غيّر شهر فبراير 2025م، مسار الولايات المتحدة تجاه أوكرانيا، وبدد آمال كييف بدعم أمريكي سخي ليصبح بمثابة لحظة فارقة للعلاقات بين أوكرانيا والولايات المتحدة. وبدلاً من إنطلاقة جديدة للعلاقات، تلقت كييف سلسلة من اللكمات الباردة من التصريحات تلتها المواقف المتناقضة التي أدلت بها إدارة ترامب حتى وصل الحال إلى اجتماع كارثي في المكتب البيضاوي حين تغيرت لهجة واشنطن التي بدأت تتحدث بشكل عكسي عن انتصار أوكرانيا وبشكل متزايد عن التسويات السياسية مع موسكو. فهل كييف مستعدة للعب وفقًا للقواعد الجديدة وما هي العواقب التي قد يخلفها هذا التغيير في المسار؟ وكيف سينعكس ذلك على أمن القارة الأوروبية وعلى السياسة الخارجية الأمريكية؟
شهر فبراير 2025م، دخل التاريخ باعتباره اللحظة التي تجلت فيها مواقف ترامب وفريقه لتتخذ معالم أكثر وضوحًا مما أصاب كييف وصانعي السياسة في أوكرانيا وأوروبا عموما بالصدمة.
تأثير حرب أوكرانيا على الولايات المتحدة
مع فوز ترامب ظهرت اتجاهات مثيرة للقلق تثير التساؤلات حول مستقبل الديمقراطية الليبرالية تحت ذريعة "التفويض بالتغيير الجذري". وأصبحت حرب أوكرانيا بمثابة اختبار حقيقي جيوسياسي لمدى حيوية الولايات المتحدة ليس في صراعها مع روسيا فحسب، وإنما مع الصين أيضًا، ففي أروقة مراكز البحث ذات الآراء والتصورات المهمة لدى البيت الأبيض في رسم السياسة الخارجية، تبرز الحرب الروسية الأوكرانية كإحدى الأزمات التي تهدد تماسك الجمهوريين، كما أنها عمقت الخلاف بين الديمقراطيين والجمهوريين أصلًا.
فقد كشفت حرب أوكرانيا عن تباين المواقف داخل أروقة الحزب الجمهوري المنتصر في الانتخابات الأخيرة، بل وانقلاب في قاعدة الناخبين، حيث يرى المؤيدون لدعم أوكرانيا بأن روسيا تمثل التهديد الجيوسياسي الأكثر إلحاحًا على المصالح الأمريكية، بينما يرى الداعمون لشخص دونالد ترامب من الجمهوريين ضرورة عدم الاصطفاف مع حكومة كييف ضد هجمات روسيا، ولا يخفون إعجابهم بالرئيس فلاديمير بوتين بدلًا من إدانته.
والواقع أن التعقيدات الخاصة بدعم أوكرانيا تتضح بشكل أكثر جلاء داخل الحزب الجمهوري، وهو ما عبرت عنه قيادية جمهورية بقولها "ليس كل مؤيدي ترامب مناهضين لأوكرانيا، ولكن كل مناهضي أوكرانيا يؤيدون ترامب".
الاقتصاد هو الأساس
الناخب الأمريكي لا يهتم كثيرًا بما إذا كانت أوكرانيا ستتقلص أراضيها لحساب روسيا أم ستستعيد ما تم احتلاله، وذلك باستثناء تأثير عاطفي محدود، ولكن الأهم في استمرارية أو توقف الدعم لأوكرانيا هو التأثير الذي سيتركه انكسار كييف على استقرار أوروبا الشريك الأعظم والتاريخي لأمريكا.
فعلى الرغم من كل الضجة حول التجارة الأمريكية مع الصين، الا أنها تتضاءل أمام حجم التبادلات مع أوروبا، فعلى سبيل المثال في عام 2022م، وصل حجم التجارة في السلع والخدمات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لأكثر من 1.3 تريليون دولار، أي أكثر من ضعف التجارة مع الصين البالغة 643 مليار دولار. وفي عام 2024م، بلغ 990 مليار دولار مع الاتحاد الأوروبي مقابل 583 مليار دولار مع الصين.
