منذ نجاح الثورة الإيرانية عام 1979م، في إنهاء حكم نظام الشاه، اتسمت العلاقات بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية في إيران بالعداء والتوتر. والذي كان من مظاهره، أزمة المحتجزين في السفارة الأمريكية بطهران عام 1980م، وممارسة واشنطن سياسات الحصار السياسي والضغوط الاقتصادية، وسعى إيران إلى مد نفوذها الإقليمي وإنشاء كيانات سياسية وعسكرية مؤيدة لها، وذلك حتى الوصول إلى خطة العمل الشاملة المشتركة النووية، المعروفة بالاتفاق النووي الإيراني عام 2015م، ثم إعلان الرئيس ترامب انسحاب أمريكا منها في عام 2018م، والعودة إلى سياسة الضغوط القصوى، فمحاولات لتهدئة العلاقات بين البلدين في عهد إدارة بايدن، ثُم العودة للتصعيد والتوتر مع بدء إدارة الرئيس ترامب الثانية مُنذ 20 يناير 2025م. ومن ثم، يمكن تصنيف هذا الصراع كأحد صور "الصراع الممتد"، أو أحد نماذج "الحروب الرمادية"، والتي يسعى فيها كل طرف لاستخدام مصادر قوته للضغط على الخصم، ويصل أحيانًا إلى "حافة الهاوية" ولكن دون الانزلاق إلى الحرب. في هذا النوع من الصراعات، يكون الفوز بالنقاط وليس بالضربة القاضية، ويكون في مواجهات جزئية ومحدودة وليس في معركة حاسمة.
ويتناول هذا المقال ثلاث نقاط. الأولى، خلفية العلاقات الأمريكية / الإيرانية في عهد بايدن. والثانية، أهم معالم تطور العلاقات بين البلدين في عهد الإدارة الجديدة. والثالثة، التأثير على حالة الاستقرار والأمن في الشرق الأوسط.
أولًا: خلفية العلاقات الأمريكية / الإيرانية في عهد بايدن
في مايو عام 2018م، أعلن الرئيس ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي الإيراني المبرم عام 2015م، ووصفه بأنه واحد من أسوأ الاتفاقيات في التاريخ. وتلا ذلك، تصعيد في العلاقات بين البلدين كانت له مظاهر متعددة، أبرزها قيام إيران باحتجاز عدد من ناقلات النفط الإماراتية واليابانية والبريطانية المارة في بحر العرب وخليج عمان. وفي المقابل، احتجاز ناقلة نفط إيرانية في جبل طارق، وقيام أمريكا بإنشاء تحالف عسكري دولي بقيادتها لحماية حرية الملاحة وتدفق النفط في الخليج العربي وممر هرمز.
من جانبها، أسقطت إيران طائرة مسيرة أمريكية، وقام الحوثيون بعمليات عسكرية ضد أهداف سعودية كان أخطرها هجمات أرامكو في بقيق وخريص في 14 سبتمبر 2019م، لأنها مثلت تهديدًا لأمن الطاقة والأمن العالمي، وأشارت أصابع الاتهام إلى إيران باعتبارها الجهة التي تقف وراء الهجوم.
وفي 5 يناير 2020م، قامت المخابرات الأمريكية بعملية اغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس بالحرس الثوري في مطار بغداد، وأدى هذا إلى مزيد من التصعيد والتوتر في العلاقة بين البلدين. وقامت كليهما بتحركات عسكرية وحشد للقوات في الخليج والتهديد باستخدامها.
وتراوحت التصريحات الأمريكية والإيرانية ما بين التصعيد والتهديد والمواجهة العسكرية والقدرة على إلحاق الهزيمة بالخصم، وبين التأكيد على أنه لا يوجد حل عسكري لهذا النزاع وضرورة الوصول إلى تسوية سلمية له، واستمر هذا الوضع حتى خسارة ترامب الانتخابات الرئاسية في نوفمبر 2020م.
وفي عهد الرئيس بايدن، اتبعت واشنطن سياسة أقل تشددًا. فبينما استمرت في فرض العقوبات الاقتصادية الدولية، فقد خففت من بعض العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب، وشجعت المفاوضات التي أدارها الاتحاد الأوروبي مع إيران.
