يتناول المقال أسس العلاقات الاقتصادية الدولية، ودوافع ترامب من السياسات الحمائية، وجدوى الاعتماد عليها للتخلص من العجز التجاري المزمن، ومدى تأثير النزاع التجاري على التجارة العالمية، وكيفية تسوية النزاعات في منظمة التجارة العالمية، وأثر السياسات الحمائية على حركة التجارة العالمية، تأثير السياسات الحمائية الجديدة على تجارة مصر الخارجية مع الولايات المتحدة
موقف نظام التجارة متعدد الأطراف من السياسات الحمائية
تقوم العلاقات الاقتصادية الدولية على أسس يتفق عليها أعضاء المجتمع الدولي، تحقق مصالح الجميع، وإن تباينت المكاسب الفردية، وتصدر بها نظمًا وتقام على أساسها مؤسسات دولية، ومواثيق، يلزم بها الأعضاء أنفسهم، طواعية. وهكذا تم تأسيس النظام الاقتصادي العالمي في اعقاب الحرب العالمية الثانية، فيما عرف بنظام بريتون وودز، نسبة للمدينة الأمريكية بولاية نيوهامشر في الشمال الشرقي للولايات المتحدة عام 1944م.
ورغم مشاركة عدد44 دولة من أنحاء العالم – بما فيها بعض دول أوروبا الشرقية في ذلك الوقت، لكنه عكس فلسفة النظام الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، البلد المنتصر الوحيد الذي لم تلحق به خسائر لا عسكرية ولا مدنية. ودانت له قيادة العالم الغربي بعد أفول الامبراطوريات القديمة بقيادة بريطانيا وفرنسا.
ولتوكيد شرعية النظام الاقتصادي الدولي تم إنشاء ثلاث مؤسسات دولية، واحدة لإعادة بناء ما دمرته الحرب العالمية الثانية في أوروبا الغربية، ومساعدة دول العالم الثالث (البنك الدولي للإنشاء والتعمير)، والمؤسسة الثانية للإشراف على النظام النقدي وتنظيم تحركات سعر الصرف الأجنبي وتوفير السيولة الدولية لضمان حرية التبادل التجاري وانتقال رؤوس الأموال، وعرف بصندوق النقد الدولي، والثالثة لم يتمكن المجتمعون من التوافق على كل الأسس التي تضمن حرية التجارة الدولية، فتم الاستعاضة عنها مرحليًا بالاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة و تعرف اختصارًا بالجات ( GATT) 1947م.
لم تخف الولايات المتحدة والغرب الأيدلوجية الكامنة وراء النظام الاقتصادي الدولي ومهام مؤسسات بريتون وودز الثلاثة، منذ إنشائها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أواخر الأربعينات من القرن الماضي واكتمال العقد الثلاثي عام 1995م، بإنشاء منظمة التجارة العالمية، وربط عضويتها بإقرار مبادئها القائمة على الحرية الاقتصادية بمعناها الواسع لتشمل حرية الأفراد في العمل والإنتاج، وحرية القطاع الخاص، وتحرير المعاملات والأسواق داخل الدول وبين الدول، وحرية انتقال السلع والخدمات وانتقال رؤوس الأموال عبر الحدود، والسماح للشركات الغربية العملاقة بالعمل والاستثمار والتوطن والتصدير والاستيراد بحرية عبر الحدود، حتى صارت تسمى شركات متعددة الجنسيات وعابرة للقوميات، تخدم مصالح الغرب في المقام الأول وتساهم في تنمية الدول النامية والناشئة مؤخرًا.
وتم إفراد مكانة خاصة للدولار الأمريكي، عن استحقاق، في تسوية المعاملات الدولية، حتى بعد الخروج عن قاعدة الصرف بالذهب عام 1971م، كما تم تتويج النمط الغربي في إدارة اقتصادات الدول النامية فيما عرف بتوافق واشنطن أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات من القرن الماضي، وجاءت مبادئها لتؤكد فلسفة النظام الرأسمالي اليميني، وتنحي أي دور للحكومات في النشاط الاقتصادي، وتفسح المجال لحرية القطاع الخاص وحرية انتقال رؤوس الأموال، وأوعزت للمنظمات الدولية وعلى وجه الخصوص صندوق النقد الدولي بتبني هذه المبادئ ونشرها بل وجعلها برنامج إصلاح وأسلوب عمل للحكومات في الدول النامية التي تلجأ للصندوق لطلب مساعدتها وفق حصتها في الصندوق!
