array(1) { [0]=> object(stdClass)#13903 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 210

لن تترك التعريفات الجديدة أثرًا كبيرًا على دول الخليج إلا إنها ليست في مأمن من التبعات غير المباشرة

السبت، 31 أيار 2025

في مطلع شهر أبريل الماضي، أجرى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تعديلاً جوهرياً في سياسة التجارة الخارجية للولايات المتحدة، الأمر الذي أسفر عن تبعات وخيمة على الاقتصاد العالمي. وتتمثل الخطة الجديدة في فرض رسوم جمركية على جميع الشركاء التجاريين للولايات المتحدة تقريباً. تنقسم هذه التعريفات الجديدة إلى فئتين: "الحد الأدنى الأساسي" حيث تطبق رسومًا جمركية لا تقل عن 10 % على كافة الواردات الأمريكية، والثانية "رسوم متبادلة" تُفرض على دول بعينها وفقًا لمستوى عجز ميزانها التجاري مع واشنطن. تتصدر هذه الفئة كلًا من الصين، واليابان، والهند، وكوريا الجنوبية، وتايوان، وفيتنام، والعديد من البلدان الأوروبية. فيما تخضع دول منطقة الشرق الأوسط مثل سوريا، والعراق، وليبيا، والجزائر، وتونس، والأردن إلى نسب مرتفعة من الرسوم الجمركية. الأهداف الرئيسية لهذه السياسة التجارية الجديدة تتمحور حول تقليص العجز التجاري للولايات المتحدة وتوفير فرص عمل. ويزعم الرئيس الأمريكي أن زيادة قيمة الضرائب على الاستيراد تُبشر بــ “عصر ذهبي" من الازدهار الصناعي الأمريكي، وأن لها ما يبررها بسبب الممارسات التجارية غير العادلة التي تتبعها الدول الأخرى. فيما يقول مسؤولو الإدارة الأمريكية أن خصوم واشنطن وحلفاءها على حد سواء "يخدعون" الأمريكيين من خلال التلاعب بعُملاتهم المحلية وتوظيف أجهزة تنظيمية للحد من حرية التجارة.

ردا على إعلان ترامب، ناشدت المدير العام لصندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، الولايات المتحدة وشركَاءها التجاريين "العمل بشكل بنَاء لتسوية التوترات التجارية والحد من حالة عدم اليقين". وتعد التعريفات الجديدة التي فرضها ترامب الأشد قسوة مقارنةً بأي إجراء مماثل شهدته التجارة العالمية منذ قرن مضى، كما أنها تتناقض مع الدور الأمريكي كمؤسس وراعي لمنظومة عالمية للتجارة الحرة.

التأثير على الاقتصاد الأمريكي: مع بداية 2025م، كانت التقديرات تصب في صالح تفوق الاقتصاد الأمريكي على الاقتصادات المتقدمة الأخرى كما عهدناه على مدار سنوات عدة. ووفقًا لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، كان اقتصاد البلاد قاب قوسين أو أدنى من تحقيق ما يسمى بال “الهبوط الآمن" بمعنى الاقتراب من السيطرة على معدلات التضخم دون اقتران ذلك بركود اقتصادي. إلا أن حملة التعريفات الجديدة قلبت التوقعات الاقتصادية رأسًا على عقب. وسط اعتقاد العديد من الخبراء الاقتصاديين أنها ستؤول لارتفاع تكاليف المنتجات الأجنبية بالنسبة للمستهلك الأمريكي، وبالتالي، ستقل المنافسة والضغوط على الشركات المحلية لمزيد من الابتكار. ويتوقع الخبراء الاقتصاديون أن تشهد الفترة المقبلة تراجع وتيرة الإنتاجية عبر مختلف قطاعات الاقتصاد الأمريكي مقابل ارتفاع الأسعار. فيما تُشير التقديرات بشكل عام إلى تباطؤ النمو الاقتصادي إلى 1.8% نتيجة عدم اليقين المتزايد بشأن السياسات، والتوترات التجارية، وضعف معدلات الطلب.

