array(1) { [0]=> object(stdClass)#13903 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 208

مخاوف أوروبية من تنامي النفوذ التركي في سوريا ما يستدعي تقييم توافقه أو تحديه للمصالح الأوروبية

السبت، 29 آذار/مارس 2025

يُشكل سقوط بشار الأسد في سوريا وتنصيب حكومة جديدة منعطفًا محوريًا في منطقة الشرق الأوسط. وفي ظل سعي سوريا لاستعادة دورها على الساحة الدولية، تكتسب الرؤى الأوروبية حول مستقبلها أهمية بالغة. ويعكف الاتحاد الأوروبي حاليًا على تقييم موقفه تجاه سوريا، مع التركيز بشكل أساسي على دراسة جدوى الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني، والتبعات الأوسع نطاقًا المترتبة على التحولات في ميزان القوى الإقليمي. ومن شأن النهج الأوروبي المتبع تحديد إذا ما سيُعاد دمج سوريا داخل النظام العالمي باعتبارها قوة داعمة للاستقرار، أم أنها ستظل عالقة في دائرة مفرغة من عدم الاستقرار والاضطرابات.

إرث نظام الأسد

شكل نظام الأسد، الذي امتد حكمه لأكثر من خمسة عقود، بشكل أساسي المشهد السياسي والاقتصادي للبلاد. منذ بداية الانقلاب العسكري الذي قاده الرئيس حافظ الأسد عام 1970م، أرست الحكومة البعثية في سوريا أساسا لحكم استبدادي يتسم بمركزية السلطة، وقمع المعارضة السياسية، وهيمنة الدولة على السياسات الاقتصادية. وتبنى حافظ الأسد سياسات اقتصادية تجمع بين مزيج من الاشتراكية وعدد محدود من المشروعات الخاصة. ربما ساهم ذلك في البداية في دعم النمو، لكنه أدى لاحقًا إلى كساد اقتصادي نتيجة الفساد وسوء الإدارة.

في عام 2000م، تسلم نجله بشار الأسد الحكم، واعدًا بإجراءات إصلاحية لم تنفذ بنسبة كبيرة. وشهدت فترة رئاسته إحكام قبضته على السلطة من خلال توظيف جهاز أمني قوي، والتمادي في ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان، وزيادة الاتكال على الحلفاء الأجانب مثل إيران وروسيا. وهو ما ترتب عليه اتساع الفجوة الاقتصادية بين طبقات الشعب السوري، وأشعل فتيل حالة من السخط الشعبي آلت إلى اندلاع حرب أهلية في عام 2011م، وقد تسبب الصراع الأهلي المطول في تدمير الاقتصاد السوري، والبنية التحتية، وتشرذم المجتمع تاركًا البلاد أسيرة الدعم العسكري والمالي الخارجيين. من ثم، يعد فهم الإرث الذي تركه نظام الأسد عاملًا محوريًا في تقييم مستقبل سوريا والدور الذي يمكن أن تلعبه أوروبا في جهود إعادة الإعمار.

التأثير السياسي والاجتماعي لنظام الأسد

 عزز نظام الأسد قبضته على السلطة من خلال شبكة استخباراتية موسعة، يطلق عليها جهاز “المخابرات"، الذي دأب على قمع المعارضة السياسية وكبح جماح الحريات المدنية. حيث قوبل الاستياء السياسي بالاعتقالات، والتعذيب، أو النفي للخارج. واحتضن نظام الأسد ثقافة التخويف والإذعان. كما أدى إحكام الحكومة سيطرتها على وسائل الإعلام، والتعليم، في تدعيم الأيديولوجية البعثية وضمان الولاء للنخبة الحاكمة.

اجتماعيًا، استغل النظام الانقسامات الاجتماعية في سبيل تدعيم سلطته. ومن خلال منحه الأفضلية للأقلية العلوية على حساب الأغلبية السنية، رسخت حكومة الأسد التوترات الطائفية التي كان لها دور لاحق في إشعال الحرب الأهلية. وبرغم من دعمه للمذهب العلماني، إلا أن سياسات الأسد تسببت في كثير من الأحيان إلى مفاقمة الانقسامات العرقية والدينية والتفكك الاجتماعي.

