لن يسدد العرب فواتيره.. نظام عالمي جديد تصنعه الجباية ، عبد المنعم مصطفى يبدي التيار الذي حمل دونالد ترامب -مرتين-الى البيت الأبيض، تفهماً لمقولة أن العالم بصدد تغيير عميق في علاقات القوى، وفي المبادئ الحاكمة لتلك العلاقات، وبأن التغيير الذي يجري الآن، لا يقع بمحض الصدفة، وإنما استدعته تحولات استوجبتها دواعي التغيير، وسرعته، واتجاهه، وأن ثمة قوة تصنعه، وتحركه، وتوجهه، وتقوده. يستخف ترامب بالعالم، فيما يطرح أفكاره بشأن التغيير الجسيم، الذي يسوقه إلى الدنيا، أو يسوق الدنيا إليه، فيتحدث فجأة مثلًا عن أن كندا جميلة وأن الكنديين يتمنون الانضمام للولايات المتحدة، ثم ينتظر أي رد فعل من كندا، على دعوته المستخفة بكل شيء، ليؤكد مجدداً اهتمامه-رغم رفض كندي رسمي معلن-بأن تصبح كندا الولاية الأمريكية الواحدة والخمسين! ثم يعاود ترامب نهجه المستخف، بالحديث عن ضم جرينلاند، مؤكداً أنها جميلة، وأن شعبها (تعداده تسعة وخمسون ألف نسمة) يحب أمريكا ويتمنى أن يصبح جزءًا من الولايات المتحدة !! هكذا يذهب ترامب باستخفاف إلى تحولات عميقة، يعتقد أن طرحها على هذا النحو يسمح بتحقيقها في وقت غير بعيد. منهجياً، فإن نوع التغيير الذي يسوقه ترامب إلى أمريكا والعالم، هو تغيير عميق يطال مبادئ عامة استقرت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية قبل ثمانين عاماً، وقام بناء عليها نظام دولي متعدد الأطراف، يحمل الحد الأدنى من التوافق على العيش المشترك بكل متطلباته، ودواعيه، هذا النظام الدولي متعدد الأطراف، هو ذاته الذي شرع ترامب في هدمه، دون تشاور مع أحد لا في أمريكا، ولا في العالم، ولعل نظرة عابرة على قرارات اتخذها ترامب خلال فترة رئاسته الأولى والأسابيع الأولى من فترة رئاسته الثانية، تكشف مقدار ما أجرته الولايات المتحدة من تغييرات جوهرية تمس صلب علاقتها بالنظام الدولي متعدد الأطراف الذي ساهمت الولايات المتحدة نفسها في إرساء قواعده على مدى ثمانين عاماً منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض في يناير ٢٠٢٥م، تبنت إدارته نهجًا صارماً تجاه مختلف المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، ففي الأيام الأولى لإدارته، وقّع ترامب أمرًا تنفيذيًا قضى بتجميد كافة برامج المساعدات الخارجية، باستثناء المساعدات الغذائية الطارئة والمعونة العسكرية لإسرائيل ومصر. ما أثار اضطرابًا واسعًا في أنشطة عدد من أجهزة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، من بينها مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR)، وبرنامج الغذاء العالمي (WFP)، وصندوق الأمم المتحدة للطفولة (UNICEF)، مما أدى إلى توقف برامج صحية وتعليمية في أكثر من عشرين دولة، لا سيما في إفريقيا جنوب الصحراء. وفي خطوة لاحقة، أعلن ترامب انسحاب بلاده-مجددًا-من منظمة الصحة العالمية (WHO)، متهماً المنظمة بالانحياز للصين والفشل في التعامل بشفافية مع أزمة كوفيد-19. معتبراً أن "المنظمة أصبحت أداة سياسية للدول الاستبدادية". وامتدت ذات السياسات إلى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (UNRWA)، التي تخدم أكثر من خمسة ملايين لاجئ فلسطيني. من خلال سحب الاعتراف الأمريكي بالولاية القانونية للأونروا، في خطوة وصفها معهد "بروكينجز" بأنها "محاولة لتصفية حق العودة عبر تقويض الداعم الأممي الأساسي له". كما انسحبت الولايات المتحدة مجددًا من صندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA)، بحجة أن أنشطته تتعارض مع "القيم الأمريكية" بسبب دعمه لبرامج الصحة الإنجابية، بما في ذلك تنظيم الأسرة والإجهاض في بعض الدول. سياسة ترامب الانعزالية قادته أيضًا الى إعادة الانسحاب من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. معتبراً أن الانخراط في مؤسسات كهذه لا يخدم المصالح القومية