عاش مسلمو العالم على وقع "زلزال" حقيقي أقضّهم جميعًا، إذ لم يكن يدور بخلد أيّا كان منهم بأنّ أحد مقدّساتهم الدينية، ألا وهو المسجد الأقصى في القدس الشريف، سيقع إحراقه في غفلة من الزمن ومنهم، فعدّوا ذلك تقصيرًا منهم وتفريطًا في أولى القبلتيْن وعنوان عجز أمّة كاملة عن صدّ عدوان يستهدف وجودها وكيانها، فكانت الصدمة كبيرة للغاية، والإحساس بالعجز أكبر، والرغبة في حماية مقدّسات الأمّة وقادة جدّا.
لذلك، كان التداعي سريعًا أيضًا، فانبعثت منظّمة المؤتمر الإسلامي في 25 سبتمبر 1969م، ولم يمض على هذه الجريمة أقلّ من شهر، كما كان التنادي لإرساء أسس هذه المنظّمة أسرع، فأحدثت أمانة عامّة دائمة لها ومقرّها في جدّة بالمملكة العربية السعودية عقب أوّل مؤتمر لوزراء خارجية الدول الإسلامية في سنة 1970م، وما الهيئات والمنظّمات التي تتشكّل ضمن دائرة منظّمة المؤتمر الإسلامي قديمًا، منظّمة التعاون الإسلامي حاليًا، إلاّ دليل على هذا الوعي بضرورة استمرارية مسارّ منظّمة تشكّل ثقلا بشريا وحضاريا كبيرا، فهي ثاني أكبر تجمّع دولي بعد منظّمة الأمم المتّحدة، وتسعى منذ تأسيسها أن تكون صوتًا حقيقيًا وضميرًا حيًّا للأمّة الإسلامية المترامية في كلّ قارّات الأرض.
من الواضح، أنّ تشكّل العديد من الهيئات الإقليمية والدولية طيلة القرن العشرين تمّ إثر حدث جلل واستثنائي، على غرار "عُصْبة الأمم" عقب الحرب العالمية الأولى التي أوقعت شرخًا جسيمًا في الوجدان العالمي وضميره إلى الآن، وإن كان متفاوتًا من منطقة إلى أخرى، فالزهوّ بانتصارات العلم والتقنية خاصّة طيلة القرن التاسع عشر، أعقبته حيرة وتساؤلات وجودية عبثية أحيانًا عن ماهية الحضارة التي كلّما تقدّمت إلاّ وأمعنت في التقتيل والإبادة على مستويات أكبر وبطرق أبشع كما حدث خلال الحرب العالمية الأولى.
كما لم يشذّ تأسيس "منظّمة الأمم المتّحدة" عن هذه القاعدة، وذلك في سنة 1945م، عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي بيّنت بوضوح كلّ الوجاهة القائلة بأنّ الإنسان كلّما تقدّم أكثر في التقنية و "تحضّر" أكثر إلاّ فقد إنسانيته تدريجيًا، كي يقف على حافة التوحّش الواعي، وهذا ما تجسّم بوضوح خلال هذه الحرب بدْءًا بجرائم التطهير النازي وختامًا بإلقاء الأمريكان للقنبلتين النوويتين على اليابان صيف 1945م.
صحيحٌ أنّ المجال لا يسمح هنا بالإفاضة عن كلّ هذه المنظّمات، لكن، لا تخلو كلّها تقريبًا من ظاهرة التداعي عقب حدث جلل مَا، قد يكون سياسيًا أو اقتصاديًا أو طبيعيًا.
وهنا بالذات، لم تكن منظّمة المؤتمر الإسلامي استثناءً، ولسائل أن يتساءل: ما الذي دعا إلى هكذا توجّه بالرغم من أنّ فلسطين تقع ضمن مجال الوطن العربي، فالأحرى أن تتحرّك جامعة الدول العربية الهيكل المنظّم لهذا المجال منذ إنشائها في مارس 1945م.