أضحت حرب ترامب التجارية شبحًا يُهدد شركات النفط الأمريكية. إذ أدت تصريحاته المتعلقة بالتعريفات الجمركية إلى عمليات بيع مكثفة، مما خفض أسعار الخام الأمريكي إلى ما دون 60 دولارًا للبرميل فور الإعلان عن الرسوم الجديدة. واجهت صناعة النفط الأمريكية أيضًا معاناة بسبب الرسوم الجديدة المُعلنة في شهر فبراير على واردات الصلب والألمنيوم، المُستخدمة في عمليات الحفر وبناء خطوط الأنابيب. وتُعد ولاية داكوتا الشمالية، ثالث أكبر ولاية منتجة للنفط، الأكثر عرضة لانخفاض أسعار النفط الخام وتباطؤ الإنتاج، مقارنة بولايات مثل تكساس ولويزيانا، ذات الاقتصادات الأكثر تنوعًا. وذلك بعدما جنت الولاية ثمار الطفرة التكنولوجية المحققة خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حينما ساهم التقدم المحرز على صعيد عمليات الحفر الأفقي والتجزئة الهيدروليك في إحداث ثورة في قطاع النفط الصخري الأمريكي وتحويل مسارها الذي كان يعتمد على الزراعة. تلقت صناعة الطاقة الأمريكية هزة قوية أيضًا جراء دعوة البيت الأبيض الراعية لمزيد من التراجع في أسعار النفط استنادًا لآراء مستشاري ترامب بأن تراجعها قرب مستوى 50 دولار سيساعد في كبح جماح التضخم.

امتد تسونامي تعريفات ترامب ليضرب أسواق المال التي عكس أداؤها نذير شؤم لطموحات الرئيس الأمريكي ومسعاَه لإعادة تشكيل التجارة العالمية وكأنها تقول له: احذر ما تتمناه. فإن التقلبات في أسواق الخزانة الأمريكية والضعف غير المتوقع للدولار يُشير إلى أن ما بدأ كنزاع تجاري قد يتطور إلى حرب رأسمالية أكثر خطورة. فيما يُنذر الصدام الجاري بارتفاع تكاليف الإقراض الأمريكية نتيجة تقويض الهيمنة المالية للولايات المتحدة، بعد أن ظلت لعقود طويلة موضع جذب واستقطاب لتريليونَات الدولارات من الصناديق الأجنبية. ويُحذر بعض المحللين من نزوح رؤوس الأموال التي استفادت منها الولايات المتحدة على مدى أعوام طويلة إلى الخارج، وتنامي حدة المنافسة أمام وجهات عالمية أخرى، من بينها أوروبا التي تبرز كخيار أفضل محتمل.

وفي حين يجادل مسؤولو إدارة ترامب بأن المستهلك الأمريكي لن يتكبد تكلفة الزيادات المفروضة في الرسوم الجمركية بدعم أداء أفضل للدولار، فإن ضعف قيمة العملة الأمريكية قد يضطر المستوردين الأمريكيين وتجار التجزئة إلى تمرير الزيادات في الأسعار. ذلك في الوقت الذي يحاول المستثمرون الأمريكيون استيعاب الزيادات المحتملة في العجز التجاري داخل الولايات المتحدة وأوروبا بجانب التآكل المحتمل لاستقلاَلية السياسة النقدية الأمريكية. يرى بعض المحللين أنه في سياق عالمي قد تتضاءل فيه الثقة بالولايات المتحدة كشريك يعتمد عليه، يصبح من المنطقي للمستثمرين الأجانب التوجه نحو التنويع التدريجي لمحافظهم الاستثمارية ليشمل عملات أخرى كـالفرنك السويسري، والين الياباني، والعملة الأوروبية الموحدة "اليورو"، وغيرها من العملات.

الانعكاسات على الاقتصاد العالمي: بالنظر إلى التسارع المطرد في حدة التوترات التجارية وتصاعد حالة الغموض التي تكتنف السياسات الاقتصادية، يُتوقع أن تنعكس هذه الأوضاع سلبًا على وتيرة النشاط الاقتصادي العالمي. وتشير التقديرات الراهنة إلى تباطؤ معدل النمو العالمي ليبلغ 2.8% في عام 2025م، و3% في عام 2026م، وهو ما يمثل انخفاضًا ملحوظًا عن نسبة 3.3% المسجلة خلال العامين السابقين، كما يبتعد بشكل كبير عن المتوسط السنوي البالغ 3.7% الذي تحقق خلال الفترة الممتدة من عام 2000 إلى عام 2019م.

