لم يعد هناك أدنى شك في أن تسوية الصراع العربي-الإسرائيلي باتت ضرورة ملحة بعد أن اقترب أمد الصراع من القرن وثلث القرن منذ أعلنت الحركة الصهيونية هدف إنشاء دولة يهودية في فلسطين في مؤتمرها الأول في مدينة بازل بسويسرا عام١٨٩٧م، وقد أدى هذا الصراع إلى تكلفة بشرية ومادية هائلة عبر حروب ومواجهات رئيسية في أعوام١٩٤٨و١٩٥٦و١٩٦٧و١٩٧٣و١٩٨٢و٢٠٠٦م، ناهيك بالأحداث المرتبطة بالمقاومة الفلسطينية منذ بدأت إرهاصات المشروع الصهيوني في فلسطين تتبلور، وردود الأفعال الصهيونية الوحشية لها، وبالذات بعد تأسيس دولة إسرائيل في١٩٤٨م، وحتى الآن، وها نحن نرى العمليات الإسرائيلية التي ترقى للإبادة الجماعية وتدمير كل مقومات الحياة تجري في غزة منذ أكثر من سنة، وتمتد للضفة الغربية ثم لبنان، غير أن المعضلة أن ثمة عوامل عوقت دائمًا التوصل إلى تسوية رغم كل الجهود الفلسطينية والعربية والدولية التي بُذلت في هذا الاتجاه، ويسهل على أي مراقب أن يخلص إلى أن السبب الأصيل في عدم التوصل إلى تسوية شاملة ومتوازنة أو حتى شبه متوازنة هو الإمعان في التطرف الإسرائيلي الذي يصل إلى حد إنكار حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإنشاء دولته المستقلة، خاصة وأن الحكومة الإسرائيلية الحالية (نوڤمبر٢٠٢٤م) يمكن أن توصف بأنها أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرفًا في تاريخ دولة إسرائيل، سواء بوجود بنيامين نتنياهو على رأسها، أو أعضاء بالغي التطرف فيها، وتبحث هذه الورقة في معضلة التسوية السياسية للصراع العربي-الإسرائيلي بين الضرورة والاستعصاء، فتنقسم إلى جزأين يحلل أولهما دروس الخبرة الماضية للصراع العربي-الإسرائيلي، والثاني العوامل التي تجعله عصيًا على التسوية حتى الآن، على أن يُختتم التحليل بخلاصة تحاول الإجابة على سؤال ما العمل؟
أولًا-دروس الخبرة الماضية
ظل النظام العربي الرسمي ينظر إلى القضية الفلسطينية باعتبارها حالة استعمارية يجب أن تنتهي بالتصفية ككل الحالات في التاريخ المعاصر للظاهرة الاستعمارية إلى أن وقع عدوان١٩٦٧م، والانتصار العسكري الإسرائيلي الذي لم يفض فقط إلى استكمال إسرائيل احتلال ما تبقى من أرض فلسطين خارج سيطرتها (الضفة الغربية وقطاع غزة)، بل إلى احتلال شبه جزيرة سيناء المصرية والمرتفعات السورية، وعند هذا الحد حدث تحول جوهري في الاستراتيجية العربية لمواجهة إسرائيل بحيث لم يعد الصراع معها يُكَيَّف باعتباره علاقة استعمارية يجب تصفيتها، وإنما نزاع دولي يمكن تسويته، والسبب في هذا التحول واضح، وهو تداعيات الانتصار العسكري لإسرائيل في عدوان١٩٦٧م، والذي دفع إلى صدارة أولويات دول المواجهة العربية مع إسرائيل هدف "إزالة آثار العدوان"، أي تحرير الأراضي التي تم احتلالها بموجبه، ومن هنا بدأ تبلور مصطلح "التسوية التاريخية" الذي كان يعني تحرير تلك الأراضي مقابل الاعتراف بإسرائيل في حدود١٩٤٨م، وبطبيعة الحال فإن هذا التحول لم يحدث بمجرد انتهاء عدوان١٩٦٧م، وإنما تم على نحو متدرج.
