array(1) { [0]=> object(stdClass)#13906 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 209

سياسات ترامب تجاه أوروبا: الاستفادة من ترهل النظام الدولي ببدائل شعبوية تقوم على القوة والصفقات التجارية

الأربعاء، 30 نيسان/أبريل 2025

حسم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب موقفه من الاتحاد الأوروبي وقرر فرض رسوم جمركية جديدة على السلع الأوروبية، كما أعلن رفضه لمساهمة أوروبا المنخفضة في نفقات حلف الناتو، وأكد على أن الولايات المتحدة ليست على استعداد أن تدافع بالمجان عن حلفائها وطالب دول الاتحاد الأوروبي أن "تدفع" مقابل الحماية وهو توجه جديد يمكن فهمه في العلاقة بين دول "غير حليفة" ولكنه أمر ليس معتادًا بين الدول الحليفة أن تكون "مسطرة الحساب" هي الدفع المالي.

 

الاستثمار في الانقسام الأوروبي 

 

يتكون الاتحاد الأوروبي من ٢٧ بلدًا يعيش عليها حوالي ٤٥٠ مليون إنسان، ويمتلك سوق ضخم وحضور اقتصادي كبير سمح له بالدخول في شراكات مع مختلف دول العالم، وبناء مؤسسات لتحقيق هذا الغرض مثل المفوضية الأوروبية والبرلمان إلا إنه عجز حتى اللحظة على بناء سياسة خارجية ودفاعية أوروبية موحدة.

فقد وجدنا موقفًا داعمًا لروسيا غلف في ثوب الحياد لرئيس وزراء المجر الذي عاد واستقبل بكل سلاسة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو رغم قرار المحكمة الجنائية الدولية بملاحقته وأعلن أن بلادة ستنسحب من المحكمة، واتخذ سياسات عكس ما توافقت عليه الدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي سواء فيما يتعلق بملف الهجرة أو الديمقراطية وحقوق الإنسان. 

يقينًا إن "الإبهار" الذي قدمته التجربة الأوروبية في توحيد دول خاضت معظمها حروب عالمية طاحنة سقط فيها ملايين الضحايا تراجع الآن أمام فشل دول الاتحاد في تبني سياسة خارجية ودفاعية موحدة وعجزها عن اتخاذ موقف موحد من قرارات ترامب، كما أن تجاهل ترامب لمؤسسات الشرعية الدولية واعتماده على القوة وليس القانون الدولي خاصة بعد أن أهدرت إسرائيل كل التحركات الدولية من خلال الأمم المتحدة أو المحكمة الجنائية الدولية أو العدل الدولية لوقف حرب غزة وفشلت في محاسبتها على الجرائم التي ارتكبتها بحق المدنيين، فإن أوروبا أيضًا عجزت عن أن تكون الحامي القوي لقرارات الشرعية الدولية وتفرض القوانين الدولية.

والمؤكد أن الانقسام الأوروبي تحديدًا حول قضايا الأمن والسياسة الخارجية سهل من تحركات ترامب، فالرجل يعرف أن المجر حليف لتوجهاته وإيطاليا "ميلوني" قريبة من فكره وهو ما اتضح أثناء زيارتها الأخيرة إلى الولايات المتحدة، وبريطانيا التي تختلف حكومتها العمالية مع توجهات ترامب، إلا أنها مرتبطة ثقافيًا بأمريكا، وبقي خلافة مع فرنسا وألمانيا الذي يتوقع أنهما لن يمثلا قوة ضغط كبيرة عليه تدفعه إلى مراجعة سياساته.

ولم يكتف ترامب بمضاعفة قيمة الجمارك على السلع الأوروبية وإعلان انسحاب أمريكا عن حماية أي دولة أوروبية أو غير أوروبية لا تدفع تكلفة هذه الحماية إنما ذهب أيضًا في اتجاه دعم أحزاب أقصى اليمين في أوروبا وكانت تحركات "إيلون ماسك" حاضرة في بلدان كثيرة مثل بريطانيا وألمانيا، وشارك في العديد من الفاعليات لدعم مرشحي أقصى اليمين.

وقدم ترامب مقاربة جديدة في التعامل مع غزة وأوكرانيا، تختلف جذريًا عما طرحته أمريكا طوال الأعوام الثلاثة الماضية بخصوص الحرب في أوكرانيا.