ورغم أن سهام رسوم ترامب الجمركية لم تصب روسيا، إلا إن اقتصادها لا يزال في مرمى الخطر نتيجة لعامل واحد فقط وهو النفط الذي يعد وقوده المحرك ونقطة ضعفه الرئيسية في الوقت ذاته. وتشكل عائدات النفط والغاز الطبيعي نحو ثلثي عائدات ميزانية الدولة الروسية. وخلال النصف الأول من عام 2025م، كانت أسعار مزيج الأورال القياسي الروسي تحوم بالقرب من مستوى 55 دولارًا للبرميل، وهو ما يقل بكثير من السعر المستهدف ضمن ميزانية هذا العام والبالغ حوالي 70 دولارًا. ويرى بعض المحللين أن استمرار موجة التراجع في الأسعار قد تدفع الاقتصاد الروسي صوب هبوط حاد وارتفاع عجز الموازنة بمقدار الضعف تقريبًا. جدير بالذكر أن الهبوط الكارثي لأسعار النفط إبان حقبة الثمانينات ساهم في انهيار الاتحاد السوفيتي. في حين أن تعافي الأسعار خلال عام 1999م، عندما تم تعيين بوتين في منصب رئيس الوزراء، ساعد على صعوده إلى السلطة. ويمتد الدور المركزي للمعدن الأسود بالنسبة للاقتصاد الروسي لما هو أبعد من خزائن الدولة. فإن ازدهار صناعة الطاقة تؤدي لما يطلق عليه خبراء الاقتصاد "التأثير المضاعف"، حيث يمتد وينتشر مفعولها الإيجابي إلى قطاعات مجاورة مثل الحديد من أجل إنشاء خطوط الأنابيب التي تستخدم من قبل شركات التنقيب، على سبيل المثال، أو في تشييد البنية التحتية بالقرب من مصافي التكرير. على عكس الأثر السلبي غير المباشر الذي سيخلفه انكماش صناعة الطاقة على مجتمعات بأسرها قامت على هذه الصناعة وتستمد قوتها من خلال عمليات استخراج النفط وتكريره.

على امتداد عقود مديدة، مثّلت الروابط التجارية والاستثمارية المتينة بين واشنطن وبكين دعامة أساسية استندت إليها العلاقات الثنائية في مختلف تقلباتها، صعودًا وهبوطًا. وخلال الولاية الرئاسية الأولى لدونالد ترامب، أظهرت الدولتان حذرًا ملحوظًا إزاء تفكيك هذه المصالح الاقتصادية العميقة. وعلى الرغم من الحرب التجارية التي استمرت عامين وتخللتها مفاوضات مضنية، أبدى الطرفان تخوفًا من الانزلاق نحو مزيد من التصعيد. بيد أن الوضع الراهن يشهد تحولًا مقلقًا، إذ عمدت الدولتان إلى فرض قيود تجارية متبادلة وجذرية في غضون أقل من ثلاثة أشهر، مما أضفى على النزاع الاقتصادي مسارًا جديدًا ينذر بعواقب وخيمة على الأمن العالمي والاستقرار الاقتصادي. لقد انخرطت الولايات المتحدة والصين حاليًا في مسار من الانفصال الاقتصادي المتزايد، وبات من الواضح أن الحواجز التي كانت تحول دون امتداد التوترات التجارية إلى ميادين أخرى آخذة في التلاشي. فبعد الصدمة الأولية التي أحدثتها الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب مؤخرًا، تبنت بكين موقفًا انتقاميًا شاملًا، مؤكدة عزمها على "المضي قدمًا في المواجهة حتى النهاية".

وتسعى كلتا القوتين لتجنيِد حُلفائهما في معركتهما التجارية. من جانبها، تحاول إدارة ترامب عقد صفقات مع العشرات من الدول للتعاون في عزل بكين، بينما يجول الرئيس الصيني وكبار معاونيه يمينًا ويسارًا لاجتذاب الشركاء التجاريين بعيدًا عن الفلك الأمريكي. ويبدو أن تشكيل تحالفات استراتيجية جديدة يمثل تحديًا معقدًا لكلا الطرفين. فبعض الدول الآسيوية، التي تعتبر الصين شريكًا تجاريًا رئيسيًا ومصدرًا حيويًا للاستثمارات، تبدي تحفظًا إزاء الانخراط الكامل في التقارب مع واشنطن. وعلى صعيد آخر، تمثل أوروبا ساحة أخرى لجهود الاستمالة التي تبذلها بكين، وذلك في ظل ما يساور الدول الأوروبية من قلق بشأن تعامل إدارة ترامب المحتمل مع الحرب الروسية الأوكرانية. وفي المقابل، يُرجح أن تتجه واشنطن نحو فرض قيود على وصول الشركات الصينية إلى التكنولوجيا الأمريكية، الأمر الذي يزيد من صعوبة تجاوز الميل المتصاعد نحو فك الارتباط الاقتصادي بين القوتين.

