أثارت الانعطافات التي تشهدها السياسة الأمريكية منذ وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، خاصة تجاه روسيا، تساؤلات عدة حول دوافعها وتداعياتها، وما إذا كانت مجرد خطوات تكتيكية، أم توجهات استراتيجية. ورغم أن الكثيرين يعتبرون نهج ترامب غير متوقع ويمثل خروجاً عن التوجه الأمريكي والمبادئ الحاكمة له، فإنه في واقع الأمر يتسق مع الخط العام الذي حكم العلاقات بين البلدين على مدى القرن الماضي، والتي كثيرًا ما شهدت تصعيداً وصل إلى "حافة الهاوية" والمواجهة النووية بين البلدين يعقبها انفراج وتهدئة، كما حدث عقب الأزمة الكوبية مطلع الستينات، ومع إدارة ريجان حتى مجيء جورباتشوف منتصف الثمانينات. إن التناقضات الجوهرية بين موسكو وواشنطن حول مدى واسع من القضايا يصعب على البلدين تجاوزها تماماً، الأمر الذي لا يسمح بتطوير تعاون مستقر ومستدام بينهما، إلا إنهما لا يجدان مفرًا من التفاهم من آن لآخر حتى لا ينزلق العالم لحرب عالمية نووية.
في هذا السياق، يمكن اعتبار خطوات ومبادرات ترامب محاولة لتهذيب السياسة الأمريكية وضبط إيقاعها وتوجهاتها عقب تصعيد شديد من جانب إدارة بايدن وتهديد باندلاع حرب عالمية ثالثة نووية بالضرورة. هذا فضلاً عن المنظور الحاكم لإدارة ترامب الذي رأى أن بلاده أصبحت بنكًا يصرف المساعدات للدول الأخرى فقط، ومن ثم يتعين التخفيف من الأعباء وزيادة العوائد عبر توظيف جيد للسياسة الخارجية، وأن يكون الاقتصاد ومنطق الصفقات هو المحرك القائد للسياسة الأمريكية من وجهة نظره. فقد كانت الأزمة المالية 2008م، كاشفة عن إشكاليات هيكلية متراكمة يعاني منها الاقتصاد الأمريكي، ولم تنجح الإدارات الأمريكية المتتالية على مدى ما يزيد عن العقد ونصف في التعافي التام منها واستعادة قوة ونشاط الاقتصاد، مما أدى إلى تجاوز الدين الأمريكي 36 تريليون دولار وتباطؤ النمو، وزيادة معدلات التضخم والبطالة، ومخاوف من دخول الاقتصاد الأمريكي في حالة ركود، هذا إلى جانب العديد من المشكلات الاجتماعية المتفاقمة وأهمها اللاجئين وضبط الحدود. إن ترامب يدرك عمق الأزمات في الداخل الأمريكي، وبدلًا من الهروب منها لأزمات خارجية كسابقيه فإنه اختار العمل على مواجهتها بحزمة من السياسات لوقف استنزاف الاقتصاد الأمريكي، وتعظيم العوائد من الشركاء قبل المنافسين.
تعتبر التسوية في أوكرانيا أحد أهم أبعاد هذا التوجه الترامبية، فقد أدت الأزمة الأوكرانية إلى تصعيد غير مسبوق، حتى في العهد السوفيتي، بين واشنطن وموسكو، ففي أوج الأزمة الكوبية ظلت السفارات تعمل في البلدين وكان للسفير السوفيتي في واشنطن دور محوري في انفراج الأزمة. لكن مع الأزمة الأوكرانية وصلت العلاقات الأمريكية ــ الروسية إلى "الصفر وحتى أقل من الصفر"، على حد وصف المتحدث الرسمي باسم الرئاسة الروسية، دميتري باسكوف، إلا أن مسؤولية البلدين عن الاستقرار العالمي والاستراتيجي فرضت عودة الحوار بينهما. ومثلت المكالمة الأولى بين ترامب وبوتين يوم 12 فبراير خرقاً للجليد المتراكم لثلاثة أعوام بين البيت الأبيض والكرملين حيث نجحت في بلورة خارطة طريق لعودة العلاقات بين البلدين، والتي كانت مفاوضات وزيري الخارجية الروسي والأمريكي في الرياض في 18 فبراير الخطوة الأولى باتجاهها، ولتتوالى الاتصالات والمفاوضات بين الجانبين. وتشمل المباحثات مدى واسع من القضايا منها استئناف عمل السفارات كنقطة بدء، وهو ما تم بحثه والاتفاق عليه بالفعل خلال مباحثات إسطنبول بين مسؤولي البلدين في 27 فبراير حيث وافقت واشنطن على تعيين ألكسندر دارتين سفيرًا جديدًا لروسيا بالولايات المتحدة. كما زار المبعوث الخاص للرئيس الروسي المعني بالشؤون الاقتصادية واشنطن، يوم 3 أبريل، في أول زيارة لمسؤول روسي رفيع إلى واشنطن منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا في فبراير 2022م، وزار المبعوث الأمريكي الخاص ستيفن ويتكوف روسيا ثلاث مرات التقى خلالها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لبحث وقف إطلاق النار وتسوية الأزمة الأوكرانية والإعداد للقمة الروسية الأمريكية بين بوتين وترامب.