فحين وضع منظومته الجديدة حول أوكرانيا فإنها انطلقت من توازنات القوة كما يفعل بالنسبة لإسرائيل فالرجل دائمًا مع الأقوى وهو يرى أن روسيا أقوى من أوكرانيا وأن الأخيرة عاجزة عن استعادة الأراضي التي سيطرت عليها روسيا، واعتبر أن هذه الحرب تعني خسارة أموال دون فائدة أو نصر.

وقد ذكر ترامب أكثر من مرة حجم الأموال التي دفعتها أمريكا لأوكرانيا وقال إنها ٢٠٠ مليار دولار، وهذا "على عكس أوروبا التي أقرضتها أموال ستأخذها بعدها". وهو التصريح الذي دفع الرئيس الفرنسي إلى مقاطعته بالقول إن ٦٠٪ مما دفعته أوروبا لأوكرانيا لن يرد.

تحركات ترامب تجاه أوروبا تعكس نظرته الجديدة لإعلاء القوة على القانون واعتبار الفوائد المالية أهم من التحالفات الاستراتيجية ومفاهيم مثل الدفاع عن القيم الغربية والليبرالية، ولكنها في نفس الوقت كانت واعية بالانقسام الأوروبي، وهو ما جعل كثيرًا من التحليلات تذهب إلى اعتبار أن سياسات ترامب قد تمثل فرصة لأوروبا لمواجهة أزماتها الداخلية.

 

الدفع مقابل الحماية أو تعريف جديد للحلفاء

 

شكك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استعداده للدفاع عن حلفاء واشنطن في الناتو، قائلاً إنه لن يفعل ذلك إذا لم يدفعوا ما يكفي لدفاعهم الخاص. وقال للصحفيين في المكتب البيضاوي: " إذا لم يدفعوا، فلن أدافع عنهم." وأضاف أنه تبنى هذا الرأي لسنوات، وأبلغه لحلفاء الناتو خلال فترة رئاسته بين 2017 و2021م، بضرورة زيادة إنفاقهم الدفاعي، لكنه أشار إلى أن "حتى الآن، لا يزال ذلك غير كافٍ."

صحيح أن موقف ترامب الحاد وتصريحاته المتسرعة وجدت من يخففها سواء داخل أمريكا أو في حلف الناتو، حيث أكد

 الأمين العام للحلف أن الشراكة عبر الأطلسي لا تزال حجر الأساس لتحالفنا" واعتبر أن الرئيس ترامب متمسك بالتزام أمريكا تجاه الناتو، وطالب أوروبا ببذل المزيد فيما يتعلق بالإنفاق الدفاعي".

إن فكر الرئيس ترامب في التعامل مع حلفائه هو فكر الصفقة التجارية أو المعاملة المالية بمعني إذا حميتك أو دافعت عنك فيجب أن تدفع مقابل ذلك بصرف النظر إذا كانت هناك علاقة تحالف مع هذه الدولة أم لا.

وقد تساءل في أحد المرات عما إذا كانت فرنسا أو "بضع دول أخرى" ستدافع عن الولايات المتحدة في حالة تعرضها لأزمة، واختتم موقفه باعتبار الناتو كتحالف "جيد محتمل"، إذا تم حل ما يعتبره "مشكلة الإنفاق". وانتقد الحلف قائلاً: "إنهم يخدعوننا تجاريًا".

 

لقد مثل الإنفاق العسكري أحد جوانب الخلاف بين ترامب والاتحاد الأوروبي، فالمعروف أن أوروبا تنفق حوالي 380 مليار دولار سنويًا على الدفاع، في حين أن الولايات المتحدة تنفق 968 مليار دولار، وهو ما دفع ترامب إلى مطالبتها بضرورة زيادة إنفاقها العسكري ليصل إلى 900 مليار دولار، مهددًا بعواقب إذا لم تلتزم هذه الدول بما وصفه "بالتزاماتها العسكرية".

إن هذه الضغوط المالية والعسكرية كشفت عن تباين في الأهداف بين الولايات المتحدة وأوروبا، فبينما ترى الولايات المتحدة أن دعم الحلفاء الأوروبيين عبر الإنفاق العسكري هو مسؤولية أوروبا، ترى القارة العجوز أن هذه السياسات تضعها في موقف الدفاع بدلاً من التعاون المتكافئ، وهو ما يشكل ضربة جوهرية لمبدأ الدفاع المشترك الذي عرفه الناتو منذ تأسيسه.