التأثير على دول مجلس التعاون الخليجي: بالنظر إلى أن دول مجلس التعاون الخليجي تصنف ضمن فئة الحد الأدنى الأساسي للتعريفات بواقع 10%، فمن المتوقع أن تخلف الرسوم الجمركية المستجدة أثرًا مباشرًا وإن كان محدود النطاق عليها. وتجدر الإشارة إلى استثناء واردات النفط والغاز من نطاق تطبيق هذه الرسوم، الأمر الذي يكتسب أهمية قصوى بالنظر إلى المكانة المحورية للمنتجات الهيدروكربونية في هيكل الصادرات الخليجية المتجهة إلى الولايات المتحدة. ففي عام 2024، استحوذت صادرات النفط الخليجية على ما يقارب 3% من إجمالي إنتاج المنطقة، وهو ما يمثل أقل من 10% من إجمالي الواردات الأمريكية.

التحديات: رغم أنه من غير المرجح أن تترك التعريفات الجديدة أثرًا كبيرًا على البلدان الخليجية، إلا إنها ليست في مأمن من أن تطالها التبعات غير المباشرة الأوسع لهذه الاضطرابات التجارية. لاسيما وأن العديد من الدول قررت اتخاذ تدابير انتقامية تشمل رفع رسومها الجمركية على الواردات الأمريكية. ثمة إمكانية أن تؤدي هذه الحرب التجارية بين كبريات الاقتصادات العالمية وتنامي النزعة الحمائية، لزيادة الضبابية المسيطرة على المشهد، وإبطاء نمو الاقتصاد العالمي، وتغذية المخاوف بشأن التضخم. كما سيؤدي تباطؤ النمو الاقتصادي المتوقع إلى خفض الطلب على النفط.

خلال العقدين المنصرمين، اضطلعت دول مجلس التعاون الخليجي بمساعٍ حثيثة وطموحة نحو تقليص الاعتماد على الإيرادات النفطية وتنويع قاعدة اقتصاداتها، بيد أن هذا المسار لا يزال أمامه شوطٌ بعيد. فمن شأن استمرار انحسار أسعار النفط أن يحدّ من وفرة الموارد المالية الضرورية لتمويل مبادرات الإصلاح الاقتصادي. علاوةً على ذلك، فإن أي اتفاق محتمل لوقف إطلاق النار أو معاهدة سلام بين روسيا وأوكرانيا قد يستتبع رفع العقوبات المفروضة على صادرات النفط والغاز الروسية. ويبقى احتمال تخفيف القيود على صادرات النفط الإيرانية قائماً في حال أثمرت المفاوضات الجارية بين واشنطن وطهران بشأن برنامجها النووي نتائج إيجابية. أخيراً، أفصحت البيانات الصادرة في عام 2024 م، عن تسجيل الصادرات الأمريكية من النفط الخام مستوىً قياسياً جديداً، متجاوزةً متوسطاً سنوياً قدره 4.1 مليون برميل يومياً.

في عام 2007م، اتخذت دولة الكويت مسارًا مغايرًا لدول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، باعتمادها نظام "التعويم المُدار" لعملتها، بينما استمرت بقية الدول في ربط عملاتها بالدولار الأمريكي. ونتيجة لذلك، تواجه أسواق المال الخليجية حساسية تجاه أي تشديد في السياسات النقدية، خاصة في ظل التوقعات باستمرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في الإبقاء على أسعار الفائدة عند مستويات مرتفعة بهدف كبح جماح الضغوط التضخمية الناجمة عن التوترات التجارية.

وعلى امتداد العقود القليلة الماضية، تعرض الدولار الأمريكي لضغوط متزايدة، يُعزى جانب منها إلى التوسع في استخدام العقوبات الاقتصادية، وتصاعد الشكوك بشأن متانة الاقتصاد الأمريكي وقدرته على الوفاء بالتزاماته المالية في ظل ارتفاع الدين العام ومستويات العجز.

