استطاعت دول مجلس التعاون الخليجي الحفاظ على علاقات قوية واستراتيجية مع الولايات المتحدة، فى مجالات مختلفة تشمل الأمن والدفاع والاقتصاد. وتباينت مستوى العلاقات بمرور الوقت، متأثّرة بمواقف السياسة الخارجية للإدارات الأمريكية المتعاقبة، وكانت العلاقة بين دول الخليج والولايات المتحدة تشهد تطورًا لافتًا خلال الفترة الرئاسية الأولى للرئيس "دونالد ترامب"، حيث اتسمت بالتعاون خاصةً فيما يتعلق بالأمن والتجارة، إلى جانب قضايا إقليمية مهمة. ولكن تحمل عودة "دونالد ترامب" إلى البيت الأبيض مرة أخرى نطاقًا واسعًا من حالة عدم اليقين فى ظل توقعات بسياسات متقلبة نسبيًا للرئيس الأمريكى" ترامب" والتى قد تنعكس بدورها على اقتصادات دول الخليج، وذلك في إطار ظروف دولية وإقليمية مختلفة، كما يأتي ذلك في ضوء سعى دول الخليج إلى تنويع اقتصاداها بعيدًا عن الاعتماد على النفط والغاز، للاستمرار فى التنمية الاقتصادية رغم الظروف الإقليمية المحيطة.
من المرجح أن يكون "ترامب" مختلفًا عن سياسة بايدن من حيث الأولويات وكيفية تعامل إدارته مع دول الخليج؛ وبالتالي هناك مجموعة من الطرق التي يمكن للإدارة الجديدة أن تتبعها في الوقت الذي تزيد فيه المخاطر، إذ جاء فى وقت يشهد اضطرابات في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أربع سنوات في السابق، تقدم نظرة ثاقبة لسياسات ترامب المحتملة تجاه العديد من القضايا السياسية والاقتصادية، إلا أن الواقع الذي يشهده العالم اليوم قد يبرز نهج يختلف عما سبق.
ومن هذا المنطلق، يتناول هذا المقال الانعكاسات المتوقعة لسياسات ترامب على اقتصادات دول الخليج وحدود تلك الانعكاسات في إطار الجهود الخليجية المبذولة لدعم اقتصاداتها، كذلك يلقى الضوء على مدى تأثر العلاقات الاقتصادية بين الخليج والصين في ظل إدارة ترامب، وأخيرًا يتعرض إلى السياسات المتعلقة باتفاقات المناخ والطاقة ومدى تأثيرها على اقتصادات دول الخليج، وذلك من خلال ما يلي:
أولًا-أوجه انعكاسات سياسات ترامب على الاقتصادات الخليجية:
- قيود تضخمية محتملة: الخطر الأكبر الذي قد تواجهه سياسة ترامب لمنطقة الخليج هو (التعريفات الجمركية)، في ضوء خطة ترامب لفرض رسوم جمركية بنسبة 10% على جميع الواردات و60% على الواردات من الصين، وهو ما سيعيد إشعال التضخم والركود. ومن المتوقع أن يكون لبعض مقترحاته المحلية الأخرى بما في ذلك ترحيل العمال المهاجرين تأثير تضخمي إضافى. ومن شأن مثل هذه السياسات أن تجبر بنك الاحتياطي الفيدرالي على إبقاء أسعار الفائدة مرتفعة، الأمر الذي من شأنه أن يمتد نسبيا إلى دول مجلس التعاون الخليجي، حيث تتبع غالبية الدول قرارات سياسة البنك المركزي بسبب ربط العملة، ويدفع نسبيًا نحو ارتفاع الأسعار في دول الخليج، ولكن من المتوقع أن يساعد استقرار العملات الخليجية في السيطرة نسبيًاعلى معدلات التضخم ومنع تقلبات الأسعار الكبيرة في الأسواق المحلية.