أولاً: التفاهمات الأمريكية الروسية حول أوكرانيا:
كما كانت الحرب الأوكرانية هي مفجر التصعيد بين البلدين فإنها مفتاح التفاهمات فيما بينهما، وخلال حملته الانتخابية أعلن ترامب مراراً أنه قادر على إنهاء الحرب في 24 ساعة وأنه لو كان في البيت الأبيض لما كانت الحرب قد اندلعت أصلاً، واعتبر السلام في أوكرانيا أحد أهم أولوياته خلال أول مائة يوم له في الرئاسة. وفي تحول جذري عن سياسة سلفه جو بايدن، دفع ترامب بمشروع قرار في الأمم المتحدة يدعو إلى إنهاء الحرب بين أوكرانيا وروسيا دون التطرق إلى سلامة أراضي أوكرانيا، بل هدد باستخدام الفيتو ضد أي تعديلات على المشروع حيث سعى أعضاء الاتحاد الأوروبي الأربعة في مجلس الأمن وبريطانيا تعديل النص لوصف روسيا بالمعتدي والتأكيد على وحدة أراضي أوكرانيا. ويبدو ترامب أكثر قبولًا وتفهمًا للمطالب الروسية فيما يتعلق بالسيطرة على الأراضي التي ضمتها، وهو ما أشار إليه نائبه بقوله "الأرض مقابل السلام".
ولا شك أن حديث ترامب والبيت الأبيض عن السلام في أوكرانيا هو تطور هام في حد ذاته، إلا إنه يبدو سلام أصعب مما توقعه ترامب، فكل ما تم الاتفاق عليه هو وقف استهداف البنية التحتية للطاقة لمدة شهر، وتم خرق الاتفاق من جانب كييف. وهناك مدى واسع من التفاصيل يتعين الاتفاق عليها بين موسكو وكييف، وهو الأمر الذى بدا واضحاَ خلال المحادثات بشأن ضمان سلامة الملاحة في البحر الأسود والصادرات الزراعية الروسية يوم 25 مارس بين واشنطن وكل من روسيا وأوكرانيا على حدة في الرياض، حيث طالبت روسيا بإجراءات عدة تتضمن رفع القيود والعقوبات عن البنك الزراعي الروسي وإعادة ربطه بنظام سويفت، وكذلك عن شركات تصدير المواد الغذائية وتلك المنتجة والمصدرة للأغذية والأسمدة، وعن السفن وشركات التأمين على الشحن، وغيرها من الأمور الدقيقة قبل استئناف تصدير الحبوب الأوكرانية.
إلى جانب مجموعة من التحديات التي تبطئ الوصول إلى تسوية تنهى الحرب. أهمها توتر العلاقة بين ترامب وزيلينسكي على خلفية إصرار الأخير على ضمانات أمنية لشخصه ولأوكرانيا من الولايات المتحدة، في حين يريد ترامب وقف غير مشروط لإطلاق النار، وهو الأمر الذى انعكس في المشادة التي حدثت بينهما في البيت الأبيض يوم 28 فبراير، وما سبقها من انتقادات عدة وجهها ترامب إلى زيلينسكي ووصفه بـ "الديكتاتور"، داعيًا إياه إلى إجراء انتخابات رئاسية جديدة حيث انتهت ولايته في مايو 2024م، وتم إلغاء الانتخابات الرئاسية الأوكرانية المقررة بسبب الأحكام العرفية والتعبئة العامة، في حين يدرك زيلينسكي أن بقاءه في السلطة رهن باستمرار الحرب.
