يشكل رار إدارة دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية جديدة على الواردات الأمريكية منعطفًا حاسمًا في مسار العلاقات الاقتصادية عبر الأطلسي. لطالما شكلت الروابط المتينة بين أوروبا والولايات المتحدة دعامة أساسية للنظام الاقتصادي العالمي، محددة معالمه من قواعد التجارة الحرة إلى آليات الحوكمة المالية. بيد أن خطة الرسوم الجمركية الجديدة، التي تهدف بالأساس إلى حماية الصناعات الأمريكية، تنذر بإطلاق سلسلة من التداعيات تتجاوز أهدافها المباشرة، بما في ذلك تقلص التدفقات التجارية، واضطراب الأسواق المالية، واحتمالية الانزلاق نحو ركود عالمي.
بالنسبة لأوروبا، وبالتبعية منطقتي الخليج والشرق الأوسط الأوسع نطاقا-فإن التحدي لا يكمن فقط في القدرة على الصمود في وجه العاصفة، بل أيضًا إعادة رسم مستقبلها الاقتصادي الاستراتيجي في خضم نظام عالمي يتجه نحو التعددية القطبية. دلالات هذا التطور تتخطى حدود الحسابات الاقتصادية، مثيرة تساؤلات جوهرية حول الزعامة العالمية، وصلابة تحالفات ما بعد الحرب العالمية، وقدرة الاقتصادات الليبرالية على التكيف في ظل النزعَات الحمائية المتنامية. فهي بمثابة اختبار للمروُنة والرُؤية المُتبصرة يتحدد معه مسار الريادة الاقتصادية الغربية لعقود مقبلة.
- الآثار المترتبة على التبادل التجاري بين الولايات المتحدة وأوروبا
تلقت القطاعات الرئيسية للصادرات الأوروبية ضربة قاسية إثر الإعلان عن الرسوم الجمركية الجديدة. لعل أكثرها تضررًا، قطاعات السيارات، والمعدات الصناعية، ومنتجات الطيران، والسلع الزراعية. كما تعاني العديد من الشركات الأوروبية العاملة في مجال صناعة السيارات مثل فولكس فاغن، وبي إم دبليو، ودايملر من انخفاض حاد في الطلبيات الأمريكية، بينما تواجه صناعة الطيران ارتفاع التكاليف داخل سوق يشهد منافسة محمومة بالفعل. ترتب على ذلك ظهور حملات ضغط على جانبي الأطلسي، يُحذر خلالها قادة الصناعة من خسائر في قطاع الوظائف ومخاطر تتعلق بالقدرة التنافسية على المدى الطويل.
بخلاف القطاعات الرئيسية المُشار إليها، أصبحت المشروعات الصغيرة والمتوسطة، التي تشكل العمود الفقري للاقتصادات الأوروبية وتعتمد بشكل مكثف على السوق عبر الأطلسي، عرضة للمخاطر. وذلك في ضوء ارتفاع التكاليف التشغيلية، وتعطل سلاسل الإمداد، والضبابية الغالبة على القرارات الاستثمارية بسبب التعريفات الجديدة. وهو ما دفع العديد من الشركات لتَأجيل خططها التوسعية، فيما لجأت أخريات للبحث عن أسواق بديلة داخل آسيا وأمريكا اللاتينية. وفي حين قد تأتي جهود التنويع ثمارها، على المدى البعيد، لكنها تشكل تحولًا كبيرًا في استراتيجية الأعمال وفي الأغلب تنطوي على زيادة في التكاليف الأولية ويشوبها عدم اليقين.
كما أدت هذه الرسوم الجمركية إلى حالة من الضبابية بشأن آفاق الاستثمارات عبر الأطلسي. وقد لوحظ تباطؤ في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الأمريكية إلى أوروبا، والتي لطالما مثلت دعامة أساسية للعلاقات الاقتصادية بين الطرفين، حيث تبنى العديد من المستثمرين نهج التريث والترقب. على نحو مماثل، بدأت الشركات الأوروبية العاملة داخل الولايات المتحدة-وبالأخص في مجالات مثل السلع الفاخرة والأعمال التجارية الزراعية-إعادة تقييم استراتيجيتها طويلة الأجل. على سبيل المثال، أبدت شركات فرنسية وإيطالية حذرًا متزايدًا حيال إطلاق مشروعات أمريكية جديدة، متذرعة بمخاوف حول السياسات التجارية المستقبلية، وعدم القدرة على التنبؤ باللوائح التنظيمية، وتحول معنويات المستهلكين. ورغم مساعي الجمعيات التجارية والقنوات الدبلوماسية لنزع فتيل التوترات، إلا أن التوجه الضمني للسياسات الأمريكية أفضى إلى استشعار أصحاب المصالح في أوروبا لضرورة التأهب لمناخ تجاري يتسم بقدر أكبر من الحمائية والغموض. وأثار شكوكًا متزايدة حول استمرار عصر التجارة المفتوحة والقائمة على قواعد بين جانبي الأطلسي.