في هذه الفترة، برز دور إسرائيل كأحد المحددات الرئيسية للسياسة الأمريكية تجاه إيران، بحيث يكون من الممكن الحديث عن "ترويكا" العلاقات الأمريكية-الإيرانية-الإسرائيلية، والعلاقات المتداخلة والمتقاطعة بين بعضها البعض. فمن ناحية، رفضت الولايات المتحدة سياسات النظام الإيراني، وسعت إلى تسوية خلافاتها من خلال العقوبات الاقتصادية والأدوات الدبلوماسية والسياسية والتلويح باستخدام القوة العسكرية.
ومن ناحية ثانية، فإن إسرائيل تتبنى موقفًا أكثر تشدُدًا وتعتبر أن امتلاك إيران السلاح النووي هو مصدر التهديد الرئيسي عليها، وتسعى إلى تدمير هذه القدرة، بل إلى إسقاط النظام الحاكم برمته إذا سمحت الظروف بذلك. وهو ما ظهر في الرسالة التي وجهها رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو إلى الشعب الإيراني في ديسمبر 2024م، والتي أشار فيها إلى الصداقة التاريخية بين اليهود والفرس، وأظهر تعاطفه، حسب تعبيره، " مع طموحات الإيرانيين في إسقاط نظام المرشد".
ومن ناحية ثالثة، حرصت إيران على عدم الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، واستخدمت وكلاءها في لُبنان والعراق وسوريا واليمن، للقيام بعمليات عسكرية ضد تل أبيب وزودتهم بالأسلحة والذخائر والخبرة العسكرية. تغير هذا الوضع في مطلع عام 2024م، ففي 1 أبريل عندما قامت الطائرات الإسرائيلية بتوجيه ضربة إلى مبني القنصلية الإيرانية في دمشق، والذي راح ضحيته عدد من ضباط الحرس الثوري، كان أبرزهم العميد محمد رضا زاهدي، ردت إيران في 13 أبريل باستهداف قاعدتي نفاتيم ورامون اللتين انطلقت منهما الطائرات التي أغارت على مبنى القنصلية. وأعقب ذلك، هجوم إسرائيلي محدود على نظام دفاع صاروخي في أصفهان.
تكرر المشهد مرة أخرى في نهاية العام، عندما قامت إسرائيل باغتيال كل من إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خلال زيارة له إلى طهران في يوليو، وحسن نصر الله الأمين العام لحزب الله اللبناني في سبتمبر. فردت إيران في 1 أكتوبر، ووجهت ضربه بصواريخ باليستية. أعقبها في 26 أكتوبر، قيام إسرائيل بهجوم جوي عبر الحدود العراقية والسورية مع إيران، استهدف منشآت لتصنيع الصواريخ، وقواعد صواريخ أرض –جو، ومواقع عسكرية أخرى في محافظات طهران وخوزستان وإيلام.
وجدير بالتسجيل في هذا الشأن، أن المصالح الأمريكية لم تكن بعيدة عن هذا التصعيد، فقامت الميليشيات المؤيدة لإيران في العراق وسوريا بعشرات العمليات ضد أهداف أمريكية، وردت القوات الأمريكية عليها بضرب مصادر إطلاقها. كما دعمت الولايات المتحدة إسرائيل في مواجهة الضربات الإيرانية، وشاركت في إسقاط الطائرات المسيرة والصواريخ التي كانت في طريقها إلى إسرائيل قبل وصولها إلى أهدافها، ولكنها تدخلت، في نفس الوقت، لمنع إسرائيل من مهاجمة المنشآت النووية والنفطية، وقصر هجومها على الأهداف العسكرية، وذلك خلال هجومها العسكري في أكتوبر.
اتسم الخطاب الإيراني بالجمع بين تأكيد نية طهران في الرد على أي تهديد عسكري إسرائيلي، وبين الرغبة في تهدئة الأوضاع في الشرق الأوسط وعدم جر المنطقة إلى حرب إقليمية. يدعم من ذلك، وجود رئيس جمهورية من التيار الإصلاحي.
ويبدو أن ترامب عقب فوزه في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر 2024م، بدأ في الاتصال مع إيران، فقام صديقه إيلون ماسك الذي كان مُرشحًا وقتذاك لتولي وزارة الكفاءة الإدارية، بعقد لقاء في 16 نوفمبر مع السفير أمير سعيد إيرفاني، رئيس بعثة إيران لدى الأمم المتحدة. وبعدها بأيام، تقدمت المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا بدعم من الولايات المتحدة، بمشروع قرار إلى مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، انتقد فيه إيران بشدة لتراجع تعاونها مع الوكالة، وعدم التزامها بتعهداتها وفقًا لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، ووافق أغلبية المجلس عليه في 21 نوفمبر.