واللافت أن الرئيس الأمريكي كرر هذا الانتقاد لأعضاء الحلف واتهمهم بعدم الالتزام بالهدف الحالي للتحالف، وهو إنفاق 2% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع. واعتبره أمرًا غير عادل ويمثل عبئًا إضافيًا على الولايات المتحدة، بالمقابل فإنه وفقًا لأحدث إحصائيات الناتو، فإن 23 دولة عضوًا تجاوزت نسبة 2% من إنفاقها الدفاعي العام الماضي. من بين هذه الدول، خمس دول — إستونيا، اليونان، لاتفيا، بولندا، والولايات المتحدة — أنفقت أكثر من 3% على الدفاع، فيما كانت بولندا الأعلى بنسبة 4.12% من ناتجها المحلي الإجمالي.

والمعروف أن الجيوش الأوروبية أكثر عددًا داخل الناتو من الجيش الأمريكي، فتركيا على سبيل المثال تمتلك ثاني عدد من الجنود في حلف الناتو بعد الولايات المتحدة حيث يبلغ عددهم حوالي 355,200 جندي، تليها فرنسا (202,200)، ألمانيا (179,850)، بولندا (164,100)، إيطاليا (161,850)، المملكة المتحدة (141,100). أما من حيث القوات البرية، فإن تركيا تملك 260,200 جندي بري، تليها فرنسا (113,800) وإيطاليا (94,000) واليونان (93,000). وتمتلك المملكة المتحدة وحدها حاملتي طائرات حديثتين قادرتين على تشغيل مقاتلات F-35B، بينما تمتلك فرنسا وإيطاليا وإسبانيا حاملات طائرات وسفن هجومية قادرة على تشغيل المقاتلات، كما تمتلك فرنسا والمملكة المتحدة قدرات نووية مستقلة عبر غواصات الصواريخ الباليستية، كما تمتلك دول الاتحاد أكثر من 2,000 مقاتلة وطائرة هجومية أرضية لدى دول الناتو الأوروبية، بما في ذلك مقاتلات F-35 الشبحية.

ورغم إنه من غير المرجح أن تنسحب أمريكا بالكامل من "الناتو" إلا إنه في حال حدوث ذلك فإنها ستترك وراءها بنية تحتية عسكرية ضخمة. وفقًا لتقرير صادر عن الكونغرس، لدى الولايات المتحدة 31 قاعدة عسكرية دائمة في أوروبا، بما في ذلك قواعد بحرية وجوية ومنشآت قيادة وتحكم، يمكن أن تستفيد منها الدول المضيفة.

ويمكن القول إن أوروبا تواجه لحظة حاسمة في تاريخها الأمني. فإما أن تبني استقلاليتها الدفاعية وتعتمد على نفسها، أو تستمر في الاعتماد على شريك أمريكي أصبح ولاؤه محل شك. في كلتا الحالتين، يبدو أن الأمن الأوروبي يمر بمنعطف سيحدد ملامح النظام العالمي لعقود قادمة.

 

إعادة هيكلة الناتو 

 

طرحت الإدارة الأمريكية أيضًا تصورًا جديدًا يتعلق بإعادة هيكلة الحلف بدمج خمسة من القيادات القتالية الـ 11 في الجيش الأمريكي. وضمن هذه الخطة:

دمج القيادة الأوروبية (EUCOM) مع القيادة الإفريقية (AFRICOM) في مقر مشترك في شتوتغارت، ألمانيا.

وإغلاق القيادة الجنوبية الأمريكية (SOUTHCOM) في فلوريدا ودمجها مع القيادة الشمالية (NORTHCOM).

يهدف تقليل التكاليف عن طريق تقليل الموظفين ذوي المهام المتداخلة، ولكنها في نفس الوقت ستؤدي إلى تقليل النفوذ الأمريكي في أوروبا، حيث يمكن أن تخسر الولايات المتحدة الوصول إلى القواعد البحرية والجوية الرئيسية في إيطاليا، وألمانيا، وبولندا، وإسبانيا، مما سيؤثر على القدرة الأمريكية على التخطيط للعمليات العسكرية والتواصل مع الحلفاء.