- الانعكاسات على الاقتصاد الغربي
تتجاوز الآثار التراكمية لمثل هذه الاضطرابات نطاق المبادلات التجارية الثنائية، فوفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، من شأن تصاعد حدة النزاعات التعريفية بين الولايات المتحدة وشركائها أن يفضي إلى انكماش نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة قد تصل إلى 0.5% خلال العامين القادمين. ومن المتوقع أن تكون أوروبا، التي تعتمد بشكل مكثف على الصادرات، الأكثر تضررا. فبحسب تقديرات المفوضية الأوروبية، فإن حجم خسائر الاقتصاد الأوروبي جراء التعريفات الأمريكية الجديدة قد يصل إلى 40 مليار يورو سنويا. ومن المحتمل أن يؤدي تراجع حجم التجارة وثقة الأسواق إلى انكماش الناتج الصناعي والإنفاق الاستهلاكي عبر مختلف أنحاء القارة.
على الصعيد الأمريكي، فإن الصورة لا تعد أكثر إشراقا. حيث يواجه العاملون في قطاع التصنيع الأمريكي الذي يعتمد على قطع الغيار المستوردة زيادة في تكاليف الإنتاج ربما تؤول لضغوُط تضخمية. فضلا عن الخسائر التي تكبدها المصدرون الأمريكيون إثر تطبيق الاتحاد الأوروبي رسوم انتقامية على عدد من السلع الأمريكية-التي تشمل الدراجات النارية، والبوربون (نوع من النبيذ الأمريكي)، ومنتجات زراعية مختلفة. واضطرت الحكومة الفيدرالية إلى تقديم معونات طارئة لقطاع الزراعة الذي تلقى ضربات موجعة بالإضافة إلى تنامي القلاقل داخل الدوائر الانتخابية الرئيسية. إن استمرار هذه الدوامة من الحلقات المفرغة-حيث تؤدي التعريفات لانكمَاش اقتصادي يستتبعه تراجع الإنفاق الاستهلاكي وتباطؤ اقتصادي متزايد-قد أضحى شبحا يلوح في الأفق. وبالفعل ثمة تحول مشهود للتدفقات الرأسمالية، في ظل إقبال المستثمرين على الملاذات الآمنة مثل الذهب والسندات الحكومية. على النقيض، اختبرت أسواق المال، التي بطبيعة الحال تتأثر بالتوترات التجارية، تقلبات متزايدة متسببة في تآكل ميزانيات الأسر وثقة المستثمرين. وهو ما اقتضى من البنوك المركزية إعادة تقييم مسار سياسَاتها النقدية، مع الاتجاه بعض الشيء إلى تأجيل رفع أسعار الفائدة وربما حتى إعادة طرح تدابير تيسيرية لتأمين اقتصاداتها من الصدمات الناتجة عن الرسوم الجمركية.
في مثل هذا المناخ، لم تعد حتى القطاعات التي لطالما اعتُبرت حصينة، كالتكنولوجيا والتمويل، بمنأى عن التأثر. فتداعيات اضطرابات سلاسل الإمداد، وشكوك المستثمرين، والتغيرات المتسارعة في الأطر التنظيمية، تشكل تحديات مستجدة. وعلاوة على ذلك، فإن استمرار الحرب التجارية يهدد بتقويض أسس القوة الاقتصادية الغربية، وقد ينذر بانزلاق نحو ركود عالمي شامل. ومما يزيد الأمر تعقيدًا، أن طول أمد هذه الأوضاع قد يقوض على المدى البعيد مكانة الولايات المتحدة وأوروبا كشريكين موثوقين ومستقرين، مما يزيد من حدة الأزمة القائمة.