وردت إيران في اليوم التالي، بالإعلان عن تشغيل عدد أكبر من أجهزة الطرد المركزي المتطورة. وفي نفس اليوم، صرح علي لاريجاني مستشار المرشد الأعلى بأن إيران مستعدة للتفاوض، والوصول إلى اتفاق نووي جديد، وتم الإعلان عن اجتماع بين وزراء خارجية إيران وكل من المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا، انعقد في جنيف يوم 30 نوفمبر 2024م.
وهكذا، ففي الشهور الأخيرة من إدارة بايدن، أفصحت إيران عن رغبتها في الوصول إلى حل تفاوضي للنزاع مع أمريكا والدول الغربية بشأن برنامجها النووي، على ألا يمثل ذلك انتقاصًا من سيادتها، أو يكون ذلك نوعًا من الاستسلام والرضوخ للإملاءات الأمريكية. وفي الوقت نفسه، لوحت بأنها تمتلك من القدرات العسكرية ما يمكنها من الدفاع عن نفسها والإضرار بالمصالح الأمريكية والغربية في المنطقة. وهي نفس السياسة التي استمرت في اتباعها في الشهور الأولى من حكم الرئيس ترامب، رغم الخسائر الاستراتيجية التي أصابتها من جراء سقوط نظام الأسد في سوريا، وتحجيم القوة العسكرية لحزب الله في لبنان والمقاومة الفلسطينية، إضافة إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية.
ثانيًا: تطور العلاقات الأمريكية في عهد الرئيس ترامب
بدأ الرئيس الجديد بإعادة صياغة السياسة الأمريكية تجاه إيران. وفي الأسابيع التالية، اتبع سياسة مزدوجة تجمع بين "العصا والجزرة". فمن ناحية، أكد على أن إيران لا يمكن أن تحصل على السلاح النووي، وأن أمريكا سوف تستخدم كافة الوسائل لضمان تحقيق ذلك، فعاد إلى العمل لسياسة الضغوط القصوى، وهدد باللجوء إلى القوة العسكرية. ومن ناحية أخرى، دعا السلطات الإيرانية إلى العودة لمائدة التفاوض للوصول إلى حل بشأن سلاحها النووي، وأنه لا يعادي إيران ويرغب لها الخير والازدهار طالما تخلت عن حيازة السلاح النووي.
فبخصوص التشدد والتهديد، كان أحد أول قرارات ترامب بعد توليه المنصب، توجّيه إدارته لإعادة اتباع سياسة الضغوط القصوى على طهران، والعمل مع الدول الحليفة لإعادة فرض جميع العقوبات الدولية عليها في مجلس الأمن. وكشفت هذه الإجراءات عن تبني الإدارة الجديدة لسياسة أكثر تشددًا وصرامة، بهدف منع إيران من تطوير السلاح النووي، أو قدرتها على تهديد المصالح الأمريكية والغربية في منطقة الشرق الأوسط.
وسرعان ما تحولت هذه التوجهات إلى واقع. وفي4 فبراير 2025م، وقع الرئيس مذكرة رئاسية تقضي بإعادة فرض "الضغوط القصوى" ضد إيران. وأصدر أمرًا تنفيذيًا لوزارتي الخزانة والخارجية بالعمل على زيادة العقوبات الاقتصادية، وفرض القيود على صادرات النفط الإيرانية حتى تنخفض إلى رقم الصفر، وهو ما يسمى "تصفير الصادرات". وذلك، من خلال إلغاء أي إعفاءات أو تراخيص قائمة لبعض الدول تسمح لها بشراء النفط الإيراني، وتحذير جميع الدول من مخاطر التعامل مع إيران. جاء ذلك بحجة أن إيران تستخدم عائدات تصدير النفط لتمويل برنامجها النووي والعسكري، ودعم الجماعات الموالية لها والتي تستخدمها "لزعزعة الاستقرار "في المنطقة.