- القيود التجارية: سوف تشكل سياسات ترامب المتعلقة بالتعريفات الجمركية خطوة في الاتجاه المتمثل في سياسات الحماية التجارية؛ فبالتأكيد ستؤثر تلك الرسوم على نطاق أوسع، لتظهر الحمائية في جميع أنحاء العالم، مما قد يؤثر على تجارة دول الخليج. ولكن تجدر الإشارة الى أن دول الخليج تعد اقتصادات منفتحة للغاية من حيث التجارة الحرة، واستطاعت في السنوات الأخيرة تنويع شركائها التجاريين، إذ حولت معظم صادراتها إلى آسيا وأوروبا مقارنة بالولايات المتحدة. وتعتبر الصين شريك تصدير مهم بشكل خاص، حيث تستوعب 20% من صادرات النفط والغاز في دول مجلس التعاون. كذلك الهند واليابان وكوريا الجنوبية هم أيضًا شركاء تجاريون رئيسيون للنفط والغاز. وحتى مع تعثر اتفاقية التجارة الحرة بين الصين والخليج في وقت سابق، تظل بكين شريكًا اقتصاديًا بالغ الأهمية للمنطقة؛ وبالتالي سيكون تأثير السياسات الحمائية ضئيل نسبيًا على دول الخليج.
- ظروف اقتصادية عالمية يسودها عدم اليقين: تؤدي عودة ترامب لمنصبه إلى زيادة حالة عدم اليقين على جبهتي السياسة الداخلية والخارجية. وسوف تعود شعارات "أمريكا أولاً" لجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى" إلى المقدمة، حتى ولو لم تترجم إلى مكاسب ذات مغزى وفورية وعلى مستوى البلاد، ويلقي مسار الحرب بظلاله على آفاق الشرق الأوسط ككل، اذ خفض البنك الدولي معدل النمو الاقتصادي في المنطقة إلى 2.2 % لعام 2024م، نظرًا لاحتمالات ما تمر به أكبر اقتصادين في العالم (أمريكيا والصين) -اللذين يشكلان معا 40 % من اقتصاد العالم-من توترات اقتصادية، مما يشير إلى احتمالية الضغط على النمو الاقتصادي العالمي. وبما أن دول الخليج جزء من الاقتصاد العالمي، فقد يطولها بعض الانعكاسات ويأتى ذلك فى إطار سير المنطقة على الطريق الصحيح لتحقيق نمو قوي بنسبة زيادة 9 % عام 2023م، بعد زيادة بنسبة 0.5 % عن عام 2022م، إلا أنه يتوقع أحد التحليلات التي أجرتها شركة Oxford Economics أن استمرار الصراعات فى الشرق الأوسط فى ظل حكم ترامب قد يؤدى إلى خفض نمو دول مجلس التعاون الخليجي بنسبة 0.2%؛ وتعود تلك الترجيحات إلى التخوف من استمرار الصراعات فى الشرق الأوسط واحتمالية فشل ترامب فى إيقافها، فرغم أنه سبق وتعهد بإنهاء سريع للصراعات في غزة ولبنان، لكن ما يعنيه مازال غير واضح، حيث وصف نفسه بأنه "حامي" إسرائيل خلال تصريحاته في قمة المجلس الإسرائيلي / الأمريكي في سبتمبر2024م. وعلى افتراض أن الصراعات في المنطقة ستظل دون حل بحلول شهر يناير2025م، فإن انعكاسات ذلك سيظهر مردودها فى شكل تراجع محتمل للنمو الاقتصادي لدول المنطقة.