الآثار المضاعَفة على المنطقة الخليجية
في حين أن أوروبا والولايات المتحدة يتحملان العبء الأكبر للرسوم الجمركية، فإن دول مجلس التعاون الخليجي ليست بمعزل عن هذه الصدمات. بصفتها لاعبًا محوريًا على صعيد أسواق الطاقة العالمية ومراكز عالمية ناشئة في مجال الخدمات اللوجستية والتمويل، تعتبر الاقتصادات الخليجية متداخلة بشكل عميق مع تدفقات التجارة الدولية. بالتالي، فإن التبعات ستكون متعددة الأبعاد، وستُؤثر في أسواق الطاقة، وأنماط الاستثمار الأجنبي، وتوجهات السياسات الإقليمية. أحد الآثار المباشرة يتمثل في التباطؤ المحتمل في معدل الطلب على موارد الطاقة. حيث يُترجم انكماش الاقتصاد الأوروبي إلى تراجع استهلاك النفط والغاز بما يفرض ضغوطًا هبوطية على الأسعار-وهو ما يشكل هاجسًا لدى المصدرين الخليجيين. كذلك، فإن تذبذب أسعار النفط يفرض ضغوطًا مالية على ميزانيات الدول التي لا تزال معظمها معتمدة على عائدات الهيدروكربون رغم جهود التنويع التي تجري على قدم وساق. من المحتمل أيضًا أن تتأثر الصادرات الخليجية من الألمنيوم، والحديد، والمنتجات البتروكيماوية، التي تواجه بالفعل زيادة في الرسوم الأمريكية، من آثار ثانوية مثل تباطؤ نشاط التصنيع الأوروبي.
مع ذلك، قد تحقق المنطقة الخليجية مكاسب في بعض المجالات المحددة. حيث يزداد بريقها في أعين الأوروبيين الساعين إلى تنويع شراكاتهم التجارية باعتبارها بدائل جاذبة. ومن المرجح أن تتسارع وتيرة جهود توطيد الروابط الأوروبية-الخليجية الاقتصادية-عبر اتفاقات التجارة الحرة، والشركات الاستثمارية، والتعاون المالي المعزز. فيما تعكس الحوارات رفيعة المستوى التي تجرى بين ممثلي الاتحاد الأوروبي ومسؤولي مجلس التعاون الخليجي حرصًا متبادلا لبناء جسور اقتصادية أكثر تنوعًا وصلابة. في الوقت ذاته، يعيد المستثمرون الخليجيون تقييم محافظهم الاستثمارية. في ظل تحول أنظار صناديق الثروة السيادية-التي كانت تقليديًا مستثمرًا ذا ثقل في الأصول الغربية-صوب آسيا، وإفريقيا، واغتنام الفرص المتاحة بين دول المنطقة للتحوط ضد ضبابية الأسواق الغربية. هذا التحول قادر على تغيير بوصلة التدفقات الرأسمالية العالمية وإعادة تشكيل مشهد الأولويات الاستثمارية الاستراتيجية. وقد يصبح رأس المال الخليجي، الذي لطالما كان قوة دعم لاستقرار قطاع العقارات الغربي والبنية التحتية الغربية، الوقود المحرك حاليًا لنمو الأسواق الناشئة، بالأخص وأنها تنعم بقدر أكبر من التناغم السياسي والقدرة على التنبؤ التنظيمي.
- الانعكاسات على المملكة العربية السعودية
تتبوأ المملكة العربية السعودية، باعتبارها الاقتصاد الأكبر داخل مجلس التعاون الخليجي وفَاعلًا محوريًا في أسواق الطاقة العالمية، مكانة استراتيجية خاصة وسط الديناميات المتغيرة بسبب السياسات الجمركية الأمريكية. تتقاطع رؤية المملكة (2030) -التي تركز على التنويع الاقتصادي، والتقدم التكنولوجي، وخفض الاعتماد على النفط -بشكل كبير مع التبعات المتتالية للتوترات التجارية عبر المحيط الأطلسي. من ثم، فإن النظام العالمي المتغير يشكل مخاطر ملحة بقدر ما يتيح فرصًا واعدة للمملكة.