ناهيك، وأنّ الجامعة العربية هي التي اهتمّت منذ ما قبل "نكبة" 1948م، بالموضوع الفلسطيني وحاولت جاهدة وفق إكراهات تلك المرحلة الدفاع عن الحق الفلسطيني، كما أنّ فداحة الجلل الذي وقع في أوت 1969م، يحتّم السرعة القصوى في التدخّل والتحرّك إقليميًا ودوليًا لحشد التنديد العالمي بهذه "الجريمة"، وهنا بالذات، بإمكان جامعة الدول العربية أن تقوم بهذا الدور بالنظر إلى تراكم التجربة في هذا الموضوع الفلسطيني منذ حوالي ربع قرن.
من الواضح أنّ التقييم عندئذ خلُص إلى ضرورة أن يكون الردّ متناسقًا مع حجم الجُرْم المرتكب، خاصّة وقد تبيّن جرّاء عملية حرق المسجد الأقصى وجود أفئدة في كامل العالم تهوى إلى أرض فلسطين وتتابع ما يحدث فيها و"انتفضت" للواقعة، إنّها "الأمّة" الإسلامية المنبثة في أرجاء الأرض، وفي هذه اللحظة بالذات، لحظة الإحراق، لم تعد فلسطين محشورة في زاوية جنوب غرب آسيا بل باتت قضيّة عالمية.
لذلك، بات من المؤكّد التوجّه نحو تكريس هذا الواقع الجديد تناغمًا مع "الزلزال" المعنوي الكبير الذي لوحظ لدى مسلمي العالم.
فكانت منظّمة المؤتمر الإسلامي! وكانت جدّة القريبة من الحرميْن الشريفيْن! ولم يكن هذا الاختيار مجرّد صدفة، بل هو تأكيد بأنّ ثالث الحرمين الشريفيْن المسجد الأقصى جزء لا يتجزّأ من المقدّسات الإسلامية، التي لا يمكن بأيّ حال من الأحوال المساس بها، وأنّ لهذه المقدّسات "أمّة" تحميها، ومقرًّا رمزيًا يُؤويها ودولة هي المملكة العربية السعودية في زمن الملك الراحل فيصل تكفّلت بالدفاع عن كلّ الرمزيات واعتبرت نفسها مؤتمنة على حياض الأمّة الإسلامية.
وقد تجلّى ذلك بوضوح خلال حرب أكتوبر 1973م، وحظر النفط على الدول الغربية الداعمة لإسرائيل.
لكن، لا يمكن أن نتجاهل الظرفية التي أنشئت خلالها منظّمة المؤتمر الإسلامي، والمتميّزة بالحرب الباردة، وما يعرف بـ"القطبية الثنائية" بين المعسكر الشرقي الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي سابقًا، وبين المعسكر الغربي الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية خاصّة، إذ مكّنت هذه الظرفية المنظّمة من هامش مناورة قصد إبراز وجودها كتجمّع "دولي" له كلمته ووزنه، بل، ويُخشى جانبه كما مواقفه، ولعلّ أفضل مثال على ذلك التدخّل السوفياتي في أفغانستان سنة 1979م، والدور الذي قامت به منظّمة المؤتمر الإسلامي في التنديد به كما في التعبئة لمحاولة إفشاله.
وهنا بالذات، يكمن التحدّي الأكبر الذي اعترض وما زال منظّمة التعاون الإسلامي –المؤتمر سابقًا-، إذ، ومع الاحتكام إلى إكراهات الظرفية التي تتميّز بالحركية المتواصلة، فهل ستكون لهذه المنظّمة القدرة الثاقبة على استقراء الوضع جيّدًا، ومن ثمّة التماهي معه، كي تكون قراراتها نافذة وذات أثر يصبغ عليها المزيد من الشرعية وخاصّة التمثيلية، تمثيلية زهاء ملياريْ مسلم في العالم؟ أم أنّ قدرها في أن تصطفّ إلى ذات المنظّمات التي تشبهها سواء كانت إقليمية أو دولية، والتي شكّلت وما زالت المشهد المؤسّساتي لما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي ترزح إلى الآن من عبء العجز عن الفعل في عالم متغيّر دوْمًا، وفي تحالفات غير مستقرّة تكون هي ضحيّتها دومًا من خلال الإمعان في تهميشها ومنعها من أن تكون لديها القدرة على الفعل واتخاذ القرار الرادع.
