هناك إجماع لدى المراقبين والمتخصصين في قضايا العلاقات الدولية أن النظام الدولي الراهن مع إدارة دونالد ترامب يشهد زلزالًا استراتيجيًا وجيوبوليتكيًا، تفوق درجته الرقمين على سلم ريختر، مما سيخلق تغييرًا في المفاهيم والسلوكات التي ضبطت إيقاع المشهد الدولي لفترة ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وفترة ما بعد الحرب الباردة، وكأن مركز وثقل العالم تحول إلى شخصية ترامب الذي ينتظر العالم قراراته وتفاعلاته مع البيئة الدولية والإقليمية، فمن الناحية الجيوبوليتكية فإن ترامب لا يؤمن بالحدود المقدسة والخرائط الجغرافية الثابتة، فكل شيء قابل للتغيير بمنطق صفقات العقارات التي يؤمن بها، بأنها السلوك الوحيد لإنجاز المصالح الأمريكية. وقد شهد العالم هذه القناعة الترامبية في مطالبته بغريلاند وإدماج كندا كولاية أمريكية وضم قناة بنما وتحويل خليج المكسيك إلى الخليج الأمريكي، وضمن نفس الرؤية اقترح تسوية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بمشروع ريفيرا جديد في الشرق الأوسط يقوم على تهجير مليونين ونصف فلسطيني من غزة إلى دول الجوار من أجل بناء عقارات جديدة، فجغرافية الشرق الأوسط بالنسبة إليه كلها قابلة للتغيير بمنطق الصفقات، بما فيها تسوية الحرب الروسية-الأوكرانية التي طرح تسويتها بصفقة تحريك الأقاليم من دولة إلى دولة والسيطرة على 50 بالمائة من الموارد النادرة في أوكرانيا.
في ظل هذه الرؤية الاستراتيجية الجديدة لإدارة ترامب نتساءل عن مكانة إفريقيا في إدراك وتصور الرئيس دونالد ترامب؟ وعن سحبه لكل عناصر القوة الناعمة الأمريكية من خلال تفكيك الوكالة الأمريكية الدولية للتنمية وتأثير ذلك على الدول الإفريقية؟ مع فرض قيود جمركية جديدة ما هو مستقبل قانون الفرص والنمو الذي ضبط التبادلات التجارية الأمريكية-الإفريقية منذ خمسة وعشرين سنة وسينتهي تمديد العمل به في نهاية 2025؟
أولًا: إدراك وتصور دونالد ترامب لإفريقيا والإفريقيين
لا يزال الأفارقة يختزلون الصورة النمطية لدونالد ترامب تجاه القارة الإفريقية منذ عهدته الأولى (2017-2021م)، في تلك الكليشيهات السلبية، رغم أنه لم يزر أية دولة إفريقية إلا أنه نعتها بأقبح الصفات وبأنها قارة الأمراض المعدية والهجرات غير الشرعية، التي تهدد الأمن القومي الأمريكي، وزادت قناعة الأفارقة بأن تلك الصورة الذهنية السلبية لدونالد ترامب تجاه إفريقيا والإفريقيين لم تتغير مع بداية عهدته الثانية 2025م، بل تضاعف حقده وكراهيته إزاءهم من خلال مجموعة من القرارات التي اتخذها في اليوم الأول من توليه إدارة البيت الأبيض، من بينها توقيع المرسوم الرئاسي الذي يقيد دخول مواطنين 22 دولة إفريقية إلى الولايات المتحدة الأمريكية من بين 43 دولة، ووضع بعضهم ضمن القائمة الحمراء التي يمنع عليهم دخول التراب الأمريكي، من بين هذه الدول، ليبيا، السودان، الصومال. والمفارقة هنا، أن دونالد ترامب ذاته يشجع مواطني جنوب إفريقيا من الأصول الأوروبية المعروفين بالأفريكانز، بالهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية بحجة دعائية مضللة ضد نظام بريتوريا، الذي اتهمه بالعنصرية ضد السكان البيض من خلال قانون العقار الجديد. رغم أن الواقع يشير إلى أن الأفريكانز لا يمثلون إلا 7 % من سكان جنوب إفريقيا لكنهم