وتحركت وزارة الخزانة بسرعة، وتم الإعلان عن حزمة عقوبات اقتصادية جديدة، استهدفت شركات وسفن وأفراد، تشارك في عملية بيع ونقل أو "تهريب" النفط الإيراني، ومن ثم تساعد إيران على التحايل والالتفاف حول العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها. وشملت تلك العقوبات شركات وأشخاص من عدة دول كان منها الصين والهند والإمارات، وكذلك محسن باك نجاد وزير النفط الإيراني ومسؤولين في شركة النفط الإيرانية. ردت إيران بأن مثل هذه القرارات تمثل نوعًا من "القرصنة الدولية"، أما الصين فقد أعلنت أنها لا تعترف بمشروعية العقوبات الأمريكية، وأنها سوف تواصل شراء النفط الإيراني. وحذر ترامب إيران من محاولة اغتياله لأنه إذ ما حدث ذلك فسوف يتم "القضاء عليها".
أما بشأن استخدام الأداة الدبلوماسية والمفاوضات للوصول إلى حل سلمي، فقد ظهرت أيضًا مبكرًا. ففي 5 فبراير، دعا ترامب إيران للتفاوض بهدف إبرام "اتفاق سلام نووي"، مع تأكيده على أنه لا يمكن أن تمتلك إيران سلاحًا نوويًا. أشار ترامب أن إيران ممكن أن تكون "دولة عظيمة وناجحة"، إذا تخلت عن طموحات السلاح النووي، وأنه يفضل الوصول إلى حل سلمي بدلاً من الخيار العسكري.
اتسم موقف إيران برفض الدخول في مفاوضات في ظل التهديد. فحث المرشد الأعلى علي خامئني على عدم الانجرار إلى تفاوض مع الولايات المتحدة تحت الضغط واصفًا ذلك بالسلوك "الطائش"، وأعقبه تصريح الرئيس الإيراني بأن دعوة ترامب للحوار " غير صادقة"، وتصريح وزير الخارجية عباس عراقجي أن إيران مستعدة للتفاوض مع واشنطن لكن ليس في ظل التهديد والتلويح باستخدام القوة، لأن أي مباحثات في ظل التهديد هي نوع من الاستسلام والإذعان للطرف الآخر.
واستمرت سياسة الجمع بين العصا والجزرة في شهر مارس. ففي الثامن من هذا الشهر، صدر قرار بعدم الموافقة على تجديد الإعفاء الممنوح للعراق لاستيراد الكهرباء من إيران دون التعرض للعقوبات حتى لا تتمكن من استخدام النظام المصرفي العراقي للالتفاف على العقوبات.
وفي 7 مارس، قام ترامب ببعث رسالة خاصة إلى المرشد الإيراني، تم تسليم نسختها الورقية في طهران من خلال مبعوث إماراتي في 12 مارس، تضمنت دعوة إيران إلى المفاوضات المباشرة، واقترحت التوصل إلى اتفاق نووي جديد خلال شهرين، وحذرت من العواقب الوخيمة المترتبة على عدم قبول العرض، وكان في ذلك إشارة إلى استخدام القوة المسلحة.
كرر الرئيس الأمريكي في تصريحاته ما ورد في الرسالة، كتأكيده على أنه لا يرغب في "إيذاء إيران"، وأنه يفضل عقد صفقة معها من خلال الحل الدبلوماسي ولكنه لا يستبعد الخيار العسكري إذا تطلب الأمر ذلك، وأنه لم يعد هناك متسع من الوقت لأن الأمر وصل إلى "اللحظات الأخيرة". تعاملت طهران مع رسالة ترامب بحنكة، مستخدمة ثلاثة أساليب. أولها، التقليل من أهمية الرسالة وأنها لم تتضمن جديدًا. والثاني، رفض الدخول في مفاوضات تحت التهديد. والثالث، المرونة والاستعداد لإجراء مباحثات غير مباشرة.
في منتصف مارس، دخل التصعيد الأمريكي مرحلة جديدة، وذلك بشن سلاح الجو الأمريكي سلسلة كثيفة من الغارات ضد جماعة الحوثي في اليمن، لقيامها بتعطيل حرية الملاحة في البحر الأحمر ولتوجيه صواريخ ضد إسرائيل، وأشارت صراحة أن هذه الهجمات تمثل رسالة لإيران لقيامها بتدريب وتسليح هذه الجماعة، وهدد ترامب بأن إيران سوف تدفع ثمنًا باهظًا إذا استمرت هجمات الحوثيين. قامت واشنطن بهذه الغارات منفردة، وشملت دائرة واسعة من المحافظات اليمنية، والأهداف العسكرية والتسجيلات اللوجستية، استمرت يوميًا منذ بدايتها في 15 مارس وحتى كتابة هذه السطور في 15 أبريل. ومن جانبها، نفت طهران تدخلها في قرارات الحوثيين، وأكدت أنها لا تقف وراء هجماتهم.