فمن هذا المنظور، يمكننا القيام بقراءة أخرى للحرب التجارية مع الصين، وهي أن الصراع بين واشنطن وبكين في جوهره هو صراع على الشريك الأوروبي، مما يعكس أهمية السوق الأوروبية لدى الاقتصاد الأمريكي. فإن تراجع الولايات المتحدة عن دعم أوكرانيا سيضع روسيا على أعتاب أوروبا الوسطى، وحينها سيتعين على القارة الأوروبية زيادة الإنفاق العسكري بشكل هائل، بما يزيد من كاهل الضرائب على مواطنيها، بالإضافة إلى خصم تلك المخصصات من حساب الاستثمار في البنية التحتية.
وبناء على ذلك، فإن الولايات المتحدة في صراعها الإستراتيجي ستكون ملزمة بإرسال المزيد من القوات إلى أوروبا "الفقيرة" والتي ستصبح أقل قدرة على شراء السلع الأمريكية، كما سيتراجع استثمارها في أمريكا، وستقدم عائدًا أقل على استثمارات الشركات الأمريكية. وهنا يبرز أهمية الملف الأوكراني في هذا الصراع وتأثيره على مستقبل الاقتصاد الأمريكي والتعاون الأوروبي مستقبلًا.
هيكسيث وفانس في أوروبا .. الصدمة الأولى
ظهرت الإشارات الواضحة حول رؤية الإدارة الجديدة لدور أوروبا في السياسة الخارجية الأمريكية والتوصل لحل في الحرب بين أوكرانيا وروسيا خلال زيارتي وزير الدفاع الأمريكي بيت هيكسيث ونائب الرئيس جي دي فانس إلى أوروبا في مؤتمر ميونيخ للامن.
حيث أدلى هيكسيث بعدد من التصريحات الصادمة:
- إن عودة أوكرانيا إلى حدودها التي كانت قائمة في عام 2014م، هو هدف غير واقعي.
- إن عضوية أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي ليست واقعية ولن تكون نتيجة للتسوية.
- ينبغي للدول الأوروبية أن تقدم ضمانات أمنية لأوكرانيا من خلال نشر قواتها، ولكن من دون الحماية التي توفرها المادة الخامسة لمنظمة حلف شمال الأطلسي الناتو.
ويمكن تفسير هذه التصريحات على أنها إشارة إلى الكرملين باستعداده للتسوية، لكنها تنازلاً أحادي الجانب دون أي خطوات إيجابية من الجانب الروسي.
ومن وجهة نظر أوكرانيا، فإن اضفاء صبغة "غير الواقعية" على طموحها بإستعادة أراضيها يخلق شعوراً زائفاً لمساعي تحقيق السلام. في حين يظل العائق الرئيسي لتحقيق السلام، ليس رغبة أوكرانيا في استعادة أراضيها، بل في عدم رغبة بوتين في إنهاء الحرب.
كما أن هناك أيضًا فرق كبير بين الحفاظ على الحق في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي الناتو (حتى لو كان هذا صعباً على المدى القصير) من جهة، والتخلي عن هذا المسار كليا تحت الضغط من طرف آخر. والخيار الأخير هو بالضبط ما يسعى إليه الكرملين لتحقيق انتصارًا استراتيجيًا على حلف الناتو.
كما أثار نائب الرئيس الأمريكي جيه. دي. فانس موجة من الصدمة في مؤتمر ميونيخ للأمن عندما أعلن أن التهديدات الرئيسية التي تواجه أوروبا لا تأتي من روسيا أو الصين، بل من الداخل.
حيث جائت هذه التصريحات عشية انتخابات البوندستاغ في ألمانيا، حين دعم إيلون ماسك بشكل نشط حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني.
وكان تصريح دي فانس بمثابة ضربة للوحدة عبر الأطلسي، وهو أمر بالغ الأهمية لمواجهة روسيا ودعم أوكرانيا.
محادثات الرياض وتصويت الأمم المتحدة: صدمة ثانية
أجرى ترامب في 13 فبراير 2025م، محادثة هاتفية لمدة 90 دقيقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مما يعد ضربة فعلية للعزلة التي فرضتها دول التكتل الغربي سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة وحتى آسيا على بوتين، والتي كانت سارية المفعول منذ 24 فبراير 2022م، ولم يعلم الحلفاء الأوروبيون أو أوكرانيا بالمحادثة إلا بعد وقوعها، على الرغم من أن مثل هذه الاتصالات عادة ما يتم تنسيقها مع الشركاء.