يستحوذون على 72 % من الأراضي الفلاحية بسبب السياسة العنصرية السابقة لنظام الأبارتيد. وبقي دونالد ترامب في بداية عهدته الثانية حبيس رؤيته الضيقة والدونية لإفريقيا، بنظرة عنصرية تعكس أيديولوجية "الواسب"، الرجل الأبيض، الأنجلوساكسوني، البروتستانتي، عندما برر وقف المساعدات الإنسانية من خلال الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أمام الكونغرس الأمريكي بتاريخ الرابع من مارس 2025م، بتقديم نموذج دولة ليسوتو، متعجبًا وبتهكم وسخرية: " كيف يمكن أن نهدر المال العام الأمريكي بمنح 8 ملايين دولار لدولة ليسوتو لم يسمع بها أي أحد من قبل"، أدى هذا التصريح إلى تنديد حكومة ليسوتو وسخط المواطنين الذي احتجوا في الشوارع غضبًا على ما اعتبروه إهانة من رئيس أمريكي لا يعرف الجغرافيا الإفريقية، حيث تصدر هذه الدولة الإفريقية سراويل الجينز الأكثر شهرة لدى الشباب الأمريكي وربما قد يحتفظ ترامب ذاته ببعض الألماس الذي تصدره ليسوتو للولايات المتحدة الأمريكية.
ثانيًا: سحب ترامب لأوراق القوة الناعمة وتأثيرها على إفريقيا
من ملامح التغييرات الجوهرية لإدارة ترامب في السياسة الخارجية الأمريكية أنه وضع قطيعة مع سياسة القوة الناعمة التي انتهجتها الولايات المتحدة الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث كرست الإدارات الأمريكية المتعاقبة سياسات القوة الناعمة القائمة على الإغراءات وجاذبية المشاريع التنموية والمساعدات الإنسانية بغرض تسويق النموذج الأمريكي الليبرالي المعولم، سواء كان ذلك في إطار الحرب الباردة والتنافس الأمريكي-السوفياتي أو ما بعدها، وكانت أوروبا المستفيد الأول من مشروع مارشال التنموي لإعادة بناء أوروبا على النمط الديمقراطي الأمريكي، في إطار السلام الأمريكي العالمي. إلا أن دونالد ترامب وضع قطيعة مع هذه الأساليب للقوة الناعمة، بإعادة النظر في كل المؤسسات التنموية الخارجية التي كانت تقوم بدور بناء القوة الأمريكية الناعمة، ويتضح ذلك بشكل جلي، مع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، التي تأسست سنة 1961م، في فترة إدارة جون كنيدي بهدف إدارة الإنفاق الحكومي الخارجي، وأضحى لمدير الوكالة في فترة إدارة جون بايدن عضوية دائمة في مجلس الأمن القومي الأمريكي نظرًا لمكانة الوكالة في دعم المصالح والقيم الأمريكية في العالم، بلغت ميزانياتها سنة 2023م، ما يزيد عن 43 مليار دولار، أي ما تمثل ثلث الميزانية المخصصة لوزارة الخارجية والبرامج الخارجية، و42 % من قيمة المساعدات الإنسانية العالمية. بمجرد ما تولى ترامب السلطة أصدر أمرًا رئاسيًا بتفكيك الوكالة مع نهاية 2025م، وتم تجميد المساعدات الخارجية لفترة ثلاثة أشهر، وكلف إيلون ماسك في إطار ترشيد النفقات العمومية وإدارته لمهام الكفاءة الحكومية الأمريكية، بالسهر على إتمام هذه العملية وبأسرع وقت وحجته في ذلك، أن هذه الوكالة التي نشأت بدعم الرؤساء الديمقراطيين منذ كنيدي إلى بايدن تمثل نموذجًا للبيروقراطية الفاسدة وهدر للمال العام، واعتبرها وكالة لممارسة الاحتيال ومدراؤها مختلون من اليسار المتطرف، في الوقت الذي اتهمها إيلون ماسك بأنها منظمة إجرامية. ومن خلال هذا الإجراء الذي يهدف إلى وقف المساعدات عبر تفكيك الوكالة، فإن الدول الإفريقية ستتأثر سلبًا بسبب غياب