهمشين.

والفكرة الثالثة، هي معاداة المؤسسات السياسية والنخب القائمة عليها باعتبار أن هذه المؤسسات تعبر عن مصالح الفئات العليا الأكثر ثراءً ونفوذًا في المجتمع، والتي أهدرت مصالح الأغلبية الفقيرة ولم توفر سُبل التمثيل لها، وحكمت عليها بالإقصاء والتهميش الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، حتى أن النخب الليبرالية أصبحت تمثل مصدرًا لتهديد القيم الوطنية.

 أما الفكرة الرابعة فهي معاداة العولمة، باعتبارها تجسيدًا لمصالح النخب الحاكمة صاحبة المال والنفوذ السياسي. تنظر الشعبوية إلى العولمة والاتجاه إلى عولمة النظم الاجتماعية والثقافية، وحديث أنصارها عن "الثقافة العالمية" و "مجتمع ليبرالي عالمي"، على أنها أخطار محدقة بالثقافة الوطنية للأمة/ الشعب. وتصبح النخب المعولمة خطرًا يهدد القيم والمصالح الوطنية. 

والملاحظة الرئيسية على الفكر الشعبوي، هو أنه لا يوضح ماهي طبيعة النظام الاقتصادي والسياسي الذي يسعى لإقامته، ولا شكل المجتمع المستهدف، وهل سيتم تنظيم العلاقات الاقتصادية وفقًا لقواعد الرأسمالية أو الاشتراكية أو رأسمالية الدولة. هذا فضلاً عن غموض مفهوم المصلحة العليا للشعب، ومن يحددها في ضوء رفضه لشرعية المؤسسات النيابية القائمة.

ثالثًا: الشعبوية في الممارسة والحركة

على هذا المستوى، يمكن النظر إلى الشعبوية باعتبارها " استراتيجية سياسية"، ونهج عملي في الحشد والتعبئة، باستخدام خطاب سياسي يبرز الشعور الدفين بالظلم، وعدم العدالة لدى الناس واستخدامها لكسب تأييدهم، مستخدمة في ذلك مرجعيات وطنية وتاريخية وأخلاقية.

ارتبطت الحركات والأحزاب الشعبوية عادة بشخصيات مؤسسيها وقاداتها ويلعب الأفراد دورًا رئيسيًا فيها، بل يمكن القول إن رواج الشعبوية اعتمد في المقام الأول على المهارات القيادية لزعمائها أكثر من اعتمادها على صلاحية أو تماسك أفكارها. فالقائد الشعبوي غالبًا ما يكون شخصية قادرة على التواصل المباشر مع الجماهير وعلى إثارتها وتحريضها ودعوتها إلى الفعل المباشر، وهو يفعل ذلك من خلال مخاطبة العواطف، ودغدغة المشاعر، واستحضار التاريخ بشكل انتقائي وانفعالي، والوعد بمستقبل مؤكد أفضل وتعميق اليقين بتحقيقه، والتلاعب بعواطف الجماهير والانتقال بها من حالة الخوف والغضب إلى حالة الابتهاج والفرح.

وذلك كله في إطار خطاب سياسي مرسل يتسم بالتبسيط والاختزالية والإبهام والغموض، واستخدام ألفاظ "فجة" أو "فظة" والبعد عن اللياقة في بعض الأحيان، فهو لا يخاطب العقل وغير مدعم بأرقام أو إحصاءات، بل أنه يسعى لتعطيل ملكة التفكير لدى جمهوره حتى يصبح تسليمهم للقائد وانقيادهم وراءه بلا قيود. يوظف القائد الشعبوي في خطابه أفكارًا وشعارات ترتبط بأيديولوجيات متناقضة طالما أنها تخدم أهدافه. ولذلك، وصف بعض الباحثين هذا الخطاب بالانتهازية، فهدف القائد الشعبوي هو حشد الجماهير والوصول إلى السُلطة مستخدمًا مختلف الأساليب التي تحقق له ذلك.

 ومن أهم أدوات القائد الشعبوي، هو التخويف وتضخيم شكوك الجماهير تجاه المؤسسات والنخب القائمة وأنها لا تعبر عن مصالحهم وتقودهم إلى مستقبل أكثر سوءًا وظُلمًا، كما ينمي لديهم مشاعر الكراهية والتعصب وعدم التسامح إزاء الآخرين. وعلى مدى تاريخها، ارتبطت الشعبوية بكراهية سكان الحضر باعتبارهم الأكثر دخلًا وتعليمًا مقارنة بأهل الريف، ومعاداة الأجانب والمهاجرين باعتبارهم دخلاء يُمثلون تهديدًا لقيم المجتمع.

وفي هذا السياق، ركز القادة الشعبويون على الأخطار التي يمثلها ازدياد عدد المسلمين في الدول الأوروبية، بسبب تدفق المهاجرين واللاجئين، وظهور أفكار الإسلام السياسي بينهم، وذلك لأنهم يستفيدون من الخدمات العامة التي تقدمها الدولة، وأنهم يتنافسون على فرص العمل بأجور أقل، وأنهم يمثلون تهديدًا لقيم الحضارة "الأوروبية المسيحية"، ومصدرًا لعدم الاستقرار السياسي والأمني. يقدم القائد الشعبوي نفسه للجماهير على أنه "ممثل حصري لهم" و "واحد منهم" وأنه المدافع عن القيم الأصيلة للمجتمع التي تمنحه هويته وذاتيته وتماسكه وأنه الحامي لمصالح الفقراء والضعفاء والمهمشين.

