array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

الدراسات المستقبلية: المباني.. التيارات والفوائد

الأربعاء، 01 أيلول/سبتمبر 2010

يعد هذا المقال محاولة أولية للتعرف إلى موضوع لا يزال طرياً على تنظيرات العلماء والخبراء والطلاب الذين يُعلمون ويتعلمون في الجامعات ومراكز الدراسات والبحوث، رغم مضي مدة ليست بالقليلة على البدء الإنساني بتأطير وتنظير الاهتمام بالدراسات المستقبلية، كما أنه يأتي في إطار الرغبة في زيادة المعرفة، وفي نطاق أوسع لكل الناطقين باللغة العربية الذين يهتمون بكيفية بناء المستقبل. إننا نريد ونقصد في هذا المقال أن نضيف نغمة جديدة إلى البحوث الأكاديمية في العالم العربي، عنوانها (الدراسات المستقبلية).

 إننا نعيش في عصر أهم صفاته وخصائصه التسارع، بمعنى ظهور مؤشرات إلى سرعة انتقال البشر والمعلومات والأموال، ونحتاج إلى آليات حديثة لكي نفهم ونقيّم ما يحيطنا من التطورات والحوادث. والصفة الثانية هي التغيير، فالتغيير في زمننا هو الشيء الثابت الذي لا مفر منه، بحيث إنه جزء لا يتجزأ من حياتنا المجتمعية والاقتصادية والسياسية وحتى الدولية. التغيير في ظرف التسارع الذي تعيشه المجتمعات البشرية يجعلنا نعيش ما يمكن أن نطلق عليه بالانفتاح على الاحتمالات المتعددة، وهي تدفع تفكيرنا إلى جهات متعددة، إذ تظهر فيها إمكانية لبناء المستقبل إن امتلكنا القدرة والإرادة لذلك، وتظهر فيه صعوبة في الوقت نفسه نظراً لصعوبة إدراك التسارع في التغيير أو اللحاق به في خضم منافسة إنسانية عالمية شرسة لضمان التفوق والريادة، وهو ما يعطي أهمية مضافة طالما ستشكل قراراتنا في شتى المجالات لا سيما السياسة والاقتصاد والثقافة.

 وكنتيجة للتسارع والتغيير، يبدو أن الأشياء لن تستقر أبداً في حياتنا الفردية والجماعية، ولا بد أن نذهب مذهباً حذراً طالما تأكد أننا نمشي في ظروف عاصفة وغير مستقرة، ولا يمكننا أن نرى وجهاً ثابتاً للعالم لكي نخطط خطة ذكية لشخصنا وأسرتنا ومجتمعنا. فكل تسارع في التكنولوجيا يتبعه تغير بدرجة أو أخرى في الاقتصاد والسياسة والمجتمع، وهلم جرة مع بقية المتغيرات الأخرى، الأمر الذي جعل الحياة تأخذ مظهراً مركباً ومعقداً، ويصبح صعباً يوماً بعد يوم معرفة ماذا سيحدث العام المقبل؟ أم ماذا سيحدث في العقد أو حتى العقود الآتية؟ إذاً لننظر إلى تقدم البحوث العلمية الحديثة والتقنيات المتطورة الجديدة التي تحدث بشكل مستمر أمام عيوننا وبشكل يبدو مذهلاً أو مفاجئاً، ونعترف بأن تأثيره في عناصر الحراك الاجتماعية متعددة ومتنوعة وقوية، بل إن له تأثيراته التي لا تنكر في الاقتصاد والسياسة. وبات الاعتقاد بالقول إن الآتي أشبه بالماضي اعتقاد لن ينفعنا كثيراً ولن ينقذنا أبداً من مواجهة عالم يزداد الغموض فيه وتزداد الحاجة لمعرفة الفرص والتحديات.

