array(1) { [0]=> object(stdClass)#13906 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 208

المصالح المتبادلة وما تقدمه روسيا لدمشق العامل الحاكم لفرص تطوير التعاون المستقبلي

الأحد، 30 آذار/مارس 2025

مثل رحيل الأسد ووصول هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع إلى السلطة في دمشق ضربة موجعة للنفوذ الروسي في سوريا الذي تمتع بالاستقرار والتطور لعقود ممتدة. وكان الارتكاز على سوريا هو السمة الأبرز للسياسة الروسية في الشرق الأوسط، وذلك في ضوء خصوصية العلاقة بين البلدين، لاسيما منذ التدخل الروسي المباشر عام 2015م، الذي فتح أبواب سوريا على مصراعيها لروسيا، ونقل الشراكة الاستراتيجية بينهما لمستوى التحالف في مختلف المجالات لتصبح موسكو الفاعل الأهم في سوريا التي صارت مجالاً حيوياً لروسيا والحليف الاستراتيجي الأول لها في المنطقة.

نظراً لعمق المصالح الروسية في سوريا فقد اتسم رد الفعل الروسي إزاء رحيل الأسد بدرجة عالية من البراجماتية. لم تتخذ موسكو أي موقف عدائي من الإدارة الجديدة في سوريا على المستويين السياسي والإعلامي، وبدت متحفظة وحذرة في البداية، ثم ما لبست أن بدأت في اتخاذ خطوات متأنية ومدروسة لمد جسور التواصل مع السلطة الجديدة، والاستجابة للانفتاح النسبي الذي أبدته الأخيرة في ضوء حرصها على تطبيع وضعها الدولي والإقليمي وجذب الاعتراف وتعزيز شرعيتها. فقد حرصت روسيا على توجيه رسائل إيجابية عدة إلى الإدارة الجديدة عبر تصريحات وزيارات رسمية تكللت بالاتصال الهاتفي بين الرئيس بوتين وأحمد الشرع في 12 فبراير، والذي مثل إعادة إطلاق للعلاقات الروسية السورية.

وهناك العديد من العوامل التي تدعم فرص إعادة الدفء للعلاقات بين موسكو ودمشق، واستئناف التعاون بين البلدين، ولكن حتماً على أسس ومعطيات جديدة مختلفة عما كان عليه الحال زمن بشار الأسد ومن قبله والده، ولعل أبرز هذه المقومات والدوافع ما يلي:

  1. التطمينات والرسائل الإيجابية المتبادلة بين الجانبين:

وجه الشرع تطمينات بشأن الوجود العسكري الروسي في سوريا، مؤكداً إن إدارته لا تريد لروسيا أن تخرج بطريقة لا تليق بتاريخ العلاقات بين البلدين، وأن روسيا هي ثاني أقوى دولة في العالم ولها أهمية كبيرة. من جانبها أكدت روسيا عزمها مواصلة الحوار مع السلطات السورية الجديدة بشأن جميع الموضوعات ذات الاهتمام المشترك خاصة القاعدتين الروسيتين بسوريا، حميميم الجوية وطرطوس البحرية. وهو الحوار الذي بدأ بالفعل يوم 28 يناير مع زيارة نائب وزير الخارجية والمبعوث الخاص للرئيس الروسي للشرق الأوسط، ميخائيل بوجدانوف، والممثل الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرينتييف ومباحثاتهما مع الإدارة السورية الجديدة التي استمرت لأكثر من ثلاث ساعات.