التغطية المالية للإنفاق على البرامج التي كانت تمولها الوكالة مثل البرامج الغذائية والأمراض المعدية ودعم التنمية البشرية من خلال تمويل التعليم للنازحين واللاجئين، على سبيل المثال فإن البرنامج الغذائي العالمي الذي عرف انخفاضًا في ميزانيته لسنة 2025 بنسبة 40 % توافق مع وقف دونالد ترامب للمساعدات لسبعة دول إفريقية من بين 14 دولة، والدول الأكثر تضررًا تمس منطقة الساحل الإفريقي التي تعرف أزمات متعددة الأبعاد، أمنية، بيئية وإنسانية، وهو ما يشير إلى انتقال دول هذه المنطقة وتحولها السريع إلى التحالف الأمني مع روسيا وبناء شراكات اقتصادية مع الصين في مواجهة الوجود الأمريكي-الأوروبي. خصوصًا بعد طرد القوات الأمريكية من القاعدة العسكرية في أغاديز شمال النيجر واكتمال انسحابها مع نهاية 2024م، وسبقها طرد القوات الفرنسية من منطقة الساحل. وبالمجمل فإن الإنفاق الأمريكي على المساعدات الإنسانية في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى الذي بلغ 6.6 مليار دولار في سنة 2024م، سيخلف فراغًا كبيرًا لتمويل الفئات الهشة اجتماعيًا في مناطق النزاعات الكبرى. كما ستتأثر دول إفريقية في شمال وغرب إفريقيا التي تم قطع تمويلها بالكامل لبرامجها التنموية بالرغم من الشراكات الاستراتيجية التي تجمعهم مع واشنطن، ويشير مركز التنمية العالمية إلى تسعة دول ثلاثة منها محسوبة على مجموعة اتحاد المغرب العربي، كل من تونس، المغرب وموريتانيا.
ينظر دونالد ترامب للدول الإفريقية في إطار قناعته بمشروع إمريكا أولًا، على أنها مثلها مثل دول الحلفاء والخصوم الذين يستغلون السوق الأمريكية في إطار التبادل غير المتكافئ، مما دفعه لإدماجها ضمن الدول التي فرض عليها تعريفات جمركية على السلع والمنتجات المصدرة للولايات المتحدة الأمريكية، مما طرح مستقبل قانون النمو والفرص في إفريقيا، المعروف اختصارا بــ "أغوا"، الذي أطلقته إدارة بيل كلنتون في عام 2000م، وتم تمديده من قبل إدارة باراك أوباما في 2015 لمدة عشرة سنوات ينتهي في سبتمبر 2025م. حيث كان يسمح لــ 32 دولة إفريقية بالاستفادة من الإعفاء من الرسوم الجمركية لتسهيل التصدير لأكثر من 1800 من منتجاتها المعدنية والنسيجية والفلاحية والكيماوية بما فيها السيارات. بعد خمسة وعشرين سنة من قانون النمو والفرص التي استفادت به الدول الإفريقية أعلن ترامب في يوم التحرير، الموافق للثاني من شهر أبريل 2025م، عن فرض تعريفات جمركية مست 50 دولة إفريقية تتراوح نسبتها بين10 و50 %تضررت الدول الإفريقية كثيرًا قبل أن يتراجع عن تأجيل تطبيق القرار لمدة ثلاثة أشهر، لفرض مفاوضات وتنازلات خصوصًا في مجالات التعدين والموارد النادرة. والملاحظ هنا، أن مقارنة العجز التجاري الأمريكي مع إفريقيا، بالحجم والعجز في التبادلات التجارية الأمريكية مع الصين أو الاتحاد الأوروبي، فإنه لا يكاد يذكر، حيث صدرت الدول الإفريقية في سنة 2024م، ما يقارب 40 مليار دولار مقابل واردات من الولايات المتحدة الأمريكية 32 مليار دولار، أي العجز التجاري في حدود 8 مليارات دولار، بينما العجز التجاري الأمريكي مع الصين في نفس السنة بلغ 295 مليار دولار ومع أوروبا وصل إلى 300 مليار دولار. ومقارنة بدول النافتا، المكسيك وصل إلى 172 مليار دولار و94 مليار دولار مع كندا. كما أن الصادرات