وزاد الأمر سوءًا إصدار الوكالة الدولية للطاقة الذرية تقريرًا، ورد فيه أن إيران مستمرة في تطوير برنامجها النووي وزيادة مخزون اليورانيوم المخصب بنسبة 60% القريبة من مستوى صنع الأسلحة. وفي 19 مارس، عقد مجلس الأمن اجتماعًا مغلقًا لمناقشة الملف النووي الإيراني، وأدى ذلك إلى توتر في العلاقات بين إيران والدول الأوروبية. وفي اليوم التالي، دعت الخارجية الإيرانية سفيري فرنسا وألمانيا والقائم بالأعمال البريطاني للاحتجاج على دعم بلادهم لعقد هذا الاجتماع واعتبرته "تواطؤًا أوروبيًا مع أمريكا". وفي نفس اليوم-يعني 20 مارس-صرح وزير الخارجية الإيراني بأن رسالة ترامب يغلب عليها طابع التهديد، وإن كانت تتضمن بعض الفرص، وأن إيران ما زالت تعد ردها عليها.
وفي مناسبة الاحتفال بعيد النيروز في 21 مارس وهو رأس السنة الفارسية، صرح المرشد الأعلى بأن دعوة ترامب للحوار هي خدعة لتصوير واشنطن بمظهر الساعي للسلام، وإظهار إيران كرافضة للجهود الدبلوماسية، وأن "على الأمريكيين أن يعلموا أن التهديدات لا جدوى منها في مواجهة إيران"، وأن بلاده لن ترضخ للإملاءات الأمريكية تحت الضغط، مستشهدًا بانسحاب ترامب من الاتفاق النووي عام 2018م، وأكد تصميم بلاده على الصمود، محذرًا من أن أي عمل عدائي ضد إيران "سيُقابَل بصفعة قاسية". جاء هذا الإعلان ردًا على تصريحات ترامب اليومية المتكررة بالتهديد بعمل عسكري ضد إيران، إذا لم تشارك في مفاوضات مباشرة للوصول إلى اتفاق مباشر مع أمريكا.
مع بداية شهر أبريل، كانت مواقف الطرفين قد تبلورت وبدا وكأن العلاقات بين البلدين قد دخلت في طريق مسدود. يوم 10 أبريل، كرر ترامب تهديداته بأن إيران لا يمكن أن تمتلك السلاح النووي، وأن أمريكا مستعدة للقيام بعمل عسكري ضدها إذا استدعت الحاجة ذلك، وأن إسرائيل سيكون لها دور في هذا الهجوم.
جاء الرد الإيراني على لسان علي شمخاني مستشار المرشد الأعلى، هدد فيه بطرد مفتشي وكالة الطاقة الذرية من طهران، ونقل المواد المخصبة إلى مواقع غير معلنة.
يبدو أنه في نفس الوقت، كانت تجري مباحثات غير معلنة بين البلدين أسفرت عن الإعلان عن عقد جلسة مفاوضات في سلطنة عمان يوم 12 أبريل. وأكدت طهران هذه المعلومات مشيرة إلى أنها سوف تكون "غير مباشرة"، كان الوفد الأمريكي برئاسة ستيف ويتكوف المبعوث الشخصي للرئيس ترامب، والإيراني برئاسة وزير الخارجية. وبدأت المباحثات في قاعتين منفصلتين، أعقبها مصافحة رئيسي الوفدين لبعضهما البعض واجتماعهما لمُدة خمس وأربعين دقيقة حسب المصادر الأمريكية. وهكذا، فإن هذه الجولة حققت مطالب الطرفين، فبدأت بمفاوضات غير مباشرة حسب رغبة طهران، وانتهت بأخرى مباشرة حسب رغبة واشنطن. وتم الإعلان عن جلسة قادمة يوم 19 أبريل.
ثالثًا: العلاقات الأمريكية الإيرانية وحالة الاستقرار الإقليمى في الشرق الأوسط.