إن نجاح الحركات الشعبوية يرتبط عادة بحسن استخدام الأفكار التي تم عرضها بواسطة زعماء ديماجوجيين، يستطيعون مخاطبة الجماهير وكسب تأييدها، واستخدام قنوات المنافسة الانتخابية الديمقراطية للحصول على وزن أكبر في المجالس التشريعية والمشاركة في الحكم من خلال الائتلافات الحزبية. وتبدو المفارقة في أن هؤلاء القادة يستخدمون الأدوات الديمقراطية ويشاركون في حكم ديمقراطي، مع أن أفكارهم وأساليب حركتهم مناهضة لأسس الديمقراطية الليبرالية، بما تتضمنه من تطرف ومعاداة للأقليات والأجانب.  

ومع صعود الشعبوية في عالمنا اليوم، استعاد بعض مفكري الديمقراطية الليبرالية تحذير أرسطو المبكر من الخطر الذي تمثله العناصر والممارسات الغوغائية "الديماجوجية"، والتي تؤدي إلى حكم الغوغاء، الذي يظهر عند تدهور نظام الحكم الديمقراطي أو الدستوري ودعوا إلى إعادة النظر في المؤسسات الديمقراطية الراهنة، وأهمها الأحزاب السياسية وأسباب ابتعاد قطاعات واسعة من الشباب عنها، مما أدى إلى انخفاض كفاءة هذه المؤسسات، ومعها انخفاض جودة الديمقراطية. مؤكدين، على أن هذا الوضع يوفر سياق البيئة المحبذة لنمو الشعبوية.

وظهرت عدة أطروحات هدفت إلى تجديد فكر الديمقراطية الليبرالية، مثل الرأسمالية الاجتماعية، والرأسمالية الشعبية، والرأسمالية الجديدة، وإبراز فضائل نظام السوق الاجتماعي المطبق في ألمانيا.  وأعاد الفيلسوف الأمريكي "جون رولز" في كتابه بعنوان " نظرية في العدالة"، الاعتبار إلى فكرة العدالة التوزيعية كأحد الأسس التي ينبغي أن ينهض عليها المجتمع الديمقراطي والضرورية لاستقراره وتماسكه.  وطرح عالم الاجتماع السياسي البريطاني "انتونى جيدنز" مفهوم الطريق الثالث في كتابه بعنوان "الطريق الثالث: تجديد الديمقراطية الاجتماعية".

كما تم إعادة تعريف علم الاقتصاد حول أسس جديدة، وظهرت مفاهيم الاقتصاد الأخلاقي، والاقتصاد الاحتوائي، والاقتصاد الأخضر. وفي مجال علم السياسة، ظهرت مفاهيم النظام السياسي الاحتوائي، والنظرية السياسية الخضراء.

إن الخطر الذي يمثله ظهور الأحزاب الشعبوية في الدول الغربية –والعالم عمومًا-يتجاوز المجال السياسي، واتجاهات تصويت الناخبين، ومشاركة هذه الأحزاب في الحكم. بل إنه يتجاوز ذلك إلى مجال الحقوق والحريات، والمساواة بين الشعوب من ذوي الثقافات المختلفة، والقيم التي تحكم النظام الدولي.

صعدت الشعبوية كنتيجة لازمات الديمقراطية الليبرالية على مستوى الفكر والممارسة، ولهذا جاءت الأفكار والأطروحات التي أشرت إليها من أجل الإحياء الأخلاقي لقيم الديمقراطية الليبرالية وممارسات نظمها. وهو ما يتطلب مراجعة أفكار "الليبرالية الجديدة" والأسواق المُحررة من القيود، والدعوة إلى دور أكبر للدولة في وضع القواعد المُنظمة لحركة الأسواق والشركات الاقتصادية العملاقة. في هذا الإطار، تقوم الدولة بدور متميز، فلا هي "الدولة الحارسة" ولا هي "الدولة المسيطرة المتسلطة"، ولكنها الدولة التي تتدخل لإقامة التوازن العادل في المجتمع بين الحقوق والواجبات، وبين الحريات الفردية والمسؤولية الاجتماعية.

هذا الإحياء يعتمد على الاستفادة من مختلف الفاعلين الاجتماعيين، بحيث يركز جهاز الدولة على الجوانب الكلية لإدارة التنمية والتي تتضمن التخطيط الاستراتيجي، وإقامة البنية التحتية التشريعية‏ والإدارية‏ والتقنية اللازمة وطرح السياسات العامة، ووضع نظم المتابعة والتقييم في سياق من اللامركزية. أما الفاعلين الآخرين، فإنهم يشاركون في تحديد الأولويات وصنع السياسات، من خلال المشاركة العامة والحق في إطلاق المبادرات الاجتماعية. هذا الإحياء لا يمثل استرجاعًا لفكر سابق، وإنما يتجاوز الأشكال المتنوعة لليمين واليسار، وذلك في ضوء عالم جديد تلعب فيه الرقمنة والذكاء الاصطناعي دورًا رئيسيًا في إعادة تشكيله.  وهدف هذا الإحياء، هو توفير حلول عملية مبتكرة لتحديات اليوم والغد.

مقالات لنفس الكاتب