تشكل سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عامل إغراء للباحثين والمفكرين الساعين لاستكشاف تداعياتها المتوقعة على العالم وعلى المناطق والأقاليم الجيوسياسية المختلفة، حيث يتوقع أن تزيد توجهاته من حدة الاستقطاب وترفع درجات عدم الاستقرار الدولي. وإذا كان الرئيس ترامب قد أنهى فترته الأولى بإثارة الاضطراب داخل المجتمع الأمريكي مع الهجوم على مبنى الكونجرس والمحاكمات التي تعرض لها هو وأنصاره، فقد يكون الحصاد الرئيسي لفترته الثانية، هو نقل عدوى عدم الاستقرار إلى العالم، وليس فقط داخل المجتمع الأمريكي.
لم يتوقف كثيرون عند تقرير مؤسسة «هريتاج» الذي صدر عام 2023م، واشترك في إعداده عدد كبير من الباحثين والناشطين المعتنقين لأفكار التيارات المحافظة في الولايات المتحدة، والذين طرحوا من خلاله "المشروع الانتقالي الرئاسي 2025م"، والذي نشر تحت عنوان «تفويض بالقيادة: الوعد المحافظ» وهو التقرير الأساسي الذي استمد الرئيس ترامب استراتيجيته للعالم من خلاله. في هذا التقرير استلهمت مؤسسة "هريتاج" روح تقرير سبق أن قدمته للرئيس رونالد ريجان، في شتاء عام 1980م، بعنوان "التفويض الاستهلالي للقيادة"، وهو العمل الاستراتيجي الذي شكل أساس التوجهات الدولية للرئيس الأسبق؛ حيث وضع ذلك العمل الجماعي الذي أعده قادة الفكر من المحافظين ومسؤولون سابقون بالحكومة (عهد ريجان)، الحركة المحافظة وريجان "على الدرب نفسه". ويؤكد التقرير الذي قدمته المؤسسة في عام 2023م، بأن الثورة التي أعقبت ذلك -في ظل إدارة ريجان-"لم تكن لتحدث أبدًا، لولا هذه المجموعة من الناشطين الملتزمين والمتطوعين". وبالمثل، وللإشارة إلى تأثير التقرير الحديث على الرئيس ترامب وإدارته، ذهب أحد التقديرات إلى أن 75% من الأوامر التنفيذية للرئيس مستمدة من الرؤية والاستراتيجية التي وضعها تقرير المؤسسة نفسها في 2023م.
أولا: تقرير "هريتاج" والشرق الأوسط
تضمن تقرير مؤسسة هريتاج في 2023م، (تفويض بالقيادة: الوعد المحافظ)، أفكارًا انعزالية بشأن العالم؛ فلا ينطلق التقرير من روح تعاونية مع الأصدقاء والحلفاء ناهيك عن الأعداء. لذلك ركز التقرير بالأساس على المواجهة مع الصين، وأخضع معدو التقرير جل أفكارهم لأجل إحراز التفوق في المواجهة معها. ويؤكد التقرير بصراحة على أنه "يتعين على استراتيجية الدفاع الأمريكية أن تحدد الصين بشكل لا لبس فيه باعتبارها الأولوية القصوى للتخطيط الدفاعي الأمريكي".