ومهدت الزيارة للاتصال الذي تم بين الرئيس بوتين وأحمد الشرع، في خطوة جوهرية أذابت الكثير من الجليد والشكوك المتبادلة، وأعطت دفعة قوية لاستئناف التعاون بين البلدين، بالتوازي مع استمرار المفاوضات حول القضايا محل الخلاف، أو تلك التي تحتاج لإعادة صياغة. وقد رسم الرئيس بوتين ملامح السياسة الروسية تجاه سوريا الجديدة فيما يلي:

  • حرص روسيا على استمرار التعاون مع سوريا بإدارتها الجديدة، فقد تمنى بوتين النجاح للشرع في مهام القيادة الجديدة، ووصف الكرملين المحادثة بأنها كانت "بناءة"، وتم خلالها بحث العلاقات الثنائية بين البلدين وخاصة التعاون في مجالات التجارة والاقتصاد والتعليم.
  • تأكيد دعم روسيا لوحدة سوريا وسيادتها وسلامة أراضيها، وأهمية تنفيذ مجموعة من التدابير لتطبيع الأوضاع في سوريا بشكل مستدام، وتكثيف الحوار السوري الداخلي بمشاركة مختلف المكونات والقوى السياسية، والعمل على تحقيق الوفاق والسلم الاجتماعي.
  • وجوب رفع العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب عن سوريا، وأكد بوتين عزمه تقديم المساعدة لتحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي في سوريا، بما في ذلك توفير المساعدات الإنسانية، وسبق وأن عرض بوتين في ديسمبر استخدام القاعدتين الروسيتين كمركزين لتوصيل المساعدات الإنسانية إلى الشعب السوري.
  • أبدى بوتين استعداد بلاده لإعادة النظر في الاتفاقيات التي أُبرمت مع النظام السوري السابق على النحو الذي يخدم مصالح البلدين.
  1. المصالح المتبادلة:

إن ما يقرب من ثمانية عقود من التعاون والشراكة بين البلدين، والتحالف الوثيق خلال العقد ونصف المنصرم خلق ارتباطًا عضويًا بين سوريا وروسيا يصعب التخلي عنه واستبداله في ليلة وضحاها، ومازال هناك مدى واسعًا من المصالح الحيوية التي تربط البلدين. لقد قام الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بتخفيف بعض العقوبات المفروضة على سوريا، إلا أن الأخيرة مازالت تعاني الكثير من العقوبات والقيود المتبقية أهمها "قانون قيصر" الأمريكي، الذي فرضه دونالد ترامب في ولايته الأولى على النظام السوري السابق، وأدى إلى انهيار الاقتصاد السوري وتدهور الأوضاع المعيشية للسوريين ووضع سوريا تحت عزلة دولية. ولم تنجح مباحثات الوفد الأمريكي الذي زار دمشق في 20 ديسمبر مع الإدارة الجديدة في تحقيق أي تقدم في هذا الشأن. يمنح هذا روسيا ميزة نسبية بالنظر لكونها غير مقيدة بالعقوبات الدولية والغربية على سوريا وتستطيع المضي في تعاونها مع دمشق دون قيود، والبناء على شريان التعاون القائمة بالفعل، والمساهمة بفاعلية في دعم الاقتصاد السوري وعملية إعادة الإعمار.

في هذا السياق، يسعى الشرع إلى استعادة الإمدادات الروسية التقليدية من الوقود والقمح. وتستورد سوريا حوالي مليوني طن من القمح سنويًا، وأي انقطاع في الإمدادات قد يؤدي إلى تفاقم خطر الجوع في البلاد. وتعتبر روسيا المصدر الرئيسي للقمح إلى سوريا، وأكد رئيس اتحاد منتجي ومصدري الحبوب الروسي، إدوارد زيرين، في 9 ديسمبر، إن مصدري الحبوب الروس لا يخططون لوقف توريد القمح إلى سوريا من جانب واحد، رغم الاضطرابات السياسية التي تشهدها، وأن روسيا ملتزمة بالعقود المبرمة. يضاف إلى هذا استئناف إمداد الوقود حيث نقلت روسيا في مارس أول شحنة منذ أكثر من 12 عاماً بنحو 37 ألف طن من وقود الديزل إلى سوريا. وتحاول دمشق استيراد النفط من مصادر بديلة لإيران بسبب عدم وصول أي شحنة من طهران، التي تعد موردها الرئيسي، منذ نوفمبر.