ففي قمة الخرطوم التي عُقِدت في أواخر أغسطس/أوائل سبتمبر١٩٦٧م، أي بعد أقل من٣شهور على العدوان، لم يبد أن ثمة تغييرًا على النهج العربي الرسمي في إدارة الصراع مع إسرائيل، فقد انتهت القمة إلى اللاءات الثلاث الشهيرة (لا صلح لا تفاوض لا اعتراف بإسرائيل)، كما أن كافة التناقضات العربية الثانوية أُزيحت إلى الخلف لصالح المواجهة العربية مع إسرائيل، وبادرت كل من السعودية والكويت وليبيا بتقديم الدعم لدول المواجهة كي تمكنها من إعادة البناء العسكري، غير أن أول مؤشرات التحول في المواقف العربية الرسمية ظهر بعد أقل من٣شهور على قمة الخرطوم، وتمثل في قبول الرئيس جمال عبد الناصر في نوڤمبر١٩٦٧لقرار مجلس الأمن٢٤٢الذي وضع أساسًا لما سُمي لاحقًا بالتسوية التاريخية للصراع العربي-الإسرائيلي، فقد تضمنت ديباجة القرار مبدأين أساسيين، وهما عدم جواز اكتساب الأرض بالقوة المسلحة، وهو المبدأ الذي بُنيت عليه الفقرة العملية الأولى في القرار الخاص بانسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في عدوان يونيو١٩٦٧م، أما المبدأ الثاني فتضمن حق جميع دول المنطقة في العيش داخل حدود دائمة وآمنة ومعترف بها، وهو ما يُفضي إلى الاعتراف بإسرائيل وضمان أمنها داخل حدودها، وقد فسر عبد الناصر قبوله للقرار بأنه يحقق المطلب المصري الخاص بالانسحاب من سيناء، لكنه ذكر أن من حق الفلسطينيين أن يرفضوه لأنه لا يحقق مطالبهم المشروعة، إذ كان القرار لا يشير سوى إلى "إيجاد حل عادل لمشكلة اللاجئين"، وهو ما يعني أن هذا الحل قد لا يكون بعودتهم إلى وطنهم، كما أن الاقتصار على ذكر كلمة "اللاجئين" يفتح الباب للدعاوى الإسرائيلية بأن اليهود الذين أتوا إليها من البلاد العربية قد طردوا من هذه البلاد، ومن ثم فهم يستحقون تعويضات على الأقل.
غير أن هذه الخطوة المصرية لم تلق أي استجابة من إسرائيل، فبدأت مصر حرب الاستنزاف التي وصلت ذروتها في يونيو١٩٧٠م، مما دفع الإدارة الأمريكية إلى التقدم بمبادرة لوقف إطلاق النار ودفع عملية التسوية بموجب قرار مجلس الأمن٢٤٢، والتي قبلها عبد الناصر، غير أنها لم تجد طريقها للتنفيذ سواء بسبب اعتراض إسرائيل على تحريك مصر لصواريخ الدفاع الجوي إلى الخط الأمامي لجبهة قناة السويس، أو وفاة عبد الناصر في سبتمبر١٩٧٠م، وقد تقدم خليفته أنور السادات في فبراير١٩٧١م،بمبادرة لإعادة تشغيل قناة السويس كان من شأنها تجميد الجبهة المصرية وحصر الصراع في الإطار الدبلوماسي، غير أن إسرائيل لم تقبلها، وبالتالي لم يكن هناك خيار سوى الذهاب