فيما يتعلق بالشرق الأوسط (الذي يهمنا هنا)، يدعو التقرير -الذي يقع في نحو 900 صفحة-إلى "الهيمنة الأمريكية على سوق الطاقة العالمية، معتبرًا أن ذلك سيكون أمراً جيدًا بالنسبة للعالم، والأهم من ذلك، للشعب الأمريكي". ويؤكد أن "الهيمنة الاستراتيجية الكاملة على مجال الطاقة من شأنها أن تسهل إعادة تنشيط القطاع الصناعي والتصنيعي في أمريكا مع انفصال اقتصادنا عن الصين". ويوصي الإدارة بأن "تعمل على إعادة التواصل مع دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وألا تتخلى عن المنطقة". مؤكدًا أنه "بدون القيادة الأمريكية، قد تتجه المنطقة نحو مزيد من الفوضى أو تقع فريسة لأعداء الولايات المتحدة". ولأجل تحقيق ذلك، يدعو التقرير إلى اقتفاء توجه "متعدد الأبعاد من الناحية الاستراتيجية"، يتضمن ثلاثة محاور:
- أن تسعى الولايات المتحدة لمنع إيران من الحصول على التكنولوجيا النووية وقدرات التسليح، وعلى نطاق أوسع، أن تمنع الطموحات الإيرانية. من خلال إعادة فرض وتوسيع نطاق العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب (الأولى)؛ ودعم الشعب الإيراني المطالب بالحرية في ثورته ضد الملالي، وضمان حصول إسرائيل على الوسائل العسكرية والدعم السياسي والمرونة اللازمة لاتخاذ ما تراه تدابير مناسبة للدفاع عن نفسها ضد النظام الإيراني ووكلائه الإقليميين.
- تشجيع الدول العربية، ومنها المملكة العربية السعودية، على الانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية. وهو ما يتطلب وقف التدهور الذي ألحقته إدارة بايدن بالشراكة طويلة الأمد مع المملكة. من جانب آخر يدعو التقرير لقطع التمويل عن السلطة الفلسطينية، وإبقاء تركيا في الحظيرة الغربية وحليفاً لحلف شمال الأطلسي. ويؤكد أنه في المستقبل المنظور سوف يلعب النفط في الشرق الأوسط دوراً رئيسياً في الاقتصاد العالمي. ولذلك، يتعين على الولايات المتحدة أن تستمر في دعم حلفائها والتنافس مع خصومها الاقتصاديين. وينبغي تعزيز العلاقات مع المملكة العربية السعودية بطريقة تحد بشكل جدي من النفوذ الصيني مع الرياض.
- بناء حلف أمني في الشرق الأوسط يضم إسرائيل ومصر ودول الخليج، وربما الهند، كترتيب رباعي. كما أن حماية حرية الملاحة في الخليج وفي البحر الأحمر/ قناة السويس أمر حيوي للاقتصاد العالمي، ومن ثم لازدهار الولايات المتحدة. وفي شمال إفريقيا، يورد التقرير أن التعاون الأمني مع الحلفاء الأوروبيين، وخاصة فرنسا، سيكون أمرًا حيويًا للحد من التهديدات الإسلامية المتزايدة وتوغل النفوذ الروسي.
في المحصلة النهائية، تبقى قيمة هذا التقرير فيما يكشف عنه من نمط تفكير المحافظين الأمريكيين وقراءتهم الأحادية للعالم التي تبتغي المصلحة الأمريكية وتتجه لبناء التحالفات مع من يتوافقون مع تلك المصلحة، ما يعني أنه يمكن تغيير التحالفات، وفقًا للقراءات المتغيرة للمصالح، دون التركيز على تحالفات خاصة مع حلفاء محددين. وليس بالضرورة أن تطبق إدارة ترامب أو تنهج رؤية تقرير هريتاج حرفيًا بشأن تحالفات الشرق الأوسط؛ فأفكار التقرير تأسست على قراءة الواقع خلال فترة إعداده قبل وأثناء عام 2023م، ولكن المرجح أن يفرض اصطدام إدارة ترامب بالواقع الدولي في 2025م، وبعده توجهات جديدة، وكما أدت سياسات وتوجهات الإدارة إلى نتائج عكسية (أولية) فيما يتعلق بالرسوم التجارية مع الصين، فإن توجهاتها الأمنية والسياسية والعسكرية في مناطق ودول العالم قد تؤدي لنتائج عكسية، وفي الشرق الأوسط تحديدًا، قد تنتهي نتائج سياساته إلى إقليم مختلف عما عهدناه في العقود السابقة، فيما يتعلق بتحالفاته الدولية.