وفي 18 فبراير عقدت في الرياض محادثات رفيعة المستوى بين ممثلي الولايات المتحدة وروسيا. وأعلن رسميًا عن تشكيل مجموعة من الخبراء لمناقشة شروط التسوية. وفي الوقت نفسه، ظلت مواقف روسيا وأوكرانيا بشأن الأراضي المحتلة وحلف شمال الأطلسي والجيش الأوكراني غير متوافقة، مما أكد مجددًا على أن التوصل إلى حل وسط أمر مستحيل تقريبا.
كما رفضت الولايات المتحدة وصف روسيا بالمعتدية في بياناتها الرسمية بمجموعة السبع الكبار والجمعية العامة للأمم المتحدة. وفشلت مجموعة الدول السبع في اعتماد بيان مشترك لإحياء ذكرى الغزو الشامل، وفي الأمم المتحدة صوتت الولايات المتحدة ضد القرار الأوكراني لأول مرة، واقترحت خيارًا مُرضٍ لروسيا رغم تعارضه مع القانون الدولي.
ويُنظر إلى هذه الخطوات باعتبارها تحولا دراماتيكيا في موقف واشنطن من دعم أوكرانيا إلى العمل كوسيط بين كييف وموسكو.
باطن الأرض الأوكرانية مقابل الدعم
في حين كان مسؤولو إدارة ترامب يزورون أوروبا ويتواصلون مع الروس، كانت قصة درامية أخرى تتكشف في الولايات المتحدة: المفاوضات بشأن الوصول إلى الموارد الطبيعية الأوكرانية وعلى وجه الخصوص المعادن النادرة.
ففي 3 فبراير 2025م، أعلن ترامب عن اهتمام الولايات المتحدة بصفقة المعادن النادرة مقابل المزيد من المساعدات العسكرية لأوكرانيا. وفي السابع من فبراير أعرب زيلينسكي عن انفتاحه على الفكرة، لكنه أكد على ضرورة حماية الموارد ووجوب تماشي الاتفاقية مع الدستور الأوكراني، وبالتالي هناك حاجة إلى ضمانات أمنية. وكان الأمر يتعلق أيضًا بشراكة ذات منفعة متبادلة، وليس فقط بنقل الموارد الأوكرانية إلى الولايات المتحدة.
ظهرت فكرة التنمية المشتركة للموارد الجوفية في سبتمبر 2024م، في "خطة النصر" الأوكرانية والتي قدمها زيلينسكي نفسه، ولكنها نصت أيضًا على ضمانات أمنية.
ولكن ترامب أوضح أنه يعتبر الاتفاق بمثابة تعويض عن "المساعدات الأمريكية لأوكرانيا" في الفترة 2022-2024م، مشيرًا إلى مبلغ 500 مليار دولار، مع العلم ان الأرقام الفعلية تختلف بشكل كبير والتي لا تتجاوز 106 مليار دولارإجمالي المساعدات الأمريكية المباشرة لأوكرانيا.
70 مليار دولار ذهبت لتمويل المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، أي أنها لم تخرج من أراضي الولايات المتحدة.
ولم يتم تخصيص سوى 33.3 مليار دولار للمساعدات الاقتصادية الكلية لأوكرانيا، و2.8 مليار دولار للمشاريع الإنسانية.
وأصبحت الخلافات حول تفسير المساعدات أساسًا لمزيد من الصراع.
وفي 12 فبراير، وصل وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت إلى كييف حاملاً مسودة اتفاق، متوقعاً أن يتم التوقيع عليها على الفور. في حين رفضت أوكرانيا الإملاءات الأمريكية دون قيد أو شرط مما أثار غضب ترامب وفريقه. حيث كانت لدى كييف تحفظات مبررة بشأن حجم الاتفاق وعدم وجود ضمانات أمنية حقيقية وتعارضها مع الدستور وطريقة ادراة الصندوق الاستثماري لادارة المعادن وغيرها من التفاصيل الكثيرة التي تعتبر مجحفة بحق أوكرانيا.
وعلى مدى شهر، جرت مفاوضات صعبة وسط خطاب صارم من البيت الأبيض. ونتيجة لذلك، اتفقت الأطراف على توقيع مذكرة نوايا والنظر في إنشاء "صندوق استثمار للتعافي". وتم تأجيل الاتفاق النهائي على التفاصيل، وكان من المقرر توقيع الاتفاق خلال زيارة زيلينسكي إلى واشنطن في 28 فبراير/شباط. ولكن ما حدث العكس تمامًا حيث انفجر الصراع بين الرجلين وشاهد العالم شجار أمام عدسات الكاميرات صدم العالم بأسره.