كما رفض ترامب انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، بل وعبر عن تفهمه لموقف روسيا المعارض لذلك. إلى جانب الخلاف حول المساعدات الأمريكية لأوكرانيا حيث أكد ترامب أن الولايات المتحدة أنفقت على دعم أوكرانيا أكثر من 350 مليار دولار، وأنها قروض يتعين على كييف ردها. بينما رفض زيلينسكي تصريحات ترامب مشيرًا أن أوكرانيا تلقت 100 مليار فقط من واشنطن وأنه ليس مستعدًا حتى لمناقشة سداد هذا المبلغ لواشنطن لأنه كان منحة وليس قرضاً. فضلاً عن كون زيلينسكي محسوباً على بايدن والديمقراطيين بالنظر للعلاقات الوثيقة بين الاثنين وكذلك بين هانت، ابن بايدن، وزيلينسكي. زاد من الهوة بين ترامب وزيلينسكي رفض الأخير التوقيع على "اتفاقية المعادن النادرة" وتقضى بإنشاء صندوق تسيطر عليه الولايات المتحدة ستساهم فيه أوكرانيا بعائداتها من تسييل الموارد الطبيعية في المستقبل، بما في ذلك المعادن الأساسية والنفط والغاز. واعتبر ترامب أن هذه العوائد سداداً لديون كييف المقدمة خلال الحرب، بالإضافة إلى المساعدات المستقبلية لها، وأن الموافقة عليها ليس منحة من زيلينسكي ولكن إلزام. إلا أن زيلينسكي أصر على المقايضة ومنحه ضمانات أمنية للسير مع ترامب في طريق السلام واتفاقية المعادن معاً، واعتبر المسودة الثانية من الاتفاقية غير مقبولة نظراً لكونها تعطي كافة العوائد لواشنطن وليس النصف كما تضمنت المسودة الأولى، كما إنها تتضمن بنودًا قد تحول دون انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي مستقبلاً.
يزيد الأمر صعوبة الموقف البريطاني والأوروبي الداعم لزيلينسكي واستمرار الحرب، وتشكيل ما يسمى "تحالف الراغبين" لدعم أوكرانيا والذي عقد اجتماعه الأول في لندن في 2 مارس وشارك فيه قادة خمس عشرة دولة أوروبية إلى جانب الأمين العام للناتو، واستضافت باريس اجتماعه الثاني في 27 مارس لبحث سبل تعزيز الدعم العسكري والسياسي لأوكرانيا. فقد قاد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر والرئيس الفرنسي ماكرون الجهود الأوروبية لإقناع ترامب بعدم التسرع في التوصل إلى وقف إطلاق النار وتقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا، وقدما له خطة لنشر قوات حفظ سلام أوروبية في أوكرانيا وهو ما ترفضه روسيا تماماً وتعتبره تدخلًا للناتو في الصراع مع أوكرانيا.
لقد بدأت عملية التسوية في أوكرانيا وتبدو واشنطن وموسكو عازمتين على الوصول إلى السلام مهما طال الطريق إليه وكثرت العثرات، وربما حديث واشنطن المتكرر عن انتخابات رئاسية أوكرانية مقبلة هو محاولة لتسريع هذه العملية والإيقاف التام للحرب.
ثانياً: اتفاق المعادن بين روسيا والولايات المتحدة:
في إطار سعي الرئيس بوتين لمخاطبة ترامب باللغة التي يفضلها ويستجيب لها، وإعطائه مكسبًا مهمًا في المقابل، وتحييد الورقة الوحيدة المتبقية لزيلينسكي، عرض بوتين على الولايات المتحدة المشاركة في التنقيب عن المعادن النادرة في روسيا والأراضي الروسية الجديدة أي منطقة الدونباس التي ضمتها موسكو، ومن المعروف أن ثروات أوكرانيا من المعادن تتركز في هذه المنطقة التي أصبحت تحت السيطرة الروسية. وتتمتع المعادن الأرضية النادرة والمعادن الحيوية الأخرى، بأهمية كبيرة حيث تعتبر ضرورية لإنتاج الرقائق، وللصناعات التكنولوجية المتقدمة المدنية والعسكرية، والإلكترونيات الدقيقة، والطاقة، وفي إنشاء البنية التحتية للاقتصاد الرقمي، وتحظى باهتمام خاص من جانب ترامب في إطار سعيه لكسر هيمنة الصين على هذا المجال.