للحرب، فكانت حرب أكتوبر١٩٧٣م، التي مهدت بتصحيحها لميزان القوى بعد عدوان١٩٦٧م، للبدء في عملية تسوية سياسية بين مصر وإسرائيل ظهرت مقدماتها في اتفاقية فض الاشتباك الثاني بينهما في سبتمبر١٩٧٥م، وتضمنت انسحابًا إسرائيليًا من سيناء إلى خط العريش-راس محمد، على أن يُسْتَكْمَل الانسحاب من الجزء الباقي من سيناء بالتفاوض، وهو ما كان يعني فعليًا إنهاء حالة الحرب بين مصر وإسرائيل، ثم كانت مبادرة السادات بزيارة القدس في نوڤمبر١٩٧٧م، والتوصل إلى اتفاقيتي كامب ديفيد في سبتمبر١٩٧٨م، ثم معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية في مارس١٩٧٩م، كأول معاهدة سلام بين دولة عربية وإسرائيل، وهو الحدث الذي أثار اعتراضًا عربيًا شبه إجماعي، وأدى لقطيعة دبلوماسية مصرية-عربية دامت حوالي عقد من الزمان، خاصة وقد كانت اتفاقية كامب ديڤيد الثانية التي سُميت "إطار السلام في الشرق الأوسط" معيبة لأنها لم تشر للمرتفعات السورية، واكتفت بالحديث عن حكم ذاتي للفلسطينيين في إطار دولة الاحتلال.
واعتبارًا من مطلع ثمانينات القرن الماضي أمسكت السعودية بزمام المبادأة في عملية السعي للتسوية السلمية للصراع، فتقدم الأمير فهد بن عبد العزيز ولي عهد السعودية آنذاك بمبادرة إلى قمة فاس العربية١٩٨١م، تصلح الخلل في اتفاقية كامب ديڤيد الثانية بتأسيس معادلة جديدة للتسوية تقوم إسرائيل بموجبها بالاستجابة للمطالب العربية المعروفة كالانسحاب من الأراضي التي تحتلها، وعودة اللاجئين الفلسطينيين، وإقامة دولة فلسطينية وغير ذلك، في مقابل إقامة سلام عربي-إسرائيلي بضمانات من مجلس الأمن، غير أن القمة لم تتمكن من اعتماد المبادرة بسبب الاعتراض السوري، وهو ما تم تداركه في قمة فاس الثانية١٩٨٢م، التي اعتمدت المبادرة بعد أن تغيرت الظروف بوقوع الغزو الإسرائيلي للبنان وتداعياته، غير أن إسرائيل لم تبد أي استجابة للمبادرة، وشهد عام١٩٩٣م، تطورًا بالغ الأهمية بتوقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل اعترفت المنظمة بموجبها بإسرائيل مقابل اعترافها بالمنظمة، وهو ما اعتُبِر تطورًا جذريًا على أساس أن طرفي الاتفاقية هما أصل الصراع، وبعد عشرين سنة كاملة من مبادرة فاس تقدم الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي عهد السعودية آنذاك بمبادرة جديدة للتسوية لقمة بيروت٢٠٠٢م، قدمت حوافز جديدة لإسرائيل إذا قبلت السلام واستجابت للمطالب العربية، بحيث تنهي الدول العربية حال هذه الاستجابة صراعها مع إسرائيل، وتقيم جميعها علاقات طبيعية معها.