الأمريكية. وقد وصف ريتشارد هاس، الرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، هذا الانسحاب بأنه "تخلٍ طوعي عن نفوذ أخلاقي واستراتيجي". وفي الإطار نفسه، انسحبت الولايات المتحدة مجددًا من اتفاقية باريس للمناخ، بحجة أن الالتزامات البيئية تُضر بالصناعة الأمريكية. وفي ذات السياق، أعادت إدارة ترامب النظر في عضوية الولايات المتحدة بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (UNESCO)، معتبرة أن المنظمة "فقدت حيادها" وتُستخدم "منصة لتشويه الحلفاء". وقد حذّر عدد من الباحثين في معهد "كارنيجي" من أن هذا التوجه يُضعف قدرة الولايات المتحدة على التأثير في المعايير العالمية للذكاء الاصطناعي، والتعليم، وحماية التراث، وهي مجالات تمثل جوهر التنافس الجيوسياسي المستقبلي. وفي إطار هذا الميل الانعزالي كشفت إدارة ترامب عن خطة لتقليص المساهمة الأمريكية في الميزانية التشغيلية العامة للأمم المتحدة، التي كانت تبلغ ٢٢%، لتصل تدريجيًا إلى ما دون ١٥ % بحلول عام ٢٠٢٦م، انسحابات ترامب من عالم شاركت الولايات المتحدة في صياغة أسس وقواعد العلاقة بين أطرافه، تبلغ الآن إحدى ذراها، عندما تتناول بمعاول الهدم، أسس ومبادئ العلاقات التجارية الدولية، التي استغرق إرساء قواعدها ما يزيد على ثمانية و أربعين عاماً (١٩٤٧-١٩٩٥م) قادت خلالها الولايات المتحدة العالم لتنظيم العلاقات التجارية الدولية بدءاً من الجات (الاتفاقية الدولية للتعرفة والتجارة)، وحتى تأسيس منظمة التجارة العالمية في عام١٩٩٥م، قرارات ترامب بشأن فرض الرسوم الجمركية على شركاء أمريكا التجاريين لا تلقي بالاً لمعاهدات دولية متعددة الأطراف، كان هدفها وما يزال، تيسير سبل التجارة الدولية، وتحقيق قدر من التوازن في العلاقات التجارية الدولية. هدف هذه القرارات هو نسف القواعد القائمة، والتفاوض مع كل شريك تجاري على حده، أما الكيفية التي تجري بموجبها عملية التغيير، فتبدأ بخضة نفسية يطلقها ترامب بنفسه معلنا فرض رسوم جمركية من جانب واحد مع دولة بعينها بنسبة مرتفعة بقدر ملحوظ سرعان ما يتراجع بعدها معلنا عن خفض نسبة الرسوم، وهو ما جرى بوضوح مع الصين، إذ رفع ترامب الرسوم الجمركية على الواردات الصينية بنسبة١٤٥٪،ثم عاد ليخفضها عند مستوى ١٢٥٪، محذراً ومتوعداً، لكنه عاد رغم الوعيد ليعلن عن خفض اخير تصبح معه نسبة الرسوم الجمركية المفروضة على الصين ٨٠٪ فقط!! مصحوبة باشتراط أن تزيد الصين من وارداتها من الولايات المتحدة بشكل ملموس. بينما يقول خبراء امريكيون ان النسبة المحفزة للصينيين على إبرام اتفاق لا ينبغي ان تزيد على خمسين بالمائة. بريطانيا الحليف التقليدي للولايات المتحدة، أدركت مقدار الحرج الذي وقعت فيه واشنطن مع شركائها التجاريين، الذين يبدون تردداً وعزوفاً عن خوض مفاوضات منفردة مع الولايات المتحدة، فسارع رئيس الحكومة البريطانية ستارمر الى الدخول في مفاوضات تجارية مع الولايات المتحدة، سرعان ما توجت بالتوقيع في واشنطن على اتفاق تجاري أمام وسائل الاعلام وقنوات التلفزة، بينما كان الرئيس الامريكي يؤكد للصحافيين أن مفاوضات تجرى بين الولايات المتحدة وبين مائتي شريك تجاري آخرين. عبر مراجعة الرسوم الجمركية، يريد ترامب استكمال عملية هدم النظام الدولي الذي خلفته الحرب العالمية الثانية وسنوات الحرب الباردة. كانت الحرب الباردة قد خلفت نظاماً دولياً ثنائي القطب (الولايات المتحدة ومعها دول غرب أوروبا وحلف الناتو) و(الاتحاد السوفييتي ومعه كتلة حلف وارسو)، كما يريد هدم عالم ما بعد الحرب الباردة بكل توابعها وانعكاساتها على النظام الدولي الذي باتت الولايات المتحدة قطبه الوحيد الذي يتحمل وحده مسؤوليات كل أعباء طور الانتقال (حروب افغانستان والشرق الأوسط وتوابع سباق التسلّح في الشرق الأقصى). لا يريد ترامب فحسب مضاعفة مكاسب أمريكا جراء انفرادها وحدها دون