- أسواق المال الخليجية: هناك علاقة إيجابية تظهر بين أسواق المال الخليجية والأسواق الأمريكية في عدد من الدورات الانتخابية السابقة، وهو ما أظهرته تحليلات البيانات لـ"Century Financial" حول الانتخابات الخمس الماضية بدءاً من عام 2004م، حيث أغلقت معظم أسواق الأسهم في البورصات الخليجية على ارتفاع بمجرد اعلان فوز " ترامب" ، فارتفع مؤشر البورصة السعودية بنسبة 09%، وارتفع مؤشر البورصة فى أبو ظبى بنسبة 0.1% ،كذلك ارتفع مؤشر بورصة دبي 5.0%، ومؤشر سوق الكويت الرئيسي بنسبة 0.64%.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن فوز الجمهوريين يعتبر داعمًا لأسعار الأسهم بشكل عام بسبب سياساتهم التي تهدف لتعزيز أرباح الشركات نتيجة الوعد الأمريكى بخفض الضرائب وتخفيف القيود التنظيمية على الشركات مما يعني إمكانية أكبر لتعزيز أرباحها، وقد انعكس هذا الاحتمال في أسعار أسهم العديد من الشركات الأمريكية الكبرى خاصة فى مجال في الصناعات المصرفية والتكنولوجيا والدفاع والوقود الأحفوري، وهى المجالات التى يتركز فيها عدد كبير من المستثمرين في أسواق دول مجلس التعاون خاصة فى قطاع النفط والقطاعات المرتبطة به مما يجعله خيارًا اقتصاديًا أفضل على المدى المتوسط. كما أن دول الخليج تعتبر أيضًا مستثمر رئيسي في الاقتصاد الأمريكي، حيث تستثمر في الأسهم الأمريكية، العقارات، والصناديق السيادية الخليجية، والصناديق السيادية من السعودية والإمارات وقطر من بين أكبر الصناديق الاستثمارية في العالم ولها استثمارات ضخمة في أمريكا ولكن تشير تقديرات " جولدمان ساكس " أن بعض الشركات الخليجية قد تتضرر بسبب اعتمادها على التجارة مع أمريكا، حيث أنها ستواجه تكاليف أعلى بسبب التعريفات الجمركية؛ وبالتالي أرباحًا أقل، وهو ما قد يعني بدوره انخفاض أسعار أسهمها. وعلى العكس يؤكد مصرف "جيه بي مورجان" إن عودة "دونالد ترامب" للبيت الأبيض قد تدعم أسواق الأسهم في الأسواق الناشئة بمنطقتي الشرق الأوسط وخاصة دول الخليج، إثر الارتفاع المتوقع للدولار وعوائد الديون الأمريكية في ظل سياساته. ولكن أشار المصرف ضرورة تعامل أسواق المال مع الأمر بحذر. فعلى الرغم من أنه لا يزال من المبكر الحكم على ذلك، فإن المخاوف الفورية تدور حول مرونة أسعار النفط، التي تتراجع حاليًا إلى جانب ضعف الدولار المتوقع مستقبلًا، مما يشير إلى تقلبات محتملة، ومع ذلك، فإن ضعف الدولار قد يفيد أسواق دول الخليج، مما يعزز جاذبية الاستثمارات الإقليمية. وفي الوقت نفسه، فإن الإجراءات التي تهدف إلى حل الصراعات في الشرق الأوسط يمكن أن تعزز بشكل إيجابي معنويات أسواق دول الخليج، بما في ذلك السوق السعودية والإماراتية بشكل خاص. كما أن الاستثمارات الخليجية في سوق المال بأمريكا يمكن أن تتأثر بسياسات المرشح تجاه الشرق الأوسط، بما في ذلك الاتفاق النووي الإيراني وقضايا سياسية أخرى.
- العملات الخليجية أمام الدولار: معظم العملات الخليجية (مثل الريال السعودي، الدرهم الإماراتي، الدينار البحريني، والريال القطري) مرتبطة بالدولار بسعر صرف ثابت أو شبه ثابت، باستثناء الدينار الكويتي المرتبط بسلة عملات، وبسبب هذا الربط، ظلت العملات الخليجية مستقرة نسبياً خلال فترة حكم ترامب الأولى، ولم تتأثر مباشرة بتغيرات أسعار الصرف العالمية. ويدفع اعتماد ترامب المحتمل لسياسة مالية ونقدية تحفيزية، حيث سيتم تخفيض الضرائب وزيادة الإنفاق، مما يؤدى إلى ارتفاع محتمل في قيمة الدولار، ويجعل صادرات دول الخليج غير النفطية أقل تنافسية، لكن في الوقت نفسه سيجعل وارداتها من الولايات المتحدة أرخص.