أما مبادئ منظمة التجارة العالمية التي تقوم على نظام تجاري متعدد الأطراف، وتأخذ موقفًا مبدئيًا ضد النزعات الحمائية في التجارة الدولية، فترتكز على مبدأ الدولة الأولى بالرعاية، وتعميم أي معاملة تفضيلية، تمنحها دولة لدولة أخرى، في التبادل التجاري؛ حتى يتم تحرير التجارة العالمية، ويتم التخلص من السياسات الحمائية، ولم يستثنى من ذلك إلا الدول النامية في حالة حماية صناعاتها الناشئة، من أي تهديدات نتيجة ضعف قدراتها التنافسية.
وحاليًا يتم إجراء أكثر من أربعة أخماس 80% التجارة الدولية للبضائع وفق هذه الأسس على الرغم من انتشار الاتفاقيات التجارية التفضيلية وغيرها من التدابير التجارية الثنائية، حيث يكفل عدم التمييز في التجارة العالمية تعزيز الاستقرار والإنصاف في البيئة التجارية العالمية، وقد حافظ هذا المبدأ على مركزيته على الرغم من صعود الاتفاقيات التجارية التفضيلية (PTAs) منذ التسعينيات الذي أثار بعض المخاوف بشأن الأهمية المستمرة لمبدأ الدولة الأكثر رعاية (منظمة التجارة العالمية).
من هنا كانت النزعة الحمائية وإثارة النزاعات التجارية من الدولة الأم ( الولايات المتحدة) لنظام التجارة العالمي متعدد الأطراف مثار دهشة، لتناقضه مع مبادئ حرية التجارة التي تخدم مصالح الولايات المتحدة في المقام الأول، كما أنها تعمق جراح منظمة التجارة العالمية نفسها، والتي تعاني أصلًا من نقاط ضعف خطيرة (أهمها هيمنة الدولار على المعاملات الدولية)؛ والتي جعلت دول الشرق بزعامة الصين وحلفائها من دول البريكس يبحثون عن نظام أكثر عدلًا للتجارة العالمية، والخروج من عباءة الدولار الأمريكي كعملة مسيطرة في التسويات الدولية، والمعاملات التجارية، وفي تسعير المنتجات العالمية، والبحث عن نظم للتسويات الدولية بعيدًا عن الدولار، وإقامة مؤسسات مالية بديلة عن مؤسسات بريتون وودز.
دوافع ترامب من السياسات الحمائية
اتسع العجز التجاري الأمريكي ليصل إلى 140.5 مليار دولار في مارس 2025م، محققًا رقمًا قياسيًا جديدًا، كنتيجة مباشرة لزيادة الواردات بنسبة 4.4% لتصل إلى مستوى قياسي بلغ 419 مليار دولار، رغم كل التوقعات بإعلانات جديدة عن التعريفات الجمركية التي بدأت في أبريل، تنفيذ الوعود الانتخابية التي استهدفت إنعاش الصناعات التقليدية المتضررة من سياسة الانفتاح التجاري مثل التعدين والصلب، وحيث ينظر إلى تعزيز الإنتاج المحلي كقضية مركزية، تحاول الإدارة الأمريكية اعتبارها ضمن جوانب الأمن القومي، وذريعة تبرر سياساتها أمام منظمة التجارة العالمية، وشركائها التجاريين، بدعوى تلبية احتياجات الولايات المعتمدة على الصناعات التحويلية مثل بنسلفانيا وأوهايو، والتي شهدت زيادة طفيفة في الوظائف خلال فترة رئاسته السابقة.