ويتضح مما سبق أن الطرف العربي في الصراع قد استجاب للمتغيرات التي استجدت اعتبارًا من عدوان١٩٦٧م، تداعياته، فقبل من حيث المبدأ السلام مع إسرائيل والاعتراف بها، وقد بدأ هذا التطور مصريًا بقبول عبد الناصر قرار مجلس الأمن٢٤٢، ثم أصبح عربيًا بتبني قمة فاس١٩٨٢م، مبادرة الأمير فهد بن عبد العزيز، واعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة إسرائيل في١٩٩٣م وتبني قمة بيروت٢٠٠٢م، مبادرة الأمير عبد الله بن عبد العزيز التي أصبحت تُعْرف بالمبادرة العربية، واعتُمدت منذ ذلك الحين أساسًا للموقف العربي الرسمي من قضية التسوية، غير أن الملاحظ بوضوح أن إسرائيل لم تكن راغبة في السلام بدليل عدم موافقتها على مبادرتي فاس وبيروت، وإجهاض نتنياهو الذي تولى الحكم للمرة الأولى في١٩٩٦م، لاتفاقية أوسلو، بحيث مر عليها حتى الآن ما يزيد عن ثلاثين سنة دون أن يحدث أي تقدم جوهري على طريق التسوية، وفي هذه الظروف مع استمرار الحصار الجائر على غزة والممارسات الهمجية الصهيونية فيها، وإسقاط نتنياهو لأولوية القضية الفلسطينية، على أساس أن التطبيع مع الدول العربية له الأولوية نستطيع أن نفهم لماذا كانت عملية٧أكتوبر.
ثانيًا-التسوية العصية
كان المناخ السياسي العام في المنطقة قبل عملية٧أكتوبر يشي بتراجع أولوية القضية الفلسطينية لدى إسرائيل، على أساس أن حكومتها اليمينية المتطرفة بالإضافة إلى موقفها المعروف الرافض لدولة فلسطينية أساسًا قد جعلت من استكمال عملية تطبيع العلاقات مع الدول العربية أولوية أولى لها، خاصة بعد توقيع أربع دول عربية مع إسرائيل ما عُرف بالاتفاقات الإبراهيمية، وكان نتنياهو كلما سئل عن القضية الفلسطينية أجاب بأن أولويته الأولى هي التطبيع، وأنه بعد أن يعم السلام المنطقة لن تكون هناك مشكلة فلسطينية، ولا شك أن عملية المقاومة الفلسطينية في٧أكتوبر٢٠٢٣م، قد نجحت في إعادة تسليط الضوء على القضية الفلسطينية كمصدر مزمن للصراع في المنطقة، خاصة وقد بلغ العنف الإسرائيلي في الرد على ضربة المقاومة مبلغه، الأمر الذي حرك دوائر الرأي العام العالمي بما في ذلك الأوروبي والأمريكي، وهو ما مثل ضغوطًا على صانعي القرار في الساحة الدولية خاصة الولايات المتحدة التي وقعت عملية المقاومة في سنة الاستعداد للانتخابات الرئاسية الأمريكية، ومن ثم كان من الضروري للرئيس القائم أن يُظْهِر نوعًا من الاستجابة لقطاعات الرأي العام الأمريكي التي تعاطفت مع الفلسطينيين في وجه العنف الإسرائيلي المفرط، وذلك بغض النظر عن مدى جديته في تنفيذ المواقف التي أعلن عن تبنيها، ومن هنا تركزت الجهود الدبلوماسية عامة على قضيتين أساسيتين أولاهما وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والرهائن بين المقاومة وإسرائيل، والثانية السعي باتجاه الأفق السياسي الأوسع المتمثل في حل الدولتين.