- الاستثمارات البينية: يحرص ترامب على تطبيق سياسات توطين الاستثمارات الأمريكية والأكيد أن أمريكا في ظل رئاسته ستعمل بشكل قوي على تعزيز مكانتها كقوة اقتصادية مستقلة وستصبح وجهة أساسية لرؤوس الأموال الدولية. وهذا سيؤدي بدوره إلى انخفاض تدفق الاستثمارات (سواء الأمريكية أو غيرها) إلى الأسواق الناشئة والدول النامية التي تحتاجها لتطوير بناها التحتية وتعزيز قدرتها الإنتاجية، مما سيفرض تحديات جديدة على هذه الدول في سعيها لجذب الاستثمارات الدولية، كي تؤمن قدرتها على المنافسة وتحقيق تنميتها الاقتصادية المستدامة في مواجهة التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الراهنة والمستقبلية.
- ولكن على الرغم من تلك التوقعات بشأن حركة الاستثمار الأمريكي، تجدر الإشارة الى أن تفكير ترامب يعتبر أقرب لرجل الأعمال، وهو مهتم بشكل كبير بالاعتبارات المالية الاستثمارية، فمن من بين أحدث وأبرز انعكاسات علامة ترامب التجارية في دول الخليج الأبراج المخطط لها وغيرها من مشاريع العقارات والفنادق الفاخرة في السعودية والإمارات العربية وسلطنة عمان. وهناك تركيز استثماري قوي وشامل لمبادرة التنمية العمانية، ومن المتوقع أن تكتمل المبادرة التوسعية في عام 2028م. وتتداخل هذه الأنشطة الاقتصادية مع أولويات التنمية في دول الخليج، حيث تعد المشاريع العقارية الطموحة ومبادرات السياحة محركات رئيسية لرؤى وأجندات التحول التنموي. بالاضافة إلى استثمارات أمريكية قائمة بالفعل فى صندوق الثروة السيادية السعودي، واستثمارات إضافية من صناديق الاستثمار في الإمارات وقطر. وكل ذلك يؤكد على أنه من غير المرجح أن يتضاءل وجود استثمارات أمريكية بدول الخليج فى عهد ترامب.
ثانيًا-العلاقات الاقتصادية بين الصين ودول الخليج في عهد ترامب: بلغ حجم التبادل التجاري بين الصين ودول مجلس التعاون 287 مليار دولار عام 2023م، وهي الشريك التجاري الأكبر لدول الخليج، في حين تستحوذ السعودية على 40% من حجم التبادل التجاري بين الخليج والصين، وأكثر من نصف واردات الصين النفطية من منطقة الخليج. كما بلغ حجم الاستثمار الصينى فى دول الخليج 150 مليار دولار، كما ارتفعت قيمة عمليات الاستحواذ والاستثمارات التي تقوم بها الشركات الخليجية في الصين بأكثر من 1000% على أساس سنوي لتصل إلى 5.3 مليار دولار في عام 2023م، فعلى سبيل المثال، بلغ حجم الاستثمارات الصينية التى تم ضخها للمملكة 16.8 مليار دولار عام 2023م، مقابل 1.5 مليار دولار ضخّتها خلال عام 2022م، فيما وصلت قيمة الاستثمارات السعودية فى الصين 75 مليار ريال. ومع