يتطلب إعادة بناء الدولة في سوريا بعد انهيار نظام آل الأسد من الناحية الاجتماعية والمؤسساتية ثلاثة مسارات متكاملة ومتزامنة، المسار الأول يتمثل في إيجاد الهيكل أو البنيان المؤسساتي لاستخلاف معالم النظام القديم المنهار، ويكمن المسار الثاني في السرعة المطلوبة لهندسة توافق بين الفاعلين والشركاء حول القواعد الدستورية والقانونية التي تضبط آليات العمل السياسي وتوزيع صلاحيات اتخاذ القرارات بين مختلف السلطات، أما المسار الثالث فهو الأهم الذي يعنى بمحرك عملية بناء الدولة، ونقصد به سوسيولوجيا، النخبة القائدة لعملية التغيير، التي تشكل مركز ثقل لتحريك وإيجاد التوافق المجتمعي حول طبيعة المؤسسات والقواعد الدستورية المنشودة. ويمكن أن تستفيد الحالة السورية في هذا التصور من مجموعة التجارب السابقة في الوطن العربي فيما يتعلق بإسقاط الأنظمة وإعادة بناء الدولة لاسيما في الحالتين القريبتين منها، العراق وليبيا، لتقليص الكثير من المآسي والأخطاء وعدم تكرار الحالات المأساوية وطول فترة المراحل الانتقالية واحتمال العودة إلى حالة ما قبل الدولة بتشتيت قوة وسلاح الدولة وتوزيعها بين الجماعات والميليشيات المسلحة.
أما من الناحية الجيوبوليتكية، فإن أهم ركن في الدولة فيتمثل في الإقليم الجغرافي وبسط السيادة عليه، مما يستوجب بناء مؤسسات أمنية ودفاعية قوية وقادرة على الحفاظ والدفاع عن الموارد والمجال الحيوي لسوريا، المرهون بقوة وتوافق النخبة القائدة على إدارة جغرافية مجتمعية متنوعة، تشكل كعب أخيل لأي مشروع مستقبلي لبناء الدولة المعاصرة، حيث في الشمال الشرقي تكمن موارد الدولة السورية ومقدراتها من النفط، الغاز والسلة الغذائية، يتمسك بهذا المجال المكون الكردي المسلح ويبسط نفوذه على حوالي ثلث مساحة سوريا، وخلف المكون الكردي الذي نشأ تحت المظلة الأمنية الأمريكية في إطار التحالف الدولي لمحاربة داعش، يراقب اللاعب الجيوسياسي الإقليمي التركي اللعبة السياسية الجديدة في سوريا ويربطها بأمنه القومي ونفوذه المستقبلية بحلم توسيع نموذج حكومة الانقاذ السورية في محافظة إدلب. وفي غرب سوريا حيث المجال الحيوي البحري المطل على البحر الأبيض المتوسط يتوزع المكون العلوي الذي استخدمه النظام السابق للهيمنة على السلطة والثورة، من الصعب دفن الأحقاد الطائفية التي يتم تغذيتها وتعبئتها داخليا وخارجيا لإعادة تشكيل بقايا النظام، ومن جهة أخرى، تبقى روسيا تتفاوض مع الإدارة السورية الجديدة لإبقاء قواعدها العسكرية المطلة على شرق المتوسط، التي تعدها ممرا حيويا لنفوذها نحو غرب المتوسط والساحل الإفريقي. أما جنوبا فإن إسرائيل التي تعلن أن حدودها المقدسة من البحر إلى النهر، فقد توسعت إلى ما بعد هضبة الجولان واخترقت المنطقة العازلة التي تم تحديدها سنة 1974م، وأضحت على مرمى حجر من العاصمة دمشق، وسياستها المهيمنة لا تزال تقوم على استراتيجية شد الأطراف بحيث تلعب بالورقة الدرزية لشرعنة توسعها الجغرافي واللعب على تقسيم الوحدة المجتمعية والجغرافية السورية.