من ناحية أخرى، لا يزال العجز التجاري السلعي الأمريكي مع الصين كبيرًا، رغم انخفاضه في السنوات الخمس الأخيرة، بالغاً قرابة 270 مليار دولار في عام 2024م، وفقاً لبيانات مكتب الإحصاء الأمريكي، ويعتقد ترامب أن التعريفات الجمركية المرتفعة يمكن أن تقلل هذا العجز لحد كبير، لكنه يواجه تحدياً في تحقيق ذلك دون الإضرار بالمستهلكين والشركات التي تعتمد أنشطتها على الواردات.
العلاقات التجارية للولايات المتحدة
|
السنة |
عجز الحساب الجاري مليار$ |
معدل الادخار % GDP |
العجز التجاري مع الصين مليار$ |
عجز الحساب الجاري % GDP |
|
2019 |
414.75 |
19.0 |
343 |
2.10 |
|
2020 |
601.2 |
18.5 |
308 |
2.8 |
|
2021 |
868.0 |
17.7 |
353 |
3.7 |
|
2022 |
1010.0 |
18.3 |
382 |
3.9 |
|
2023 |
905.4 |
18.7 |
279 |
3.3 |
|
2024 |
|
|
270 |
3.9 |
قاعدة بيانات البنك الدولي
من ناحية أخرى لا تخلو تلك الممارسات من كونها وسائل ضغط في مفاوضات الولايات المتحدة مع الصين وما تدعيه الحكومة الأمريكية من ممارسات تجارية غير عادلة مثل خرق حقوق الملكية الفكرية والتلاعب بالعملة المحلية (اليوان الصيني)، وربط العجز التجاري بتفاقم تيارات الهجرة غير الشرعية القادمة من المكسيك؛ ومن ثم تستخدم التعريفات كوسيلة ضغط من أجل إجبار الصين والمكسيك على لتعاون مع الإدارة الأمريكية في هذه القضايا، فضلًا عن دفع الدول الشريكة الأخرى لتقديم تنازلات وضمان شروط تجارية أكثر ملاءمة للاقتصاد الأمريكي أسوة بما حدث عند تعديل اتفاقية النافتا، حيث تم فرض شروط جديدة على المكسيك وكندا؛ وتوقيع اتفاقية التجارة الحرة الجديدة USMCA عام 2020م، مما يشير إلى أن الإدارة الأمريكية تنتهج تكتيكًا يعتمد على توظيف السياسات الجمركية كوسيلة ضغط لتحقيق أهداف سياسية وتجارية أوسع.
هل السياسات الحمائية ستقلص من عجز الميزان التجاري الأمريكي؟
تستند سياسات ترامب الحمائية على عدد من الدوافع الاقتصادية بشكل أساسي، أهمها مواجهة العجز التجاري الذي تجاوز التريليون دولار عام 2022، وعام 2024م، حيث يشكل الخلل التجاري الكبير مع دول مثل الصين والمكسيك والاتحاد الأوروبي أكبر القضايا الذي تسعى الإدارة الأمريكية لمعالجتها، على أساس أن فرض تعريفات جمركية مرتفعة على الواردات القادمة من هذه الدول وغيرها سيقلص العجز التجاري ويعزز مكانة الاقتصاد الأمريكي، ويوفر حوافز للشركات وتنشيط القطاعات الصناعية وتوفير مزيد من فرص العمل.
لكن أسس النظرية الاقتصادية والتجارب التطبيقية، تؤكد أن العجز التجاري لا يتم إصلاحه بسياسات حمائية للمنتجات الوطنية؛ إلا في اقتصادات نامية وصغيرة وصناعات ناشئة، وبشرط ألا يقابلها سياسات حمائية مضادة من الشركاء التجاريين، أما في بلد متقدم مثل الولايات المتحدة فلن تتمتع بمثل هذه المعاملة الخاصة، وبالتالي فإن علاج العجز التجاري يقتضي البحث في محددات كل من الصادرات والواردات وعلاقتهما بفجوة الموارد المحلية.