وتعتبر روسيا واحدة من الدول الرائدة بلا منازع في احتياطيات هذه المعادن الأرضية النادرة، ولديها احتياطات ضخمة منها في الشمال وفي مورم انسك وفي القوقاز وفي فبردين بلغاريا وفي الشرق الأقصى وفي مقاطعة يكوسك وفي ياكوتيا وفي توفا. وتعد روسيا أكبر منتج ومصدر للبلاديوم في العالم، 40% من الصادرات العالمية، ويعد مكون ضروري لصناعة الرقائق الإلكترونية، وتستحوذ على 15% من صادرات البلاتينيوم، و10% من صادرات النيكل، وغيرها.
وقد أشار كيريل دميترييف، الرئيس التنفيذي لصندوق الاستثمار المباشر الروسي وعضو فريق التفاوض الروسي في المحادثات مع المسؤولين الأمريكيين في السعودية، إن موسكو وواشنطن بدأتا محادثات بشأن المعادن الأرضية النادرة ومشروعات أخرى في روسيا، وأن بعض الشركات الأمريكية أبدت اهتماماً بهذه المشروعات بالفعل.
ثالثاً: تداعيات التقارب الأمريكي ــ الروسي:
إن تداعيات الانفراج في العلاقات الأمريكية ــ الروسية تؤثر حتمًا على مستقبل التعاون بينهما، إلا إنه يتجاوز البلدين، وله ارتدادات في اتجاهات عدة، يمكن إيجازها على النحو التالى.
- مستقبل العلاقات الأمريكية ــ الروسية وهيكل النظام الدولي:
لقد نجح ترامب في تلجيم التصعيد الأمريكي ــ الروسي وزحزحته عن حافة الهاوية، إلا أن الهوة بين البلدين يصعب تجاوزها بين ليلة وضحاها لاسيما في دولة كالولايات المتحدة تلعب فيها المؤسسات دورًا حاسمًا ومؤثرًا. وإلى جانب التباعد الذي لم يتم تجاوزه بالكامل في أوكرانيا على النحو السابق بيانه، هناك مدى كبير من القضايا التي سيتعين صياغة تفاهمات بشأنها بين واشنطن وموسكو. من أهمها قضايا التوازن الاستراتيجي، نظرًا لكونهما أكبر دولتين نوويتين وتمتلكان معًا حوالي 90% من الرؤوس الحربية النووية في العالم، وتعتبر من القضايا الملحة خاصة بعد تعليق روسيا مشاركتها في معاهدة "ستارت الجديدة" مع الولايات المتحدة المتعلقة بخفض الأسلحة الهجومية الاستراتيجية والحد منها، في 21 فبراير 2023م، والتي كانت الاتفاقية الوحيدة المتبقية لمراقبة الأسلحة النووية بين البلدين بعد انسحابهما من الاتفاقات الأخرى للحد من التسلح. كذلك، تنظيم التنافس في مجال الفضاء والمجال السيبراني، وبلورة التفاهمات حول القضايا الإقليمية الممتدة من الفضاء السوفيتي إلى الشرق الأوسط وإفريقيا وصولًا لأمريكا اللاتينية.
في هذا السياق، يصعب تصور حدوث تغير جذري في العلاقات الأمريكيةـ الروسية، فالصدع الذي أحدثته الأزمة الأوكرانية والعدد الهائل من العقوبات المفروضة على روسيا، والتي يعود بعضها للحقبة السوفيتية، سيظل حجر عثرة تعوق التطبيع الكامل للعلاقات بين البلدين، وسيحتاج الأمر إلى وقت طويل يتجاوز فترة رئاسة ترامب. لقد بدأ بالفعل الحوار بين البلدين وهي خطوة إيجابية بعد قطيعة دامت ثلاث سنوات إلا إن الحصاد سيتركز في المستقبل القريب على إزالة الركام الذي يعوق إطلاق التعاون بين الجانبين، قبل انطلاقة حقيقية له.