وقد كان من المنطقي البدء بمحاولة إبرام صفقات جزئية للتبادل مقابل وقف مؤقت لإطلاق النار، وشاركت الولايات المتحدة ومصر وقطر بصفة أساسية في هذه الجهود على أساس أن الأولى تمثل ضمانة للمصالح الإسرائيلية والثانية والثالثة تمثلان ضمانة للمصالح الفلسطينية، وبالفعل تم التوصل في٢٢نوڤمبر بعد٤٦يومًا من بدء القتال لهدنة بين الطرفين لأربعة أيام بدأت في٢٤نوڤمبر، وتم تمديدها بعد ذلك بحيث انتهت بنهاية الشهر، وبموجب هذه الهدنة تم وقف لإطلاق النار والإفراج عن٥٠رهينة من المحتجزين في غزة مقابل١٥٠امرأة وطفل فلسطيني محتجزين في السجون الإسرائيلية، ودخول المساعدات للقطاع، غير أن إسرائيل استأنفت القتال بعد ذلك بدعوى انتهاك "حماس" لشروط الهدنة، وبغض النظر عن التفاصيل فقد أظهرت التطورات اللاحقة أن الجانب الإسرائيلي هو الذي يعرقل التوصل إلى أي اتفاقات جديدة للهدنة، وبدا السبب واضحًا لأن المتأمل لمضمون الهدنة الأولى يجد أن محصلتها تشير إلى أن المقاومة قد حققت مكاسب بموجبها تمثلت في الإفراج عن عدد من أسرى المقاومة بلغ ثلاثة أمثال المفرج عنهم من المحتجزين الإسرائيليين، أي أن المقاومة قد حصدت ثمار ما فعلته في٧أكتوبر، بغض النظر عن كم القتل والتدمير الذي وقع في غزة، بينما كانت إسرائيل تريد أن تجعل انتقامها من المقاومة عبرة لكل من يفكر في أن يرفع رأسه يومًا في مواجهتها، وهو ما لم تعكسه اتفاقية الهدنة، ولا فرضته تطورات العمليات العسكرية التي أظهرت صمود المقاومة وعجز إسرائيل عن تحقيق هدفيها الرئيسيين في القتال، وهما تحرير الأسرى والرهائن واجتثاث المقاومة في غزة، ويُضاف إلى هذا بالتأكيد السبب الشخصي الذي يكاد أن يكون موضع إجماع، وهو مصلحة نتنياهو في استمرار الحرب لأطول مدة ممكنة لخشيته من المساءلة القضائية في تهم الفساد لو سقطت حكومته، والتي أُضيفت إليها تهمة التقصير في توقي هجوم٧أكتوبر وإدارة الحرب بعده.
وليس أدل على صحة التحليل السابق من التطورات التي بدأت بقبول "حماس" للورقة المصرية في٦مايو الماضي، والتي ادعى نتنياهو بعد هذا القبول أن مصر قد غيرت في شروط الورقة التي وافق عليها، ويُلاحظ أنه ادعاء لم تدعمه الإدارة الأمريكية، وازدادت الأمور وضوحًا عندما قدم الرئيس الأمريكي بايدن في٣١مايو مقترحًا للتوصل لاتفاق جديد وصفه بأنه إسرائيلي! علمًا بأن نتنياهو بعد أن اتهم الوسيط القطري بالتحيز ومصر بالتلاعب في مضمون الورقة التي قدمتها وصف عرض بايدن للمقترح الإسرائيلي بأنه غير دقيق وغير مكتمل، وهو ما يؤكد التحليل السابق، والأدهى أنه بعد أن وافق مجلس الأمن على المقترح الذي قدمه بايدن، وصرح وزير خارجيته بأن إسرائيل قد وافقت عليه، دون أن يكون هناك أي تصريح إسرائيلي رسمي بذلك، صرح المندوب الإسرائيلي في الأمم المتحدة في لقاء تليفزيوني بأن إسرائيل قد وافقت على "الخطوط العريضة"، وأنه يخشى من تفسير حماس للنص، أي يخشى من أن تكون "حماس" قد فهمت أن هناك حقًا وقفًا لإطلاق النار وانسحابًا وعودة نازحين، وهو ما نص عليه قرار مجلس الأمن، وبطبيعة الحال فإن صدور القرار لم يؤد لأي تغيير في الموقف، وتأكد أن نتنياهو لن يسمح بالتوصل لوقف إطلاق نار جديد لأن المعنى الوحيد لهذا أنه أخفق في تحقيق النصر المطلق الذي يتحدث عنه منذ أكثر من سنة، وقد وضع نتنياهو النقاط فوق الحروف في تصريحاته بتاريخ٢٣يونيو للقناة١٤الإسرائيلية التي تحدث فيها بصراحة كاملة عن استعداده فقط للموافقة على وقف إطلاق نار جزئي لا ينهي الحرب يعيد له بعض المحتجزين، لكنه ملتزم بمواصلة الحرب بعد ذلك لاستكمال هدف القضاء على "حماس"، وقد استمرت بعد ذلك المحاولات من قِبَل الوسطاء لإنجاز هدنة جديدة دون جدوى، فقد كان نتنياهو يضيف شروطًا جديدة كلما لاحت بوادر تقدم، وقد اعترف بايدن في النهاية بأن نتنياهو لا يقوم بما يجب لإنجاح الصفقة، وإن لوحظ أنه ومساعديه كانوا يدلون بتعليقات شديدة التفاؤل بقرب التوصل إلى الصفقة التي لم تتم أبدًا، وكان التفسير الوحيد لهذه التعليقات هو محاولة إعطاء انطباع زائف بتقدم المباحثات لعله يخدم أغراض حملة الانتخابات الرئاسية.