السياسات الاقتصادية وما آلت إليه من تدهور

اختبر الاقتصاد السوري تحت حكم الأسد مراحل ما بين التوسع والانكماش. في السنوات الأولى من حكم حافظ الأسد، ساهمت السياسات الاقتصادية التي تزعمتها الدولة والصناعات القومية في دعم النمو. مع ذلك، شهدت حقبة الثمانينات كسادًا اقتصاديًا نتيجة انعدام الكفاءة، والفساد، وفقر الإدارة المالية. في حين لم تكن جهود التحرر الاقتصادي التي قادتها حكومة بشار الأسد خلال حقبة الألفينات موفقة إلى حد كبير، واستفادت منها النخبة فقط بينما اتسعت الفوارق الاقتصادية داخل المجتمع. كما شهد الناتج المحلي الإجمالي للبلاد انكماشًا كبيرًا تزامناً مع اندلاع الحرب الأهلية في عام 2011م. وقد آل انهيار قطاعات رئيسية مثل الزراعة، وصناعة الأقمشة، وإنتاج النفط، إلى انتشار معدلات البطالة والانهيار الاقتصادي. فيما تسبب الدمار اللاحق بالبنية التحتية في شل القدرات الاقتصادية ليجعل من سوريا دولة تعتمد على المساعدات الأجنبية وتحويلات المغتربين في الخارج.

الاشتباكات الأخيرة وتأثيرها على المرحلة الانتقالية في سوريا

بالرغم من المرحلة الانتقالية الجديدة التي تشهدها سوريا، إلا أن فلول نظام الأسد ومواليه لا زالوا يقاومون هذا التغيير، وهو ما أدى إلى وقوع اشتباكات وزعزعة الاستقرار بمناطق عدة داخل البلاد. اندلعت هذه المواجهات في معاقل النظام السابق مثل مدن حمص، وإدلب، وأجزاء من دمشق، حيث ترفض الميليشيات الموالية لنظام الأسد الاعتراف بسلطة الحكومة الجديدة. وعمد الكثير من المقاتلين بما في فيهم ضباط سابقين بالجيش السوري وعناصر أمنية إلى حمل السلاح لزعزعة المرحلة الانتقالية. 

التبعات السياسية والأمنية

يشكل استمرار الاشتباكات تحديًا خطيرًا لقدرة الحكومة الجديدة على إرساء الاستقرار. بعد أن كافحت بالفعل من أجل دمج الموالين السابقين للنظام، الذين يرفض كثير منهم تسليم سلاحه. وقد أدى ذلك إلى مناوشات مطولة وأعمال تخريب أعاقت جهود إعادة الإعمار. كما يثير وجود المتمردين الموالين للأسد في المراكز الحضرية الرئيسية مخاوف من احتمال اتساع نطاق التمرد، مما قد يطيل أمد عدم الاستقرار ويؤخر الانتعاش الاقتصادي. ينبغي للاتحاد الأوروبي والأطراف الدولية الأخرى إدراك المخاطر التي تُشكلها هذه الاشتباكات، ودعم برامج نزع السلاح، والتسريح، وإعادة الإدماج لأفراد النظام السابق. بدون هذه الإجراءات، ستُخاطر سوريا بالانزلاق إلى حالة من الحكم المجزأ، حيث ينعم أمراء الحرب والميليشيات بسلطة ونفوذ أكبر من الحكومة المركزية.