 إن الدراسات المستقبلية الحديثة نشأت في الغرب في أواسط القرن العشرين، وكان هدفها تخفيف قلق الساسة وأبناء الشعوب إزاء مستقبلهم، عبر تسليط الضوء على إمكانية، وضرورة، وكيفية التفكير والتدبير بشأن المستقبل، وتنظيم وترسيم خرائط الطريق كما يمارس الآن في بعض الأوساط السياسية مما يعد نتاجاً بارزاً عن إجراء تلك الدراسات من قبل ذلك الغرب. والمراد من المستقبل في هذا الإطار الفكري الجديد هو كل أو بعض مما سيحدث في الأعوام المقبلة، بمعنى كل ما سيحدث في المستقبل القريب (أقل من خمس سنوات) والمتوسط (بين 5 – 25 عاماً المقبلة) والبعيد (بين 25 – 50 عاماً المقبلة) أو البعيد جداً (أكثر من 50 عاماً المقبلة). وبهذا يمتاز الخبراء في الدراسات المستقبلية عن غيرهم بأن الأفق الزمني للتقدير عندهم سقف يمكن أن يكون أكثر انفتاحاً، في حين أنه في مشروعات التخطيط الاعتيادية لا يتجاوز عاماً واحداً خاصة في الأسواق المالية والشركات التجارية، وكذلك حينما يريد المحللون والمخططون تنظيم وتقييم التقديرات بشأن العوائد والمدفوعات والأرباح. أيضاً المراد من دراسة المستقبل في مشاريع التنمية الحكومية وتمويل البنية التحتية هو خمسة أعوام على الأكثر، لكن يهتم خبراء المستقبل بمدى أطول قد يصل إلى العقد أو العقود الآتية.

 ومما يجدر ذكره أن الخبراء والمختصين في الدراسات المستقبلية أكثرهم علماء علمانيون ويستندون إلى التفكير الاستقرائي، والتخيل المنضبط، والتعليل العلمي والتفسيرات ذات المنهجية الأكاديمية الواضحة في بحوثهم ومناقشاتهم، ولذلك يبقون على مسافة بعيدة عن الذين يشتغلون بالكهانة والتنجيم والعرافة وتفسير الأحلام وما أشبه من العلوم الغريبة أو الدينية أو ما شابه ذلك.

 ويبدأ خبراء البحوث المستقبلية بلفت انتباه المحقق الاجتماعي والناشط السياسي بأن المستقبل سوف لا يكون واحداً ومفرداً بل هو متعدد وجماعي، وأيضاً غير قابل للتحديد تحديداً جزمياً قبل وقوعه. فلا يجوز أن نقول ماذا سيكون بالضبط مستقبل هذا الشيء أو الموضوع أو القطاع فعلاً وقطعياً، بمعنى ألا يطلب من هؤلاء الخبراء تقديم التنبؤات المضبوطة. كما نلاحظ في أوساطهم أنهم ينفون التقدير والجبر نفياً تاماً، ومن ثم إنه من المؤكد أن نتحدث ونبحث عن مستقبلات (كلمة جمع لمفرد المستقبل) بانتباه كبير لقرار وعمل الإنسان في صنع مستقبله. ونحن البشر يمكننا أن نكتشف دائرة المستقبلات اعتماداً على عقولنا وتفكيرنا وتخيلنا لكي نشعر ونتجنب السلبيات، ونحدد الإيجابيات في كافة المستقبلات قبل تحققها فعلاً، وبعدئذ نحاول معاً يداً بيد أن نصمم ونحقق ما نطمح إليه ونبني واقع مجتمعنا اعتماداً على قلوبنا وإرادتنا. وطبعاً إذا لم نهتم بمستقبلنا سيهتم به الآخرون وسوف يحددونه ويبنونه مثلما يشاؤون، طالما أن الحياة البشرية محكومة بقلة الفرص والموارد، والصراع جانب مهم غير منكر في تلك الحياة.

  إن المستقبلات التي يمكن رصدها تقع في أربعة أنواع أو دوائر، وهي كالآتي:

 * الدائرة الأولى، هي الكبرى وعنوانها (الممكنات) التي تشمل كل ما نستطيع أن نتصوره أو نتخيله كبشر بغض النظر عن انطباقه على ما يسمى المعقول في الزمن الحاضر. على سبيل المثال يمكننا أن نتصور في خيالنا ظهور اقتصاد لإفريقيا (قارة أو دول) أقوى من الاقتصاد الحالي في أوروبا، لكن نظراً إلى الوضع الراهن في هاتين القارتين وإدراكنا القوانين الاجتماعية والاقتصادية والبيانات التنموية فهذا أمر غير معقول.