 وفي الاجتماع الذي عُقد مع نائب وزير الخارجية الروسي في دمشق تم بحث إسقاط الديون الروسية على سوريا، وتبلغ إجمالي قيمة ديون سوريا الخارجية ما بين 20 و23 مليار دولار. هذا إلى جانب مناقشة إعادة النظر في الاتفاقيات الموقعة بين البلدين في عهد الأسد، بما في ذلك استئناف العمل بالمشاريع التي تم تعليقها مثل بناء ميناء طرطوس وتطوير امتيازات الغاز الطبيعي، ومناجم الفوسفات وحقول الهيدروكربونات في منطقة تدمر، بالإضافة إلى بناء مصنع للأسمدة في حمص وسط سوريا. وفى 28 فبراير أكد دميتري تريفونوف الرئيس التنفيذي لشركة "إس تي جي إنجيليين" الروسية التي تشغل ميناء طرطوس التجاري في سوريا، إنها تواصل العمل كالمعتاد وإن عقدها لم يتعرض للإلغاء مثلما أشارت بعض وسائل الإعلام.

هذا فضلاً عن كون موسكو هي مصدر النقد السوري حيث بدأت سوريا في طباعة عملتها بروسيا خلال الحرب الأهلية السورية بعد فسخ عقد سابق بين دمشق وشركة تابعة للبنك المركزي النمساوي بسبب العقوبات الأوروبية. وكانت شحنات العملة تصل إلى دمشق كل شهر من روسيا بمئات المليارات من الليرة أي ما يعادل عشرات الملايين من الدولارات. وقد تم استئناف شحن العملة السورية عقب مكالمة الرئيس بوتين والشرع حيث قدمت موسكو نحو 23 مليون دولار للعملة السورية إلى البنك المركزي السوري في يناير، وتسلمت دمشق في 5 مارس الشحنة الثانية من العملة المحلية المطبوعة في روسيا، مع توقعات بوصول المزيد من هذه الشحنات في المستقبل، في مؤشر جديد على تحسن العلاقات بين موسكو ودمشق. ويمثل طبع العملات دعم روسي للاقتصاد السوري الذي يعاني من نقص السيولة بعدما رفضت معظم الدول الأخرى القيام بذلك خوفًا من العقوبات. ويجد المودعون في سوريا صعوبة في صرف مدخراتهم بسبب الأزمة النقدية، وزادت الضغوط على الشركات المحلية التي تعاني بالفعل من منافسة جديدة من الواردات الرخيصة بعد أن فتحت السلطات السورية الجديدة الاقتصاد الذي كان يحد من الاستيراد بسياسات حمائية. كما إن زيادة مقررة لمرتبات موظفي القطاع العام بنسبة 400% لم يتم تنفيذها نتيجة نقص السيولة في سوريا.

على صعيد آخر، قد ترى السلطة الجديدة أن التواجد الروسي يحقق التوازن مع الوجود التركي، وتعمل دمشق على توسيع دائرة تحالفاتها بعيدًا عن تركيا، رغم دورها الحاسم في دعم هيئة تحرير الشام ووصولها للسلطة في دمشق.

على الجانب الروسي فإن الاحتفاظ بقاعدتي حميميم وطرطوس يمثل أولوية لموسكو، فقد استثمرت روسيا الكثير عسكريًا واقتصاديًا للوصول إلى هذه الوضعية الاستراتيجية المتميزة، ومن الصعوبة بمكان أن تقبل التخلي عنها. وقبل اندلاع الحرب الأوكرانية، كان لدى روسيا 132 منشأة عسكرية في سوريا، ومنذ ربيع عام 2022م، بدأت روسيا في نقل عسكرييها وعناصر شركة فاجنر العسكرية الخاصة إلى أوكرانيا لينخفض هذا العدد إلى 114 تتضمن 93 نقطة عسكرية و19 تموضع، وقاعدتان رئيسيتان هما قاعدة حميميم الجوية والقاعدة البحرية في ميناء طرطوس. وعقب سقوط نظام الأسد بدأت موسكو في نقل وحداتها المنتشرة في سوريا وتركيزها داخل القاعدتين، التي تعتبر ركيزة النفوذ الروسي في البحر المتوسط بوابة البحر الأسود ذات الأهمية الاستراتيجية لروسيا. ورغم أنها نقلت بعض المعدات إلى ليبيا إلا إنها حريصة على الاحتفاظ بقواعدها في سوريا ومنفتحة على الحوار وإعادة التفاوض بشأنها.