ثانيًا: إدارة ترامب والشرق الأوسط
لم تبتعد توجهات الرئيس ترامب في القضايا العالمية، عن توصيات تقرير مؤسسة هريتاج؛ إذ تفيد توجهات الإدارة ومسؤولوها وتصريحات الرئيس نفسه إلى التزامهم بالتوجهات العامة للتقرير سالف الذكر في القضايا العالمية، وبما جاء به بشأن دول الشرق الأوسط (السعودية، مصر، تركيا، إيران)، أو حتى فيما يتعلق بحجم الاهتمام بالمضايق والممرات المائية الدولية ومنها قناة السويس. لكن مع تضارب مؤشرات الأداء الأولي لفريق ترامب الرئاسي، على نحو ما بدا من مواقفهم غير المدروسة بشأن غزة وأوكرانيا وكندا وجرينلاند وبنما، وقراراتهم الدراماتيكية حول الرسوم التجارية، والصورة الإعلامية التي تكشف خضوعهم التام لشخص الرئيس خلال توقيعه القرارات الرئاسية، يصعب التقدير المبكر لتداعيات السياسة الأمريكية على منطقة الشرق الأوسط، على الرغم من أن أغلب التحليلات تتجه إلى توقع نتائج سلبية على المنطقة.
باستعراض مواقف الإدارة فيما يتعلق بالملفات الشرق أوسطية، المتمثلة في: غزة وإسرائيل والتطبيع، والوضع في الخليج وإيران، وملف العلاقة بين تركيا وإسرائيل فيما يتعلق بسوريا، علاوة على إدارة العلاقات مع السعودية ومصر والإمارات وسوريا الجديدة؛ وهي أربعة ملفات أساسية سوف تحكم مستقبل التطورات في الشرق الأوسط خلال حقبة الرئيس دونالد ترامب، يكشف تعامل الإدارة مع كل منها اتجاهها إلى تفتيت الشرق الأوسط، وعدم التعامل معه من منطلق كونه إقليمًا جيوسياسيًا تشكل القضية الفلسطينية قلب تفاعلاته وإسرائيل جوهر المشكلة فيه.
وبينما سعت الولايات المتحدة في حقبة ترامب الأولى إلى تقديم خطر إيران على الخطر الإسرائيلي، واعتبرت إيران -وليس إسرائيل-هي مصدر التهديد الأساسي، فإنها الآن تسعى لحل المسألة النووية وتتفاوض مع طهران. وهنا يبرز السؤال حول تصورات الإدارة لمستقبل العلاقة مع إيران؛ حيث لا يزال هناك غموض في الطرح الأمريكي. وإذا أخذنا نهج الرئيس في إدارته الأولى مؤشرًا يفسر شخصيته وقراراته، فإنه لا يفضل دخول حرب مع إيران أو فتح جبهة حرب جديدة مع قوى تستنزف القدرات الأمريكية، لكنه قد لا يستطيع الوفاء بشروط الاتفاق مع الجمهورية الإيرانية، وهو ما يجعل احتمال النجاح في التوصل إلى اتفاق احتمالًا واحدًا بين احتمالات مختلفة. وما يختلف هذه المرة هو التحولات في موقف إيران نفسها وهو المتغير الذي قد يضيف أبعادًا جديدة إلى المعادلة.