غيرها بزعامة نظام دولي جديد، وإنما أيضًا يريد تقليص فرص الصين في انتزاع مقعد الشراكة في زعامة نظام دولي ثنائي القطب، أو متعدد الأقطاب. لا يحظى الشرق الأوسط والعالم العربي بمعاملة استثنائية، فيما يخص الرسوم الجمركية التي يراجعها ترامب، فالرجل قد احتكم إلى بعض المرجعيات، التي تتيح حداً أدنى من إمكانية اقتسام الأعباء، إذ فرض رسوماً بنسبة عشرة بالمائة على واردات الدول التي لا تحقق فائضاً تجارياً مع الولايات المتحدة، أما من يحقق فائضاً في الميزان التجاري مع الولايات المتحدة، فيتعين عليه تسديد رسوم جمركية تقدر نسبتها بحسب نسبة هذا الفائض، مضافًا إليها نسبة العشرة في المائة المشار إليها. وكان تقرير صادر عن المجلس الإقليمي للغرف الأمريكية بشمال إفريقيا والشرق الأوسط قد أوضح أن حجم التبادل التجاري بين الولايات المتحدة و سبع عشرة دولة عربية بلغ قرابة ١٢٢ مليار دولار طبقاً لتقديرات عام ٢٠٢٢م، وأضاف التقرير أن حجم الصادرات العربية للولايات المتحدة قدرت بحوالي ٦٤مليار دولار، بينما بلغ حجم الواردات الأمريكية إلى الدول العربية حوالي٥٨ مليار دولار موضحًا أن واردات الإمارات من أمريكا بلغت 20.85 مليار دولار وصادراتها بلغت 6.91 مليار دولار، كما بلغت صادرات السعودية 23.46 مليار دولار ووارداتها بلغت 11.57 مليار دولار، فيما بلغت صادرات مصر لأمريكا نحو 2.81 مليار دولار ووارداتها بلغت 6.55 مليار دولار . وكشف التقرير أن صادرات قطر بلغت 2.92 مليار دولار والواردات بلغت 3.65 مليار دولار ، وبلغت صادرات المغرب 1.7 مليار دولار والواردات 3.51 مليار دولار ، كما أن صادرات الكويت بلغت 2.05 مليار دولار ووارداتها بلغت 3.4 مليار دولار . وبحسب التقرير بلغت صادرات الأردن لأمريكا نحو 3.05 مليار دولار والواردات بلغت 1.54 مليار دولار ، فيما بلغت صادرات عمان 3.51 مليار دولار ، والواردات بلغت 1.49 مليار دولار . وأشار التقرير إن صادرات الجزائر بلغت 1.89 مليار دولار والواردات بلغت 1.2 مليار دولار، كما بلغت صادرات العراق نحو 10.06 مليار دولار ووارداته بلغت 950 مليون دولار يروج ترامب لخططه بشأن مراجعة الرسوم الجمركية، باعتبارها خططاً لاستعادة ثروات أمريكية يراها ترامب منهوبة، لكن تلك الخطط ذاتها تتجاوز حدودها المالية لتلامس حدوداً سياسية أو حتى استراتيجية، فقبيل إعلان ترامب، رجحت مجلة "واشنطن إكزامينر" إمكانية أن يوسع الرئيس دونالد ترامب نطاق استراتيجيته التفاوضية بشأن الرسوم الجمركية لتشمل الدول العربية، إذا استمرت في رفض مطالبه بإعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين قبل بدء "جهود تطهير غزة". ونقلت المجلة عن مستشار ترامب السابق للأمن القومي، مايك والتز، في فبراير الماضي، قوله: "أعتقد أن الرئيس ترامب يَعُد الرسوم الجمركية أداةً أساسيةً لسياستنا الخارجية". ضآلة حصة أغلب الدول العربية في التجارة مع الولايات المتحدة، حدت كثيراً من مخاطر الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب، إذ استأثرت أغلب الدول العربية بنسبة رسوم منخفضة إذا ما قورنت بالصين وفيتنام وأوروبا، هذه الرسوم المنخفضة(١٠٪) في أغلب الدول العربية -عدا بعض دول النفط-هيأت الفرصة لأغلب الدول العربية لاستقبال المزيد من مصانع الصين(٨٠٪) وفيتنام(٤٥٪) التي تتطلع إلى دخول الأسواق الأمريكية مستفيدة من الرسوم المنخفضة(١٠٪) التي يتعين على الدول العربية المصدرة أن تسددها للجمارك الأمريكية. رسوم ترامب الجمركية إذن يمكن أن تكون نقطة تحول، في خرائط الفقر والثروة والقوة والضعف، ويمكنها في نهاية المطاف، أن تقود تحولات كبرى، من خلال آلية الهدم وإعادة البناء، والتفكيك وإعادة التركيب، وفي نهاية المطاف، يمكن لعملية كتلك، إعادة هيكلة النظام الدولي برمته، لا ليكون على شاكلة من فرضوا الرسوم، وإنما على شاكلة من دفعوها صاغرين.