في سياق آخر، حقق قطاع التكنولوجيا الرقمية تقدمًا ملحوظًا في مجال تسوية المدفوعات على الصعيدين المحلي والدولي، الأمر الذي ساهم في تقويض الهيمنة التقليدية للدولار. وفي هذا الإطار، بادرت بكين، باعتبارها منافسًا استراتيجيًا لواشنطن، إلى تبني وترويج العملات الرقمية وعملتها المحلية (الرينمينبي/اليوان)، وقد أبرمت بالفعل بعض الدول الخليجية اتفاقيات مع الصين تتضمن تسوية المدفوعات باستخدام إحدى هاتين الوسيلتين.

الآفاق: على امتداد سنوات عديدة، أظهرت الحكومات الخليجية وعيًا وإدراكًا لمخاطر التوكل المفرط على منظومة تجارية تتمحور حول الولايات المتحدة الأمريكية. وقد سعت إلى إرساء علاقات تجارية متينة مع شركاء آخرين على الصعيد العالمي. من المؤكد أن هذه السياسة من شأنها أن تسهم في تخفيف وطأة الخسائر المحتملة في التبادل التجاري مع الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن واشنطن لا تزال شريكًا أمنيًا رئيسيًا بلا منازع، إلا أن بكين تتمتع بمزايا عديدة في المجال التجاري. فالدول الخليجية (وغيرها) ترى أن السياسات الصينية تتسم بقدر أكبر من الاستقرار وإمكانية التنبؤ مقارنة بالسياسات المتقلبة للإدارات الديمقراطية والجمهورية المتعاقبة في واشنطن. علاوة على ذلك، فإن التبادل التجاري والاستثمار مع الصين لا يخضع لشروط سياسية. وأخيرًا، تعتبر المنتجات والسلع الصينية عمومًا أقل تكلفة من نظيراتها الغربية مع الحفاظ على مستوى مقبول من الجودة. وقد بادرت بالفعل بعض الدول الخليجية إلى توقيع اتفاقيات مع بكين تتضمن تسوية المدفوعات باستخدام خيارات بديلة.

منذ بواكير العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ساهمت تقنية التكسير الهيدرولوجي في أن تصبح الولايات المتحدة مُنتجًا رئيسيًا للنفط والغاز. في المقابل، قطع المارد الصيني أشواطًا جعلته أحد أسرع الاقتصادات نموًا على مستوى العالم. تم تغذية هذا النمو الاقتصادي المذهل بالواردات الهيدروكربونية القادمة من المنطقة الخليجية. وشهد العقدان الماضيان، تصدير حصة كبيرة من إنتاج النفط والغاز الخليجيين إلى الصين وأسواق آسيوية أخرى. ومنذ أوائل الألفينات استوعبت القارة الآسيوية أكثر من 70 % من إجمالي صادرات النفط والغاز العالمية. وفيما يتعلق بالمستقبل المنظور، من المتوقع أن تظل الأسواق الآسيوية الوجهة الرئيسية للصادرات الهيدروكربونية الخليجية. إلى جانب ذلك، اتخذت دول مجلس التعاون العديد من المبادرات للاستثمار في قدراتها على إنتاج الطاقة المتجددة. في حين سطع نجم الصين كدولة رائدة عالميًا ولاعب أساسي على مستوى قطاع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. وأصبحت المواد الخام الصينية المرتبطة بالطاقة المتجددة ومنتجاتها النهائية تشكل حصة كبيرة ومتنامية من حجم التجارة المتبادلة مع دول مجلس التعاون الخليجي.

لقد كان للعديد من اتفاقيات التجارة الحرة المبرمة دورٌ محوري في إضفاء طابع مؤسسي راسخ على هذه العلاقات التجارية الوطيدة والمتنامية بين دول الخليج العربي والقوى الآسيوية الصاعدة. ويُذكر أن عام 2004 م، قد شهد باكورة مفاوضات التجارة الحرة مع بكين، ويوشك الطرفان حاليًا على وضع اللمسات النهائية لتلك الاتفاقية الهامة. وفي سبتمبر من عام 2023م، جرى التصديق على تمديد العمل بخطة العمل المشتركة مع اليابان للفترة ما بين عامي 2024 و2028م، تبع ذلك بعد أشهر قليلة، وتحديدًا في ديسمبر 2023م، التوقيع على اتفاقية للتجارة الحرة مع جمهورية كوريا الجنوبية. هذا ولا تزال المفاوضات جارية على قدم وساق لإتمام اتفاقية مماثلة مع حكومة الهند، يُتوقع توقيعها في المستقبل القريب.