من خلال توجهات الرئيس ترامب في إدارته الثانية فإن أفكاره التي يطرحها للعلن قد لا تمثل عمق قناعاته، وهو قد يقطع مسارات التفاوض السياسي في منتصف الطريق، ويوظف التفاوض لمعرفة نوايا الأطراف والخصوم، ربما كي ينقلب عليهم بشكل مفاجئ، وهو من جانب آخر يتردد في قرارات الحرب، لكنه لن يتردد في خيار العقوبات الاقتصادية، أو إطلاق يد إسرائيل ودعمها ضد إيران، من ثم لن يفقد خياراته القاسية والردعية ضد الجمهورية الإيرانية. بذلك يمكن تصور "إيران الجديدة" التي سوف تبرز عقب الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة، وهي التي تنزع أنيابها النووية والعسكرية والمذهبية لمصلحة إيران المدنية السلمية التي تعيد التوجه الغربي، والتي تنفصل عن وكلائها في الإقليم والقضية الفلسطينية. ويتبع ذلك إعطاء فرصة للنظر في ارتدادات الاتفاق على إيران من الداخل، مع حقبة صراعات داخلية محتملة، قد تسفح المجال تاليًا –إذا لم يسقط النظام-للتعامل الأمريكي مع ملفاتها الخاصة بحقوق الإنسان والميليشيات العسكرية كالحرس الثوري، على أن ينتهي الأمر بثورة داخلية تطيح بالحكم القائم وتأتي بحكم مناهض للصين وروسيا، وهو مسار يختلف أمده الزمني بين سنوات وعقود، لكنه يعيد غرس بذرة الحلم الأمريكي إزاء إيران. وفيما يتعلق بتوازنات الشرق الأوسط فإن ذلك يدفع إيران للاعتدال في محيطها الإقليمي. ويطأو
بخصوص غزة والتطبيع، اتجهت الإدارة إلى تبني موقف أكثر تطرفًا مما ورد بتقرير هريتاج، فبينما لم يتحدث التقرير عن مستقبل السلام أو القضية الفلسطينية أو عن الدولة الفلسطينية، واكتفى بالدعوة إلى قطع التمويل عن السلطة الوطنية، فإنه لم يطرح الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية واستعمار غزة لتكون "ريفييرا الشرق الأوسط"!، وهنا تمثلت استفادة الإدارة والرئيس من التقرير في الاهتداء بتوجهاته فقط؛ حيث جاء نهج الإدارة أكثر تطرفًا حتى بالمقارنة بالغياب الكلي للقضية الفلسطينية في تقرير هريتاج. وتستمر إدارة ترامب في تشجيع التطبيع (وليس السلام) العربي الإسرائيلي، لكنها تفصل التطبيع عن إقرار الدولة الفلسطينية، في نكوص عن توجهات الإدارة الأولى التي كانت تربط بين الاثنين، ولو بخيط رفيع، عبر ما اصطلح على تسميته "صفقة القرن".
يثير الانتباه أنه حتى الآن ربما لم ترد أي إشارة إلى مصطلح "الدولة الفلسطينية"، بل تغيب كلمة "فلسطين"، في خطاب الرئيس ترامب ومسؤولي إدارته، وبموجب خطته لن يكون للفلسطينيين حق العودة إلى قطاع غزة، ولقد صرح برغبة بلاده بـ "الاستيلاء" على القطاع. وتعمل سياسات الإدارة على إحداث تصدعات بالموقف العربي، بحيث تفرض مزيدًا من الضغوط على القوى العربية الساعية إلى حل الدولتين. وفي انحياز للنهج الإسرائيلي، تتجه الإدارة إلى فصل مسار التطبيع عن مسار السلام والدولة الفلسطينية. وتبقى مواقف الإدارة ضبابية فيما يتعلق بمستقبل الضفة الغربية، في نهج يشكل استكمالًا لنهج إدارة ترامب الأولى التي أصدرت قرارات ومراسيم اعتبرت القدس عاصمة لإسرائيل، واعترفت بضم إسرائيل للجولان.
يتمثل أحد أكثر جبهات الشرق الأوسط تحريكًا في التوازنات الجديدة لإدارة ترامب –فضلًا عن الملف الإيراني-في ملف العلاقات بين تركيا وإسرائيل، بعد أن أصبحت تركيا جارًا جغرافيًا مباشرًا وجارًا جيوسياسيًا لإسرائيل عبر سوريا. وإذا كان الاتفاق بين الولايات المتحدة وإيران –بالشكل الذي يستجيب لشروط الأطراف الإقليميين تجاه إيران-لا يزال يواجه مستقبلًا غامضًا وقد يسقط الرهان عليه في ظل العثرات ضده، فإن الملف التركي ــ الإسرائيلي، هو أقرب إلى إمكان الوصول إلى توافق سياسي؛ فعلى جانب الخلاف بشأن الأكراد تمثل الولايات المتحدة عامل تنسيق بين الطرفين، وبإمكانها -مساعدة الطرفين على تحديد نقاط التوافق ومراكز النفوذ بينهما في سوريا. ومن الناحية السورية، فعلى الرغم من النفوذ التركي على نخبة الحكم الجديدة، بما يمكن أنقرة من تمرير اتفاقها الممكن مع إسرائيل في دمشق، فإن النخبة السورية الجديدة ليست على شاكلة واحدة، وفضلًا عن أن بياناتها وتصريحاتها الأولية لم تر في الصراع مع إسرائيل أولوية وطنية حاليًا، فمن داخل هذه النخبة الجديدة عناصر لديها رغبة شديدة في التطبيع مع إسرائيل.