الطلب على الطاقة والاستقرار المالي
الشاغل الحالي للمملكة العربية السعودية هو الانخفاض المحتمل في معدل الطلب الأوروبي على مواد الطاقة. باعتبارها أحد أكبر مصدري النفط عالميًا، لاتزال المملكة معتمدة بشكل كبير على عائدات الهيدروكربون لتمويل الإنفاق العام ومشروعات البنية التحتية العملاقة. وفي حال اختبر الاقتصاد الأوروبي انكماشًا نتيجة القيود التجارية، فقد تنخفض واردَاته من الطاقة. ورغم جهود المملكة الأخيرة لتخفيف الإنفاق وزيادة العائدات غير النفطية، إلا أن تراجع أسعار النفط العالمية، الذي يكون في الغالب ناتجًا عن عدم يقين اقتصادي، لا يزال يشكل تهديدًا لميزانيتها. مع ذلك، فإن قيادة المملكة العربية السعودية لتحالف "أوبك بلس" يمنحها الأفضلية بعض الشيء في إدارة مستويات الإنتاج لدعم استقرار الأسعار. كما حرصت المملكة على إبرام عقود طويلة الأجل مع شركائها في آسيا، بالأخص الصين والهند، مما يُسهم في تخفيف وطأة تقلبات الأسواق الغربية. ولكن إعادة التوازن لسلَاسل إمداد الطاقة قد يقتضي التحلي بمرونة دبلوماسية وبصيرة اقتصادية.
الاستراتيجية السيادية وتنويع الاستثمارات
على صعيد الاستثمارات، يُعيد صندوق الاستثمارات العامة السعودي تقييم استراتيجية محفظته الاستثمارية. يتجه حاليًا الصندوق، الذي يعد مستثمرًا رئيسيًا في قطاعات التكنولوجيا، والترفيه، والبنية التحتية الغربية، نحو الأسواق الناشئة والفرص الإقليمية. وذلك بعدما سلطت التقلبات العاصفة بالأسواق الأمريكية والأوروبية نتيجة الحواجز التجارية، الضوء على ضرورة تنويع الأصول بالاتجاه صوب منطقتي آسيا وإفريقيا والقطاعات الاستراتيجية داخل الشرق الأوسط. تقف المملكة العربية السعودية في مكانة جيدة تخولها اغتنام البحث الأوروبي عن تحالفات اقتصادية جديدة بعيدًا عن الفلك الأمريكي. وبفضل إصلاحَاتها التنظيمية واسعة النطاق ومبادرات التشجيع على الابتكار، تبرز المملكة كشريك بديهي للكيان الأوروبي. تُتيح أيضًا المشروعات العملاقة التي تشرف عليها المملكة مثل مدينة "نيوم" ومشروع البحر الأحمر أرضية خصبة للاستثمارات الأوروبية، لاسيما في مجال الطاقة الخضراء، والسياحة، واللوجستيات، والتصنيع المتقدم.
الاستراتيجية التجارية والصناعية
من المنظور التجاري، تقوم المملكة العربية السعودية على مواءمة ملفها التصديري ليكون أكثر تنوعًا وقدرة على المنافسة. وبينما لا تزال المنتجات البتروكيماوية والمعادن الصناعية تشكل مكونًا أساسيًا من صادرات المملكة، تعمل الشركات السعودية بشكل متزايد على استكشاف الصناعات التحويلية، والإنتاج ذي القيمة المضافة للاندماج بشكل أفضل داخل سلاسل الإمداد العالمية. وفي ظل التباطؤ الذي يشهده قطاع التصنيع الأوروبي وما يصاحبه من إعادة هيكلة لمسارات الإمداد، تلوح في الأفق فرص واعدة أمام الشركات السعودية للاضطلاع بأدوار مستجدة، لا سيما في القطاعات التي أفرزت فيها التعريفات الأمريكية على السلع الأوروبية منافذ جديدة. علاوة على ذلك فإن الموقع الاستراتيجي للمملكة-عند مفترق طرق قارات أوروبا، وآسيا، وإفريقيا-يعزز حظوظها في أن تصبح مركزًا للنقل والخدمات اللوجستية. هذه الميزة الجغرافية، مقترنة باستثمارات كبيرة في الموانئ، والسكك الحديدية، والشحن الجوي، تضع المملكة في مكانة تسمح لها بالاستفادة من إعادة تشكيل تدفقات التجارة العالمية.