أولا، ملامح الانتقال الديمقراطي في ظل الإدارة الجديدة: مسافة الميل تبدأ بخطوة
يفترض المشهد السوري أن يتم الانتقال من نظام استبدادي غير شرعي، حكمته عائلة الأسد لستة عقود، إلى بناء نظام ديمقراطي تعددي، يقضي على نمط الحكم الطائفي أو الشخصي، وبذلك فإن كل الاجتهادات السياسية للنخبة الحاكمة في إدارة عملية الانتقال الديمقراطي تبحث ابتداء عن بناء شرعية شعبية في الداخل برمزية الثورة على النظام القديم، وفي الوقت ذاته تحاول إبراز وبأكثر ديناميكية للمجتمع الدولي أن سوريا الجديدة متمسكة بقواعد الشراكة المجتمعية، ومنفتحة عن العالم الخارجي، وهي حتمية تفرضها فك العزلة الدولية المفروضة على النظام القديم قصد رفع وتجميد العقوبات الاقتصادية والمالية المفروضة على الشعب السوري، مع مراعاة أن بعض عناصر النظام الجديد الفاعلة ذاته لا تزال ضمن قائمة الجماعات الإرهابية الغربية.
بدأت ملامح المرحلة الانتقالية الأولى بتكريس النخبة القائدة المنضوية تحت إطار هيئة تحرير الشام، لدورها في رسم المشهد المستقبلي لبناء الدولة، بمؤتمر النصر المنعقد بدمشق بتاريخ 29 يناير 2025م، اتفقت فيه جميع الفصائل المسلحة الثمانية عشر باستثناء قوات سورية الديمقراطية (قسد) الغائبة، على جملة من القرارات لتسيير المرحلة الانتقالية، أولها، التوافق على تسمية، أحمد الشرع، رئيسًا للمرحلة الانتقالية وتكليفه بمهام رئيس الجمهورية، ثانيًا، تشكيل مؤسسة أمنية وجيش جديد مع حل جميع الفصائل العسكرية والمكونات الثورية والسياسية والمدنية وإدماجها في مؤسسات الدولة. بالمقابل، فإن المؤتمر ألغى كل المؤسسات والقواعد الدستورية والفواعل المرتبط بالنظام القديم، من خلال الإعلان عن حل الأجهزة الأمنية والجيش، حل مجلس الشعب، حل حزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية مع حظر إعادة تشكيلها مستقبلًا، مع إلغاء العمل بدستور 2012م. ولاستكمال المرحلة الانتقالية وسد الفراغ المؤسساتي والدستوري كلف رئيس المرحلة الانتقالية بتفويض تشكيل مجلس تشريعي مؤقت، لم تتضح معالم هذه المرحلة إلا في البيان الختامي لمؤتمر الحوار الوطني بتاريخ 25 فبراير 2025م، الذي شارك فيه 600 شخصية ربعها من الفئة النسوية، حيث عبر عن الإدراك بأهمية الاستعجال باتخاذ القرارات المتعلقة بسد الفراغ المؤسساتي والدستوري، ومن مخرجاته، التأكيد على احتكار الدولة لأدوات الإكراه والعنف الشرعي بحصر السلاح بيد الدولة، عن طريق بناء جيش محترف، وأي جماعات مسلحة خارج مؤسسات الدولة تعد جماعات خارجة عن القانون. وفيما يخص الفراغ التشريعي فإن المؤتمر أوصى بضرورة الإسراع بتشكيل المجلس التشريعي المؤقت وفق معايير الكفاءة والتمثيل العادل، أما دستوريا فالتأكيد مرة أخرى على الإسراع بوضع إعلان دستوري يكون بمثابة خريطة الطريق للمرحلة الانتقالية مع تشكيل لجنة دستورية لإعداد مسودة دستور دائم للبلاد يضمن دولة القانون والمؤسسات. مع العلم أن تقديرات أحمد الشرع في بداية تنصيبه حدد آجال إصدار الدستور الدائم بفترة ثلاثة سنوات مع تمديد المرحلة الانتقالية من أربعة إلى خمسة سنوات لتنظيم الانتخابات. ومن نتائج المؤتمر الوطني أن قام الرئيس الانتقالي بتشكيل لجنة من الخبراء القانونيين لصياغة الإعلان الدستوري، تعمل