هذا ما لوحظ لدى هذه المنظّمات التي باتت عنوانًا للعجز عن ردع العدوان وعن منع المجازر ضدّ الإنسانية، ولعلّ أهمّها ما يقع في قطاع غزّة الفلسطيني، إذ اقتصر الأمر على التنديد والاحتجاج وحتى محكمة العدل الدولية باتت عاجزة في وقف العدوان، ولا نتحدّث هنا عن محكمة الجنايات الدولية التي باتت قراراتها حبرًا على ورق، وآخرها مذكّرة اعتقال ضدّ رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي مزّقت قبل أن يجفّ حبرها.
من الواضح، أنّ العالم حاليًا يشهد متغيّرات متسارعة، ولم نعد بالتأكيد في عصر القطبية الواحدة لفترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فنحن نسير حتمًا إلى عالم متعدّد الأقطاب قد يكون عنوانه كيفية إجهاز الأقطاب الصاعدة (الصين، الهند، روسيا) على القطب "العجوز" (أوروبا الغربية والولايات المتّحدة الأمريكية)، ولعلّ مآل الصراع في أوكرانيا هو المحدّد في قادم الأيّام.
ومن الواضح أكثر أنّ على منظّمة التعاون الإسلامي، التي لا تألو أجهزتها التنظيمية المتفرّعة منها عن أيّ جهد في العمل الإسلامي المشترك، أن تشارك بفعل أكبر على المستوى الإقليمي والدولي، حتى لا تكون مظهرًا لهذا العجز الجماعي كما لدى هذه المنظّمات الدولية والإقليمية، وحتى لا تكون خاصّةً واجهة تستعملها هذه الدولة القويّة أو تلك لفرض أجندتها بالقوّة، وتطويع قوانين هذه المنظّمات أو قراراتها لأهوائها ومصالحها الخاصّة بها، ولعلّ أفضل مثال لذلك هو إشهار البند السابع في ميثاق منظّمة الأمم المتّحدة في وجه كلّ من تعدّه الولايات المتّحدة الأمريكية أو الغرب الأوروبي عدوًّا له أو مناهضًا لمصالحه، كما هو الحال مع العراق في عهد صدّام حسين أو ليبيا في عهد معمّر القذافي.
ممّا تقدّم، هل على منظّمة التعاون الإسلامي أن تقبل بأن يقع تصنيفها ضمن هذه المنظّمات "المشلولة" والرازحة تحت هيمنة الطرف الأقوى ووصايته؟ أم عليها أن "تتمرّد" على هذا "الأمر الواقع" وترفض "الزاوية" التي يدفع البعض إلى حشرها فيها؟ وذلك بالرغم من كلّ الجهد المحموم الذي تقوم به أجهزتها التابعة لها من أجل النهوض بالعالم الإسلامي في ميادين مختلفة، لكن الهيمنة شبه المطلقة للجانب السياسي والدبلوماسي في العلاقات الدولية تمحو كلّ ذلك الجهد بجرّة قلم على ضوء إكراهات الواقع التي تصوّر منظّمة التعاون الإسلامي كما باقي المنظّمات في حالة العجز المستمرّ.
في الواقع، لا يمكن لمنظّمة مثل منظّمة التعاون الإسلامي إلاّ أن "تتمرّد"، وتحاول أن تشقّ طريقًا لها في هذه الظلمة الحالكة، حتى تتمكّن من أن تتموقع دوليًا وتصبح رقمًا دوليًا صعبًا كغيرها من القوى الصاعدة، لكن كيف؟ وهل هذا ممكن.