فقد أرادت كييف من هذه الزيارة والتوقيع تحقيق التوازن بين الاتصالات الأمريكية -الروسية في الرياض، حيث لم تكن أوكرانيا حاضرة.
في حين نصح المبعوث الأمريكي الخاص كيث كيلوغ بعدم القيام بها وفق تسريبات أثناء زيارته إلى كييف، وطلب أيضًا بعدم عقد مؤتمر صحفي مشترك، خوفًا من أن تؤدي الدعاية إلى تسليط الضوء على الخلافات بين الولايات المتحدة وأوكرانيا وخلق خلفية سلبية للمفاوضات.
ولكن في نهاية المطاف بعد ثبات أوكرانيا على مواقفها تم التوصل إلى صيغة مرضية لاتفاق المعادن تتماشى مع الدستور الأوكراني والسيادة الأوكرانية من جهة ومع رغبة إدارة ترامب بالتوصل للاتفاق من جهة أخرى، وتم تقاسم حصص إدارة هذا الصندوق بشكل متساو بين الطرفين ولكن الاتفاق يظل رهينة الحرب والسلام والاستقرار في أوكرانيا.
خطر في خطاب ترامب...
خلال شباط 2025م، أدلى دونالد ترامب وفريقه بعدد من التصريحات بشأن أسباب الحرب الروسية / الأوكرانية. حيث أصبحت تتوافق بشكل متزايد مع وجهات النظر الروسية بشأن أسباب الحرب والخروج منها، مما يعتبر خدمة تاريخية لموسكو. لكن المشكلة الرئيسية أعمق من ذلك بكثير، إذ أن مصالح الأطراف متباينة بشكل جذري.
كما أن فشل المفاوضات المباشرة بين التي كانت متوقعة بين الرئيسين بوتين وزيلينسكي في تركيا بتاريخ 15.05.2025، بتغيب بوتين نفسه وإرساله وفدًا منخفض التمثيل إضافة إلى محاولة فرض روسيا لشروط تعجيزية مقابل وقف إطلاق النار. أثبت عدم صحة كل الروايات أعلاه وعدم رغبة روسيا بالسلام أو بالتفاوض على أسس منطقية.
إذ تسعى إدارة ترامب إلى إنهاء القتال في أسرع وقت ممكن من أجل تقديمه باعتباره إنجازًا دبلوماسيا كبيرًا للولايات المتحدة فواشنطن مستعدة للتضحية بمصالح أوكرانيا -سيادتها وأمنها وسلامة أراضيها -من أجل التوصل إلى اتفاق يمكن تسويقه على أنه انتصار للدبلوماسية الأميركية. في حين لا ترفض أوكرانيا تكرار أخطاء الماضي، عندما حاولت الولايات المتحدة تحسين العلاقات مع روسيا على حساب المصالح الأوكرانية. ولذلك، لا يتنازل زيلينسكي عن قضايا السيادة والأمن، وهو ما يثير غضب ترامب وفريقه. وبذلك أصبحت أحداث 28 فبراير بمثابة التأكيد المتوقع على أن مواقف أوكرانيا والولايات المتحدة لا تتطابق.
سيناريوهات الدعم الأمريكي
يبقى مستقبل الحرب الأوكرانية داخل أروقة السياسية الأمريكية يدور بين 3 سيناريوهات:
السيناريو الأول وهو المحتمل، يتمثل في استمرار الدعم لكييف على خطى بايدن أو على ما أقرت من حزم عسكرية في عهد بايدن، ومضاعفتها بحزم جديدة من ترامب كعقاب لبوتين على إفشاله لمساعي إدارة ترامب في التوصل لوقف إطلاق النار، وحينها سيتحول شعار ترامب الشهير "أميركا أولًا" إلى "أمريكا وأوروبا أولًا".
السيناريو الثاني وهو الأكثر ترجيحًا، ويتمثل في "الدعم الفاتر"، وإعادة تقييم مخصصات المساعدات بهدف احتواء الصراع في إطار استمرار خطوط المواجهة الحالية.
ورغم أن الأمريكيين عمومًا لا يرغبون في تمويل حرب إلى أجل غير مسمى، إلا أن النزيف المستمر لعدو جيوسياسي يشكل خيارًا مرغوبًا للمصالح الستراتيجية الأميركية، وهو الهدف الذي يمكن أن يتفق عليه طرفا الانقسام الجمهوري.