وصول ترامب إلى الحكم، تظهر مخاوف من احتمالية تأثر العلاقات الاقتصادية الصينية / الخليجية باعتبار أن التواجد الصيني في الخليج يمكن أن يتحدى المصالح الأمريكية على المدى الطويل، خاصة في ظل قوة العلاقات الاقتصادية الخليجية / الصينية. وتبرز التساؤلات بشأن ما إذا كانت إدارة ترامب ستمارس ضغوطًا أكبر على دول الخليج للانفصال التدريجى عن الصين في مجالات معينة؟ ولكن بمراجعة الفترة الأولى لرئاسة ترامب، نجد استمرار التعاون الاقتصادي بين الصين ودول الخليج خاصة في مجال التجارة والاستثمارات المتبادلة، رغم الضغوط والمنافسة بين واشنطن وبكين. وإن كانت إدارة ترامب قد بنت موقفًا متشددًا تجاه الصين، وشجعت حلفاءها حول العالم، بما في ذلك دول الخليج، على الحد من العلاقات الاقتصادية والتكنولوجية مع الصين. ما أدى إلى تردد بعض دول الخليج في التعاون مع الصين في هذا المجال، بينما استمرت دول أخرى في التعامل بحذر، محاولةً الحفاظ على العلاقات الاقتصادية دون التصعيد، إلا أن التعاون الاقتصادي استمر بين الجانبين رغم الضغوط.وزادت قوة العلاقة مع الوقت، فمؤخرًا، دُعيت السعودية والإمارات للانضمام إلى مجموعة البريكس، ومُنحت السعودية وضع شريك الحوار في منظمة شنغهاي للتعاون. ومن هنا يمكن القول باحتمال تأثر نسبى ضعيف فى تلك العلاقات خاصة الجانب التجاري؛ وذلك نظرًا لقوة الترابط الاقتصادى بين الصين والخليج خاصة فى ظل انخراط الشركات الصينية بشكل أعمق في المشاريع الضخمة التي تعتبر محورية للخطط التنموية لدول الخليج، والتي تهدف للتنويع الاقتصادي بعيدًا عن النفط.
كما تجدر الإشارة هنا إلى أنه من الممكن أن يؤدي تصاعد الحمائية إلى إعادة ترتيب التجارة العالمية بشكل كبير، فتشير نماذج Oxford Economics إلى أن التعريفات الجمركية التي اقترحها ترامب يمكن أن تخفض التجارة الثنائية بين أمريكا والصين بنسبة 70 % وتتسبب في إلغاء أو إعادة توجيه تجارة بقيمة مئات المليارات من الدولارات. ومن غير المستغرب أن تصبح أمريكا أكثر انغلاقاً وأكثر تركيزاً في الشروط التجارية على هؤلاء الشركاء الذين أبرمت معهم اتفاقيات تجارة حرة. ومن المرجح أن تنخفض الواردات من البلدان غير الموقعة على اتفاقية التجارة الحرة في آسيا وأوروبا وغيرها من الاقتصادات الناشئة. وهو ما قد يؤثر نسبيًا على الآفاق المستقبلية للتجارة في دول الخليج. ولكن بالمجمل، سوف تسعى دول الخليج إلى الموازنة بين الاستفادة من علاقتها مع الصين وتعزيز علاقاتها الاقتصادية معها، مع الحفاظ على تحالفاتها الاستراتيجية والأمنية مع الولايات المتحدة.