في إطار ما سمته مشروعية المؤتمر الوطني ومؤتمر النصر، قدمت نسختها إلى الرئيس بتاريخ 13 مارس 2025م، والملاحظ هنا أن اللجنة السباعية لصياغة إعلان الدستور عملت في ظرف قياسي لإصداره لم يتعد إحدى عشر يوما، من بين المعالم الكبرى للوثيقة الدستورية أنها حددت المدة الزمنية للمرحلة الانتقالية في مادتها 52 ، بخمس سنوات تبدأ من تاريخ نفاذ الإعلان الدستوري، والشاهد هنا، أن معظم المراحل الانتقالية في التجارب المقارنة إن لم تكن مضبوطة برزنامة زمانية ومواعيد محددة لإعادة تشكيل المؤسسات التمثيلية، الانتخابات الرئاسية، المجلس الشعبي الوطني أو السلطة التشريعية، مع المحافظات والبلديات لإضفاء الطابع الديمقراطي التشاركي، فإن نسب الإخفاقات في إنجاز الاستحقاقات المطلوبة تبقى عالية جدًا. كما رفعت الوثيقة الدستورية الهواجس الإقليمية والدولية حول طبيعة النظام السياسي الانتقالي، بسبب المخاوف من الخلفية الإيديولوجية للفصائل العسكرية المجتمعة في مؤتمر النصر، بالحفاظ على الطابع الجمهوري لسوريا وانتمائها العربي، وهو ما علله محرري الوثيقة الدستورية بالإبقاء على نفس المبادئ التي بنيت عليها الدولة السورية في دستور الاستقلال لسنة 1950م، وبالتالي تم نزع سيناريو عودة الخلافة الذي كان يبشر به الخصوم. ومن حيث طبيعة النظام السياسي، فقد تم تكريس النظام الرئاسي المحكم في إطار مبدأ الفصل بين السلطات، حيث استبعد معيار ازدواجية السلطة التنفيذية بتكليف رئيس الجمهورية دون الاستعانة بوزير أول أو رئيس الوزراء، بحجة المرونة والحركية التي تمنح للرئيس في أداء مهامه وتسوية النزاعات المستعصية، وهنا يبدو واضحًا، الاستفادة من التجارب السابقة التي لا تزال غارقة في المراحل الانتقالية بأجسام وهيئات مزدوجة ومتضادة كل طرف يتشبث بشرعيته، مما عطل المسار الديمقراطي. مع إشارة لافتة هنا، أن الإعلان الدستوري في مادتها 34، سدت فراغ دستوري مستقبلي فيما يتعلق بحالة شغور منصب الرئاسة، بمنحه الصلاحية لتسمية نائب له أو أكثر وفي حالة الشغور يتولى النائب الأول صلاحيات رئيس الجمهورية. بالعودة إلى مبدأ الفصل بين السلطات، الذي يعد مادة سياسية ودستورية في بناء الدولة المعاصرة، يبقى الجدل القانوني والسياسي قائما بين الصلاحيات الممنوحة للرئيس وفعالية السلطة التشريعية المؤقتة من حيث طريقة تعيين وانتخاب أعضائها والصلاحيات التي ستضطلع بها في المرحلة الانتقالية. يمكن الإشارة إلى التعديل الجوهري بين بيان مؤتمر النصر الذي منح الرئيس سلطة تعيين السلطة التشريعية وبين المادة 24 من إعلان الدستور التي منحت للجنة العليا لاختيار أعضاء مجلس الشعب، التي يعينها الرئيس، بحيث تقوم اللجنة العليا بتشكيل هيئات فرعية ناخبة، مهمتها انتخاب ثلثي أعضاء مجلس الشعب، على أن يعين الرئيس الثلث الباقي لضمان التمثيل العادل والكفاءة. ورغم هذا التعديل فإن الرهان القادم سيثبت اختبار القدرة على تعيين الأعضاء من حيث التمثيل الجغرافي والتنوع الطائفي مع الموازنة بالكفاءات، لأن المهام الممنوحة لمجلس الشعب تكون بمثابة الدينامو المحرك لأهم القواعد القانونية التي ستنقل الدولة السورية من المرحلة الانتقالية إلى مرحلة الاستقرار المؤسساتي، وأهم القانونين التي ستثير الكثير من الجدل قانون