التبعات الاقتصادية

تخلف هذه الاشتباكات آثارًا عميقة على الاقتصاد الوطني. فقد شهدت الشركات العاملة في المناطق المتنازع عليها موجة جديدة من الاضطرابات، مما دفع العديد من المستثمرين والمنظمات الدولية إلى إعادة تقييم مشاركتهم في جهود إعادة الإعمار في سوريا. وقد تضررت البنية التحتية التي كانت قيد إعادة الإعمار بالفعل بسبب القتال، مما يتطلب تخصيص موارد مالية إضافية تفوق قدرة الحكومة السورية. كذلك تسبب تجدد الأعمال القتالية في تثبيط عودة الاستثمارات الأجنبية المباشرة، التي تعد محورية في سبيل إعادة بناء الاقتصاد السوري. ومن المرجح أن تظل الشركات والمؤسسات الإنمائية الأوروبية عازفة عن تخصيص دعم مالي كبير لمشروعات إعادة إعمار واسعة النطاق، إلى أن يتم استعادة الأمن وتهدئة الأوضاع.

تأثير القوى الخارجية داخل سوريا

روسيا: لعبت روسيا دورًا حاسمًا داخل سوريا عسكريًا وسياسيًا. ومنذ تدخلها العسكري في عام 2015م، لدعم قوات الأسد، حافظت موسكو على حضور قوى لها داخل البلاد لضمان بقاء حكومة الأسد في الحكم. كما ساعد وجود قواعد روسية عسكرية داخل سوريا، بالأخص في طرطوس واللاذقية على منحها نقطة وصول استراتيجي إلى البحر المتوسط وتعزيز نفوذها العالمي. كذلك استخدمت موسكو سوريا كساحة اختبار لتقنيَاتها العسكرية الجديدة، مع الاستفادة من دورها في الصراع للتفاوض بشأن الصفقات الإقليمية. ومع انتقال الحرب إلى مرحلة إعادة البناء، تسعى موسكو للحصول على عقود اقتصادية لإعادة الإعمار، بالأخص في قطاعي الطاقة والدفاع.

إيران: تمتعت إيران بنفوذ موسع داخل سوريا سواء كان عسكريًا أو إيديولوجيًا. حرصت طهران على تزويد نظام الأسد بالدعم المالي، والمستشارين العسكريين، والميليشيات التابعة لها مثل جماعة حزب الله اللبناني. انطوت الاستراتيجية الإيرانية داخل سوريا على ترسيخ نفوذ طويل الأمد من خلال الروابط الدينية والثقافية، مع السعي إلى إنشاء ممرات برية تربط إيران بلبنان عبر الأراضي العراقية والسورية. وعلى الرغم من الصراعات الاقتصادية، لاتزال إيران تنظر إلى سوريا باعتبارها عنصرًا أساسيًا لطموحَاتها الإقليمية، وتُعزز حضورها من خلال ضخ الاستثمارات في البنية التحتية، والاتصالات، والأمن.

تركيا: الدور التركي في الصراع السوري يتسم بالتعقيد. في البداية، كانت أنقرة داعمة لقوى المعارضة ضد بشار الأسد، ثم تحول تركيزها على تأمين مصالحها القومية. تتمحور مخاوف تركيا حول الحكم الذاتي للأكراد في الشمال السوري، وهو ما تستشعر فيه تهديدًا مباشرًا لها بسبب الحركات الكردية الانفصالية داخل أراضيها. بالتالي، شنت تركيا العديد من العمليات العسكرية داخل سوريا، وأقامت مناطق عازلة على طول حدودها الجنوبية. اقتصاديًا، استفادت تركيا من الحرب السورية من خلال تأثيرها على الأسواق في شمال سوريا، وتوجيه جهود إعادة الإعمار في المناطق الخاضعة لسيطرتها، وإدارة تدفقات اللاجئين.

إسرائيل: يأتي التدخل الإسرائيلي في سوريا مدفوعًا إلى حد بعيد بالمخاوف الأمنية. حيث شنت الحكومة الإسرائيلية هجمات جوية مُستهدفةً مواقع للجيش الإيراني في البلاد لمنع طهران من غرس موطئ قدم لها داخل البلاد. تكمن المصالح الاستراتيجية لإسرائيل في مجابهة حزب الله والحد من قدرات إيران على تسليح الفصائل المعادية لإسرائيل داخل المنطقة. وفي حين تجنبت تل أبيب الانخراط في مواجهة عسكرية مباشرة مع الأسد، حافظت على يقظتها تجاه التطورات على طول حدودها الشمالية، واستمرت في تنفيذ عمليات عسكرية محددة الأهداف عند استشعار أي تهديد.