ومن ناحيته أبدى الشرع استعداداً لإعادة التفاوض على اتفاق تأجير القاعدتين الذي تم في عهد الأسد، من أجل التوصل لاتفاق أفضل. وكانت موسكو قد توصلت في 18 يناير 2017م، إلى اتفاقية لمدة 49 سنة قابلة للتمديد تلقائيًا تقضى بتحويل طرطوس من محطة لتموين السفن الروسية إلى قاعدة عسكرية بحرية متكاملة يمكنها استقبال 11 سفينة حربية، بما في ذلك سفن نووية. إلى جانب برتوكول مكمل يسمح لروسيا بنشر نقاط تمركز متنقلة خارج الأراضي التابعة للقاعدة البحرية، بهدف حراسة ميناء طرطوس، ونشر منظومات صاروخية جديدة حولها، منظومة "أس 300" في محيط قاعدة طرطوس، وإسب 400" في محيط قاعدة حميميم الجوية، إضافة إلى نشر منظومات صاروخية في البحر من طراز "بال " أو "بأستون".

  1. تراجع الانخراط الأمريكي وإمكانية صياغة تفاهمات بين موسكو وواشنطن:

أوضح ترامب في أكثر من مناسبة أن سوريا ليست في أولويات الإدارة الأمريكية، ففي 8 ديسمبر أشار إلى أن الجيش الأمريكي يجب أن يبقى بعيدا عن سوريا، مؤكدا أن واشنطن ستتخذ قرارًا بشأن سوريا فيما يتعلق ببقاء قوات بلاده هناك. وفى 14 ديسمبر أشار صراحة بأن "سوريا في فوضى، لكنها ليست صديقتنا"، وأنه "لا ينبغي للولايات المتحدة أن يكون لها أي علاقة بما يحدث، هذه ليست معركتنا، لندع الأمور تجري، دون أن نتدخل". وفي مؤتمر دولي عقد في باريس في 13 فبراير، وقعت 20 دولة أوروبية وعربية مذكرة تفاهم وافقت فيها على المساعدة في إنشاء سوريا جديدة، في حين لم توقع الولايات المتحدة على المذكرة، موضحة أنها مستمرة في صياغة سياستها تجاه سوريا. ومن المعروف أن الولايات المتحدة تصنف هيئة تحرير الشام كمنظمة إرهابية ولم يتغير الوضع مع مجيء ترامب إلى البيت الأبيض.

من ناحية أخرى، أدى إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إلى مزيد من التراجع للدور الأمريكي، وخاصة بالنسبة للمنظمات الإنسانية الأمريكية السورية وموظفيها في سوريا التي تتولى تقديم المساعدة الإنسانية للسوريين، والتي كانت تعادل ما يقرب من نصف مليار دولار سنويًا. ويتيح محدودية الانخراط الأمريكي المباشر في سوريا مساحة هامة لروسيا وللتفاهمات الروسية الأمريكية حولها.

 

رغم ما توفره العوامل والمقومات السابقة من سياقات مواتية لإحياء التعاون الروسي السوري على أسس وبمعطيات جديدة، فإنه مازال هناك عدد من التحديات التي يتعين التعامل معها بفاعلية، لعل أهمها:

  1. شبح الماضي:

دعت السلطات السورية الجديدة موسكو إلى ما أسمته "تصحيح أخطاء الماضي"، وخلال اجتماع الشرع مع نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، طالب بتعويضات عن التدمير الذي تسببت فيه روسيا خلال ضرباتها الجوية بسوريا، وإعادة أموال سورية تعتقد حكومته أن الأسد أودعها في موسكو، إلا إن الوفد الروسي نفى وجود مثل تلك الأموال. كما طلب الشرع تسليم الرئيس المخلوع بشار الأسد، ومساعديه المقربين الموجودين في روسيا، وهو أمر ترفضه روسيا. من جانبها طلبت موسكو تسليم 11 شخصاً مطلوبين في روسيا باعتبارهم إرهابيين، وقامت بتسليم قائمة بأسمائهم مدعومة بالصور وملفات للسلطة السورية الجديدة، إلا أن الأخيرة لم تقم بتسليمهم.