الدبلوماسية والاستقلال الاستراتيجي
أخيرًا، تجسد السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية استراتيجية تقوم على تعدد المحاور. ففي حين تحافظ الرياض على علاقات راسخة مع واشنطن، فقد وسعت نطاق ارتباطاتها ليشمل الصين وروسيا والدول الأوروبية. وتتيح مساعي أوروبا لتقويم موقفها نحو تقليل الاعتماد الاقتصادي على الشريك الأمريكي آفاقًا دبلوماسية جديدة للمملكة العربية السعودية للاضطلاع بدورها كجسر تواصل وقوة توازن في العلاقات الدولية. ويتلاقى حرص المملكة على تحقيق الاكتفاء الذاتي الاقتصادي والسيادة التكنولوجية والريادة الإقليمية مع المسعى الأوروبي الأوسع نحو تحقيق الاستقلال الاستراتيجي. ومن الممكن أيضًا أن تسهم المبادرات المشتركة في مسارات الانتقال الطاقي والأمن المائي والذكاء الاصطناعي والتخفيف من تداعيات تغير المناخ في تعزيز الروابط بين المملكة والاتحاد الأوروبي.
إعادة تشكيل التحالفات الاستراتيجية: الاستجابة الأوروبية
فرضت التعريفات الجمركية المستجدة على أوروبا ضرورة إعادة تقييم استراتيجياتها الاقتصادية وتحالفاتها الراهنة. وقد تجلى التحول نحو آسيا بوضوح مع اكتساب المفاوضات الجارية لإبرام اتفاقيات تجارية مع اليابان، وكوريا الجنوبية، ودول رابطة آسيان زخمًا ملحوظًا. وتعد اتفاقية الشراكة الاقتصادية بين الاتحاد الأوروبي واليابان، التي بدأ سريانها عام 2019م، مؤشرًا دالا على هذا التحول، إذ أزالت القدر الأكبر من الرسوم الجمركية بين الجانبين ورفعت مستوى المعايير المتعلقة بالعمل، وحماية البيئة، وحوكمة البيانات. وعلى صعيد متصل، تعزز أوروبا علاقاتها مع دول منطقة الخليج العربي. وقد اكتسب الحوار بين الطرفين، الذي طال أمده، أهمية متجددة في ظل سعي الجانبين لتعزيز آفاق التعاون في قطاعات الطاقة، والتجارة الرقمية، والشراكات في مجال التكنولوجيا الخضراء. وعلاوة على ذلك، يعزز الاهتمام المشترك بخفض الانبعاثات الكربونية وتشييد بنى تحتية ذكية أوجه جديدة للتكامل في مجالات مثل طاقة الهيدروجين، والمدن الذكية، والخدمات الرقمية العابرة للحدود.
علاوة على ذلك، تنخرط أوروبا بصورة متزايدة مع التكتلات متعددة الأطراف الناشئة. حيث تمثل دول مجموعة "بريكس" التي تشمل-البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب إفريقيا، ومنظمة شنغهاي للتعاون مراَكز ثُقل اقتصادي متنامية. ورغم أن عضوية أوروبية كاملة داخل هذه التكتلات غير مرجحة، لا تزال الآفاق متفتحة لعقد شراكات استراتيجية، ونيل صفة مراقب، والتعاون الانتقائي في التجارة ومشروعات البنية التحتية. هذه الخطوات تشير إلى رغبة أوروبية متنامية للتصرف بشكل مستقل وتنوِيع تحالفاتها الجيوسياسية.
تتيح مبادرة الحزام والطريق الصينية، على وجه التحديد، فرصًا جديدة للشركات الأوروبية رغم مخاوفها حول المعايير، والشفافية، والمخاطر السياسية. حيث تعد استثمارات البنية التحتية، والاتصال الرقمي، والتبادلات في مجال التكنولوجيا الخضراء مجالات محل اهتمام متزايد. فضلاً عن، مشاركة الشركات الأوروبية في مشروعات مبادرة الحزام والطريق عبر مختلف أنحاء آسيا الوسطى وإفريقيا، ساعية لتبوء مكانة استراتيجية داخل هذه الأسواق على المدى البعيد. وبرغم الخلافات السياسية بين روسيا وأوروبا على خلفية بعض القضايا مثل العدوان الروسي على أوكرانيا، إلا أنها تظل شريكًا رئيسيًا لأجزاء كبيرة من أوروبا في مجال الطاقة. لذلك قد تُخفف البراغماتية الاقتصادية من وطأة التوترات السياسية، لاسيما إذا استمرت العلاقات مع الشريك الأمريكي في التدهور. ومن المرجح أن تنتهج أوروبا دبلوماسية دقيقة ذات طابع براغماتي في إدارة هذه العلاقات.