فعلى مستوى الواردات الأمريكية يأتي مستوى الدخل الفردي والطلب المحلي في صدارة محددات الواردات، حيث يبلغ متوسط دخل الفرد مستوى مرتفعا (66 ألف دولار عام 2024) إضافة إلى أنه من المعروف أن الاقتصاد الأمريكي اقتصاد مسرف؛ حيث انخفض معدل الادخار الشخصي في الولايات المتحدة إلى 3.90 % في مارس من 4.10% في فبراير 2025م، وقد بلغ متوسط الادخار الشخصي في الولايات المتحدة 8.42 % خلال الفترة 1959 – 2024م، وعلى المستوى المحلي يبلغ الإنفاق الاستهلاكي النهائي ( خاص وعام) مستويات لا تتكرر بالمقارنة بالدول المتقدمة الأخرى، ويتجاوز 82 % من الدخل المحلي، وبالتالي تتدنى المدخرات المحلية إلى 18.7 % من الدخل المحلي، بالمقارنة مع شركائها التجاريين الرئيسيين، الصين وكندا والاتحاد الأوربي والمكسيك عام 2023 (%44.4، %23.6، 26%، 18.6% ) من الناتج المحلي على التوالي؛ وبالتالي فالتحكم في الواردات مرهون بزيادة المدخرات الأمريكية في مقابل الاستثمار في المقام الأول.( قاعدة بيانات البنك الدولي).
وكما تخبرنا متطابقة فجوة الموارد المحلية ( الادخار ناقصًا الاستثمار) والفجوة الخارجية ( الصادرات ناقص الواردات) فإن عجز الادخار عن تمويل الاستثمارات لابد أن يقابل بنفس المستوى من عجز الواردات عن تغطية الصادرات؛ وبالتالي فالمشكلة تكمن بداخل الاقتصاد الأمريكي، وليست بالخارج؛ المشكلة تكمن في ارتفاع مستويات الإنفاق الاستهلاكي لدى المستهلك الأمريكي، وتسرب جزء من هذا الطلب للخارج في شكل مستوردات بالمقارنة مع بلد مثل الصين تتعدى نسبة المدخرات الوطنية 40% من الدخل المحلي؛ وتكمن كذلك في ارتفاع أسعار المنتجات الأمريكية، نتيجة ارتفاع مستويات الأجور في الولايات المتحدة مقارنة ببلدان أخرى مثل الصين والمكسيك كشركاء رئيسيين.
من ناحية أخرى فإن تدبير النقد الأجنبي لتمويل الواردات مشكلة غير مثارة في الاقتصاد الأمريكي، باعتبار الدولار الأمريكي عملة التسويات العالمية، وطباعة المزيد منه لا يكلف أكثر من سعر طباعة ورقة البنكنوت مهما كانت القيمة الإسمية التي تحملها، عكس باقي دول العالم التي عليها أن تدبر عملات أجنبية في معظم الأحوال عدا الاتحاد الأوروبي واليابان والصين والاتحاد الأوروبي باعتبار عملاتها قابلة للتحويل.
هناك بعد آخر لهذا التوجه الحمائي غير المبرر، يكمن في الأسباب التي تحكم صنع السياسات التجارية والمالية، والتي تتمثل في الفكر الاقتصادي الذي يؤمن به متخذو القرارات؛ ففي حال الفكر اليميني المحافظ الذي يؤمن به الحزب الجمهوري الحاكم، فإنها تنحاز بداهة لرواد الأعمال ورجال الصناعة، حيث أن فرض الجمارك، يوفر حماية للصناعات الوطنية، ويرفع أسعار المنتجات المستوردة والمحلية بالداخل، وتزيد من مستويات أرباح رجال الأعمال على حساب المستهلكين الوطنيين، وهي فئة لا تأتي على رأس اهتمامات الفكر المحافظ عمومًا.
خلاصة القول أن النجاح في تحسين الميزان التجاري الكلي، يحتاج إلى زيادة الادخار الوطني أو تقليل الاستثمار، وهو أمر ليس من السهل إدراكه في اقتصاد حر، كالاقتصاد الأمريكي حيث يتطلب الأمر أن تؤجل الأسر الاستهلاك الحاضر، وبالتالي تزيد الادخار، لكن على الجانب الآخر قد تقلل الرسوم الجمركية معدل الاستثمار عن طريق زيادة تكلفة السلع الرأسمالية، أو نتيجة حالة من عدم اليقين في السياسة، مما يؤدي إلى قيام الشركات بتأجيل الاستثمار، وفي هذه الحالة سيكون الأمر مربكًا وقد يفضي إلى اتجاهات انكماشية في الاقتصاد الأمريكي ويحتاج مزيدًا من الوقت، وكما تشير التجارب العملية فإن الرسوم الجمركية لها تأثير محدود على تسوية العجز التجاري.