ثالثًا-معضلة تحقيق الأهداف المناخية والطاقة النظيفة، وأسعار النفط:
- اتفاقات مواجهة التغير المناخي: سبق وانسحبت ادارة ترامب من اتفاقية باريس للمناخ في عام 2017م، وأكد خلال حملته الانتخابية الثانية عن التزامه بالحفاظ على استقلال الطاقة الأمريكية القائم على الهيدروكربون، وهو ما يعكس أن سياسات إدارته قد يكون لها تأثير محدود على التخفيف من تغير المناخ العالمي. ففى ظل اتفاقيات المناخ الدولية، شهدت السنوات الأخيرة ارتفاعًا قويًا ومستمرًا في الاستثمار في الطاقة المتجددة في جميع أنحاء العالم. ففي عام 2023م، تجاوزت منشآت طاقة الرياح والطاقة الشمسية الجديدة جميع المساهمات الأخرى في مزيج الطاقة العالمي، وبحلول نهاية عام 2025م، من المتوقع أن تتجاوز استثمارات الطاقة النظيفة 2 تريليون دولار، وهو ما يمثل حوالي ثلثي الاستثمار العالمي في الطاقة. وفي حين أن أمريكا تحتل موقعًا مركزيًا داخل الهيكل الاقتصادي العالمي، فإن معارضة إدارة واحدة لمدة أربع سنوات من غير المرجح أن تعيق بشكل أساسي التقدم الهيكلي في استثمارات الطاقة المتجددة.
وبالنسبة لدول الخليج، يحذر المحللون من أن هذا قد ينتهي به الأمر إلى الإضرار بالصناديق المالية الخليجية لتي تركز على الاستدامة والتي ساعدت في دعم الكثير من التحول في مجال الطاقة والعمل الجاري لتحقيق أهداف المناخ العالمية". ولكن تجدر الإشارة إلى أن مسار استراتيجيات التحول في مجال المناخ والطاقة لن يتغير في دول الخليج؛ لأن ما يدفع عملية صنع القرار على هذه الجبهة ليس من هو في البيت الأبيض، بينما هى المصالح الاقتصادية الوطنية ومصالح الطاقة لدول الخليج. كما إن سياسات المناخ الخليجية، بما في ذلك الالتزامات بصافي انبعاثات صفرية والطاقة النظيفة، مدفوعة في المقام الأول باستراتيجيات التنويع الاقتصادي الإقليمي، التي تهدف إلى تقليل الاعتماد على عائدات النفط، فضلاً عن المخاوف المحلية المتزايدة بشأن أمن الطاقة. هذه الأهداف طويلة المدى أقل تأثراً بالتحولات في الولايات المتحدة. ومع تزايد تفضيل التدفقات المالية العالمية لاستثمارات الطاقة الخضراء، تدرك دول الخليج أن الحفاظ على القدرة التنافسية يعني التقدم في مجال الطاقة النظيفة والتنمية المستدامة، وتحقيق التوازن بين طموحات الهيدروكربون والخطوات الأساسية نحو مستقبل متنوع ومرن، كما شجع دول الخليج على البحث عن أسواق جديدة وتوسيع علاقاتها في آسيا، وخاصة مع الصين والهند، لتأمين الطلب المستقبلي على صادراتها النفطية. وفى المجمل، ورغم أن سياسات ترامب المناخية كانت محفزة لدول الخليج للاستمرار في الاعتماد على الوقود الأحفوري، إلا أن ذلك لم يمنعها من اتخاذ خطوات نحو التنوع في مصادر الطاقة، وخاصة مع تزايد الضغوط العالمية والتغيرات المناخية الملحوظة.
- الطاقة النظيفة: تاريخياً، فضلت سياسات الطاقة التي ينتهجها ترامب الوقود الأحفوري، فى ضوء السعى نحو زيادة إنتاج الطاقة المحلية، وتحرير صناعة النفط والغاز، وتعزيز صادرات الغاز الطبيعي المسال عالميًا، بما يسهم فى تطوير سوق الطاقة الأمريكية. ومما يسلط الضوء على هذا هو وعد ترامب بإلغاء "جميع الأموال غير المنفقة" من قانون خفض التضخم لعام 2022م، وهو قانون تاريخي من عهد بايدن يوفر الدعم لمشاريع الطاقة النظيفة. ووقع عليه كجزء من خطط إدارته لخفض انبعاثات الغازات الدفيئة بنحو الثلثين بحلول عام 2035م.