الإفريقية إلى السوق الأمريكية تراجعت في العشر سنوات الأخيرة وأضحت لا تمثل إلا أقل من 6.5 من إجمالي الصادرات الإفريقية إلى العالم، كما أحصاها البنك الإفريقي للصادرات والواردات في سنة 2022م، ورغم ذلك فإن بعض البلدان الإفريقية التي كانت تستفيد من قانون النمو والفرص قد تأثرت كثيرًا بقرار فرض التعريفات الجمركية، خصوصًا الدول التي كانت تستفيد من تصدير صناعتها النسيجية مثل ليسوتو، التي سخر منها ترامب ولم يسمع عنها من قبل، حيث تصدر 85 % من صناعة الملابس للسوق الأمريكية، وبإخضاعها لتعريفة جمركية بنسبة 50 % ستتأثر بشكل كبير باعتبار أن الصناعات النسيجية تشكل ثاني أكبر قطاع في التوظيف. وحسابات إدارة ترامب في تعاملها مع ليسوتو أنها تخضع لمنطق الأصول والخصوم الضيقة، بحيث أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تصدر في سنة 2024م، إلا أقل من ثلاثة ملايين دولار مقابل صادرات ليسوتو التي قاربت 240 مليون دولار، بسبب استفادتها من قانون النمو والفرص.
ثالثًا: إفريقيا قارة الموارد النادرة والتنافس الأمريكي-الصيني-الروسي
بالرغم من هذا الإدراك السلبي والعنصري لدونالد ترامب تجاه إفريقيا الذي يختزلها في مصدر لتهديدات الأمن القومي الأمريكي بسبب ما سماهم بالمهاجرين المجرمين غير الشرعيين، واستفادة بلدانها من الإعانات المالية الأمريكية غير المستحقة، والاختلال في ميزان التبادلات التجارية الذي يكبد الخزينة الأمريكية خسارة كبيرة أدت إلى تفاقم الدين العام الأمريكي إلى 36 ترليون دولار سنة 2024م، أي ما يقارب 35% من إجمالي الديون العالمية، فإن صانعي القرار المحيطين بترامب يدركون الأهمية الجيوستراتيجية لإفريقيا في إطار التنافس على الموارد الحيوية ذات البعد العالمي مع القوى العالمية المهددة لمكانة الولايات المتحدة الأمريكية في ترتيب النظام الدولي الانتقالي، ساهمت في تحريك الرؤية البرغماتية والواقعية لأهمية إفريقيا، ونقارن هنا بين شخصيتين فاعلتين في الإدارة الأولى لترامب وإدارته الثانية، ففي العهدة الأولى برز جون بولتون، مستشاره للأمن القومي عندما قدم الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في إفريقيا في إطار التنافس الأمريكي-الصيني-الروسي ارتكزت على دعائم ثلاثة، أولها، تقوية وتعزيز الشراكة التجارية الثنائية مع البلدان الفاعلة في إفريقيا، ثانيًا، بناء تحالفات لمحاربة الإرهاب العابر للحدود، وثالث هذه الدعائم، إعادة ترتيب المساعدات الإنمائية الأمريكية للدول الإفريقية بما يخدم جاذبية القوة الناعمة لدى الأفارقة لمنافسة الصورة المتقدمة للصين في هذا المجال، من خلال المشاريع التنموية والإعفاءات من الديون لبعض البلدان الإفريقية العاجزة عن سداد الديون الخارجية. وحاول المحيطون بترامب أن يتكيفوا مع السرعة الصينية ونفوذها في القارة بوضع برنامج للرفاه الإفريقي يهدف إلى ترقية التبادلات التجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية والبلدان الإفريقية، ولم يفعل هذا البرنامج إلا مع إدارة بايدن التي تلقفته في قمة أمريكا-إفريقيا في ديسمبر 2022م، التي وعدت بمنح 55 مليار دولار لتمويل المشاريع التنموية في إفريقيا، واستطاعت إدارة بايدن أن تعبئ لهذا المشروع 120 مليار دولار بتوقيع 49 اتفاقية تعاون مع 49 بلد إفريقي.