الأحزاب السياسية، لأن الإعلان الدستوري كان صريحا في هذا المجال حيث المشاركة السياسية ستكون مرهونة بالقانون الجديد للأحزاب، لاسيما فيما يتعلق بمن يحق له تأسيس الحزب والانتماءات الطائفية ومطرقة الفلول الكابحة لكل من انتمى إلى مؤسسات الدولة السابقة. إلى جانب قانون الأحزاب، للسلطة التشريعية الانتقالية الوقت الكاف لإصدار قوانين الانتخابات بكل فئاتها، لاسيما الانتخابات الرئاسية، التي تبقى نقطة فيه حساسة جدًا ولم يشر إليها محررو الإعلان الدستوري، وتتعلق بإمكانية وشرعية ترشح الرئيس الانتقالي للانتخابات القادمة مع ارتباطها بدرجة نزاهة وحيادية الإدارة في حالة استمراره في السلطة. كما تثير قضية تقسيم الدوائر الانتخابية وفق التوزيع الطائفي مسألة حرجة جدا لمستقبل دولة المواطنة التي بشر بها الإعلان الدستوري. وكلها قضايا مطروحة في التجارب العربية يمكن للنخبة الجديدة في سوريا داخل السلطة التشريعية أن تستفيد من تلك التجارب لأن التشبث بالتجارب الغربية الأمريكية، البريطانية والأوروبية على وجه العموم لا يمكن في كثير من الحالات أن تكون قابلة للتطبيق على المجتمعات العربية، ويبدو لي هنا أن إفراط الخبراء القانونيين والدستوريين العرب في استنساخ النماذج الغربية دون مراعاة الخصوصيات المجتمعية لدولهم قد تزيدهم غرقًا في مستنقعات الانتقال الديمقراطي.
ثانيًا: مستقبل المؤسسة الأمنية والعسكرية في سوريا وتحدي بناء الدولة
حاولت الفئة المهيمنة عسكريًا وأمنيًا منذ إعلان مؤتمر النصر، لاسيما هيئة تحرير الشام، كنواة لمجموع التحالفات المسلحة التي قادت إدارة العمليات العسكرية، التي ضمت إلى جانب هيئة تحرير الشام كل من حركة أحرار الشام، الجبهة الوطنية للتحرير ومجموعات من الحزب التركستاني، أن تبسط تجربتها الخاصة في إعادة تشكيل المؤسسة العسكرية السورية، بتذويب الفصائل المسلحة في إطار وزارة الدفاع الوطني، ساعدها في ذلك تجربة التنسيق الأمني والعسكري في شمال سوريا بين إدلب وحلب واللاذقية وحماة، عندما كانت تشترك معا في غرفة عمليات الفتح المبين، ومنعت في المناطق التي تسيطر عليها أي وجود لفصيل أو جماعة مسلحة خارج هذا الإطار. لكن إشكالية تحول البناء الأمني من المحلي إلى الوطني يطرح بعض التحديات الأمنية في إعادة بناء المؤسسة العسكرية، أولها، كيفية إعادة هيكلة الفصائل داخل الجيش وتوزيع الرتب والتعيينات في المناصب القيادية. ثاني التحديات، وهو أشد حساسية يكمن في آليات إدماج قوات سوريا الديمقراطية في الجيش، هل على أساس كتلة عسكرية بتنسيق مركزي أم الحل يكون وفق الفصائل التي ذابت في الجيش؟ وثالث هذه التحديات، ما هو مستقبل الجماعات المقاتلة الأجنبية بعد انتهاء دورها في سقوط النظام؟ ورابعا، ما هي الطريقة الأفضل للتعامل مع أفراد الجيش السوري المنحل والقوات الأمنية، هل يصنفون كلهم كفلول للنظام السابق أم يمكن التمييز بين موظفين الدول والفئة الموالية للنظام السابق؟