وهل ثمّة حلّ آخر غير هذا التوجّه؟ اعتقادي أنْ لا خيار للمنظّمة إلاّ سلوك هذا الطريق الصعب! وإلاّ فإنّها ستجد نفسها يومًا مَا من ضحايا الواقع العالمي الجديد المرتقب الذي سينهي حتمًا كلّ ما يرمز إلى مفرزات ما بعد الحرب العالمية الثانية!
ما العمل إذًا؟ والمسألة باتت إمّا صمودًا واستمرارية أو فناءً واضمحلالًا.
لنبدأ من البدء
كانت الغاية من إنشاء منظّمة المؤتمر الإسلامي سنة 1969م، هي الاحتجاج على حرق المسجد الأقصى – الرمز في القدس الشريف والتنادي للدفاع عنه، وقد اكتشف وقتها كلّ من تأثر بهذا الإحراق للمقدّس بأنّه ينتمي إلى أمّة واحدة ودين واحد، وإن تباعدت المسافات واختلفت اللغات واللهجات وتباينت الأعراق، وقد تجسّم ذلك وقتها في بعث هذه المنظمة-الجامعة لهم جميعًا، لكن لا يكفي الشعور على جسامة معناه في ضمان استمرارية هذا التجمّع، لأنّه يبقى شعورًا مؤقتًا ووقتيًا! لذلك، الأفضل لهذه الأمّة أن تبحث عن مكامن قوّتها فتدعّمها وعن مكامن ضعفها فتنهيها، وهنا يكمن دور منظّمة التعاون الإسلامي في هذه المرحلة الدقيقة التي تعيشها الأمّة الإسلامية كما العالم.
لا أحد ينكر بأنّ هذه الأمّة مستهدفة في كيانها وفي وجودها، ولا أحد ينكر أيضًا بأنّ شرعية منظّمة التعاون الإسلامي تقوم على نصرة القضيّة الفلسطينية التي أعطت صكّ الميلاد لها ذات سنة 1969م، لكن ها هي فلسطين تقضم شيئًا فشيئًا بمرور السنوات وترتكب في بعض أراضيها أبشع مجزرة في القرن الحالي، وقد يأتي اليوم الذي لن يتبقى من فلسطين إلاّ التسمية، بينما ينصهر ما تبقى من كانتونات متباعدة في الكيان الإسرائيلي الذي انفتحت شراهته حاليًا بصفة مخيفة، فبات البعض داخله يؤمن بقرب تحقيق الوعد التوراتي بـ"أرض إسرائيل الكبرى".
لكن هذا الاستهداف ليس من الخارج، خارج حياض الإسلام فقط، بل داخلها وضمنها أيضًا، وهو الذي يضعفها ويثخن فيها أكثر، إنّها تلك المجموعات التي لا تتورّع في استهداف المسلمين كما غير المسلمين باسم فهمهم الخاصّ بهم للدين، وفي اعتقادي، لقد كانت ارتدادات أفعالهم وَبَالاً على الأمّة الإسلامية وأكثر إيلامًا من جرائم المناهضين للدين الإسلامي، بل إنّ أفعالهم تغذّي جرائم الآخرين وتعطيهم المسوّغ للقيام بها باسم الدفاع عن الحضارة أو الإنسانية أو أي مبرّر آخر.
لذا، على القائمين على منظّمة التعاون الإسلامي التفكير جدّيًا في أفضل السبل لإنهاء هذه الظاهرة حتى تتمكّن من القيام برسالتها الموكلة إليها وهي النهوض بهذا العالم الإسلامي.