السيناريو الثالث وهو الأقل احتمالًا، ويتجلى في خروج الولايات المتحدة من الصراع الروسي / الأوكراني. ورغم أن هذا الاحتمال مستبعد بحكم الكثير من الوقائع، فإن شرائح كثيرة من الشعب الأمريكي قد تضغط على الساسة المناهضين لأوكرانيا حتى تعليق المساعدات بشكل مستمر، وهو ما سيؤدي إلى سلسلة من العواقب أكثرها خطورة الإرهاق الاقتصادي.
وبالرجوع لتاريخ مشاركة الولايات المتحدة في النزاعات العسكرية وتنافسها مع الروس، سنجد أنه حتى في خضم تطبيق الولايات المتحدة سياسة الرئيس "ويدرو ويلسون" في بداية القرن الـ20، والتي حملت اسم "مبدأ العزلة"، اضطرت بعد عامين من الحرب العالمية الأولى التي كانت أوروبية بامتياز إلى التدخل لحسمها، كما أن الأمر ذاته حدث في الحرب العالمية الثانية فلولا التدخل الأمريكي المباشر في الحرب العالمية الثانية الى جانب الحلفاء ضد دول المحور لما حُسمت الحرب لصالح الحلفاء في ذلك الوقت وبتلك الطريقة، وبعد أكثر من 50 عامًا من انتهاء الحرب العالمية الثانية، عاودت أميركا التدخل لحسم الحرب في يوغوسلافيا عام 1999.
وهذه حقيقة أكدها الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن في آخر تصريح له، حين قال بأن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تقف مكتوفة الأيدي حيال الحروب والصراعات في أوروبا.
وتبقى جميع الاحتمالات المتعلقة بأوكرانيا مرهونة بنقطة لا تريدها الإدارة الأميركية، وهي أن أي نتيجة في حرب أوكرانيا تمثل نصرًا لروسيا ستكون كارثية على الأمن في أوروبا، وستفرض ضغوطا هائلة على اقتصاد أميركا ودفاعها وسمعتها أيضًا.
نهج ترامب يرعب جميع الحلفاء
مثّلت عودة ترامب للبيت الأبيض تراجع كبير لدعم الولايات المتحدة لأوكرانيا، أكبر وأهم حليف لها. ودفع اندلاع الحرب قبل 3 سنوات إلى بروز معضلة علاقة واشنطن بحلف شمال الأطلسي (الناتو) لا سيما أن لترامب سجلًا حافلًا وعلنيًا من العداء والتناقض والاستهتار بإرث الحلف العسكري الأكبر والأكثر قوة في العالم.
اذ يخشى كثير من الخبراء الأمريكيين من اتجاه ترامب لفرض سلام "غير عادل" على كييف، مما يعدُّ خذلانًا لحليف أوروبي مهم، الامر الذي يدعم الشكوك حول مصداقية علاقات التحالف الدولية مع الولايات المتحدة.
فعلى مدار أكثر من عامين ونصف العام، اتبعت إدارة الرئيس السابق جو بايدن استراتيجية رباعية لمواجهة الحرب الروسية على أوكرانيا. إذ ركزت هذه الإستراتيجية على دعم أوكرانيا بالمال والتسليح والاستخبارات والاقتصاد. وكذلك فرض واشنطن العديد من العقوبات المالية والاقتصادية والتجارية والبنكية على روسيا.
كما أوضحت إدارة بايدن أنها لن تتورط في مواجهة مباشرة مع روسيا، إلا إنها أكدت الدفاع عن كل شبر من أراضي حلف الناتو، وشكل ذلك رادعًا لروسيا عن تمديد غزوها لدول أخرى.
ولكن مجيء ترامب وتصريحاته الصادمة بانه سيترك الدول التي "لا تدفع" فريسة لروسيا شكّل نقطة تحول في العقلية الأوروبية وكذلك وضع البند الخامس نفسه تحت الشكوك.
أوروبا قادرة على تعويض المساعدات الأميركية لأوكرانيا
في فبراير 2025م، انتقلت أوكرانيا بسرعة من الخطة "أ" إلى الخطة "ب ". وهذا برز في محاولات الحوار والبحث عن حلول وسط مع الطرف الامريكي من جانب، والانعطاف الحاد وتطوير استراتيجية بديلة تعتمد على أوروبا كحليف اساسي من جانب آخر. وهذا ما انعكس في قمة حلف الراغبين في لندن في مطلع مارس الماضي ثم قمة فايمر بلاس في مايو، حيث اصطفت أكبر أربع دول أوروبية (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، وبولندا) الى جانب أوكرانيا عسكرياً وسياسيًا ودبلوماسيًا مما عكس تراجع الدور الأمريكي وأن أوكرانيا ليست ورقة يمكن التلاعب بها بسهولة حتى من قبل ترامب نفسه.