في ضوء ما تقدم، سيستمر هيكل النظام الدولي متعدد القوى، مع تصدر الولايات المتحدة والصين وروسيا القوى الكبرى به، وصعود لافت للهند، وتراجع أوروبي نسبي لاسيما مع المشكلات الاقتصادية التي تعتصر الاقتصاد الألماني، أكبر اقتصادات منطقة اليورو. وربما سيكون العامل الأكثر تأثيراً على خريطة التحالفات في الأجل القصير هو التعريفات الجمركية التي قام الرئيس ترامب بفرضها في 2 أبريل، على المنافسين والشركاء معاً والذي رأى أنهم يعاملون الولايات المتحدة بطريقة غير منصفة، وغاب عنها روسيا لعدم وجود تجارة معها نظراً للعقوبات المفروضة عليها. الأمر الذي سيؤثر حتماً على خريطة الشراكات الاقتصادية وسيكون له انعكاسات سياسية واستراتيجية هامة. من أهمها توطيد التحالف القائم بين بكين وموسكو، وقد يدفع إلى انفتاح اقتصادي أكبر بين الاتحاد الأوروبي والصين وما يرتبط بذلك من توازن في الموقف الأوروبي حال اندلاع مواجهة مستقبلية بين بكين وواشنطن حول تايوان.
- مستقبل التحالف الأمريكي-الأوروبي وحلف الناتو:
كان وصول ترامب إلى البيت الأبيض بمثابة الصدمة للأوروبيين نتيجة التناقضات الكبيرة بين توجهات ترامب وتلك الأوروبية التقليدية. وسرعان ما بدأ التصعيد بين الجانبين، فقد ذهب ترامب منفرداً إلى المفاوضات مع روسيا حول أوكرانيا في تهميش واضح للأوروبيين الذين يعتبرون أنفسهم أصحاب الشأن ويتعين أن يكونوا جزءًا من عملية التسوية، وعمق الموقف الأوروبي اللاحق على النحو السابق بيانه من التباعد بين مواقف واشنطن وبروكسل. يأتي هذا في وقت تشهد العلاقة بين الجانبين توتراً على خلفية اتهام إدارة ترامب بدعم اليمين الشعبوي الأوروبي، وذلك على خلفية الانتقادات التي وجهها نائب الرئيس، جي دي فانس، خلال مؤتمر ميونيخ للدول الأوروبية والتي اعتبرتها الأخيرة "ضربة للمبادئ الأساسية للاتحاد الأوروبي" حيث خصص جزءًا كبيرًا من كلمته لانتقاد سياسات الرقابة في أوروبا، وإلغاء نتائج الانتخابات في رومانيا، معتبرًا أن الإجراءات التي تتخذها بعض الحكومات تضر بالديمقراطية وحرية التعبير. كما حملت تعليقات ترامب على الحكم الصادر ضد زعيمة كتلة حزب "التجمع الوطني" الفرنسي مارين لوبان تعاطفاً واضحًا للأخيرة، فقد رأى أن الحكم مشابه إلى حد كبير للملاحقات القضائية التي تعرض لها هو نفسه في الولايات المتحدة، وأن لوبان مُنعت من الترشح للانتخابات لمدة 5 سنوات، بينما هي المرشحة الرئيسية.
يضاف إلى ذلك القنبلة الاقتصادية التي فجرها ترامب يوم 2 أبريل بفرض تعريفات جمركية بلغت 20% على الواردات من الاتحاد الأوروبي، والتي عمقت الصدع في العلاقات الأمريكية الأوروبية، ووصفتها المفوضية الأوروبية بأنها غير مبررة وتُلحق ضررًا اقتصاديًا بالطرفين وبالاقتصاد العالمي، وأنه من الأفضل التوصل إلى نتائج تفاوضية مع الولايات المتحدة، تكون متوازنة ومفيدة للطرفين. وفى 9 أبريل وافق الاتحاد الأوروبي على أول حزمة من الإجراءات الانتقامية لمواجهة الرسوم الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة على الصلب والألمنيوم، في تصعيد يهدف إلى تسريع المفاوضات مع واشنطن في هذا الخصوص.