ويمكن القول بأن أحد الأسباب الموضوعية لتعثر جهود الوساطة بغض النظر عن الأسباب الذاتية المتعلقة بنتنياهو أن هذه الجهود تركز على إدارة الصراع وليس حله، وقد يُقال أن حل الصراع أعقد من إدارته، لأن الاتفاق على ترتيبات وقف إطلاق نار وانسحابات مرحلية وتبادل أسرى وما إلى هذا أسهل بكثير من التفاهم حول القضايا المعقدة للوضع النهائي كالدولة الفلسطينية ومواصفاتها وعاصمتها وقضية اللاجئين وغيرها، وذلك مع أنه يمكن القول بأن البدء بالقضايا الكبرى سيحل تلقائيًا القضايا الصغيرة، فإسرائيل مثلًا تحدثت طويلًا لمدة زادت عن السنة عن اجتثاث المقاومة الفلسطينية، ثم تواضعت قليلًا فبدأت الحديث عن تدمير قدراتها العسكرية بعد أن اعترف مسؤولون عسكريون بارزون فيها بأن المقاومة فكرة، وليست مجرد تنظيم عسكري، ولو أننا بدأنا بالأصل وهو الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وأوجدنا له حلًا فإن "حماس" وغيرها من فصائل المقاومة سوف تختفي تلقائيًا، أو تتحول إلى تنظيمات سياسية تتنافس ديمقراطيًا على الحكم في دولة فلسطين المستقلة، ناهيك بأن هذه الدولة ستؤسَّس وفقًا لشروط محددة وواضحة وقاطعة تضمن أمن الدولتين الإسرائيلية والفلسطينية، بما يجنب الجميع مشقة الحديث في كل جولة من جولات التفاوض على قضايا جزئية عن ضمانات معقدة من ناحية، ومرفوضة من ناحية أخرى، لأن إسرائيل تتصرف باعتبارها صاحبة اليد العليا في أي ترتيبات بما يتيح لها انتهاك سيادة الآخرين بدعوى الحفاظ على أمنها، بينما أمن الآخرين هو المهدَّد.