إن إغلاق بعض مقرات القيادة العسكرية قد يؤدي إلى أخطار سياسية، حيث ستشعر بعض الدول بأن الولايات المتحدة لم تعد توليها الأولوية. كما أن القادة العسكريين الذين ستزداد مسؤولياتهم الجغرافية قد يجدون أنفسهم في وضع أكثر ضعفًا، وفقًا لإحاطة ذكرها البنتاغون.

وإلى جانب التخفيضات في أوروبا، من المحتمل أن تقوم الولايات المتحدة أيضًا بإيقاف خطط توسيع قواتها في اليابان، مما قد يوفر 1.18 مليار دولار وهو ما يعتبره الرئيس الأمريكي انجاز، حتى لو اعتبرت وزارة الدفاع هذه الخطوة ستضر بالعلاقات الأمريكية اليابانية وتقلل من القدرة على إدارة العمليات العسكرية في هذه المنطقة.

المؤكد إنه إذا مضت إدارة ترامب في هذه التعديلات، فقد تشهد الولايات المتحدة تراجعًا كبيرًا في نفوذها داخل الناتو وأوروبا، مما قد يؤثر على ميزان القوى العالمي، صحيح أن هذا التوجه سيوفر الانفاق الأمريكي على الحلف وفق عقلية الرئيس الحالي الذي اعتبر أن الجوانب المالية وحسابات المكسب والخسارة المادية أهم من قيمة التحالف السياسي.

وينوي الرئيس ترامب أن تركز الولايات المتحدة تدريباتها العسكرية مع دول الناتو التي تنفق النسبة المطلوبة من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، وقد أشارت إدارته بالفعل إلى أن أحد الخيارات المطروحة حاليًا هو إعادة تمركز بعض القوات الأمريكية في المنطقة بحيث تتركز في الدول الأعضاء في الناتو التي تفي بمستويات الإنفاق الدفاعي المحددة.

من الواضح أن الولايات المتحدة تعيد النظر في دورها كضامن رئيسي للأمن الأوروبي. ومن المرجح أن يصبح عبء الدفاع عن أوروبا مسؤولية أوروبية بحتة، مع تراجع الاعتماد على المظلة الأمنية الأمريكية.

 

إذا مضى ترامب في تنفيذ هذا التغيير، فسيحدث بذلك تحولًا جذريًا في أحد المبادئ الأساسية للحلف، وهي المادة 5، التي تنص على أن الهجوم على أي دولة عضو في الناتو يعتبر هجومًا على جميع الأعضاء، ولكنه شكك من أهمية هذه المادة بالنسبة للولايات المتحدة. واعتبر إنه تم تصميمها لحماية الدول الأوروبية من الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة، ولم يتم تفعيلها سوى مرة واحدة فقط، بعد هجمات 11 سبتمبر 2001م، على الولايات المتحدة.

 

التغيرات المحتملة في السياسة الدفاعية

 

أظهر استطلاع أجرته مؤسسة "Institut Elabe" الفرنسية أن ما يقرب من ثلاثة أرباع الفرنسيين يعتقدون أن الولايات المتحدة لم تعد حليفًا لفرنسا. كما أعربت أغلبية في بريطانيا وفي الدنمارك عن آراء غير مواتية تجاه أمريكا.

ويرى بعض الخبراء أن "الضرر الذي ألحقه ترامب بالناتو لا يمكن إصلاحه."

 

في ظل هذه الظروف، تسعى أوروبا إلى "أوربة" الناتو، من خلال بناء قدرة دفاعية ذاتية تقلل من الاعتماد على الدعم الأميركي، وهو يمثل تحولًا في السياسة الدفاعية للناتو تختلف عما ساد منذ الحرب العالمية الثانية وطوال الحرب الباردة.

 

إن غياب الولايات المتحدة لا يعني بالضرورة أن الناتو سيكون بلا قوة، إذ لا زال لديه أكثر من مليون جندي وأسلحة حديثة من 31 دولة أخرى في التحالف. كما أن لديه الموارد الاقتصادية والخبرة التكنولوجية اللازمة للدفاع عن نفسه من دون الولايات المتحدة، وفقًا للمحللين.