ومثل هذه الخطط لتعزيز جهود الإنتاج للوقود الأحفوري، تأتي أيضًا في وقت حرج حيث تبدأ العديد من دول مجلس التعاون الخليجى في التنويع بعيدًا عن الوقود الأحفوري. وتتطلع السعودية والإمارات ودول أخرى لتحقيق النمو الاقتصادي من خلال الاستثمار في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعى والبنية التحتية ...وغيرها من القطاعات، كوسيلة لجعل اقتصاداتها أقل اعتمادًا على النفط والغاز؛ وبالتالى فإن تأثيرات هذا التوجه الأمريكى ربما لا تظهر آثاره بالنسبة لدول الخليج التى تسعى نحو التنويع الاقتصادى، وربما قد يفيد بعض اقتصادات الخليج التي تعتمد على صادرات المواد الهيدروكربونية، فقد تؤدي الإدارة الأقل تركيزاً على التنظيمات المناخية إلى تخفيف الضغوط المفروضة على الدول المنتجة الأخرى ، مما يوفر لها مرونة اقتصادية قصيرة الأجل.
- أسعار النفط: جعل ترامب سياسة الطاقة ركيزة من ركائز حملته، وتعهد بخفض البيروقراطية وإطلاق العنان لمنتجي النفط الأمريكيين لزيادة الإنتاج وخفض الأسعار للمستهلكين، وقال وهو يعلن انتصاره أن لدى بلاده ذهب سائل أكثر من أي دولة في العالم .فخلال إدارة ترامب الأولى، تسببت هذه الإجراءات في زيادة الإنتاج، مما أدى إلى أن تصبح أمريكا أكبر منتج للنفط في العالم في عام 2018م، وأدى ارتفاع الإنتاج الأمريكي إلى زيادة الصادرات وزيادة العرض العالمي ، وفي عهد ترامب (2017-2021م)، شهدت أسعار النفط تقلبات ملحوظة بسبب عدة عوامل، من أبرزها زيادة الإنتاج الأمريكى بما أسهم في تقليص الأسعار في بعض الأحيان، خاصة في الفترة بين 2017 و2019م، فضلا عن العقوبات على إيران وفنزويلا، وهما من بين أكبر منتجي النفط في العالم. هذه العقوبات أدت إلى تقليص إمدادات النفط من هاتين الدولتين، ما كان له تأثير كبير على ارتفاع الأسعار في 2018-2019م.
وقد كان لسعر النفط في ظل إدارة ترامب تأثير كبير على دول الخليج، حيث أنها كانت تعتمد حينذاك بشكل كبير على صادرات النفط كمصدر رئيسي للإيرادات، ومع زيادة المعروض من النفط الأمريكي، كانت الأسعار تتعرض للانخفاض، فضلًا عن محاولات ترامب للضغط على "أوبك" لرفع الإنتاج، وعلى الرغم من هذه الضغوط، فإن دول الخليج حافظت على استراتيجيتها المتعلقة بإنتاج النفط وحصص السوق. وكل ذلك أثر على الإيرادات النفطية لدول الخليج التي تعتمد على أسعار النفط المرتفعة لتمويل ميزانياتها العامة . ولكن مع العقوبات على إيران وفنزويلا، ارتفع سعر النفط بسبب تراجع إمداداتهم ليعوض جزءًا من انخفاض السعر.
ومع توجهات ترامب المتجددة بشأن رفع إنتاج أمريكا من النفط وخفض الأسعار، فمن المرجح أن يكون رفع الحصص بأوبك في مواجهة انخفاض أسعار النفط أمرًا صعبًا بشكل خاص في البلدان التي تواجه تحديات مالية أكبر مثل عمان والبحرين، ولكن من المحتمل أيضًا أن يكون ذلك ممكنًا بشكل كبير فى كل من السعودية والإمارات لتوافر متطلبات تمويل خطط التنمية الخاصة بهم. وقد يعيد سعر النفط للتوازن نسبيًا هو ما يتعلق بتشديد العقوبات على إيران إلى تقليص المعروض النفطي ؛وبالتالي دعم الأسعار، رغم محاولات بايدن لتحقيق ذلك دون تأثير كبير.