 * الدائرة الثانية تقع في الدائرة الأول وهي جزء منها، أي دائرة صغرى إلى حد ما وهي تسمى دائرة (المعقولات). وعلى الرغم من أنه يجوز وجود بعض التناقضات ما بين دائرة الممكنات والقوانين السائدة والمعلومات الحاضرة في القطاعات السياسية والاقتصادية والتقنية وغيرها، إلا أنه من الجدير بالذكر أنه لا يجوز بتاتاً وجود أي تناقض بين محتوى دائرة المعقولات من جهة وفهمنا الحاضر عن القوانين والمعطيات والمعلومات المتوفرة لدينا من جهة أخرى. مثلاً اندلاع صراع قومي واندلاع حرب بين القوى الكبرى الأوروبية في المستقبل أمر ممكن من جهة ومعقول من جهة أخرى، نظراً إلى تاريخ هذه القارة. لكن هذا السيناريو المعقول غير محتمل عندما نلاحظ تأسيس الاتحاد الأوروبي في الفترة الأخيرة ووجود ظاهرة المصالحة الكبيرة وإزالة العداوة بين الشعوب والدول الأوروبية.

 * وكما يتوقع القارئ تأتي بعد المعقولات الدائرة الأصغر التي تقع فيها وتشمل كل آت قريب من (المحتملات). والمستقبل المحتمل تدعمه المؤشرات القوية ويعتبر وجهاً آخر (نسبياً) عن استمرار الوضع الحالي واتجاهه المتوقع نحو المستقبل. والنموذجان البارزان للمستقبل المحتمل هما ارتفاع نسبة مشاركة النساء في أنحاء العالم لإدارة المجالات المختلفة، وهو ما ينعكس في المؤشر العالمي لتعداد النائبات في السلطات التنفيذية والتشريعية، وأيضاً المؤشر العالمي بالنسبة إلى ارتفاع عدد القتلى والجرحى والضحايا من النساء في المناطق المنكوبة بالاشتباكات العنيفة والصراعات القومية والطائفية.

 * وهناك دائرة أخرى، وهي دائرة (المرجحات)، ولفهم هذه الدائرة يجب علينا الرجوع إلى قيمنا وكل ما نقبله كونه شيئاً مطلوباً وجميلاً إلى حد ما في نظرنا. وبناء على تلك النظرة نلاحظ أن دائرة المرجحات مكونة من وتضم الدوائر الثلاث التي سبق ذكرها، لكنها تتميز عنها بأنها تقع فيما بينها وتقطع حدودها. وعادة، جزء ما من المستقبليات في صف المرجحات يقع في دائرة الممكنات، وجزء آخر يقع في دائرة المعقولات، وجزء ما في دائرة المحتملات. لكن نجد في بعض الأحيان أن دائرة المرجحات هي دائرة الممكنات عدا المعقولات (يعني مستقبل مطلوب وممكن، لكن غير معقول وطبعاً غير محتمل). وفي أحيان أخرى يوجد انطباق بين دائرة المرجحات ودائرة أو مجموعة المعقولات عدا المحتملات (يعني مستقبل مطلوب ومعقول، ولكن غير محتمل). وفي حالات نادرة جداً نجد أن دائرة المرجحات هي دائرة المحتملات نفسها، يعني كل ما نرجحه محتمل أيضاً (يعني مستقبل مطلوب ومحتمل).

 ومهما يكن الحال، يحاول الخبراء في الدراسات المستقبلية أولاً إيجاد استكشاف جامع لكل الدوائر الثلاث التي سبق ذكرها، وثانياً تحديد موقع للمرجحات (الدائرة الرابعة) فيما بينهن لكي يساعدوا أنفسهم ومجتمعهم على توليد إجماع في إدراك المستقبلات والتعرف إلى الطرق التي تؤدي إلى صياغة وصناعة المستقبل المطلوب وتجنب المستقبل السيئ والسلبي. بعبارة أخرى، عبر الدراسات المستقبلية نسعى إلى تحقيق أهداف واضحة: أولاً بسط دائرة الممكنات على قدر ما نستطيع. وثانياً ارتفاع احتمال المعقولات المرجحات. وثالثاً انخفاض احتمال المعقولات غير المرجحات.

 ومنذ بداية الاهتمام بالدراسات المستقبلية في مراكز التخطيط الاستراتيجية والخلايا الفكرية وبيوت التفكير سرعان ما ظهرت وتوسعت تيارات أو مدارس متنوعة ذات الافتراضات والمنهجية المتمايزة، كل منها تهتم بدراسة المستقبل، وأهمها التيار التجريبي والتيار الانتقادي والتيار الثقافي، والتيار الذي يدعو إلى عدم التمسك برأي النخبة فقط. ولكي نبين الأسس التي يستخدمها الباحثون الذين ينتمون إلى تلك التيارات في الدراسات المستقبلية، سنحدد، وباختصار، الصفات الرئيسية لكل واحد من تلك التيارات، وهي كالآتي:

 1- التيار التجريبي: هذه مدرسة لها انتماء مهم، ومعروفة بالاكتشاف عما هو متوقع من التنبؤات، وتركز على الاتجاهات العامة، وتميل إلى العلوم التجريبية للحصول على البيانات والمعطيات الكمية ومعالجتها والاستنتاج منها. ونشأ التيار التجريبي في الولايات المتحدة عبر المشروعات الاستشارية حول المستقبل بعيد المدى، أي المستقبل الذي يزيد على العقد من الزمن بشكل عام، وبدأ عمله في قطاعين هما الاستخباراتية والعسكرية، ثم نشرت بحوثه بعدئذ إلى قطاعات مدنية وتجارية أيضاً. وتستند هذه المدرسة في أكثر الأحيان إلى النماذج الرياضية كبحوث العمليات وعلم الإحصائية وما شابه. وتوجد علاقات قوية بين هذه المدرسة ودائرة المحتملات التي سبق ذكرها، فالباحث التجريبي يريد أو يميل إلى تحديد ما هو المستقبل المحتمل عبر استخدام التحليل الكمي وبنوك المعلومات، والنماذج الرياضية والحاسوبات الإلكترونية. وتتبع مناقشة المستقبلات من صنف المحتملات بعد وضعها من قبل أولئك الباحثين العاملين في مراكز ومعاهد مختلفة وأبرزها (الجمعية العالمية للمستقبل) (WFS)، ويتم توجيه أكثر تقاريرها التي يوجد فيها رصد للاتجاهات والمؤشرات العامة والسيناريوهات المحتملة من قبل لمخاطبة الناس العامة، وأكثر أعضاء هذه الجمعية هم من الناشطين الأمريكيين.

 2- التيار الانتقادي: نشأت هذه المدرسة في أوروبا وتختلف عن التيار التجريبي بأنها تسعى إلى كشف الغطاء عن الافتراضات والقيم الأساسية في أذهان الباحثين، وطبعاً لا تقبل قبولاً تاماً استمرار الاتجاهات العامة، ولذلك عادة تستهين بالمستقبل ضمن دائرة المحتملات وتنظر إلى ما وراءها من الدوائر الكبيرة؛ يعني دائرة المعقولات والممكنات، لكي تسلط الضوء على مستقبلات أفضل وأكثر إيجابية. ومناقشة المستقبلات ضمن صنف المرجحات تُّدرس وتبحث من قبل جيل آخر من معاهد الدراسات والمنظمات وأبرزها (الاتحاد العالمية للدراسات المستقبلية) (WFSF)، وأعضاؤها عددهم قليل بالنسبة إلى الجمعية العالمية للمستقبل، ويجتمع فيها رواد العلم والفن المهتمون بالمستقبل في أنحاء العالم ومن جنسيات متعددة. وبالإضافة إلى التعليل العلمي والتحليل الكمي يهتم الخبراء والعلماء والباحثون ضمن هذه المدرسة بالجهات والمناهج الكيفية أيضاً في بحوثهم، ويحاولون أن يشجعوا النخب والعامة على حد سواء الانتباه إلى دورهم الرئيسي في صياغة أو صنع الرؤية الإيجابية عبر تحريض الوعي العام في ما يتعلق بالمستقبل، وتشديد الأمل وقيادة العمل، خصوصاً تجاه إنقاذ الكرة الأرضية وحل مشكلاتها الساخنة كتغيير المناخ، وتعليم الأميين، وتوفير وظائف للعاطلين عن العمل، وتأمين الطاقة، وتوزيع الغذاء والماء والمسكن، وتسهيل السلام واجتناب الحرب والمنازعات الدموية.

 3- التيار الحضاري-الثقافي: يوجد في التيارين الذين سبق ذكرهما التراث الفكري الغربي في البحث العلمي انطلاقاً من منحى الدراسات الكمية والكيفية. وكل الافتراضات والنماذج والأصول والأسس، وحتى القيم التي بني عليها التياران السابقان منبعثة أو ملهمة من الغرب، ولذلك يفتقر كلاهما إلى حد ما وجهات النظر غير الغربية. وظهرت المدرسة الحضارية لكي تملأ هذا الفراغ الواسع، وتوفر مناصاً للفكر واللغة الغالب عليها النمط الغربي (جذور أمريكية أو أوروبية)، عبر اعتماد أساليب فكرية ولغوية تحاكي الحضارات الإنسانية المختلفة. وفي المدرسة الحضارية نجد التفسيرات والتعليقات البديعة من قبل الخبراء والباحثين من الجذور والثقافة غير الغربية، وفي بعض الأحيان نشاهد أن هؤلاء الخبراء والباحثين يذهبون مذهباً متطرفاً، مثلاً في نظر بعضهم دائرة المعقولات يجب أن يستهان بها، ولذلك يعبرون الجسر الذي يؤدي إلى دائرة الممكنات مباشرة.