تأثير النزاع التجاري على التجارة العالمية
بداية تمثل الرسوم الجمركية ضريبة على المنتجات المستوردة. وتؤدي إلى فجوة بين السعر العالمي والسعر المحلي. ومن ثم تحقق هدفين متزامنين، هدف حمائي للمنتجات المحلية، وهدف توفير حصيلة -كإيرادات جمركية، والتي يمكن للحكومة استخدامها لتمويل نفقاتها.
حيث يدلنا الرصيد المعرفي الكبير وما نفهمه من علم الاقتصاد أن الرسوم الجمركية ليست مجرد أداة لزيادة الإيرادات أو حماية الصناعات المحلية - بل هي أداة سياسية ذات عواقب واسعة النطاق قد لا تكون مقصودة، وغالبًا ما تحجب جاذبيتها في المدى القصير التأثير الأطول أجلًا على التضخم والقدرة التنافسية والتعاون الدولي في الأجل الطويل؛ و مع عودة الرسوم الجمركية إلى جدول أعمال السياسة التجارية العالمية، تواجه التجارة العالمية انتكاسة وسط ارتفاع الرسوم الجمركية المتبادلة على المستوى العالمي في مقابل توجه الولايات المتحدة الأخير.
وفي حال دولة ذات ثقل اقتصادي مثل الولايات المتحدة ستؤثر الرسوم الجمركية أيضًا على السعر العالمي للمنتجات الخاضعة للجمارك، حيث سيقل الطلب العالمي، وبالتالي تنخفض الأسعار العالمية مما يعني أنه يتم دفع جزء من الرسوم الجمركية فعليًا من قبل المنتجين الأجانب لصالح المحليين.
من ناحية أخرى تتجاهل الحمائية ردود أفعال الأطراف الخارجية، وقد تؤدي النتيجة النهائية إلى حرب تجارية تجعل كلا الجانبين أسوأ حالًا، وتعيد الاقتصاد العالمي إلى ما قبل بريتون وودز، وقد تكون إيذانًا بتحولات في النظام الاقتصادي العالمي من نظام متعدد الأطراف إلى نظم إقليمية From Multilateral to Regionalism، بدأت إرهاصاتها منذ فترة طويلة قبل أن يسكب عليها ترامب المزيد من الزيت.
وبالتالي ستغذي هذه النزاعات الاتجاه نحو المزيد من السياسات التجارية الإقليمية التعاونية، بعيدًا عما سعت إليه مبادئ منظمة التجارة العالمية المتمثلة في المعاملة بالمثل وعدم التمييز؛ للهروب من منطق الرسوم الجمركية الضارة والمتبادلة، والتي تضر بالمستهلكين بالداخل الأمريكي والشركات التي تتعامل في الواردات، فضلًا عن تأثيراتها المحتملة التي تتجاوز حدود الداخل الأمريكي لتصل إلى الاقتصاد العالمي وسلاسل التوريد الدولية، وعليه فمن المحتمل أن يؤدي تصاعد الحمائية التجارية إلى تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي، وزيادة حدة التوترات الجيوسياسية بين الولايات المتحدة والقوى الاقتصادية الكبرى.
كيف يتم تسوية النزاعات في منظمة التجارة العالمية
بدأت الصين نزاعًا في منظمة التجارة العالمية بشأن "الرسوم الجمركية المتبادلة" الأمريكية، وطلبت إجراء مشاورات في المنظمة مع الولايات المتحدة بشأن التدابير الأمريكية التي تفرض، رسومًا جمركية إضافية بنسبة 10% على الواردات من جميع شركائها التجاريين اعتبارًا من 5 أبريل الحالي، ورسومًا جمركية إضافية بنسبة 34% على الواردات من الصين، والتي من المقرر لها أن تدخل حيز التنفيذ في 9 أبريل، وقد تم تعميم الطلب على أعضاء منظمة التجارة العالمية في 8 أبريل.