ورغم مختلف الاحتمالات الوارد ذكرها، تجدر الإشارة هنا إلى أن الإصلاح التنظيمي المتوقع لإنتاج النفط الأمريكي قد لا يسهم في الزيادة السريعة في الإنتاج خلال فترة ولاية ترامب الثانية، فقد وصل الإنتاج إلى مستويات قياسية خلال فترة ولاية بايدن، حيث وصل إلى مستوى مرتفع جديد بلغ 13.4 مليون برميل يوميًا في أغسطس 2024م. ومن المقرر أن يبلغ متوسط الإنتاج حوالي 13.2 مليون برميل يوميًا هذا العام، وفقًا لشركة S&P، ويرتفع إلى 13.6 مليون برميل يوميًا في عام 2025م، قبل أن ينخفض على الأرجح في العام التالي، مدفوعًا بانخفاض الأسعار. وكل ذلك يشير إلى حدود وقيود قد لا تحقق رغبة ترامب برفع الانتاج الأمريكي وخفض أسعار النفط، خاصة أن عام 2020م، وما شهده من جائحة كورونا قد أعطى له درسًا، وهو أن أسعار النفط المنخفضة قد ترضي المستهلكين، لكنها تضر أيضًا بقطاع النفط الصخري في أمريكا.
خاتمة:
مع إعلان فوز ترامب بفترة رئاسية جديدة، تزايدت التوقعات بشأن انعكاسات سياساته الاقتصادية على الاقتصاد العالمى والإقليمى ومنها اقتصادات دول الخليج، خاصة فيما يتعلق بتحولات الطاقة وإنتاج النفط وأسعاره والتجارة العالمية والاستثمارات. وفيما يتعلق بقطاع الطاقة تحديدًا، من الممكن أن تتقاطع بعض سياسات ترامب مع مصالح دول الخليج، إلا أن الأخيرة تتجه بشكل متزايد نحو الطاقة النظيفة، ما يجعلها تتباعد عن سياسات ترامب الداعمة للوقود الأحفوري. وجدير بالذكر أيضًا أن أى سياسات اقتصادية قد يتبعها ترامب فى فترة حكمه الثانية ربما لا تظهر تداعيات واضحة على اقتصادات الخليج لكونها تعكف دائمًاعلى إعادة تنظيم سياساتها الخارجية لخدمة أهدافها الاقتصادية التنموية، وحفظ توازناتها الاستراتيجية الدولية والإقليمية؛ وبالتالى سيتم عودة الشراكات الخليجية-الأمريكية إلى مسار مختلف يتفق مع سياسات وأهداف كل من الجانبين، مع توقع تقدم نحو تعميق العلاقات الأمريكية الاقتصادية مع دول الخليج باعتبارها منطقة ذات تأثير متزايد في الاقتصاد الإقليمي والعالمي. هذا فى ظل استمرار علاقات دول المنطقة بغيرها من القوى الاقتصادية العظمى وعلى رأسهم الصين للاستفادة من فرص النمو في آسيا، مع الحفاظ على استراتيجية استثمار عالمية متوازنة تتفق مع الرؤى التنموية الهادفة نحو التنويع والتعدد فى توازنات القوى.
ومما لا شك فيه أن كل دول الخليج والولايات المتّحدة الأمريكية تعلم أن الدبلوماسية والتعاون الأمني والاقتصادي هي أمور حيوية لاستقرارها وازدهارها على المدى الطويل، وألا مجال سوى للإبقاء على العلاقات الاستراتيجية. وبالمجمل، فإن العلاقات الاقتصادية بين دول الخليج والولايات المتحدة مهما واجهت من تغيرات ستظل متينة ومتعددة الأوجه، وتعكس المصالح المشتركة والاستراتيجيات المتكاملة التي تسعى لتحقيق التنمية الاقتصادية والأمن والاستقرار الإقليمي.