ويمكن تمرير الأمر لدى النخبة الإسلاموية في سوريا الجديدة بمنطق فقه الضرورة؛ لذلك لم يكن غريبًا تصريح المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي "ستيفن ويتكوف" بأن تطبيع إسرائيل مع سوريا أصبح احتمالاً حقيقياً، بعد أن خرجت سوريا من دائرة النفوذ الإيراني. كما لم يكن مفاجئًا، الإعلان عن وصول وفد من الكونغرس الأمريكي إلى العاصمة السورية، حاملًا ما وصف برسائل سياسية مباشرة، خصوصًا ما يتعلق بتوسيع "الاتفاقيات الإبراهيمية" وتخفيف العقوبات المفروضة على سوريا. هكذا ترجح بعض التطورات بأن تكون سوريا محطة تطبيع مقبلة، ونقطة التقاء جيوسياسية مهمة ومؤثرة مع إسرائيل، تنطلق منها مستقبلًا تحولات هائلة بالإقليم، وهي نقطة التقاء تشد هذا الجزء من الشرق الأوسط نحو أوروبا والأطلنطي، وتشكل مركز حضور تركي مباشر في الشرق الأوسط يزيد أهمية أنقرة في أوروبا.
يبقى السؤال الأخير، حول مراكز وأوضاع الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة في المنطقة؛ بالأساس المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات والأردن، حيث إنه إذا لم تتمكن الدول الأربع من الإمساك بالعصب المركزي للشرق الأوسط، عبر تخليق نقطة تفاعل مركزية أساسية، تشد حولها إيران وتركيا وسوريا وإسرائيل، وتعيد بناء أساسيات الموقف العربي حول السلام الإقليمي والقضية الفلسطينية، فإن المنطقة برمتها سوف تذهب إلى اختلالات ومراكز نفوذ متصارعة، لا تختلف أو تتصارع بسبب فلسطين أو إيران، وإنما تتصارع فيما بينها حول ملفات متعددة. وفي ظل هذه الحالة من الاختلالات يمكن لمسارات الصراع أن تعيد موضعة دول معتدلة أبرمت اتفاقيات سلام مع إسرائيل إلى صف قوى الممانعة، بما يجعل المنطقة إزاء مرحلة جديدة من الاضطراب الإقليمي.
تضع التحولات الإقليمية دول الخليج العربية بين إيران التي قد تتجه لمرحلة من الكمون الاستراتيجي، لاعتبارات بيولوجية تتعلق بمستقبل النظام والقائمين عليه، في ضوء الحاجة للخلافة السياسية والتغيير الكبير، ولاعتبارات أخرى تتعلق باحتمال التوصل إلى الاتفاق النووي، وهو كمون يستمر لفترة من الزمن تتجه فيها إيران لإعادة بناء ذاتها اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا خلال مرحلة قد تتسم بالاستقرار أو عدم الاستقرار، وقد تتمكن فيها إيران من النجاة بنظامها الحالي أو لا تتمكن. كما تضع التحولات دول الخليج بين تركيا وإسرائيل اللتين يرجح أن تنضبطا بعلاقة تغلفها المصالح الاقتصادية والتفاهمات السياسية والعسكرية وتقاسم النفوذ في المنطقة، ويضمنها الطرف الأمريكي، وهو وضع قد يتغير أيضًا، إذا جرى تغيير كبير في معادلة الداخل التركي، نزولًا على اعتبارات بيولوجية أيضًا تتعلق بمستقبل الرئيس أردوغان أو بتغيير داخلي سلمي أو عنيف. بينما تفرض الظروف على مصر -لاعتبارات وطنية وقومية وجيوسياسية-استمرار الانخراط في أعباء القضية الفلسطينية. وهنا ولمرة أخرى سوف تصبح عدسات الرؤية الخليجية موزعة بين وضع غير محدد في الخليج مع إيران الجديدة أو الحالية، واستقرار على معادلة النفوذ الإقليمي بين إسرائيل وتركيا حول سوريا، واستقرار آخر على وضعية القلق في علاقات مصر والأردن وفلسطين بإسرائيل، على خلفية استمرار العناد الإسرائيلي بشأن الدولة الفلسطينية.