وهكذا فإن هذه الفكرة البديلة تعكس اتجاه جهود التسوية من البدء بالجزء إلى مقاربة القضايا الكلية، بحيث تكون هذه المقاربة كفيلة حال نجاحها بحل القضايا الجزئية تلقائيًا، غير أن المعضلة أن إسرائيل الحالية تستبعد هذه المقاربة أصلًا، وحتى في أقصى حالات حكوماتها اعتدالًا كحكومة إسحق رابين التي وقعت اتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية فإننا غير متأكدين من أن توقيع هذه الاتفاقية كان يعني ضمنًا الموافقة على إنشاء دولة فلسطينية، بل إن كافة الشواهد تشير إلى العكس، فبينما اعترفت المنظمة بدولة إسرائيل بموجب هذه الاتفاقية اكتفت إسرائيل بالاعتراف بالمنظمة، بينما أجلت كل قضايا الوضع النهائي وعلى رأسها الدولة الفلسطينية للحسم في الفترة الانتقالية، وهو أسلوب برعت إسرائيل فيه منذ توقيع اتفاقية كامب ديڤيد الثانية، بحيث تتكفل المماطلة الإسرائيلية في الفترة الانتقالية بتفريغ التزاماتها التعاقدية من مضمونها، وإذا كان هذا هو حال إسرائيل المعتدلة فما بالنا بإسرائيل الحالية التي تحكمها أكثر حكوماتها تطرفًا، وهو أمر شديد الوضوح منذ إقرار قانون الدولة القومية في٢٠١٨م، والتشريعات والتصريحات الإسرائيلية الأخيرة التي تصب كلها في خانة رفض إقامة دولة فلسطينية وإلحاق الضفة الغربية وغزة بإسرائيل، أو على الأقل استعادة السيطرة الكاملة عليهما، فما العمل؟
خاتمة: ما العمل؟
أوضح التحليل السابق مدى استعصاء تسوية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي سواء من خلال اتفاقات جزئية أو مقاربات شاملة، ولا يخفى أن السبب الأصيل في هذا الاستعصاء هو الرؤية الإسرائيلية للصراع التي لم يعد المسؤولون الإسرائيليون يخفونها، ولهذا فلا مفر من ممارسة أقصى أنواع الضغوط على إسرائيل كي تقبل بتسوية متوازنة بعيدًا عن إملاء شروطها على الجميع، ومصدر هذه الضغوط لن يخرج عن أمرين أولهما الاستمرار في مقاومة الاحتلال وفق استراتيجية وطنية فلسطينية رشيدة تتجاوز الانقسام الحالي وتحدد أساليب المقاومة الأكثر فاعلية لاسترداد الحقوق الفلسطينية، أما الأمر الثاني فهو ضغوط دبلوماسية واقتصادية تمارسها البيئة الحاضنة للمطالب الفلسطينية المشروعة وتستعين فيها بالتحولات التي حدثت في الرأي العام العالمي، وكذلك في مواقف بعض الحكومات الغربية باتجاه مناصرة القضية الفلسطينية، فضلًا عن الاستفادة من مواقف الأقطاب الدولية التي تحاول ترسيخ مكانتها على قمة النظام الدولي، ومحاولة تطويرها لتكون أكثر فاعلية في هذه المواجهة، وقد بادرت السعودية في الآونة الأخيرة بجهود واضحة في هذا الاتجاه تجسدت في خطوتين مهمتين أولاهما رعاية آلية التحالف العالمي لتنفيذ حل الدولتين في نهاية أكتوبر الماضي، وهو التحالف الذي أعلنه وزير الخارجية السعودي في٢٧سبتمبر الماضي عقب الاجتماع الوزاري حول الوضع في غزة، وقد نظمت هذا الاجتماع مجموعة الاتصال الوزارية للجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي والاتحاد الأوروبي والنرويج على هامش اجتماعات الدورة (79) للجمعية العامة للأمم المتحدة، والخطوة الثانية هي عقد القمة العربية الإسلامية غير العادية في الرياض في١١نوڤمبر، والتي استخدم بيانها الختامي لغة دبلوماسية خشنة، كما اتضح في مطالبة مجلس الأمن باتخاذ قرار بموجب الفصل السابع، والدعوة لمقاطعة منتجات المستوطنات، والعمل على حشد الدعم الدولي لتجميد مشاركة إسرائيل في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وحصول فلسطين على عضوية كاملة في الأمم المتحدة، ومطالبة جميع الدول بحظر بيع الأسلحة والذخائر أو نقلها لإسرائيل، ولا شك أن المهمة صعبة، ولكن لا شك في الوقت نفسه أن الظروف بعد ما يزيد عن سنة من ارتكاب إسرائيل كل هذه الجرائم في المواجهة الحالية أصبحت أكثر ملاءمة للتحرك الدبلوماسي لحشد الجهود من أجل نصرة القضية الفلسطينية.