تجارة المخدرات ووضع سوريا كدولة منتجة للمخدرات

أحد المحاور بالغة الأهمية بشأن اقتصاد سوريا ما بعد الحرب والتي يقل الحديث عنها تتعلق بمكافحة انتشار الاتجار في المخدرات. حيث أصبحت سوريا أكبر مُنتج عالمي لمُخدر الكبتاجون، وهو منشط يشبه الأمفيتامين ويدر مليارات الدولارات من العائدات غير المشروعة. ثمة تقارير تشير إلى أن نظام الأسد والميليشيات التابعة له تسهل إنتاج وتوزيع الكبتاجون، وتستخدمه في تمويل العمليات العسكرية والحفاظ على الهيمنة الاقتصادية. وهو ما أدى إلى نشوب توترات مع دول الجوار مثل الأردن، والمملكة العربية السعودية، والبلدان الخليجية، التي تواجه تصاعد في عمليات تهريب المواد المخدرة.

يتعين على الاتحاد الأوروبي معالجة قضية دور سوريا في تجارة المخدرات العالمية كجزء من جهود إعادة الإعمار. حيث أن الفشل في الحد من العائدات المرتبطة بتجارة المخدرات يخاطر بالسماح لأمراء الحرب والميليشيات بالاحتفاظ بالسلطة وتقويض آفاق أن تنعم البلاد باستقرار طويل الأجل.

الموقف الأوروبي بشأن الوجود العسكري الأجنبي في سوريا

أحد أكثر المخاوف إلحاحًا بالنسبة للاتحاد الأوروبي يكمن في تواجد قوات عسكرية أجنبية داخل سوريا التي ظلت لفترات طويلة ساحة معترك للاعبين الخارجيين، بما في ذلك روسيا، وإيران، وتركيا، وإسرائيل، والولايات المتحدة. ولطالما دعم الاتحاد الأوروبي التسوية السلمية للصراع السوري، مشددًا على أهمية سيادة سوريا ووحدة أراضيها. مع ذلك، تظل قدرته على التأثير على الديناميات العسكرية محدودة. إلا أنه مع انسحاب إيران من المشهد، يرى الاتحاد الأوروبي فرصة لإعادة تقويم نهجه تجاه سوريا بعد تلاشي التعقيد المتمثل في النفوذ الإيراني. في الوقت ذاته، يشكل دعم تركيا للحكومة الجديدة في دمشق تحديا؛ فبإمكان أنقرة إعادة الاستقرار للبلاد، ولكن صراعاتها المطولة أمام الجماعات الكردية وطموحاتها الإقليمية الأوسع نطاقًا تخلق حالة من الضبابية. في أثناء ذلك، لا تزال التوغلات الإسرائيلية العسكرية الدورية داخل سوريا، والتي يتم تبريرها في أغلب الأحيان بمزاعم المخاوف الأمنية، تلعب دورًا في تشكيل المشهد الأمني للبلاد حيث تُعيق قدرة سوريا على إعادة بناء سيادتها والحفاظ على الاستقرار.

من ناحية أخرى، تُضفي الطبيعة الغامضة للوجود الروسي العسكري في سوريا مزيدًا من التعقيد على الوضع هناك. وبرغم من أن موسكو كانت وسيطًا رئيسيًا للقوة، إلا أن التزامها تجاه سوريا لايزال غير مؤكد في ضوء تبدل أولوياتها الجيوسياسية. ومن المرجح أن يسعى الاتحاد الأوروبي إلى تقليص الوجود العسكري الأجنبي في الأراضي السورية، والدعوة إلى إقامة حكم ذاتي في سوريا، وإصلاح القطاع الأمني. في حين تظل إمكانية التوصل لتسوية سلمية تمهد الطريق لسلام مستدام مرهونة إلى حد بعيد باستعداد الأطراف الفاعلة الخارجية لإعطاء الأولوية للاستقرار على المكاسب الاستراتيجية.