 

تعد الولايات المتحدة وألمانيا أكبر المساهمين في ميزانية الناتو العسكرية والمدنية وبرنامج الاستثمار الأمني، حيث تساهم كل منهما بحوالي 16%، تليهما المملكة المتحدة بنسبة 11% وفرنسا بنسبة 10%، وفقًا لبيانات الناتو. ويشير المحللون إلى أن تعويض غياب واشنطن لن يكون أمرًا مستحيلًا بالنسبة لأوروبا.

 

والحقيقة أن هناك من يري أن التراجع الأمريكي عن قيادة الناتو سيدفع أوروبا إلى الاعتماد عن نفسها وأنها قد تستثمر في المعدات العسكرية المناسبة، التي تشكل رادعًا تقليديًا ونوويًا ضد روسيا، وسيساعدها على بناء قدراتها الدفاعية بشكل أكثر استقلالية. أو كما كتب موريتز غريفارت، الباحث في معهد ويليام وماري، في مقال نشره "War on the Rocks": "بمجرد أن يقتنع حلفاء الولايات المتحدة بعدم قدرتهم على الاعتماد عليها، سيسرعون لتعويض هذا النقص وتطوير قدراتهم الخاصة". وأضاف: "من هذا المنطلق، فإن انسحاب الولايات المتحدة قد يؤدي إلى خلق أوروبا أقوى، وليس أضعف".

 

حرب تجارية بين الحلفاء

 

منذ وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، شهدت العلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها التقليديين في أوروبا تحولات غير مسبوقة، فالتهديدات التجارية والضغوط العسكرية والاقتصادية التي مارسها ترامب على قادة أوروبا كشفت عن التصدع في الشراكة الأوروبية الأميركية.

وقد فرضت الولايات المتحدة رسوماً جمركية شاملة بنسبة 20% على جميع الصادرات الأوروبية تقريباً، بالإضافة إلى رسوم منفصلة بنسبة 25% على السيارات وبعض قطع غيار السيارات. وصرح ترامب بأنه سيعلن عن رسوم جمركية إضافية على الأخشاب ورقائق أشباه الموصلات والمنتجات الصيدلانية، وبلغت هذه التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب حوالي 380 مليار يورو من سلع الاتحاد الأوروبي.

وقد رد الاتحاد الأوروبي على هذه الإجراءات وفرض رسوم جمركية تتراوح بين 10% و25% على الواردات الأمريكي وأقرت المفوضية الأوروبية، حزمة رسوم مضادة على منتجات الألومنيوم والصلب الأمريكية.

تقديرات الخسائر المحتملة للقارة الأوروبية جراء هذه الرسوم تراوحت بين 200 و350 مليار دولار، ما سيؤثر بشكل كبير على العلاقات الاقتصادية بين الجانبين.

ترامب اعتبر أن العلاقة التجارية مع أوروبا "خاسرة"، مشيرًا إلى العجز التجاري الأميركي مع أوروبا الذي يتجاوز 235 مليار دولار. كما طالب بزيادة التبادل التجاري لصالح الولايات المتحدة، في وقت تسعى فيه أوروبا إلى الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي.

وكتب ترامب عبر منصة "تروث سوشيال" للتواصل الاجتماعي "إذا عمل الاتحاد الأوروبي مع كندا لإلحاق الأذى الاقتصادي بالولايات المتحدة فإن رسوما واسعة النطاق، أوسع بكثير من التي تطبق حاليا، ستفرض عليهما من أجل حماية أفضل صديق حصل عليه كل واحد منهما".

 

أمريكا تتحرك منفردة 

 

اتخذ ترامب خطوة مثيرة للجدل عندما بدأ مفاوضات مباشرة مع روسيا حول الصراع في أوكرانيا، متجاهلاً المواقف الأوروبية ودعا لوقف الحرب دون العودة لحلفائه الأوروبيين، وهي خطوة صدمت العواصم الأوروبية التي طالما اعتبرت روسيا تهديدًا استراتيجيًا. أما على الجانب الاقتصادي فقد تبني شعار "أمريكا أولًا" ودافع عن المصالح الأمريكية وهو بديهي، ولكنه وضعها في مواجهه العولمة وعلى حساب أي شريك أو حليف له، أما على المستوى العالمي، فقد أصبح ترامب أكثر انعزالًا عن النظام التجاري العالمي القائم على حرية التجارة وطبق سياسات حمائية جديدة.