- إعادة التفكير في التحالف عبر الأطلسي
التعريفات الجديدة ليست مجرد إجراءات اقتصادية بقدر ما هي تَرمُز إلى توترات أشد عمقًا عرفت طريقها للشراكة عبر المحيط الأطلسي. تجلت الاختلافات بين الجانبين في مجالات تمتد من الإنفاق الدفاعي تحت مظلة حلف الأطلسي "ناتو"، مرورًا بمقاربات أزمة التغير المناخي وصولًا إلى آليات تنظيم عمل شركات التكنولوجيا العملاقة. فيما تعيد بروكسل والعواصم الغربية النظر في الإجماع السائد بعد الحرب العالمية الذي وضع واشنطن كركيزة للنظام الليبرالي. كما أدى حرص الرئيس دونالد ترامب على ترسيخ مبدأ "أمريكا أولا" والدبلوماسية القائمة على الصفقات إلى تقويض الافتراضات القائمة منذ أمد بعيد حول الولايات المتحدة كشريك يمكن التنبؤ بمواقفه. بالنسبة لأوروبا، فإن إدراكها لواقع مغاير، حيث لم تعد مصالحها الاقتصادية والأمنية تتطابق على الدوام مع الأولويات الأمريكية، قد دفعها نحو إعادة تقييم مكانتها الاستراتيجية. وعلى الرغم من أن أوجه التباين بين واشنطن وبروكسل كانت حاضرة على الدوام، فقد شهدت اتساعًا وتسارعًا ملحوظين في الآونة الأخيرة. وعلاوة على ذلك، فقد توسع مفهوم "الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي"، الذي اقتصر سابقًا على نطاق السياسة الدفاعية، ليشمل الجانب الاقتصادي أيضًا.
بالتوازي مع ذلك، اكتسبت الدعوات المنادية بسياسة صناعية أوروبية أكثر حزمًا وقوة، واستثمارات أوسع في التكنولوجيا المحلية، وإرساء أنظمة دفع مستقلة (على غرار آلية إنستكس للتحايل على العقوبات الأمريكية ضد إيران) زخمًا متزايدًا. وتحظى هذه المساعي بتأييد شريحة متنامية من النخب السياسية الأوروبية التي ترى أن السيادة في القرن الحادي والعشرين وثيقة الارتباط بتحقيق الاستقلال الاقتصادي والتكنولوجي.
ومع ذلك، يبقى من غير المرجح أن تشهد العلاقات الأوروبية الأمريكية قطيعة تامة، نظرًا لجذورها العميقة التي تستند إلى قيم مشتركة وتشابكات اقتصادية وشبكة واسعة من الروابط المؤسسية. بيد أن التحول يكمن في طبيعة هذا التحالف، الذي ينتقل من كونه وحدة مفترضة عبر الأطلسي إلى شراكة تتسم بالتعاون الانتقائي، وفي بعض الأحيان، بمنافسة صريحة. ومن المحتمل أن تكتسب هذه العلاقة في المستقبل طابعًا براغماتيًا قائمًا على التفاعلات وتحقيق المصالح المتبادلة، حيث يتم التعاون وفقًا لما تقتضيه الأولويات المشتركة، مع الحفاظ على استقلالية المواقف في المجالات التي تشهد اختلافًا في وجهات النظر.
7.استراتيجيات الاستقرار الاقتصادي الأوروبي
الحفاظ على استقرار التجارة الدولية وحماية المصالح الاقتصادية وتحقيق قدرًا أعظم من الاستقلالية تقتضي من أوروبا اتباع استراتيجية متعددة المحاور:
تنويع الشراكات التجارية
ينبغي لأوروبا العمل على توطيد روابطها التجارية مع الأسواق الناشئة، ويكتسب هنا التفاوض والتصديق على اتفاقيات للتجارة الحرة مع دول أمريكا اللاتينية (مثل اتفاقية الميركسور) وإفريقيا وجنوب شرق آسيا أهمية حاسمة. كونها تساهم في فتح أسواق جديدة للصادرات الأوروبية وتقلص الاعتماد على التجارة عبر الأطلسي، بجانب تدعيم الروابط الدبلوماسية مع المناطق التي تشهد نموًا سريع الخطى.