اعتمد الاتحاد الأوروبي تاريخيا نهجا حذرا تجاه سوريا وكان في أغلب الأحيان مُقيدا بانقسامات البيت الأوروبي والعزوف عن التورط عسكريًا داخل البلاد. إلا أنه مع قدوم حكومة جديدة، قد تتوفر لديه الرغبة في إعادة التفكير في مكانة سوريا داخل الإطار الدبلوماسي الأوروبي. ويصبح مدى تطور العلاقات الأوروبية -السورية بشكل إيجابي معتمدًا على الالتزامات المتبادلة بالحكم الديمقراطي والتعافي الاقتصادي.

في الوقت ذاته، قد تصبح المساعدات الاقتصادية والإنمائية مكونًا محوريًا في الاستراتيجية الأوروبية. حيث تتطلب جهود إعادة إعمار سوريا ضخ استثمارات مالية ضخمة، وباعتباره تكتلًًًا اقتصاديًا كبيرًا، ينعم الاتحاد الأوروبي بالقدرة على دعم مشروعات البنية التحتية، وإصلاحات الحوكمة، وبرامج التنمية الاجتماعية. مع ذلك، سيظل مثل هذا الدعم مرهونًا بقدرة سوريا على إظهار الاستقرار السياسي، والالتزام بمعايير حقوق الإنسان، والاستقرار الإقليمي. كما سيتَحتم على الاتحاد الأوروبي إدارة المنافسة أمام الصين وروسيا، اللتين أبدتا اهتماماً بإعادة إعمار سوريا. لذلك، فإن الاستثمارات الأوروبية داخل سوريا لن تساعد على تعافي البلاد فحسب بل ستسمح أيضًا للاتحاد الأوروبي بالاضطلاع بدور استراتيجي أكثر في تشكيل المسار المستقبلي الاقتصادي للبلاد. وسوف يتوقف نجاح مثل هذه الجهود على المدى البعيد، على قدرة اللاعبين الأوروبيين على تعزيز الشفافية، والتنمية المستدامة دون تغذية الانقسامات الداخلية.

سياسيا، ربما يُعيد الاتحاد الأوروبي النظر في الاعتراف بسوريا كدولة شرعية، إذا ما برهنت الحكومة الجديدة على قدرتها على الحكم الرشيد. وقد يمهد ذلك الطريق أمام رفع العقوبات الاقتصادية التي أصابت الاقتصاد الوطني بالشلل على مدى فترات طويلة. مع ذلك، فإن الرفع التام للعقوبات ربما يتم بشكل تدريجي ويتأثر بسياسات الحكومة السورية حول الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والشفافية. من ثم، يجب أن تظهر سوريا تقدمًا ملموسًا في هذه المجالات لضمان عدم النظر إليها كقوة مزعزعة للاستقرار داخل المنطقة.

الموقف الأوروبي من تحولات القوة الإقليمية

لقد بشرت مرحلة ما بعد الأسد في سوريا بشبكة معقدة من التحالفات المتغيرة وديناميات القوة الإقليمية. حيث يشير انخراط تركيا مع الحكومة الجديدة في دمشق إلى واقع جيوسياسي جديد، ربما يدعم الاستقرار في سوريا، ولكنه يثير المخاوف أيضًا بشأن تنامي النفوذ التركي. وهو ما يستدعي من الاتحاد الأوروبي تقييم ما إذا يتوافق النفوذ التركي داخل سوريا مع المصالح الأوروبية أم يفرض تحديات دبلوماسية جديدة.

في الوقت ذاته، تشكل الاعتداءات الإسرائيلية العسكرية المستمرة، والتي تستهدف منع التمركز الإيراني، تحديًا لاستقرار سوريا. وفي حين أن الاتحاد الأوروبي يدين تقليديًا التصعيدات العسكرية، لكنه لا ينعم بالنفوذ الكافي لمنع مثل هذه التوغلات. عوضًا عن ذلك، ربما يركز صانعو السياسات الأوروبية على الجهود الدبلوماسية لضمان عدم تحول سوريا مجددًا لساحة معترك للمواجهات الإسرائيلية-الإيرانية.