أما في بداية العهدة الثانية، فإن دونالد ترامب تأثر بشكل كبير جدًا، بإيلون ماسك، فهو الأذن الذي يسمع بها في كل المشاريع التنافسية العالمية، لاسيما في مجال الانتقال الطاقوي والتكنولوجيات الرقمية وصناعة السيارات الكهربائية، فأضحى مهتمًا بالدول الإفريقية التي تمتلك الموارد الحيوية ذات الأهمية الاستراتيجية للصناعات التي تحتكرها شركة تاسلا وسبايس إكس، وتعد الموارد مثل التربة النادرة، الكوبالت، والليثيوم من الموارد الحيوية ذات التنافس الأمريكي-الصيني، حيث تستحوذ الصين على 60 % من الإنتاج العالمي من التربة الأرضية النادرة وتعالج 90 % منها مما يجعل الدولة الأكثر هيمنة عالميًا في هذا المجال، جعلت الولايات المتحدة في تبعية مطلقة لهذه المعادن النادرة المنتجة في الصين بنسبة 80 %. وهو ما يمثل ضعف وانكشاف أمني أمريكي كبير، سبق وأن أشارت إليه التقارير الأمنية منها تقرير لجنة حكومية ضيقة، في ديسمبر 2023م، مما جاء فيه:" أنه من الضروري على واشنطن إعادة النظر في مقاربة سياسة التموين بالموارد المعدنية الحيوية بما فيها التربة الأرضية النادرة بسبب ما تطرحه من مخاطر التبعية للصين". وفي الواقع، أضحت هذه الموارد ورقة استراتيجية بيد الصين تستخدمها في نزاعها التجاري والجيوسياسي مع الولايات المتحدة الأمريكية وخصومها، فحين فرض ترامب الرسوم الجمركية بنسبة 10 % على الصادرات الصينية، واجهتها بمجموعة من التدابير العقابية من بينها، فرض القيود على صادرات الصين من المعادن الحيوية نحو السوق الأمريكية. وتظهر أهمية هذه الورقة الاستراتيجية التي بيد الصين ضد خصومها لإعادة النظر في القرارات التي لا تخدم مصالحها، كما سبق وأن استخدمت تعليق صادراتها من الأتربة النادرة في نزاعها مع اليابان في سنة 2010، حول جزر سينكاكو.
يدرك ترامب-ماسك، أن إفريقيا يمكن أن تشكل ساحة المعركة الجديدة حول الموارد النادرة والحيوية، وهوما أكده إيلون ماسك فيما يخص الليثيوم، عندما كتب في صفحته على الإيكس:" وصل سعر الليثيوم إلى مستوى جنوني، مما يحتم على شركة تسلا أن تستثمر مباشرة في المناجم وتكريرها على المستوى العالمي". والتوقعات المتخصصة تشير إلى أنه في العشرين سنة القادمة سيتصاعد الطلب على الليثيوم بــ 9 بالمائة، والطلب على الكوبالت بــ 70 و40 % على التربة النادرة، وفق تقرير الوكالة الدولية للطاقة. وعليه، فإن اهتمام إدارة ترامب بصفقة للمعادن مع جمهورية الكونغو، يعد نموذجًا للتكيف مع الهاجس الأمني المستقبلي الأمريكي من أجل تأمين مصادر الموارد النادرة والدخول في التنافس مع الشركات الصينية التي تستغل 80 % من عمليات التعدين في الكونغو. وبما أن الكونغو من الدول الإفريقية الغنية بالمعادن الحيوية مثل الكولتان، النحاس، الليثيوم، كما تعرض نحو 75 % من إجمالي العالمي من المعروض من الكوبالت، الذي يستخدم في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية التي يحتاجها حتمًا، إيلون ماسك، في صناعة السيارات الكهربائية، التي تنتجها شركة تسلا، المنافسة لنظيرتها الصينية. وبما أن دونالد ترامب يبني سياسته وعلاقاته