 4- تيار المشاركة الواسعة: إن أحاديث الناس العامة في أكثر المدارس الفكرية غير صالحة لتكون مصدراً للبحث والعلم. والدخول في أكثر البحوث المستقبلية ممنوع للناس العامة، أي غير النخبة الفكرية والمثقفة، بحيث تكون هذه البحوث ذات مستوى رفيع، ولا يجوز أن تنزل إلى مستوى ثقافة الأفراد العامة. وظهرت مدرسة في الدراسات المستقبلية تستنكر وتستهجن هذا الرأي، لأنه لا يمكننا جلب مشاركة واسعة لصنع المستقبل أفضل وأجمل من دون إتيان وجهات النظر العامة وبالأخص جلب ثقة عامة الناس بنتائج البحوث المستقبلية عبر مشاركتهم المباشرة والمتواصلة. وانطلاقاً من هذا المنحى المتميز فإن هذا التيار عادة يطور أساليب بديعة لتسهيل المشاركة الواسعة من قبل جميع الأطراف المعنية بالمستقبلات موضوعاً أم قطاعاً خاصاً. فهم يعقدون مؤتمرات وندوات لحضور فرق متنوعة من الذين سوف يتأثرون بالقرارات والإجراءات بشأن المستقبلات كالباحثين الأكاديميين وصناع القرار والمحللين والرأسماليين ورجال الأعمال ومجموعات من المواطنين العامة بغض النظر عن مستوى وظائفهم في المجتمع وشهاداتهم الأكاديمية، وبعدئذ يبدأون بمناقشة المواقف ووجهات النظر المتعددة والمتنافرة لمعرفة كافة دوائر المستقبل من الممكنات والمعقولات والمحتملات، وتحديد المرجحات عبر المحادثات والمقابلات بلسان بسيط وقابل لفهم عامة الناس.

 وعلى الرغم من أننا قد وصفنا كل واحد من التيارات في الدراسات المستقبلية بمناهجها وأساليبها وافتراضاتها المتميزة، إلا أنه من الممكن والمستحسن الاستفادة من كافة المدارس أو بعضها بشكل ممزوج للعثور على ما يخفى عادة عن الأنظار الذكية والأفكار الرشيدة في ما يتعلق بالمتغيرات المؤثرة في تجسيد المستقبل فعلاً. وينبغي علينا تذكر أن باب المستقبل مغلق جداً ومفاتيحه ليست في يد واحدة أو في أياد معدودة.

 وختاماً، نحن نفسر العالم المحيط بنا عبر النماذج الذهنية التي تسكن في دماغنا، ونعتاد بها في لاشعورنا أكثر من شعورنا. والمناقشة مع الآخرين بشأن المستقبلات عبر التعليل العلمي، والتحليل الكمي والكيفي، والتخيل المنضبط، والنظريات الانتقادية والحضارية هي الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى تزويد النماذج الذهنية بالمنافذ المتعددة، وسوف يجلب النور في مسار الزمن الحاضر من أجل معرفة المصير والمستقبل قبل وقوعه. وحققت الدراسات المستقبلية نجاحاً باهراً في شتى المجالات العسكرية، والمدنية، وينبغي علينا أن نتعلمها لكي نستفيد منها في حياتنا الفردية والجماعية. وفي عصرنا الحديث لدينا خيارات عديدة للانتماء إلى التيارات المختلفة ذات المنهجية والأساليب المتمايزة لمعرفة المستقبل بشكل أوضح وأدق. ومهما يكون انتماؤنا ومصالحنا يجب علينا التعلم والتعليم في الدراسات المستقبلية بشكل عام، فلهذا العلم والفن قيمة ثمينة، إذا غاب عن أذهاننا الاهتمام به فسنواجه العديد من المفاجآت في العقد أو العقود المقبلة حين يفوت الأوان للخيار والإجراء تجاه أي قرار أو عمل بشأن تحقيق مطالبنا ومصالحنا. واعتماداً على عقولنا وتفكيرنا وتخيلنا وعزمنا فإن بإمكاننا أن نتحرك قبل أن تقع السلبيات علينا، وبدرجة أقصى اغتنام الفرص والإيجابيات لصالحنا.

 

مقالات لنفس الكاتب