دور أوروبا الهامشي وعواقبه

تاريخيًا، لعب الاتحاد الأوروبي دورًا ثانويًا في الشأن السوري تحت ظلال أدوار أكثر سطوعًا للاعبين مؤثرين مثل الولايات المتحدة، وروسيا، والقوى الإقليمية. وإذا ما استمر ذلك التهميش، تخاطر أوروبا بخسارة نفوذها على التوجه المستقبلي للدولة السورية. وقد يؤدي نهج عدم التدخل الأوروبي إلى العديد من العواقب:

  • تضاؤل النفوذ الدبلوماسي: يواجه الاتحاد الأوروبي تحديات متزايدة في التأثير على مسار المرحلة الانتقالية السياسية في سوريا، مما يحد من دوره في المشهد الجيوسياسي الأوسع لمنطقة الشرق الأوسط.
  • ضياع الفرص الاقتصادية: قد يتم تهميش دور الشركات الأوروبية في جهود إعادة إعمار سوريا، وتُمنح العقود الاقتصادية بدلا من ذلك إلى الشركات الروسية والصينية والإقليمية.
  • استمرار الاضطرابات: غياب المشاركة الأوروبية قد يؤدي إلى مزيد من الانقسام والتفكك داخل سوريا وتفاقم أزمة تدفقات اللاجئين وانعدام الاستقرار الإقليمي.

على النقيض، فإن اضطلاع الاتحاد الأوروبي بدور أكثر فاعلية-من خلال المساعدات الموجهة والمشاركة السياسية والتعاون الأمني-قد يساعد في ضمان إعادة اندماج سوريا تدريجيًا في المجتمع الدولي مع الحفاظ على المصالح الأوروبية الاستراتيجية. والسؤال المطروح حاليًا يتعلق بمدى استعداد أوروبا لتجاوز نهجها التقليدي الحذر والاضطلاع بدور قيادي أكثر أهمية في تشكيل مستقبل المنطقة.

الإنفاق الأوروبي داخل سوريا

لطالما كان الاتحاد الأوروبي أحد أكبر المانحين لسوريا مع تخصيص المليارات في شكل مساعدات إنسانية، وإنمائية، ومعززة للاستقرار منذ اندلاع الحرب الأهلية في عام 2011م.  وخلال الفترة ما بين عامي 2011 و2023م، تجاوزت إسهامات الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء 27 مليار يورو في شكل مساعدات إنسانية موجهة للسوريين داخل البلاد ودول الجوار المستضيفة للاجئين.

توزيع الالتزامات المالية للاتحاد الأوروبي

  • المساعدات الإنسانية (10 مليار يورو): تشمل جهود الإغاثة الطارئة، بما في ذلك برامج الأمن الغذائي، والمساعدات الطبية، وخدمات دعم اللاجئين.
  • المساعدات الإنمائية (8 مليار يورو): استثمارات طويلة الأجل في مشروعات الصحة والتعليم، والمياه، والصرف الصحي، والتنمية الاقتصادية بهدف إعادة بناء البنية التحتية المدنية.
  • المساعدات الأمنية والمعززة للاستقرار (9 مليار يورو): تمويل جهود إزالة الألغام، وبرامج الحوكمة، والمبادرات الرامية إلى تعزيز المجتمع المدني وإعادة بناء المؤسسات.
  • دعم اللاجئين في دول الجوار (5 مليار يورو): برامج مساعدات موجهة لدول الجوار التي فتحت حدودها لاستقبال الملايين من اللاجئين السوريين النازحين مثل لبنان، والأردن، وتركيا.
  • إصلاح وتطوير البنية التحتية (4 مليار يورو): ضخ استثمارات أوروبية في إعادة بناء أنظمة النقل، ومولدات الطاقة، والخدمات الأساسية في المناطق المستقرة داخل سوريا.