 

في حين كانت الشركات الأوروبية والصينية تبني علاقات تجارية مع دول أخرى بعيدة عن الولايات المتحدة، فإن أوروبا بدأت تشهد تحولًا نحو تصنيع داخلي يعتمد على الموارد المحلية وزيادة قدرتها التنافسية.

ومن الوارد أن يحدث ما تنوي أوروبا القيام به بالاعتماد على نفسها في بناء قدراتها العسكرية وزيادة التصنيع الداخلي وتعزيز الاستقلالية الاقتصادية، مما يمكن أن يضعف من التأثير الأمريكي في المستقبل.

في المقابل، فإن أوروبا التي لطالما كانت الحليف الأقرب للولايات المتحدة، قد تجد نفسها مضطرة لتقوية اقتصاداتها العسكرية والمالية من أجل مواجهة تحديات جديدة، وهو ما قد يعيد تعريف العلاقة بين القارتين في المستقبل القريب.

سيبقي التحدي الأكبر الذي يواجه دول الاتحاد الأوروبي هو في قدرتها على توحيد موقفها الاقتصادي والعسكري لمواجهة السياسات الأمريكية المستقبلية.

 

سياسات لن تستمر 

 

توجهات الرئيس الأمريكي وسياساته الخارجية تجاه العالم وأوروبا ليست منفصلة عن توجهاته الداخلية وإن عدم إيمانه بدور الخبراء وخريجي الجامعات الكبرى وربما قيمة التعليم الرفيع جعله يقوم بتسريح جانب من كبار موظفي الإدارة العليا في مختلف المجالات مستغلا تلك النظرة الشعبوية التي تقوم على تحريض أصحاب التعليم المتوسط والكفاءات المحدودة على النخب الأكثر تعليمًا بحجج مختلفة منها أنهم  يمارسون الاستعلاء على الآخرين وأنهم النخب المسيطرة على أمريكا وحان الوقت لتحجيمها وتجاوزها وهو الخطاب المعروف في كثير من بلدان العالم "بالمعادي للنخبة".

إن ترامب لم يعاد النخبة لصالح الفراغ أو "لا نخبة" كما يتصور البعض، إنما جاء بنخبة أيضا، ولكنها أقل تعليمًا وأكثر فجاجة في التعبير عن أفكارها ومارست كثير من العشوائية والتخبط في سياساتها الداخلية والخارجية.

يؤمن ترامب وإداراته بأن القوة هي القيمة العليا التي تحكم العلاقة بين الدول وليس القانون وإن علاقاته مع حلفائه الأوروبيين لن تختلف كثيرًا عن خصوم أمريكا التقليديين مثل روسيا والصين لأنه في كلتا الحالتين وضع معايير الصفقة التجارية والمكاسب المالية كقيم عليا تتجاوز مسألة التحالف السياسي والقيم الغربية.

القوة حكمت موقف ترامب من الحرب الروسية ـ الأوكرانية ودخل في وساطة بين البلدين متجاهلًا مواقف "حلفائه" الأوروبيين الذين اعتبروا أنه دعم موقف الطرف الأقوى أي روسيا. أما بالنسبة لغزة فقد وضع ترامب "منظومة بيزنس" لحل الصراع كسرت الصورة التقليدية لتعامل الزعماء الأمريكيين مع القضية الفلسطينية الذين انحازوا لإسرائيل، ولكنهم اعتبروها قضية سياسية وليست قضية تجارية أو عقارية، كما إنه قدم حلًا صادمًا يتعلق بالتهجير، ولكنه انطلق من غياب الحلول القابلة للتنفيذ واعتبر أن هناك مواقف أوروبية "مائعة" أكدت دائمًا على حل الدولتين الذي لم تحترمه إسرائيل.

سياسات ترامب تجاه الاتحاد الأوروبي هي جزء من توجه أكبر يقوم على الاستفادة من الضعف والترهل الموجود في النظام الدولي الحالي لصالح تقديم بدائل شعبوية تقوم على مفاهيم القوة والصفقات التجارية وإعادة بناء التحالفات على أسس الربحية المالية، ولكنها لا يمكن أن تستمر لفترة طويلة في ظل عشوائية الإدارة وعدم احترام العلم والعلماء.

مقالات لنفس الكاتب