إذا كان التحدي الأول قد بدى أكثر ديناميكية من حيث الجانب التقني في إطار قوات إدارة العمليات العسكرية، من خلال إنشاء وزارة الدفاع الوطني وإسنادها لمقرب من أحمد الشرع مدعومًا لوجيستكيًا بقائد رئيس الأركان، مع تشكيل لجنتي الهيكلة والتعيينات التي قامت بجرد عدد أفراد القوات والسلاح التي بحوزتها. وتم فعليًا، تعيين عدد من القادة العسكريين المحسوبين على تحالف قوات إدارة العمليات العسكرية لإدارة الفرق العسكرية في مختلف النواحي مع تقسيم النواحي العسكرية. إلا أن التحدي الثاني الأكبر، فقد تعاملت معه الرئاسة الانتقالية بأكثر برغماتية، رغم تحفظ قوات قسد على حضور مؤتمري النصر والحوار الوطني، إلا أن دوافع داخلية وخارجية دفعت بطرفي اللعبة الأمنية والعسكرية بتوقيع اتفاق بين الرئيس أحمد الشرع، وقائد قسد، مظلوم عبدي، بتاريخ 10 مارس 2025م، يتم بموجبه دمج كافة المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة السورية بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز. أما الدوافع التي سرعت من عقد هذا الاتفاق الذي اعتبر تاريخيًا فتداخلت فيه الدوافع الداخلية بالخارجية، من أهمهما، الدعم الأمريكي للاتفاق رغبة في رفع الدعم المالي عن قوات قسد التي تكلف ميزانية البنتاغون 500 مليون دولار سنويًا وذلك منذ 2015م، وهو تصور ينسجم مع سياسة إدارة ترامب التي تعمل على تطهير الميزانية الأمريكية من كل دعم خارجي، على غرار حجب الدعم المالي لأوكرانيا في الحرب الروسية. وساهم بشكل وثيق إبرام هذا الاتفاق التوافق التاريخي بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، بعد الدعوة التي وجهها، عبد الله أوجلان، بتاريخ 27 فبراير 2025م، لحل الحزب وإلقاء السلاح ووقف القتال ضد تركيا. والملاحظ في هذا الاتفاق بين أحمد الشرع وقائد قسد، منح مهلة لنهاية السنة الجارية للجان الفنية المشتركة لتحديد كيفية الادماج، لأن قسد التي يقدر عدد قواتها ما بين 100 ألف مقاتل كما يدعي قادتها و30 ألف كما تشير تقديرات أخرى، ترى في الانضمام ككتلة وليس كأفراد لضمان الامتيازات والحفاظ على الرتب وإدارة الإقليم في أطار ما تسميه بالفدرالية المرنة أو الإدارة اللامركزية، هو الخيار الأفضل والعقلاني. وهو خلاف جوهري مع القيادة العسكرية الجديدة في دمشق التي تبحث عن قيادة موحدة ضمن إقليم عسكري موحد غير مركب. وإذا كانت قوات قسد تتموقع في المناطق الغنية بالموارد الحيوية كورقة استراتيجية تستخدمها لصالحها، فإن إدارتها لــ 26 سجنًا في المناطق الخاضعة للإدارة الذاتية الكردية، التي تحتجز فيها ما يقارب 12 ألف من مقاتلي تنظيم داعش يشكل ورقة أمنية أخرى تضغط بها في التفاوض مع الغرب ومع السلطة الجديدة في دمشق، وسجن الحسكة لوحده يحتجز 4500 من مقاتلي التنظيم أغلبهم من الأجانب، تقدم البيانات الكردية لقسد بأنهم من 63 جنسية، فضلا عن السجن الخاص بعائلات المقاتلين المنتسبين لتنظيم داعش في مخيم الهول في ريف الحسكة، بما يصل عددهم الإجمالي إلى نحو 56 ألف محتجز من بينهم 30 ألف طفل. وهذا الملف لوحده يفوق قدرات الإدارة الجديدة السورية وقوات قسد، لأنه يحتاج إلى التنسيق مع الدول التي ينتمي إليها المقاتلين لإعادتهم إلى أوطانهم، ووضع مشاريع وبرامج اجتماعية وإنسانية دولية لإعادة إدماج العوائل وأطفالهم ورسكلتهم مع البيئة المواتية وإلا سيتحولون إلى ذخيرة بشرية توظف في بؤر للتوترات الجديدة، خصوصًا في حالات الصدام المسلح بين قسد والإدارة العسكرية السورية، ودخول بقايا النظام القديم على خط الصراع لعرقلة مسار الانتقال الديمقراطي.