رغم حساسية القضايا السابقة وأهميتها للطرفين، فإنه من الواضح أنها لا تمثل عقبة لتطوير التعاون بين البلدين، وأنها ستظل مسائل عالقة بينهما محل مباحثات ومفاوضات، ولكن لن تكون تسويتها شرطاً للمضي قدماً في تطبيع العلاقات وتطوير التعاون على أساس المصالح المتبادلة.

  1. الضغوطات الغربية والتركية لإنهاء الوجود الروسي في سوريا:

يعتبر انهاء الوجود العسكري الروسي في الساحل السوري أحد أولويات الغرب، الذي كان يراقب تعزيز الحضور الروسي في البحر المتوسط بقلق بالغ، وسيكون ذلك موضع مساومة مع السلطة الجديدة في دمشق مقابل رفع مزيد من العقوبات والانفتاح على التعاون خاصة مع استمرار حالة العداء والتصعيد بين أوروبا وروسيا حول أوكرانيا، والتي تقودها فرنسا وبريطانيا. وقد أفادت الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية السورية في 5 فبراير بأنها أبرمت "عقدًا جديدًا" مع شركة "سي.إم.إيه أي.بي.إم" الفرنسية من أجل تشغيل محطة حاويات في ميناء اللاذقية، وربما يكون ذلك بداية قضم النفوذ الروسي في نقطة ارتكاز حيوية له في سوريا والشرق الأوسط.

كذلك، تسعى تركيا إلى تقويض النفوذ الروسي وتعزيز استمرار انفرادها بقيادة التطورات في سوريا، فقد كانت أنقره هي الداعم الأساسي لهيئة تحرير الشام ومهندس وصولها للسلطة في دمشق، ورغم بعض التطمينات التي قدمتها لروسيا فإن ذلك يعد خطوة تكتيكية من جانب تركيا حتى تستقر الأوضاع وتستتب الأمور للسلطة الجديدة التابعة لها، ولكن استراتيجياً تسعى إلى اقتلاع الحضور الروسي، وهو ما تم جزئياً عبر إغلاق المركز الثقافي "البيت الروسي" وعدد من المؤسسات ذات الطابع الثقافي والإنساني. وشككت أنقرة في احتمالات الحفاظ على القواعد الروسية بالنظر إلى المساعدات العسكرية التي قدمتها روسيا لقوات الأسد، وأعلنت وزارة الخارجية التركية موقف أنقره الرافض لوجود قواعد أجنبية في سوريا. وأشارت مصادر غير رسمية إلى سعى تركيا إلى تقنين وجودها العسكري في سوريا وإنشاء قاعدتين عسكريتين قد يكونا على حساب القواعد الروسية.

  1. حالة عدم الاستقرار في سوريا:

إن رحيل الأسد لا يعنى انتهاء حالة عدم الاستقرار في سوريا وإنما مرحلة انتقالية تموج بالعديد من المتغيرات والمعطيات التي تباعد بين سوريا والاستقرار. ففي ظل تصاعد العنف الدامي في الساحل السوري، واغتيال شخصيات بارزة، هناك مخاوف من تأجيج الفتنة في سوريا وانزلاقها إلى السيناريو العراقي. فرغم مبايعة الفصائل المسلحة لأحمد الشرع فإنها فعليًا مازالت تحت سيطرة قيادتها الميدانية ولا يملك الشرع سيطرة كاملة عليها وهو ما كشفت عنه أحداث الساحل السوري التي اندلعت في 6 مارس. ورغم التفاؤل الذي صاحب توقيع الاتفاق بين الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية "قسد" مظلوم عبدي، يوم 10 مارس، في خطوة عُدت تاريخية ونقطة تحول هامة في تاريخ سوريا المعاصر، خاصة وأنه تزامن مع الأزمة الكبرى التي عصفت بمناطق الساحل السوري في محافظتي اللاذقية وطرطوس، فإن هذا التفاؤل ما لبس أن تضاءل مع الانتقادات التي وجهتها العديد من القوى الكردية والدرزية للإعلان الدستورى الذي تم إقراره يوم 13 مارس، والذي سيحكم سوريا خلال الفترة الانتقالية الممتدة لخمس سنوات. فقد اعتبر مجلس سوريا الديمقراطية "قسد" أن الدستور المقترح لا يتماشى مع الاتفاق الذي تم توقيعه ويمثل تراجعاً عن التفاهمات السابقة، وأنه خطوة نحو الإقصاء بدلًا من التشاركية التي تحتاجها سوريا في مرحلة إعادة البناء السياسي والمجتمعي.

ولا يمكن أن تكون روسيا بعيدة عما يجري خاصة ما يشهده الساحل السوري بالقرب من قواعدها. يفسر هذا الانتقادات التي وجهتها موسكو للسلطة السورية الجديدة في الإحاطة المغلقة لمجلس الأمن حول أحداث الساحل السوري، والتي تمت بناء على طلب كل من روسيا والولايات المتحدة. فقد شبه المندوب الدائم لروسيا لدى الأمم المتحدة فسيلي نيبي نزيا أعمال "القتل الطائفي" في الساحل السوري بالإبادة الجماعية في رواندا عام 1994م، مؤكدًا إن "أحدا" لم يوقف القتل في سوريا. كما انتقد المندوب الروسي حل الجيش السوري والتخفيض الهائل في القوى العاملة في القطاع العام، وحذر من أن سيناريو العراق قد يتكرر في سوريا. وعبر عن قلقه من أن "المقاتلين الأجانب الإرهابيين" يلعبون دورًا مدمرًا في سوريا، وحذر من صعود "الجهاديين" هناك.

من ناحية أخرى، استقبلت قاعدة حميميم الروسية أعدادًا غفيرة من المواطنين المدنيين معظمهم من النساء والأطفال الذين هربوا من الاشتباكات التي اندلعت في الساحل السوري ولجوء إلى القاعدة حيث وفرت لهم القوات الروسية ملاذًا آمنًا ومطبخًا ميدانيًا ومركزًا طبيًا وخيامًا، في وضع إنساني صعب، كون القاعدة غير متهيئة لإقامة مثل هذه العدد الكبير من الأفراد. ويثير هذا الوضع الإنساني قلق روسيا إلى جانب قلقها على أمن وسلامة الجالية الروسية الكبيرة والأسر من زيجات روسية سورية.

في ضوء ما تقدم، من الواضح أن روسيا استطاعت تجاوز صدمة تغيير النظام السوري ووصول قوى غير صديقة إلى سدة الحكم في سوريا، بل ونجحت في إعادة إطلاق العلاقات الروسية السورية في ضوء أولويات محددة يأتي على قمتها الاحتفاظ بقواعدها العسكرية على سواحل المتوسط. إن روسيا تدرك جيداً أنه من المستحيل عودة العلاقات بين موسكو ودمشق لسابق عهدها زمن الأسد، إلا إن الإبقاء على التعاون مع دمشق أمر ضروري لا بديل عنه، وربما يكون السيناريو الأفغاني ونجاح موسكو في إدارة العلاقة مع طالبان أفغانستان قابلًا للتكرار في الحالة السورية، خاصة وأن المعطيات الإيجابية التي يمكن البناء عليها أكثر كثيراً في حالة سوريا. وتظل المصالح المتبادلة وما يمكن أن تقدمه روسيا للسلطة الجديدة في دمشق هو العامل الأساسي الحاكم لفرص تطوير التعاون المستقبلي بين البلدين.

مقالات لنفس الكاتب