صحيحٌ أنّه ثمّة فرق كبير بين من يبدي رأيه هنا كحالنا، وبين من يسعى لذلك على الواقع ولا يتمكّن من تحقيق المطلوب، فالعوائق كبيرة جدّا، ولعلّ أهمّها كيفية جمع أمّة الملياريْن مسلم تقريبًا على كلمة سواء فيما بينهم؟ أمّة يجمعها الدين لكن تفرّقها اللغة والعرق والثقافة...وأنظمتها متباينة، لكن مثلما رأينا قدرة هذه المجموعات على تعبئة من ينتسبون إلى هذه الأمّة بكيفية غريبة بقطع النظر عن منشئهم ولغتهم التي لا يفهمونها كما رأينا ذلك في تنظيم القاعدة بأفغانستان وخاصّة تنظيم داعش في العراق وسوريا، وقبله جبهة النصرة في سوريا، إذ تمكّنوا من استقطاب أفرادًا وجماعات غير قادرة على التواصل فيما بينها لغويًا. لكن اجتمعت حول هذا التنظيم أو ذاك، وأطاعت الأوامر وارتكبت المجازر بحق المسلمين قبل غيرهم!
فمن باب أوْلى وأحرى أن تتمكّن منظّمة التعاون الإسلامي بما لها من ثقل معنوي كبير داخل العالم الإسلامي وبفضل مؤسّساتها، من أن توحّد المفاهيم الإسلامية وتضع مدوّنة سلوك إسلامية ملزمة لجميع مسلمي العالم، وذلك بعد القيام بكلّ ما يدفع لهذا الاتفاق من ترتيبات مسبقة، ولعلّ علماء المسلمين هم الذين سيقع عليهم الثقل المعنوي الكبير لهذه المدوّنة، ونعني بالعلماء كلّهم دون استثناء ولا يقتصر الأمر على علماء الدين فقط، على أهمّية وجودهم هنا، وذلك لأنّ هذه المدوّنة هي محدّدة لسلوكيات المسلم وأهداف الأمّة كما محدّدة لسلوكياته مع "الآخر" في جميع المجالات.
فقد بات العالم قريبًا منّا جدًّا، وانتفت الحواجز والمسافات، وهذا من شأنه أن يرتدّ على السلوكيات الجماعية والفردية، وعليه، لا يمكن لأيّ كان أن يعيش متقوقعًا ومنكفئًا على نفسه بينما هو محاصر فعلًا من كلّ جانب، ولا يمكن أن يكون الحلّ بغمس الرأس في التراب، بل على المسلم أن يواجه واقعه والمتغيّرات المتسارعة فيه بروح العصر وليس بروح الرفض والتكفير، فالدين الإسلامي هو دين عالمي، وهو دين بإمكانه أن يتأقلم مع متغيّرات الزمن عكس أديان أخرى التي اضطرّ أتباعها إلى حشرها في الزاوية منذ قرون واستبعادها من الحياة العامّة.
وذلك لأنّ القائمين عليها عملوا أن تكون جامدة وقاتلة لكلّ روح وثابة للتقدّم، وإذا كان الإسلام يدفع في تعاليمه إلى هذه الروح، فإنّ عدم القدرة على تدوين مدوّنة السلوك الجماعي والملزمة للجميع هي التي أدّت إلى هذه الممارسات الخاطئة والتي أساءت كثيرًا إلى سمعة الإسلام والمسلمين في العالم.
لذلك على القائمين على منظّمة التعاون الإسلامي أن يعملوا على إقناع أولي الأمر المؤثرين في العالم الإسلامي بهذا التوجّه، وتبنّيه علنًا، ومن شأن هذا التوجّه إن نجح أن يمكّن المنظّمة من قوّة ضغط فعّالة يجعلها تعلن قراراتها في هذا السلوك أو ذاك في أيّ مكان من العالم وتبيّن موقفها من هذه المسألة أو تلك، وتصبح بالتالي مرجعية عالمية وحيدة للدين الإسلامي يُرجع إليها ويُهتدَى برأيها، لا كما هو الحال الآن: تعدّد المرجعيات وتباينها وتضادها إلى درجة الشقاق والصراع الدموي.