أما التحدي الثالث، المتعلق بمستقبل المقاتلين الأجانب بعد انتهاء دورهم بسقوط نظام الأسد فيطرح قلقًا داخليًا وخارجيًا بالنسبة لإدارة المرحلة الانتقالية، حيث ترى جماعة أحمد الشرع بأنهم يستحقون المكافأة والتقدير لمجهوداتهم في مواجهة النظام القديم، وقد كافأ بعض العناصر منهم، من أصول صينية وإيغور، وتركي وأردني ومصري، بتعينهم في وزارة الدفاع وترقيتهم في رتبتي عميد وعقيد. أما الحذر الذي سمعه الشرع فكان من الوفود الغربية، لاسيما المبعوث الأمريكي، دانييل روبنشتاين، الذي نصحه بتجنب هذه التعيينات من أجل التقارب السوري الأمريكي المستقبلي. وقد أعاد طرح ملف المقاتلين الأجانب وعلاقاتهم بالنظام الجديد في المحافل الدولية بعد مجازر الساحل السوري ودور هؤلاء في تصعيد الفتنة الطائفية ضد العلويين ومدى قدرة النظام الأمني الجديد على ضبط سلوكهم وتحركاتهم في الميدان. ورغم أن الملف سيبقى مطروحًا ويختبر قدرة الإدارة الجديدة على التعامل معه، خصوصا أن الإحصائيات ذاتها المتعلقة بعددهم وانتشارهم تبقى متضاربة تتراوح ما بين 3 آلاف و5 ألاف مقاتل، ويبدو أن لجنة تقصي الحقائق التي أنشأها الشرع لكشف تورط البعض من القاتلين الأجانب في مجزرة الساحل السوري ستكون فرصة لتصفية الملف الذي وصل إلى مجلس الأمن الدولي وبتوافق روسي-أمريكي.
رابعًا، فيما يخص التعامل مع أفراد وموظفي الجيش السوري السابق والقوات الأمنية، فإنه من الناحية الأمنية يصعب تسييرهم بعد حل المؤسسات التي كانوا ينتمون إليها وتجريدهم من مواقعهم وأسلحتهم، وستكون الخيارات مطروحة بإعادة إدماج الموظفين الأمنيين في الحياة الاجتماعية والمهنية لتجنب الإقصاء والتهميش والحرمان الذي يشكل عوامل نفسية واجتماعية جاذبة للتجنيد مع أي مشروع يناهض المرحلة الانتقالية، لأنه ببساطة لا يمكن أن يبنى السلم الأهلي والتعايش في سوريا في ظل المرحلة الانتقالية إلا بتكريس العدالة الانتقالية التي من معالمها الأساسية، ضمان قضاء نزيه وعادل ومحايد لمحاسبة المجرمين والفاسدين مع جبر الضرر لكل الفئات المظلومة من إجراءات النظام السابق، تكون مصحوبة بمصالحة وطنية على المدى المتوسط بمعالجة قضايا الموظفين والمسرحين من الجيش السوري والمنشقين عنه، الغير المتورطين في قضايا الإجرام أو الفساد، لأنها مسألة اجتماعية ونفسية تستوجب مواجهاتها وليس تجميدها. وعليه، فإنه من نافلة القول مرة أخرى، أن إعادة بناء الدولة في سوريا هو مسار متكامل ومتزامن يجمع بين المجتمعي والمؤسساتي، لأن هيمنة الجيوبوليتكي على أية دولة هي النهاية لعبة بين القوى الإقليمية والدولية لتقاسم النفوذ والموارد في حالة ضعف المكونين المجتمعي والمؤسساتي معا في دولة ما.