على صعيد آخر، تتصاعد الهجمات الأمريكية على دول الناتو على النحو الذي يهز أسس الحلف. فقد هدد ترامب علنًا بعدم الدفاع عن الدول الأعضاء التي لا تلتزم بزيادة الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، بقوله " إذا لم يدفعوا فلن أدافع عنهم"، وهو رقم يتجاوز حتى الهدف الحالي البالغ 2%، والذي لم تحققه كل دول الحلف بعد. ومن المستبعد انسحاب واشنطن من الحلف حيث سبق وأن أقر الكونجرس تشريعًا عام 2023م، يمنع أي رئيس أمريكي من سحب الولايات المتحدة من حلف الناتو دون موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ أو إجراء منفصل يقره الكونجرس. إلا أن مواقف ترامب تزعزع الثقة في الحلف وتقوض منه عبر التشكيك في التزام واشنطن بالمادة 5 التي تنص على الدفاع المشترك. وتتعاطى الدوائر السياسية والعسكرية بجدية مع احتمالية انهيار الضمانات الأمنية الأمريكية، وبدأت بعض الدول زيادة ميزانياتها الدفاعية وتعزيز التعاون الأوروبي خارج إطار الناتو، وهو التوجه الذي تقوده فرنسا.
قد يتحلى الأوروبيون بالصبر آملين أن تعود الأمور إلى مجراها بعد انتهاء فترة ترامب كما حدث من قبل، وسواء حدث ذلك أم استمرت توجهات ترامب عقب رحيله عن البيت الأبيض فإن التحالف الغربي سيستمر في المستقبل المنظور مع صعوبات وشد وجذب يدعمها صعود القوى اليمينية الشعبوية في فرنسا وألمانيا وزيادة تأثيرها وإمكانية وصولها للسلطة وتشكيلها الحكومات في المستقبل.
- التداعيات على الشراكة الاستراتيجية بين روسيا والصين:
أدت الأزمة الأوكرانية وتطوراتها إلى طفرات ملحوظة في الشراكة بين موسكو وبكين التي أصبحت "بلا حدود" كما أعلن البلدان في فبراير 2022م، ووصلت فعلياً مستوى التحالف الاستراتيجي. وكانت روسيا قبلة الرئيس شي جين بينج الأولى في مستهل فترة ولايته الثالثة، وكذلك كانت الصين عقب إعادة انتخاب الرئيس بوتين، وكشفت قمة بكين في مايو 2024م، عن عمق التعاون الاستراتيجي بين البلدين وما ينتظرها من تقدم في المستقبل. في هذا السياق وبالنظر لشبكة المصالح العضوية التي تربط البلدين، فإن الانفراج في العلاقات الأمريكية ـ الروسية لن يؤثر على التحالف الروسي ـ الصيني، والشراكة بين البلدين التي أصبحت "صلبة كالصخر" على حد تعبير وزير الخارجية الصيني، ومن المنتظر أن تدعم موسكو بكين سياسيًا واقتصادياً كما دعمتها الأخيرة في مواجهتها مع واشنطن ولا يعني هذا الانخراط في مواجهة عسكرية لصالح بكين، وإن ظل التعاون العسكري التقني أحد محاور هذا الدعم المحتمل.
- التداعيات الإقليمية في ضوء التفاهمات المحتملة بين واشنطن وموسكو:
يعد الملف الإيراني هو أبرز الملفات محل البحث بين واشنطن وموسكو، فقد كانت المفاوضات الأمريكية ــ الإيرانية محل بحث بين الرئيسين الأمريكي والروسي خلال المكالمات الهاتفية بينهما، وعولت واشنطن على قدرة موسكو في تليين الموقف الإيراني وإقناعها بقبول المفاوضات. ومع بدء المفاوضات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة في مسقط حول البرنامج النووي سيكون لموسكو دور رئيسي في هذا الخصوص، ومن المعروف أن روسيا كانت هي مهندس الاتفاق النووي لعام 2015م، وستحاول موسكو الدفع بصيغة تحفظ لطهران حقها في تطوير قدرات نووية سلمية مع طمأنة واشنطن على سلمية البرنامج وما يتعلق بنسب التخصيب والضمانات في هذا الشأن.
إن محاولات إذابة الجليد الذي تراكم على العلاقات الأمريكية ـ الروسية على مدى السنوات الأربع الماضية وإعادة الدفء لها ليس بالأمر اليسير وتطلب جهداً ووقتاً، كما إنها محفوفة بالعديد من الإشكاليات التي يصعب تجاوزها، إلا أن إرادة ترامب ستساعد كثيراً على تخفيف التوتر وصياغة بعض التفاهمات التي ستنعكس إيجابياً على عدد من الملفات الإقليمية وفى مقدمتها أوكرانيا، دون المساس بالتحالفات الهيكلية في النظام الدولي على الأقل في المستقبل المنظور.