وتشير أبحاث معهد IfW إلى أن أوروبا قد تحل محل المساعدات المالية والعسكرية الأمريكية لأوكرانيا، حتى إن لم يكن ذلك في جميع النواحي.
فالأسلحة الرئيسية للقوات المسلحة الأوكرانية يتم إنتاجها في أوروبا. إذ يمكن للدول الأوروبية تعويض المساعدات الأمريكية لأوكرانيا في العديد من المجالات. وبإنفاق إضافي.
نعم من الصعب الآن استبدال الأسلحة والذخائر والمساعدات العسكرية الأمريكية الأخرى. لكن أوروبا قادرة على القيام بذلك حاليًا جزئيًا وعلى المنظور القريب كليا. اذ تشير البيانات إلى أن أوروبا سوف تكون قادرة على تعويض المساعدات الأمريكية إلى حد كبير، ولكن إذا تحرك صناع السياسات بشكل حاسم وهذا ما نشهده حاليًا في العواصم الأوروبية.
ففي حقيقة الأمر تنفق الحكومات الأوروبية حاليًا في المتوسط 0.1% فقط من ناتجها المحلي الإجمالي سنويًا على المساعدات لأوكرانيا. ولتعويض الانسحاب الامريكي المحتمل من برامج المساعدات، ينبغي أن ترتفع مساهمة جميع دول الاتحاد الأوروبي ومؤسساته إلى 0.21%. وهذا يعني زيادة حجم المساعدات من 44 مليار يورو سنويًا حاليًا إلى 82 مليار يورو.
لذا بدأ الاتحاد الأوروبي تحفيز هذا التوجه، على سبيل المثال من خلال منح الأولوية للوصول إلى صناديق الدفاع الجديدة التابعة للاتحاد الأوروبي. إذا اتبعت أوروبا بأكملها مثال الدنمارك وأنفقت أكثر من 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي سنويًا على المساعدات لكييف، للوصول إلى تعويض كبير للمساعدات الأميركية.
وبحسب البيانات فإن الاعتماد الأكبر على الأسلحة الأميركية حاليًا يكمن في أنظمة إطلاق الصواريخ مثل HIMARS، والذخائر المدفعية، وأنظمة الدفاع الجوي بعيدة المدى مثل باتريوت. وفي مجالات أخرى، أما المدفعية أو الدبابات القتالية الرئيسية، فإن معظم أنظمة الأسلحة الموردة لأوكرانيا هي بالفعل من صنع أوروبي.
أوروبا لم تكتف منذ فترة طويلة بتزويد أوكرانيا بالأسلحة من المخزونات الموجودة لديها، بل طلبت أيضًا الجزء الأكبر من الأسلحة لأوكرانيا مباشرة من المجمعات الصناعية. ولكن ينبغي تسريع هذه العملية بشكل كبير من خلال الالتزامات الثابتة بالشراء، وخاصة فيما يتعلق بإنتاج ذخيرة المدفعية.
ولكي تجدد أوروبا مخزوناتها من الأنظمة والذخائر الأمريكية الصنع، فإنها قد تتجه إلى شرائها من السوق الدولية أو شراء أنظمة مماثلة من، على سبيل المثال، كوريا الجنوبية وإسرائيل. وبالإضافة إلى ذلك، تستطيع الحكومات الأوروبية أن تطلب الأسلحة من الشركات المصنعة مباشرة في أوكرانيا، على سبيل المثال الطائرات بدون طيار.
ويبدو أن آخر صفقات كشف عنها حديثًا، وهي: 1.35 مليون قذيفة أوروبية لأوكرانيا خلال العام 2025م، وتزويد بريطانيا لكييف بمنظومات دفاعات جوية وكذلك تزويد إيطاليا لكييف بناقلات جند جديدة وصفقة بريطانيا بصواريخ لمنظومات بارتريوت وغير ذلك من الصفقات تؤكد حقيقة مفادها: أن أوروبا تعمل بشكل حقيقي وجاد على تعويض النقص في الدعم الأمريكي وأنها لن تترك أوكرانيا بمفردها ولن تسمح لبوتين بالانتصار في هذه الحرب.