الخارجية على الصفقات، فإن العرض الأول للصفقة قدمه الرئيس الكونغولي، فليكس تشكيسدي، بأن يمنح حصة من الموارد المعدنية النادرة للشركات الأمريكية مرفقة بامتياز استغلال ميناء لاستخدامه للتخزين والتصدير، مقابل دعم الكونغو في نزاعها ضد الحركة المتمردة الكونغولية إم 23، المتحالفة مع رواندا، وكان الرد الأمريكي مرحبًا بالصفقة لاستكمال المشروع الذي انطلقت فيه إدارة بايدن المتعلق بممر لوبيتو، البحري الذي يربط بالسكة الحديدية بطول 1300 كلم، زامبيا والكونغو بميناء لوبيتو في أنغولا، المطل على المحيط الأطلسي، لتسهيل نقل الموارد الحيوية والتربة النادرة التي تحويها هذه البلدان الإفريقية في غرب إفريقيا. ولا يمكن لإدارة ترامب أن تستغنى عن هذا المشروع الذي خصصت له إدارة بايدن 4 ملايين دولار في سياق التنافس الأمريكي-الصيني حول الممرات الحيوية التي تربط آسيا بأوروبا وإفريقيا، ضمن برنامج أمريكي لصراع جيو-اقتصادي وجيوسياسي مع المشروع الصيني العملاق للطريق والحرير، حيث نجح التحالف الأوروبي-الأمريكي بإبعاد الشركات الصينية التي سبق وأن أعادت تفعيل الممر في 2015م، بقيمة ملياري دولار، لتستحوذ عليه تجمع الشركات الأوروبية بدعم أمريكي بعقد امتياز لمدة 30 سنة، بعد تعطله بسبب الحرب الأهلية في أنغولا. وتبدو إدارة ترامب أنها مهتمة فعلا بإتمام المشروع ضمن صفقة أسندت مهمتها لصهره وكبير مستشاري الرئيس للشؤون الإفريقية، مسعد بولس، الذي زار الكونغو في بداية أبريل 2025م، مؤكدًا عزم ترامب الاستثمار بمليارات الدولارات في الحقول المعدنية الكونغولية مع العمل على إنهاء النزاع في شرق البلاد الغنية بالموارد النادرة والتي يحتلها المتمردون.
مع التقديرات الكبيرة لهذا المشروع في إطار الأمن القومي الأمريكي ووضع حد للنفوذ الصيني في إفريقيا، فإن ترامب حول بوصلته الاستراتيجية نحو الصفقات الكبرى من أجل السيطرة على المجالات الحيوية والموارد الحيوية ذات البعد العالمي، أولها، اهتمامه بإتمام الصفقة المغرية مع أوكرانيا التي تتضمن منح حقوق الامتياز للولايات المتحدة الأمريكية وامتلاك 50 % من المعادن النادرة الأوكرانية مقابل المساعدات العسكرية الأمريكية التي استفادت بها أوكرانيا في الحرب الروسية والتي قيمها ترامب بما يقارب 500 مليار دولار. وإلى جانب الاهتمام بموارد أوكرانيا يصر دونالد ترامب على إلحاق غرينلاند بالولايات المتحدة الأمريكية، ولو باستخدام الخيارات العسكرية والاقتصادية للضغط على الدنمارك للتنازل عنها، والتي يعتبرها أكثر حيوية مقارنة بالقارة الإفريقية، لأنها تقع في قلب التنافس الأمريكي-الأوروبي-الآسيوي، فضلًا عن مواردها الحيوية التي يتضح أهميتها الاستراتيجية من خلال مسح جيولوجي أجري في 2023م، يؤكد أن غرينلاند تحتوي على 25 معدنًا من بين 34 من المواد الخام الأساسية التي تعتبرها المفوضية الأوروبية من الموارد الأساسية الحيوية، والعناصر الأرضية النادرة. وفي الختام، فإن إفريقيا في فترة دونالد ترامب لا تكون استثناء في سياسة الصفقات بين تحريك العقارات الجغرافية والسيطرة على الموارد النادرة.