وتزعم الصين أن هذه الإجراءات تتعارض مع التزامات الولايات المتحدة بموجب أحكام مختلفة من الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (الجات) لعام 1994م، واتفاقية تقييم الجمارك، واتفاقية الدعم والتدابير التعويضية؛ وبناء على قواعد المنظمة تتيح المشاورات للأطراف فرصة لمناقشة المسألة وإيجاد حل توافقي دون اللجوء إلى التقاضي. وبعد 60 يومًا، إذا لم تسفر المشاورات إلى تسوية النزاع، يجوز للصين طلب الفصل فيه من خلال لجنة خاصة.
قالت المديرة العامة أوكونجو إيويالا إلى أنه رغم ما تسببه التوترات التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم من حالة عدم اليقين التي تكتنف التجارة العالمية لكنها في نفس الوقت تؤكد أهمية منظمة التجارة العالمية باعتبارها ركيزة أساسية للتنبؤ بالاقتصاد العالمي، ومنصة للحوار والتعاون في مجال التجارة؛ وأشارت أيضًا إلى أن المخاوف المفهومة والمشروعة بشأن منظمة التجارة العالمية والنظام التجاري متعدد الأطراف، والتي أعرب عنها العديد من الأعضاء مؤخرًا، ينبغي اعتبارها فرصة "لتحسين النظام".
أثر السياسات الحمائية على حركة التجارة العالمية
من الطبيعي أن يؤدي فرض رسوم جمركية إضافية على السلع المستوردة من الصين والمكسيك وكندا وغيرها من دول العالم إلى زيادة تكلفة هذه السلع بالسوق الداخلي الأمريكي فالشركات التي تستورد هذه المنتجات ستكون مضطرة إلى تمرير تلك الزيادات في التكاليف إلى المستهلكين. وقدَّر معهد "بيترسون" أن التعريفات الجمركية المقترحة من قبل ترامب قد تكلف الأسرة الأمريكية المتوسطة نحو 2600 دولار سنوياً؛ مما يُثقل كاهل الأسر ذات الدخل المحدود بشكل خاص، وهذا يشكل تحدياً كبيراً لإدارة السياسة النقدية، في ظل الدورة الجديدة المحتملة للتضخم.
كما ستؤدي السياسات الجمركية إلى ردود فعل سلبية من قبل الشركاء التجاريين، تشمل فرض تعريفات انتقامية على المنتجات الأمريكية. مثل هذه الإجراءات ستؤدي إلى تقليل مبيعات المصدرين الأمريكيين؛ مما يُفاقم الأثر السلبي على الاقتصاد، كما حدث في 2018م، عندما تصاعدت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين؛ حيث ردت الصين بفرض تعريفات انتقامية على مجموعة من المنتجات الأمريكية تصل إلى 25%.
ومن المؤكد تضرر صادرات المنتجات الأمريكية إلى السوق الصينية بسبب الحمائية التجارية المتبادلة بين البلدين، حيث شهدت الصادرات الأمريكية الزراعية تراجعًا ملحوظًا؛ مما أضر بالمزارعين الأمريكيين بشكل خاص، كما تعرضت شركات أمريكية أخرى للخسائر نتيجة انخفاض مبيعات منتجاتها في السوق الصينية؛ بسبب الزيادة في الأسعار الناتجة عن الرسوم الجمركية، إضافة إلى ما يترتب على تلك الأضرار من تأثير على مستوى الإنتاج والتشغيل، كما كان الحال خلال السنوات الأولى من تطبيق السياسات الجمركية 2018م، والتي أسفرت عن خسارة 245 ألف وظيفة في الولايات المتحدة، كما أظهر تحليل الفيدرالي الأمريكي أن التعريفات الجمركية تؤدي إلى انخفاض التوظيف الصناعي بنسبة 1.4% بسبب تأثيرات سلبية من زيادة تكاليف المدخلات والتعريفات الانتقامية.