الخلاصة
يعد حسن توظيف وإدارة الملفات بين الأطراف الإقليميين (السعودية ومصر وتركيا وإيران) في هذه المرحلة، أمرًا بالغ الأهمية، بحيث يتركز هدف الرباعي على وقف التمدد الإسرائيلي في المنطقة مع حرمان تل أبيب من بناء نظام إقليمي إسرائيلي (مدعوم أمريكيًا) ومؤسس على موازين قوة مؤقتة ومختلة، اندفعت بحسابات خاطئة بالانتصار على قوى أدنى من الدولة. وهذا يتطلب التوافق العربي / التركي / الإيراني على الحد الأدنى فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. وسوف يرتبط العنصر الحاسم في اتجاه التحولات بالشرق الأوسط الجديد والخريطة الجيوسياسية بالمنطقة بشكل أساسي بطريقة تدوير الملفات وتسابقها واندفاعها نحو الصدارة، وذلك نهج أمريكي إسرائيلي قديم (تسكين جبهات وفتح أخرى، تزامن وتفاوت التقدم في اتفاقيات التطبيع وفي توزيع جبهات الحروب، دبلوماسية الخطوة -خطوة). فقد تسعى الولايات المتحدة وإسرائيل إلى تسريع الاتفاق بشأن الملف النووي لتحييد إيران قبل الإقرار النهائي لملف غزة وسوريا وقبل إقرار ملفات التسوية والتطبيع، أو تسعيان إلى تسريع ملف التطبيع والتسوية لأجل حيازة قدرات أعلى للضغط على إيران قبل الاتفاق. وقد تسعى إدارة ترامب وحكومة نتانياهو إلى توظيف الاتفاق مع إيران والتوافق بين إسرائيل وتركيا في سوريا للضغط على الدول العربية في الملف الفلسطيني والقبول بمقترح غزة، ذلك ربما هو أحد دوافع القاهرة للتقارب العسكري مع الصين عبر صفقة الطائرات الصينية والمناورات المشتركة (نسور الحضارات). ذلك يطرح السؤال: هل تكون منطقة الشرق الأوسط هي المنطقة التي تعلن رسميًا تدشين القطبية العالمية الثانية للصين كمحور شرقي وكتلة قطبية عالمية؟
في الأخير، تمتلك دول الخليج ومصر وتركيا فرصة كبيرة لإثقال الكفة العربية في ميزان السلام والتسوية الإقليمي لمصلحة القضية الفلسطينية، ولمصلحة نظام إقليمي جديد يتأسس على دعامات السلام والرخاء الاقتصادي، ويستطيع الأطراف الثلاثة أن يقفوا سدًا منيعًا ضد استفراد إسرائيل بالمنطقة. فبالتأكيد تشكل المجموعة الخليجية قوة إقليمية صاعدة وعامل توازن إقليمي محسوب، يمكنه أن يعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية، كما تستطيع تركيا عبر اقترابها الجيوسياسي الجديد من إسرائيل في سوريا أن تشكل حلقة ضغط جديدة على إسرائيل تعوض عن نقص حلقة الضغط التي شكلها محور الممانعة -بشكل مختلف-. أما مصر فإن سعيها لمعادلة الكفة الإقليمية عبر علاقتها مع الصين وروسيا يمكنها أن تصحح جانبًا من الموازين التي اختلت بعد الجولات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة ضد إيران وسوريا والفاعلين المتوازيين مع الدولة في فلسطين ولبنان والعراق واليمن، على مدى عامي 2023 و2024م.