يحل الاتحاد الأوروبي في المرتبة الثانية (بعد الصين) كأكبر شريك تجاري لمجلس التعاون الخليجي. وقع الجانبان على العديد من الاتفاقيات لتعزيز تعاونهما الاقتصادي، والتجاري، والمالي. يشمل ذلك اتفاقية التعاون المشترك الموقعة عام 1989م، والمفاوضات بشأن اتفاقية التجارة الحرة (التي بدأت منذ 1990م)، والحوار حول التجارة والاستثمار (الذي أُطلق في عام 2017م)، بجانب الحوار بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي حول التنويع الاقتصادي (تم تدشينه في عام 2018م). كُللت هذه الجهود بوثيقة الشراكة الاستراتيجية بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي الصادرة في عام 2022م، والتي كان هناك حرص مشترك على تدعيمها من خلال عقد القمة الأولى للجانبين بمدينة بروكسل في أكتوبر 2023م. على نفس القدر من الأهمية، قامت العديد من صناديق الثروة السيادية الخليجية بضخ استثمارات كبيرة داخل أوروبا، والتي ساهمت، بجانب حجم التجارة الضخمة، في خلق رابط قوي وصحي بين المنطقتين.

بالإضافة إلى تنويع روابطها التجارية، حققت دول منطقة الخليج تقدمًا ملحوظًا على صعيد الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية، والتي طالت قطاعات حيوية كالتعليم، والمساواة بين الجنسين، والتحول الرقمي. وفي هذا السياق، يرتبط التحول الرقمي ارتباطًا وثيقًا بالإنجازات المحققة على مستوى التنمية الاقتصادية الشاملة. وقد خلصت دراسة حديثة أجراها صندوق النقد الدولي إلى أن "دول مجلس التعاون الخليجي في وضع ممتاز لاقتناص المكاسب الاقتصادية الناجمة عن تعزيز التحول الرقمي، وذلك بفضل قاعدتها الشبابية الماهرة في التكنولوجيا وبنيتها التحتية الرقمية المتقدمة نسبيًا".

الآفاق المستقبلية: يرى العديد من خبراء الاقتصاد أن الحرب التجارية التي شنها ترامب تنذر بدفع الاقتصادين الأمريكي والعالمي نحو هاوية الركود، وذلك نتيجة لتصاعد حالة الغموض التي قد تجبر الشركات والمستهلكين على إرجاء خططهم المتعلقة بالإنفاق. وكلما استقرت الرسوم الجمركية الجديدة وتعمقت جذورها، تعززت احتمالات تضاعف مستويات التضخم في أسعار السلع الاستهلاكية.

وعلى النقيض تمامًا، قد تشهد الآفاق الاقتصادية تحسنًا فوريًا وجليًا إذا ما عزمت واشنطن وغيرها من الدول على الجلوس إلى طاولة المفاوضات والاتفاق على وضع قواعد واضحة ومُحكمة تنظم حركة التجارة العالمية. إن الطريق نحو مستقبل مُزدهر يتطلب رؤية جلية وجهودًا مُنسقة، ويتعين على دول العالم أن تعمل بشكل بنّاء لتعزيز بيئة تجارية عالمية مستقرة وغير متقلبة.

تجدر الإشارة إلى أن غالبية دول العالم مندمجة بعمق داخل النسيج الاقتصادي العالمي. كما أن الترابط التجاري يساهم بشكل فعال في تمهيد الطريق نحو الازدهار الاقتصادي والاستقرار السياسي، على الصعيدين المحلي والدولي على حد سواء، بل ويعزز أيضًا دعائم السلام العالمي.

ختاماً، قد يكون الأثر المباشر للتعريفات الأمريكية الجديدة على اقتصادات دول الخليج العربي محدودًا نسبيًا، غير أن حالة عدم الاستقرار التي تشوب حركة التجارة العالمية قد أذكت بالفعل بواعث قلق وشكوك حيال استدامة النمو الاقتصادي العالمي. وبالنظر إلى مدى اندماج اقتصادات دول الخليج العربي في النسيج الاقتصادي العالمي، فإنه قد يتعين عليها العمل على معالجة حالة الغموض المستجدة والتصدي للتحديات الناشئة. ومن المرجح أن تلعب العلاقات مع الولايات المتحدة والصين وأوروبا وقوى عالمية أخرى دورًا محوريًا في صياغة مسار النمو الاقتصادي لمنطقة الخليج العربي خلال الأعوام القادمة، جنبًا إلى جنب مع التحول التكنولوجي والإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية.

مقالات لنفس الكاتب