ورغم أن تجارة الخدمات لا تخضع بشكل مباشر للرسوم الجمركية، إلا أنه من المرجح أن يؤدي الانخفاض في تجارة السلع إلى تقليل الطلب على الخدمات اللوجستية والنقل كما قد يؤدي حالة عدم اليقين إلى تثبيط الإنفاق على السفر وإبطاء الخدمات المتعلقة بالاستثمار، ونتيجة لذلك، من المتوقع أن ينمو حجم التجارة العالمية في الخدمات بنسبة 4.0 % في عام 2025 و4.1% عام 2026 م-أي أقل بكثير من التوقعات الأساسية البالغة 5.1 % و4.8 %. (منظمة التجارة العالمية)
كما سينخفض معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي بمقدار 0.6 نقطة مئوية عن التوقعات الأساسية بنسبة 2.2 % عام 2025م، وسوف يتباطأ النمو في أمريكا الشمالية بمقدار 1.6 نقطة مئوية، تليها آسيا (بانخفاض قدره 0.4 نقطة مئوية) وأمريكا الجنوبية والوسطى ومنطقة البحر الكاريبي (بانخفاض قدره 0.2 نقطة مئوية). (توقعات صندوق النقد الدولي)
كذلك من المحتمل أن تتحول الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين إلى صراع جيوسياسي أوسع نطاقًا، يعمق من انقسام النظام التجاري والاقتصادي العالمي ودفعه إلى تكتلات متنافسة، مما يضعف من التعاون الاقتصادي الدولي، الذي اكتسب زخمًا بعد انتهاء الحرب الباردة، وانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية نوفمبر 2001 م، ومن المتوقع أن تؤدي القيود التجارية الجديدة إلى تقليص حركة التجارة الدولية وارتفاع التضخم العالمي وتقويض نمو الاقتصاد العالمي بمعدل 0.4 نقطة مئوية-إن لم يزد عن هذا الحد-في عام 2025م.
تأثير السياسات الحمائية الجديدة على تجارة مصر الخارجية مع الولايات المتحدة
مما لا شك فيه أن السياسات الحمائية الجدية لابد وأن تحدث إعادة توجيه للتجارة الخارجية للولايات المتحدة مع بقية دول العالم، حيث من المتوقع أن ترتفع صادرات البضائع الصينية بنسبة تتراوح بين 4 و 9% عبر جميع المناطق خارج أمريكا الشمالية، و أن تنخفض واردات الولايات المتحدة من الصين بشكل حاد في قطاعات مثل المنسوجات والملابس والمعدات الكهربائية، مما يخلق فرصًا تصديرية جديدة للموردين الآخرين القادرين على سد الفجوة، وقد يفتح هذا الباب أمام تشجيع صناعات النسيج المصرية التي تأتي في صدارة صادرات مصر للولايات المتحدة بنصيب بلغ 43.7% من جملة صادرات مصر للولايات المتحدة عام 2024م، كما قد يشجع الوضع زيادة اعتماد مصر على المستوردات من الولايات المتحدة خاصة من الوقود الذي أصبح يشكل 53.1% من جملة مستوردات مصر من الولايات المتحدة نفس العام
عمومًا فإن الولايات المتحدة ليست شريكًا رئيسًا في تجارة مصر الخارجية، حيث لا تزيد حصتها عن 5% من حيث الصادرات المصرية، وتبلغ نسبة واردات مصر من الولايات المتحدة 5% من جملة الواردات في حين تأتي كلا من مجموعة الاتحاد الأوروبي ودول منظمة التعاون الإسلامي والدول العربية والدول الإفريقية في صدارة التجمعات التي تتعامل معها مصر تجاريًا.