على الرغم من الجهود المُشار إليها، إلا أن التحديات لا تزال محدقة. حيث يتسبب الفساد، وانعدام الكفاءة، والقيود اللوجستية في تقويض تحقيق الاستفادة المثلى من المساعدات الأوروبية. بالتالي، يتعين على الاتحاد الأوروبي تطوير آليات رقابة أكثر صرامة لضمان وصول المساعدات إلى مُستحقيها ومساهمتها في التنمية المستدامة.

تحدي استقلال سوريا والاستقرار الإقليمي

لايزال الطريق نحو الحفاظ على استقلال سوريا وسلامة أراضيها محفوُفًا بالتحديات. كما أن التراجع الحاد لقدرات الجيش السوري-والذي تعود أسبابه جزئيًا إلى الجهود الإسرائيلية والأمريكية-يثير المخاوف حول قدرته على الحفاظ على سيادة البلاد. في الوقت ذاته، فإن النزوح المتواصل للفلسطينيين والمعارضة الأوسع للنفوذ الإيراني داخل سوريا ولبنان يُسلطان الضوء على استمرار هشاشة الأوضاع في المنطقة.

بإمكان الاتحاد الأوروبي المساهمة في استقرار سوريا على المدى الطويل من خلال:

  • دعم الإصلاحات المؤسسية: التشجيع على الحكم الديمقراطي والاستقلال القضائي وتدابير مكافحة الفساد.
  • الاستثمار في التعافي الاقتصادي: تسهيل إبرام الصفقات التجارية وإصلاح وتطوير البنية التحتية ومبادرات التوظيف.
  • الانخراط في التعاون الأمني: المساعدات في تطوير جهاز أمني سوري معاد هيكلته يُعْلِي السيادة الوطنية على النفوذ الأجنبي.
  • التشجيع على الحوار الإقليمي: إعلاء المشاركة الدبلوماسية بين سوريا وجيرانها لمعالجة المخاوف الأمنية المستقبلية والفرص الاقتصادية

بخلاف المشاركة المباشرة، ينبغي للاتحاد الأوروبي أيضًا الدفع نحو آليات متعددة الأطراف أكثر قوة لتدعيم الاستقرار. وسواء من خلال الأمم المتحدة أو الشراكات الإقليمية، يمكن للجهات الفاعلة الأوروبية أن تضطلع بدور جوهري في الحيلولة دون انزلاق سوريا نحو الفشل. وسوف يعتمد مدى نجاح الاتحاد الأوروبي في إدارة المرحلة الانتقالية المعقدة في سوريا على موازنته بين المشاركة وعدم التدخل.

الختام: في نهاية المطاف، سيُحدد اندماج سوريا مجددًا في المنظومة الإقليمية والدولية من خلال التوازن الدقيق بين إصلاحات الحكم الداخلية، والمساعي الدبلوماسية الخارجية، والتحولات الجيوسياسية الأوسع. وعلى الرغم من استمرار التحديات، فإن إمكانية قيام دولة سورية مستقرة ومستقلة، مدعومة بمشاركة أوروبية بناءة، تُقدم رؤية مستقبلية تبعث على الأمل، وإن كانت مشوبة بالحذر. وسيتحدد خلال العقد القادم ما إذا كانت سوريا ستُصبح نموذجًا للتعافي بعد الصراع، أم ستظل دولة مُفككة عاجزة عن استعادة سيادتها.

يجب على الاتحاد الأوروبي أن يظل مٌلتزمًا بتعافي سوريا مع ضمان تعزيز المساعدات التي تهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي وليس الاتكالية. وستكون جهود التصدي للفساد والحد من تجارة المخدرات بجانب دور الجهات الفاعلة الأجنبية عوامل حاسمة في تحديد إذا ما ستصبح سوريا دولة مستقرة ومزدهرة أم ستظل أسيرة دوامات الصراع والاستغلال الاقتصادي.

 

مقالات لنفس الكاتب