تعزيز الاقتصاد الداخلي
العمل على تدعيم السوق الأوروبية الموحدة، والنهوض باتحاد أسواق رأس المال، والاستثمار بكثافة في البحث والابتكار والتقنيات الخضراء، سيعزز القدرة التنافسية والمرونة لأوروبا. كذلك يعد دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، وإصلاح أسواق العمل، وتحسين البنية التحتية في الدول الأعضاء، عناصر أساسية لانتعاش اقتصادي طويل الأمد.
الاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة
يكتسب العمل على خفض الاعتماد على واردات الوقود الأحفوري من خلال ضخ استثمارات في الطاقة المتجددة وتطوير تكنولوجيا الهيدروجين وكفاءة الطاقة أهمية قصوى. ويمكن أن تلعب الواردات الأوروبية من الغاز الطبيعي الخليجي والأمريكي المُسال دورًا في تنويع مصادرها من الطاقة المتجددة بالإضافة إلى مواردها المحلية من الطاقة المتجددة. كذلك الأمر بالنسبة للمخزونات الاستراتيجية، وشبكات الطاقة العابرة للحدود، والتشريعات الموجهة لمعالجة أزمة المناخ، مما يعزز الصلابة الأوروبية في هذا المجال.
السيادة المالية والرقمية
يعد إرساء البنى التحتية المالية المستقلة (مثل أنظمة المدفوعات) وتعزيز التفوق الأوروبي في القطاعات الحيوية كالذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني والحوسبة السحابية، ركائز أساسية لصون الاستقلالية الذاتية في خضم اقتصاد رقمي متصاعد. ويتكامل مع ذلك ضرورة تنظيم أنشطة عمالقة التكنولوجيا، وتفعيل أنظمة حماية البيانات، وتوطيد الشراكات الابتكارية بين القطاعين العام والخاص.
الشراكات الاستراتيجية مع دول الخليج والبحر المتوسط
تمثل منطقة الخليج العربي، الزاخرة بموارد الطاقة والتي تشهد استثمارات متزايدة في قطاعي التكنولوجيا والبنية التحتية، شريكًا استراتيجيًا ذا قيمة جوهرية. ويمكن أن يشكل تعزيز التعاون الأورو متوسطي في مجالات التجارة والطاقة والقضايا الأمنية، حاجزًا وقائيًا استراتيجيًا في مواجهة الاضطرابات والتقلبات العالمية. علاوة على ذلك، تنطوي برامج التعاون المشترك بين الاتحاد الأوروبي ودول الجوار الجنوبي، بالإضافة إلى شبكات الطاقة الشمسية في منطقة البحر الأبيض المتوسط، على فرص واعدة لتحقيق تنمية مشتركة ومستدامة.
الختام
في أعقاب الرسوم الجمركية التي أعلنتها إدارة الرئيس دونالد ترامب، تداعت أصداء اقتصادية واستراتيجية واسعة النطاق عبر القارة الأوروبية وخارجها. ويجد الاتحاد الأوروبي نفسه أمام تحدٍ مضاعف: احتواء وطأة التداعيات الاقتصادية المباشرة، والاستعداد لمستقبلٍ لم تعد فيه ثوابت التحالفات التقليدية راسخة كما كانت. ويستلزم الأمر التحلي برؤية استراتيجية ثاقبة، ومرونة مؤسسية، وقيادة جسورة لتجاوز هذه التضاريس الوعرة.
تلعب المنطقة الخليجية، ذات الموقع الاستراتيجي بين الشرق والغرب، دورًا متزايد الأهمية في هذا المشهد المتغير. ومن خلال تنويع أوروبا علاقاتها التجارية، والاستثمار في قواها الداخلية، ورعاية شراكات جديدة، يتسنى لها ليس فقط النجَاة من العاصفة ولكن الخروج منها أكثر قوة وصلابة والتموضع في مكانة أفضل وسط الضبابية التي تكتنف الاقتصاد العالمي. فقد أصبح مستقبل التحالف الغربي-والاستقرار الاقتصادي العالمي-غير معتمد على التشبث بمُسلمات الماضي، بقدر التكيف بشكل مبتكر وعملي مع الحقائق المستجدة للنظام العالمي الحالي.