كذلك تحمل التعريفات الجمركية التي يقترحها ترامب على دول العالم العديد من التداعيات الدولية المحتملة، ومنها اضطراب سلاسل توريد العالمية وتباطؤ نمو الاقتصاد العالمي، وقد تضطر الشركات الأمريكية لإعادة النظر في سلاسل التوريد الخاصة بها، وقد تضطر إلى البحث عن مواقع جديدة للإنتاج خارج السوق الأمريكي، وهو ما يمثل فرصة مواتية لزيادة مشاركة مصر في سلاسل القيمة العالمية الذي يعد من أدنى المعدلات بين أقرا نها مثل تركيا وماليزيا، نظرًا لمكونات الصادرات خاصة السلع الأولية والمنتجات الأقل تطورًا التي تشكل أكثر من نصف الصادرات المصرية، ومن ثم الاهتمام بمنتجات متقدمة مثل الآلات والإلكترونيات والنقل، ويمكن أن تسعى مصر لزيادة حصتها من الاستثمارات الأجنبية المباشرة للشركات الأمريكية وتقلل من القروض الخارجية، بما يخفف الضغوط على سعر صرف الأجنبي ويدعم خططها التنموية.
الأهمية النسبية لتجارة مصر مع US عام 2024
|
|
تجارة مصر مع USمليار دولار |
تجارة مصر مع العالم مليار دولار |
% من الإجمالي |
% من التجارة مع US |
|
الصادرات |
2.2 |
44.6 |
5 |
|
|
الواردات |
7.6 |
94.7 |
8 |
|
|
أهم الواردات (الوقود) |
3.3 |
|
|
53.1 |
|
أهم الصادرات (الملابس الجاهزة) |
1.2 |
|
|
43.7 |
المصدر: الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء-مصر
النشرة السنوية للعلاقات الاقتصادية بين مصر والولايات المتحدة-إبريل 2025
الخلاصة
سيمثل الانكفاء للداخل مع العودة للسياسات الحمائية من قبل الولايات المتحدة، نقطة تحول في تاريخ العلاقات الاقتصادية الدولية، وقد يسرع بالخروج عن عباءة النظام التجاري العالمي متعدد الأطراف بقيادة منظمة التجارة العالمية، ومن ورائها الولايات المتحدة، والتحول إلى نزعة إقليمية، تدعمها تكتلات تجارية إقليمية تنتشر في كافة أنحاء العالم. لقد كان الاستثناء الوحيد الذي تقدمه منظمة التجارة العالمية من مبدأ الدولة الأولى بالرعاية قاصرًا على بعض الدول النامية غير القادرة على المنافسة عالميًا وتسعى لإقامة صناعات وطنية ناشئة، ولم يصل الحد إلى ما تدعيه الإدارة الأمريكية من أنها تتعرض لتهديدات تضر بالأمن القومي في مواجهة حرية التجارة لمجرد أن بعض الصناعات الأمريكية غير قادرة على منافسة الشركاء التجاريين!
وقد لا يقف الأمر عند مراجعة قواعد التجارة العالمية ومراجعة نظام التجارة متعدد الأطراف، بل قد تمتد لمراجعة الأسس النظرية Theoretical Principles للاقتصاد السياسي، الذي قدم تفسيرات منطقية وسببية، لحرية التجارة الدولية، وأقام نظريات متطورة لتفسير التخصص وتقسيم العمل الدولي، على أساس حرية انتقال السلع والخدمات ورؤوس الأموال، وفتح المجال أمام فوائض رؤوس الأموال لدى الشركات الكبرى للعمل في الخارج، مكتسبة صفة الشركات متعدية القوميات.
وفي ظل حقيقة أن 87 % من التجارة العالمية في البضائع تتم خارج الولايات المتحدة - وأن التجارة الثنائية بين الولايات المتحدة والصين تمثل حوالي 3 % فقط؛ ستظل السياسات التجارية المفتوحة ضرورية - ليس فقط للتجارة نفسها، ولكن أيضًا لاستقرار النظام الاقتصادي العالمي، وسيظل المستقبل مرهونا بأهمية العلاقات التجارية بين دول العالم الأخرى، برغم هذه التطورات التي تمثل تحديًا، إلا أنه من الجدير بالذكر أن مسار التجارة العالمية لن تحدده أي دولة بمفردها أو علاقة تجارية بين دولتين، بل سيتوقف الأمر على كيفية استجابة المجتمع الدولي الأوسع.( قاعدة بيانات منظمة التجارة العالمية).