ومن البديهي، أنّه لا يمكن لهذه المنظّمة أن تتخذ هذا الدور، إلاّ إذا كانت هناك إرادة قويّة من عديد الدول الإسلامية في سلوك هذا التوجّه، دون ذلك لن يحدث أيّ شيء. وإن كنّا نعتقد شبه جازمين بأنّ هذا التوجّه ممكن جدًّا بالنظر إلى أنّ الدول ذات الثقل المعنوي الكبير سواء عدديًا كإندونيسيا أو ماليزيا أو كرمزية دينية كبيرة كالمملكة العربية السعودية قد اختارت التوجّه نحو استحثاث مواكبة المسلم لعصره دون التخلّي عن جذوره وثقافته ودينه، وأعطى بعضها المثال واضحًا في أن لا تناقض قطّ بين الدين والعلم، بين الدين والتطوّر، بين الدين ومواكبة العصر، بل أعطت مثلًا بيّنًا من الواقع بأنّ الدين الإسلامي دين حيّ ومتطوّر ولديه قابلية كبيرة على تحقيق الموازنة الضرورية عكس أديان أخرى قبلت أن تكون على الهامش بعد أن لفظتها مجتمعاتها في فترات تاريخية سابقة.
لكن، واقعيًا، لا يمكن أن يتجسّم هذا التوجّه قريبًا، لذلك، وجب التحضير الجيّد له واستنباط السبل الكفيلة بإنجاحه، ولعلّ البداية تكون بتجاوز منظّمة التعاون الإسلامي لتحدّ آخر فرض عليها هذه المدّة وهي كيفية تحويل الأطماع الإقليمية في التموقع في هذا الطرف أو ذاك إلى تعاون حقيقي من أجل تحقيق المنشود إسلاميًا: وحدة العالم الإسلامي في مواجهة مناهضيه وأعدائه، عوض التناحر الخفيّ أحيانًا والظاهر أحيانًا أخرى من أجل تحقيق مصالحٍ، تبيّن من قبل كما سيُتبيّن لاحقًا أنّها لا تخدم إلاّ مشروعًا وحيدًا في المنطقة إن تحقق فإنّه سيمسك بخاصرة العالم الإسلامي ويفتتها.
لذا، فمن مهامّ منظمة التعاون الإسلامي، إنْ أعطيت لها الصلاحيات كما سلطة القرارات وتنفيذها، أن تقنع من ما زال يؤمن بتحقيق هلاله في شمال شبه الجزيرة العربية بأنّ هذا التوجّه منتهى العبث، وقد بيّنت الأحداث في سوريا ذلك مع سقوط النظام فيها، كما على هذه المنظّمة أن تقنع من ما زال يعتقد بإحياء نفوذه في كلّ المنطقة العربية بعد أن أطرد منها في الحرب العالمية الأولى، فبات تحدوه الرغبة في الثأر غير المعلن، وإن غلّفه بشعارات تتباين من فترة لأخرى، لكن، تخفي كلّها أطماعه في هذه المنطقة العربية الاستراتيجية.
ولا يمكن أن يتخذ الإقناع إلاّ منْحى واحد، ويتمثل في إبراز أنّ ما يحدث منهما هو منتهى العبث بمصالح الأمّة الإسلامية، والأحرى أن يضعا أيديهما في يد دول المشرق العربي للدفاع عن حياض الأمّة وتكوين تكتل إسلامي إقليمي قويّ تحت رعاية منظمة التعاون الإسلامي ومباركتها، وهذا أفضل بكثير ممّا نراه منذ عقود من تناحر أدّى إلى هذه الصورة المأساوية التي تعيشها المنطقة الشمالية من شبه الجزيرة العربية والتي لم تنقطع فيها الحروب والصراعات منذ تسعين سنة تقريبًا!
أفما آن لها أن تستريح قليلًا من وعْثاء الصراع وتلتفت إلى ما هو أفضل للأمّة؟
قد يكون هذا هو قدر منظّمة التعاون الإسلامي الواجب عليها القيام به! لكن على الجميع أن يمنحها السلطة الكاملة والصلاحيات التامّة وخاصّة منها التقريرية لإنجاز هذا الحلم وإلاّ... فدار لقمان على حالها! والقادم أسوأ لا قدّر الله!