تدور العلاقات الأمريكية / الإيرانية في إطار إقليمي يتسم بعدم الاستقرار الأمني والسياسي، وبارتباط هذه العلاقة بموقف إسرائيل الحليف القوي لأمريكا والعدو الشديد لإيران. وتمثل المناورات الجوية المشتركة للبلدين للتدريب على ضرب أهداف بعيدة محاكاة لقصف المنشآت النووية الإيرانية المحصنة تحت الأرض في مارس. ورافق تهديدات ترامب بتوجيه ضربة إلى إيران تحريك سفن حربية وحاملات طائرات وصواريخ باتريوت إلى المنطقة. ومن جانبها، قامت إيران في 10 مارس بتدريبات عسكرية بحرية مع روسيا والصين، وحذرت جيرانها من تداعيات دعمهم لأي هجوم أمريكي، وأعلنت عن تطوير صاروخ جديد باسم "اعتماد"، وأنها تمتلك القدرة على ضرب قاعدة "دييجو جارسيا" في المحيط الهادي.
حصلت إيران على دعم دبلوماسي ومعنوي من روسيا والصين في الاجتماع الذي انعقد بين وزراء خارجية الدول الثلاث في بكين ونص البيان المُشترك على المُطالبة بإنهاء العقوبات الأمريكية "غير القانونية"، وضرورة استئناف الحوار بين واشنطن وطهران على أساس "الاحترام المُتبادل".
من خبرات التصعيد السابقة بين البلدين، يتضح أن كليهما يتبع سياسة ما يُمكن تسميته بالتصعيد العسكري المحسوب من أجل منع الحرب أو التهديد بالقوة للحيلولة دون استخدامها، وذلك لجسامة العواقب المترتبة على نشوب الحرب، والتي تشمل بالنسبة لإيران، ضرب الأهداف العسكرية والنفطية والتنموية فيها. وتشمل بالنسبة لأمريكا، قواعدها العسكرية الموجودة في منطقة الخليج العربي، ومصالحها الاقتصادية فيها، فضلًا عما يمكن أن يحدث في دول مثل العراق ولبنان والمناطق اليمنية التي يسيطر عليها الحوثي.
فمن الوارد أن إيران تستخدم برنامجها النووي كأداة تفاوضية، وليس كبرنامج عسكري. خاصة مع استمرار وجود فتوى المُرشد التي تُحرم امتلاك هذا السلاح، وأن هدفها هو إلغاء العقوبات. ويدل على ذلك أنها قامت برفع مستوى التخصيب ردًا على انسحاب ترامب من الاتفاق، وتعرض خفضه في سياق المفاوضات لتحقيق هذا الهدف، وتمارس المماطلة والتسويف وكسب الوقت.
من العوامل الهامة في هذا الصدد، تحسن علاقات إيران مع الدول العربية، التي كان من مظاهرها زيارة وزير الخارجية الإيراني إلى مصر في أكتوبر 2024م، في أول زيارة لوزير خارجية إيراني لها منذ إحدى عشر عامًا، حيث التقى مع وزير الخارجية والرئيس عبد الفتاح السيسي. وفي خطاب الأمير محمد بن سلمان ولى العهد السعودي في مؤتمر القمة العربية-الإسلامية غير العادية بالرياض في نوفمبر 2024م، الذي دعا فيه المجتمع الدولي إلى "إلزام إسرائيل باحترام سيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية الشقيقة، وعدم الاعتداء على أراضيها"، وزيارة رئيس أركان حرب الجيش السعودي إلى طهران. وكذلك في مُداولات مؤتمر قمة مجلس التعاون الخليجي الذي انعقد بالكويت في 1 ديسمبر 2024م.
الأرجح، أنه لا توجد دولة ترغب في نشوب حربٍ مع إيران سوى إسرائيل، أما موقف مُختلف الأطراف الإقليمية والأوروبية فهو التخوف من الآثار المُدمرة لمثل هذه الحرب، بما في ذلك واشنطن وطهران. يبدو أن جلسة المُفاوضات الأولى بين البلدين في 12 أبريل اتسمت بالجدية، والصراحة، والرغبة المُتبادلة في الوصول إلى حلول عملية. ويدُل على ذلك التعليقات الإيجابية التي ظهرت من الطرفين. ومع ذلك، لا يُمكن الجزم بأن طريق المُفاوضات قد أصبح مُمهدًا أو بدون عقبات فهناك صقور في أمريكا وطهران، وهُناك إسرائيل التي سوف تبذل جُهدها لإفساد هذا المسار.